تفسير القاسمي - ج ٨

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٨

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

وهم الذين أورثوا الكتاب ، المذكورون قبل ، ليصدوا عن الهدى طمعا في عود الجاهلية (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي استجاب له الناس. أي بالاستسلام والانقياد لدينه حسبما قادهم إليه العقل السليم والنظر الصحيح وسيرة الداعي وهديه وحسن دعوته وتصديق الكتب المنزلة له وسلامة الفطرة (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) أي زائلة لأنها في باطل. والباطل لا بقاء له مع قوة الحق (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في حكمه وقضائه وتقديره. قال أبو السعود : وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة ، مجاراة معهم على زعمهم الباطل (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) أي عظيم ، لمكابرتهم الحق بعد ظهوره (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) وهو عذاب النار.

القول في تأويل قوله تعالى :

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (١٧)

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي متلبسا به في أحكامه وأخباره (وَالْمِيزانَ) أي وأنزل الميزان وهو العدل الذي يوزن به الحقوق ويسوّى به الخلاف (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) قال أبو السعود : أي شيء قريب. أو قريب مجيئها. أو الساعة بمعنى البعث. والمعنى أنها على جناح الإتيان. فاتبع الكتاب واعمل به وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ويوفى جزاؤها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (١٨)

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) أي خائفون منها. قال ابن جرير : لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أي المتحقق وجوده لا محالة (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي لإنكارهم عدل الله وحكمته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (٢٠)

٣٦١

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) أي يلطف بهم في تدبير إيصال ما يفتقرون من خبر الدين والدنيا (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ).

قال الزمخشري : سمي ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة والزكاء ، حرثا على المجاز ـ أي بتشبيهه بالزرع من حيث إنه فائدة تحصل بعمل الدنيا. ولذلك قيل (الدنيا مزرعة الآخرة) وفرق بين عمل العاملين بأن من عمل للآخرة ، وفّق في عمله وضوعفت حسناته. ومن كان عمله للدنيا أعطي شيئا منها ، لا ما يريده ويبتغيه ، وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه ، وما له نصيب قط في الآخرة. ولم يذكر في معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب على أن رزقه المقسوم له ، واصل إليه لا محالة ـ للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب. انتهى.

وهذه الآية كآية (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ) [الإسراء : ١٨] ، إلخ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (٢٣)

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) (أم) منقطعة ، فيها معنى (بل والهمزة) ولا بد من سبق كلام ، خبرا أو إنشاء ، يضرب عنه ويقرر ما بعده. وما سبق قوله (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] ، إلخ فهو معطوف عليه ، وما بينهما من تتمة الأول. والمراد بشركائهم ، إما شياطينهم لأنهم شاركوهم في الكفر وحملوهم عليه. وإما أوثانهم. وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها

٣٦٢

شركاء وإن لم تكن كذلك في الحقيقة. وعلى الثاني ، فإسناد الشرع إليها ، لأنها سبب ضلالهم وافتتانهم بما تدينوا به. أو لأنها على صورة المشرّع الذي سنّ هذا الضلال لهم. ويجوز كون الاستفهام المقدّر حينئذ للإنكار. أي ليس لهم شرع ولا شارع. كما في قوله : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) [الأنبياء : ٤٣] ، (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أي القضاء السابق بأن الجزاء في القيامة لا في الدنيا. أو لو لا ما وعدهم الله به من أنه يفصل بينهم ويبيّن في الآخرة. فالفصل بمعنى البيان (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لفرغ من الحكم بين الكافرين والمؤمنين ، بتعجيل العذاب للكافرين (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ) أي يوم البعث (مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) أي من السيئات (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي نازل بهم لا محالة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي لا أسألكم على دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به ، والنصيحة التي أنصحكم ، ثوابا وجزاء وعوضا من أموالكم تعطونيه (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم ، وتصلوا الرحم التي بيننا. ولا يكن غيركم ، يا معشر قريش ، أولى بحفظي ونصرتي ومودتي منكم.

قال الشهاب : المودة مصدر مقدر ب (أن والفعل). والقربى مصدر كالقرابة. و (في) للسببية. وهي بمعنى اللام لتقارب السبب والعلة. والخطاب ، إما لقريش أو لجميع العرب ، لأنهم أقرباء في الجملة. انتهى. والاستثناء منقطع. ومعناه نفي الأجر أصلا. لأن ثمرة مودتهم عائدة إليهم ، لكونها سبب نجاتهم. فلا تصلح أن تكون أجرا له. وقيل : المعنى أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم. وقيل (القربى) التقرّب إلى الله تعالى. أي إلا أن تتوددوا إلى الله فيما يقربكم إليه. والمعنى الأول هو الذي عوّل عليه الأئمة. ولم يرتض ابن عباس رضي الله عنه ، غيره. ففي البخاري (١) عنه ؛ أنه سئل عن قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فقال سعيد ابن جبير : القربى آل محمد. فقال ابن عباس : عجلت. إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة.

قال ابن كثير : انفرد به البخاري ـ أي عن مسلم ـ ورواه الإمام أحمد. وهكذا

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٤٢ ـ سورة الشورى ، ١٠ ـ باب قوله : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، حديث رقم ١٦٤٣.

٣٦٣

روى الشعبي والضحاك وعليّ بن أبي طلحة والعوفي ويوسف بن مهران وغير واحد عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، مثله. وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسّدّي وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم. وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس قال : قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي ، لقرابتي منكم ، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم. وروى الإمام أحمد (١) عن ابن عباس أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا أسألكم على ما أتيتكم به من البينات والهدى أجرا ، إلا أن تودّوا الله تعالى ، وأن تقرّبوا إليه بطاعته. وهكذا روي عن قتادة والحسن البصريّ مثله. وأما رواية أنها نزلت بالمدينة فيمن فاخر العباس من الأنصار ، فإسناده ضعيف. على أن السورة مكية. وليس يظهر بين الآية وتلك الرواية في هذا السياق مناسبة. وكذا ما رواه ابن أبي حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله! من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟ قال : فاطمة وولدها رضي الله عنهم ، فإن في إسناده مبهما لا يعرف ، عن شيخ شيعي ، وهو حسين الأشقر ، فلا يقبل خبره في هذا المحل وذكر نزول الآية في المدينة بعيد. فإنها مكية. ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية. فإنها لم تتزوج بعليّ رضي الله عنه إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة. والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما ، كما رواه عنه البخاري. ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم. فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرا وحسبا ونسبا. ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية. كما كان عليه سلفهم ، كالعباس وبنيه وعليّ وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين وقد ثبت في الصحيح (٢) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في خطبته : إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي. وإنهما لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. وروى الإمام أحمد (٣) عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله! إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن. وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها. قال فغضب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضبا شديدا وقال : والذي نفسي بيده! لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله. هذا ملخّص ما أورده ابن

__________________

(١) أخرجه في المسند ١ / ٢٦٨. والحديث رقم ٢٤١٥.

(٢) أخرجه مسلم في : فضائل الصحابة ، حديث رقم ٣٦.

(٣) أخرجه في المسند ١ / ٢٠٧ ، والحديث رقم ١٧٧٢.

٣٦٤

كثير رحمه‌الله تعالى ، وسبقه في الإيساع في ذلك تقيّ الدين ابن تيمية في (منهاج السنة) من أوجه عديدة.

قال في الوجه الثالث : إن هذه الآية في سورة الشورى. وهي مكية باتفاق أهل السنة. بل جميع آل حم مكيات. وكذلك آل طس. ومن المعلوم أن عليّا إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر. والحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة. والحسين في السنة الرابعة فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن والحسين بسنين متعددة. فكيف يفسر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف ولم تخلق.

ثم قال : الوجه الرابع ـ إن تفسير الآية الذي في الصحيحين عن ابن عباس يناقض ذلك. فهذا ابن عباس ترجمان القرآن وأعلم أهل البيت ، بعد عليّ ، يقول : ليس معناها مودة ذوي القربى. ولكن معناها لا أسألكم يا معشر العرب ويا معشر قريش عليه أجرا. لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم. فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أوّلا ، أن يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حتى يبلّغ رسالة ربه.

الوجه الخامس ـ أنه قال : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) لم يقل إلا المودة للقربى ولا المودة لذوي القربى. فلو أراد المودة لذوي القربى لقال المودة لذوي القربى كما قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) [الأنفال : ٤١] ، وقال (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) [الحشر : ٧] ، وكذلك قوله : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) [الإسراء : ٢٦] ، وقوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى) [البقرة : ١٧٧] ، وهكذا في غير موضع. فجميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قربى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذوي قربى الإنسان ، إنما قيل فيها (ذوي القربى). لم يقل (في القربى). فلما ذكر هنا المصدر دون الاسم ، دل على أنه لم يرد (ذوي القربى).

الوجه السادس ـ أنه لو أريد المودة لهم لقال : المودّة لذوي القربى ، ولم يقل في القربى ، فإنه لا يقول من طلب المودة لغيره : أسألك المودة في فلان ، ولا في قربى فلان. ولكن أسألك المودة لفلان ، والمحبة لفلان. فلما قال المودة في القربى ، علم أنه ليس المراد لذوي القربى.

الوجه السابع ـ أن يقال إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يسأل على تبليغ رسالة ربه أجرا البتة. بل أجره على الله كما قال : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص : ٨٦] ، وقوله : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) [الطور : ٤] و [القلم :

٣٦٥

٤٦] وقوله : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) [سبأ : ٤٧] ، ولكن الاستثناء هنا منقطع ، كما قال : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [الفرقان : ٥٧] ، ولا ريب أن محبة أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجبة. لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية ، ولا محبتهم أجر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. بل هو مما أمرنا الله به كما أمرنا بسائر العبادات. وفي الصحيح (١) عنه أنه خطب أصحابه بغدير يدعى (خما) بين مكة والمدينة فقال (أذكركم الله في أهل بيتي) وفي السنن (٢) عنه أنه قال (والذي نفسي بيده! لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي) فمن جعل محبة أهل بيته أجرا له يوفيه إياه ، فقد أخطأ خطأ عظيما. ولو كان أجرا له نثب عليه نحن ، لأنا أعطيناه أجره الذي يستحقه بالرسالة. فهل يقول مسلم مثل هذا؟؟؟.

الوجه الثامن ـ إن (القربى) معرفة باللام. فلا بد أن يكون معروفا عند المخاطبين الذين أمر أن يقول لهم (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) وقد ذكر أنها لما نزلت ، لم يكن قد خلق الحسن والحسين ، ولا تزوج علىّ بفاطمة. فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها ، يمتنع أن تكون هذه. بخلاف القربى التي بينه وبينهم ، فإنها معروفة عندهم ، كما تقول (لا أسألك إلا المودة في الرحم التي بيننا) وكما تقول (لا أسألك إلا العدل بيننا وبينكم) (ولا أسألك إلا أن تتقي الله في هذا الأمر). انتهى (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) أي يكتسب طاعة (نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) أي بمضاعفته (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) أي لمن تاب وأناب (شَكُورٌ) لسعيهم بتضعيف جزاء حسناته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢٤)

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي بدعوى النبوة والوحي (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) قال ابن كثير : أي : لو افتريت عليه كذبا كما يزعم هؤلاء الجاهلون ، يختم على قلبك أي : يطبع على قلبك ويسلبك ما كان آتاك من القرآن. كقوله جل جلاله (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ

__________________

(١) أخرجه مسلم في : فضائل الصحابة ، حديث رقم ٣٦.

(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١ / ٢٠٨ ، الحديث رقم ١٧٧٧.

٣٦٦

الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧] ، أي لانتقمنا منه أشد الانتقام ، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه. انتهى.

وهذا تفسير بالأشباه والنظائر من الآيات ، يؤثره كثير من الأئمة ، ما وجد إليه سبيلا. فإن التنزيل يفسّر بعضه بعضا. ومآل الآية على هذا المعنى ، كما أوضحه أبو السعود ، هو الاستشهاد على بطلان ما قالوا ، ببيان أنه عليه‌السلام لو افترى على الله تعالى ، لمنعه من ذلك قطعا ، فختم على قلبه بحيث لم يخطر بباله معنى من معانيه ، ولم ينطق بحرف من حروفه. وحيث لم يكن الأمر كذلك. بل تواتر الوحي حينا فحينا ، تبين أنه من عند الله تعالى.

وقال الزمخشري : فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم ، حتى تفتري عليه الكذب. فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله ، إلا من كان في مثل حالهم. وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله ، وإنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في الجملة المختوم على قلوبهم. ومثل هذا أن يخوّن بعض الأمناء فيقول : لعل الله خذلني. لعل الله أعمى قلبي. وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب. وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله ، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم. انتهى.

قال الشهاب : فمعناه ؛ إن يشأ الله يختم على قلبك كما فعل بهم. فهو تسلية له صلوات الله عليه ، وتذكير لإحسانه إليه وإكرامه ، ليشكر به ويترحم على من ختم على قلبه ، فاستحق غضب ربه ، ولو لا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر. ولذا أتى (بأن) في موضع (لو) إرخاء للعنان ، وتلميحا للبرهان. على أنه لا يتصور وصفه بما. ذكروه. فالتفريع بالنظر للمعنى المكني عنه ، وحاصله أنهم اجترءوا على هذا المحال ، لأنه مطبوعون على الضلال. انتهى (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) استئناف مقرر لنفي الافتراء عما يقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه لو كان مفترى لمحقه. إذ من سنته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه. فليس (يمح) مجزوما بالعطف على الجزاء ، بل معطوف على مجموع الجملة والكلام السابق. ولذا أعيد لفظ الجلالة ورفع (يحق). قال الزمخشري : ويجوز أن يكون عدة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن ، وبقضائه الذي لا مردّ له من نصرتك عليهم. إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك.

٣٦٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) (٢٥)

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) أي يقبل رجوعه إذا راجع توحيد الله وطاعته ، من بعد كفره (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) أي معاصيه التي تاب منها (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) أي من خير أو شر ، وهو مجازيكم عليه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٢٧)

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي يستجيب لهم. فحذف اللام كما حذف في قوله تعالى : (وَإِذا كالُوهُمْ) [المطففين : ٣] ، أي يثيبهم على طاعتهم (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي على ثوابهم ، منة منه وطولا (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ، وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أي تجاوزوا الحدّ الذي حدّه لهم إلى غيره ، بركوبهم ما حظره عليهم. لأن الغنى مبطرة مأشرة (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ـ ٧] ، (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) أي ولكن ينزل من رزقه ما يشاؤه بقدر ، لكفايتهم (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) قال الزمخشري : أي يعرف ما يؤول إليه أحوالهم ، فيقدّر لهم ما هو أصلح لهم وأقرب إلى جمع شملهم ، فيفقر ويغني ، ويمنع ويعطي ، ويقبض ويبسط. كما توجبه الحكمة الربانية. ولو أغناهم جميعا لبغوا ، ولو أفقرهم لهلكوا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٨)

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أي بركات الغيث ومنافعه وآثاره من الخصب والرخاء (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) أي الذي يتولى الخلق بإحسانه ، والمحمود على أياديه عندهم.

٣٦٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٢٩)

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ) أي حشرهم يوم القيامة (إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) أي متمكن منه ، لا يتعذر عليه وإن تفرقت أوصالهم.

تنبيه :

ذهب بعض الباحثين في آيات القرآن الفلكية والعوالم العلوية إلى معنى آخر في هذه الآية. وعبارته : يفهم من هذه الآية أن الله تعالى خلق في السموات دواب ، ويستدل من قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) [النور : ٤٥] ، أن هذه الدواب ليست ملائكة كما قال المفسرون ، بل حيوانات كحيوانات الأرض. ولا يبعد أن يكون بينهم حيوان عاقل كالإنسان ، ويلزم لحياة تلك الحيوانات أن يكون في السموات نباتات وأشجار وبحار وأنهار كما تحقق في هذا العصر لدى علماء الرصد.

ثم قال : لعمري ، إن هذه الآية التي نزلت على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ألف وثلاثمائة وعشرين سنة ، لآية لأهل هذا العصر وأيّة آية ، آية لأهل العلم والفلسفة الذين يبذلون الأموال والأرواح بلا حدّ ولا حساب ، ليتوصلوا إلى معرفة سر من أسرار الكائنات. ومع هذا الجد العنيف والجهد المتواصل منذ ثلاثمائة سنة ، لم يتوصلوا إلا بالظن إلى ما أنبأت به هذه الآية. وجل ما توصلوا إليه بالبرهان العقلي ، إن الأرض أصغر من الشمس وأنها تدور حولها. وإن الكواكب السيارات كريّات. وأن النجوم الثوابت شموس ، ولها سيارات تدور حولها. ولما ثبت لديهم جميعا وجود الماء والهواء ، وحصول الصيف والشتاء في هذه السيارات ، ظنوا أنه يوجد فيها عالم كعالم الأرض. وبدأ البعض منهم يفكرون بإيجاد الوسائل للمخابرة بالكهربائية مع سكان المريخ الذي هو أقرب السيارات إلينا. وليس ذلك بالمستحيل فنّا. ويستدل على إمكانيته من آخر الآية نفسها وهو قوله تعالى : (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) فلا يبعد أن يتخابرا ويجتمعا فكرا ، إذا لم يجتمعا جسما. فلينظر الفلكيون إلى ما حوته هذه الآية المكنوزة في القرآن. وليعلم المعجبون منا بالعلوم العصرية ، الضاربون صفحا عن العلوم الإسلامية ، ما في كتاب الله من الحكمة والبيان.

٣٦٩

وقال أيضا : لا يخفى أن القرآن العظيم نزل لبيان الحق وتعليم الدين ، أولا وبالذات. لكن ، تمهيدا لهذه السبيل ، أتى بشذرات من العلوم الفلكية والطبيعية ، وصرف بصائر الناس إلى التفكر في خلق السموات والأرض ، وما هن عليه من الإبداع. فوجه أبصارهم إلى التأمّل في خلق الإنسان وما هو عليه من التركيب العجيب ، إلى غير ذلك من الأمور الفلكية والطبيعية في أكثر من ثلاثمائة آية. فالمفسرون رحمهم‌الله ، لما فسروا هذه الآيات ، شرحوا معانيها على مقدار محيط علمهم بالعلوم الفلكية والطبيعية. ولا يخفى ما كانت عليه هذه الآلات في زمنهم من النقصان. لا سيما علم الفلك. فهم معذرون إذا لم يفهموا معاني هذه الآيات التي تحيّر عقول فلاسفة هذا العصر ، المتضلعين بالعلوم العقلية. لذلك لم يفسروا هذه الآيات حق تفسيرها ، بل أوّلوها وصرفوا معانيها عن الحقيقة إلى المجاز أو الكناية. انتهى كلامه.

وقال عالم فلكي أيضا : يقول العلماء إنه من المحقق أن هذه السيارات مسكونة بحيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا هذه ، ويكون كل كوكب منها أرضا بالنسبة لحيواناته. وباقي الكواكب سموات بالنسبة لها.

قال : والظاهر أن القول بوجود الحيوانات في هذه الكواكب صحيح. لأن الله تعالى يقول في كتابه (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) ويقول : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن : ٢٩] ،

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٣٠)

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أي فبسبب معاصيكم وما اجترمتم من الآثام. (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي من الذنوب فلا يعاقب عليها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٣١)

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي بمعجزين ربكم إن أراد عقوبتكم ، لأنكم في قبضة تصرّفه (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي إذا أراد عذابكم. فاتقوه واخشوه.

٣٧٠

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٣٣)

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) أي السفن الجارية (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي الجبال (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي فيبقين ثوابت على ظهر البحر (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في جري هذه الجواري في البحر ، بتسخير الله تعالى الريح لجريها (لَآياتٍ) أي لعبرة وعظة وحجة بيّنة على القدرة الأزلية (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي لكل مؤمن. وإنما آثر وصفيه المذكورين ، تذكيرا بما ينبغي أن يكون المؤمن عليه من وفرة الصبر وكثرة الشكر. إذ لا يكمل الإيمان بدونهما (والإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر).

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٣٥)

(أَوْ يُوبِقْهُنَ) أي أو يهلكهن بالغرق (بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) وقوله تعالى : (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ) أي يخاصمون الرسول في آياته على توحيده أنهم ما لهم من محيد عن عذابه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣٨)

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي مما زيّن للناس حبه من الشهوات (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي فهو متاع لكم. تتمتعون به في الدنيا. وليس من الآخرة (وَما عِنْدَ اللهِ) أي من ثوابه الأخروي (خَيْرٌ وَأَبْقى) وذلك لخلوصه عن الشوائب ودوامه (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي في أمورهم وقيامهم بأسبابهم (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي يصفحون عمن أساء إليهم (وَالَّذِينَ

٣٧١

اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي حينما دعاهم إلى توحيده ، والبراءة من عبادة غيره (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه. وذلك من فرط تدبّرهم وتيقظهم ، وصدق تآخيهم في إيمانهم وتحابّهم في الله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي فيؤدّون ما فرض عليهم من الحقوق لأهلها ، من زكاة ونفقة. وما ندبوا إليه من مواساة وصدقة ومعونة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (٣٩)

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي بالعدالة. احترازا عن الذلة والانظلام ، لكونهم في مقام الاستقامة ، قائمين بالحق والعدل الذي ظلّه في نفوسهم. قاله القاشاني. وقال ابن جرير : اختلف أهل التأويل في الباغي الذي حمد تعالى ذكره ، المنتصر منه بعد بغيه عليه. فقال بعضهم : هو المشرك إذا بغى على المسلم. وقال آخرون : بل هو كل باغ بغى فحمد المنتصر منه. وإليه ذهب السّدّي حيث قال : ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا.

قال ابن جرير : وهذا القول الثاني أولى من ذلك بالصواب. لأن الله لم يخصص من ذلك معنى دون معنى. بل حمد كل منتصر بحقّ ممن بغى عليه .. فإن قال قائل : وما في الانتصار من المدح؟ قيل : إن في إقامة الظالم على سبيل الحق ، وعقوبته بما هو له أهل ، تقويما له. وفي ذلك أعظم المدح. انتهى. وكذا قال الزمخشري. فإن قلت : أهم محمودون في الانتصار؟ قلت : نعم. لأن من أخذ حقه غير متعد حد الله وما أمر به فلم يسرف في القتل ، إن كان وليّ دم ، أو ردّ على سفيه محاماة على عرضه وردعا له ، فهو مطيع. وكل مطيع محمود. قال النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفسّاق. ثم أشار تعالى إلى أن الانتصار يجب أن يكون مقيدا بالمثل ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٢)

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) أي وجزاء سيئة المسيء ما ماثلها. إذ النقصان

٣٧٢

حيف والزيادة ظلم. ثم بيّن تعالى أن العفو أولى ، فقال (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) أي بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي ثوابه عليه. وفي إبهامه ، ما يدل على عظمه. حيث جعل حقا على العظيم الكريم (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي البادئين بالسيئة والمعتدين في الانتقام (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) أي بعد ما ظلم. فالمصدر مضاف لمفعوله ، أو هو مصدر المبنيّ للمفعول (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي للمعاقب ، ولا للعاتب والعائب. لأنهم انتصروا منهم بحق. ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك عليه ، ولم يتعد ولم يظلم ، فكيف يكون عليه سبيل؟ (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) أي يبدءوهم بالظلم والإضرار ، أو يعتدون في الانتقام (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي يتكبرون فيها ويفسدون (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : بسبب ظلمهم وبغيهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٤٣)

(وَلَمَنْ صَبَرَ) أي على الأذى (وَغَفَرَ) أي لمن ظلمه ولم ينتصر (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي التي ندب الله عباده ، وعزم عليهم العمل بها.

تنبيه :

نقل السيوطي في (الإكليل) عن الكيا الهراسيّ أنه قال : قد ندب الله إلى العفو في مواضع من كتابه ، وظاهر هذه الآية (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أن الانتصار أفضل. قال ، وهو محمول على من تعدى وأصرّ ، لئلا يتجرأ الفساق على أهل الدين. وآيات العفو فيمن ندم وأقلع. انتهى. وعجيب فهمه الأفضلية من الآية ، فإنها لا تدل عليه ، عبارة ولا إشارة. فإنه تعالى لم يرغب في الانتصار. وإنما بين أنه مشروع لهم إذا شاءوا. ثم بين بعده أن مشروعيته بشرط رعاية المماثلة. ثم بين أن العفو أولى ، وهو الذي انتهى إليه الكلام ، وتم به السياق. وكذلك لا حاجة إلى حمل الانتصار على من تعدى. وذلك لأن الانتصار بالمثل من فروع علم العقوبات والجزاء المشروعة لإقامة الحق والعدل ، ودفع الظلم عن النفس والصغار ، ورفع الأحقاد والأضغان. وأما العفو والصفح ، فذاك من فروع علم الأخلاق وتهذيب النفوس. لأنه من باب المسامحة بالحق وإسقاط المستحق ، رغبة في تزكية النفس وهضما لها وحرصا على خير الأمرين وأوفر الأجرين. وكلاهما من محاسن الشريعة الحنيفية ، وتوسطها بين الاقتصاص البتة والعفو كليّا ؛ لأن العقل السليم يرى فيهما إفراطا

٣٧٣

وتفريطا. والدين دين الفطرة. وهي تتقاضى القصاص بالمثل ، وتراه حقا لها بجبلّتها والقضاء الأدبيّ والوازع الرحمانيّ يرشدها إلى ما هو أمثل إن شاءت ، ويبرهن لها أمثليته ، مما لا يبعد ، إذا راجعت نفسها وثابت إلى رشدها ، أن تؤثره ولا تؤثر عليه. كيف؟ وقد دل قوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) كما قال الزمخشريّ ، على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة والاعتداء ، خصوصا في حال الحرد والتهاب الحمية. فربما كان المجازى من الظالمين وهو لا يشعر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) (٤٤)

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي : ومن خذله عن الرشاد ، فليس له من وليّ يليه ، فيهديه لسبيل الصواب ، ويسدده من بعد إضلال الله إياه (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) أي رجعة إلى الدنيا. وذلك استعتاب منهم في غير وقته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) (٤٧)

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي النار (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) أي من طرف قد خفي من ذله وصغاره (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي بالتعريض للعذاب المخلد ، وتفويت النعيم المؤبد (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) أي أجيبوا أيها الناس داعي الله وآمنوا به (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي لا يرده الله بعد ما حكم به ف «من» صلة (مردّ) أو هي صلة (يأتي) أي من قبل أن يأتي يوم الله لا يمكن ردّه (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ

٣٧٤

وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي إنكار لما اقترفتموه ، لأنه محصيّ عليكم. أو نكير ينكر على الله في مؤاخذتكم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) (٤٨)

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي رقيبا تحفظ عليهم أعمالهم وتحصيها (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) أي إبلاغهم ما أرسلت به ، فإذا فعلت فقد قضيت ما عليك (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) أي جحود نعم ربه ، فلا يذكر إلا البؤس والبلاء ، ولا يتفكر إلا فيما أنزله به من الفساد والشقاء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٥٠)

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي إنه تعالى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة. وتقديم الإناث ، إما لأنها أكثر لتكثير النسل ، أو لتطييب قلوب آبائهن ، تنبيها بأنهن سبب لتكثير مخلوقاته ، فلا يجوز الحزن من ولادتهن وكراهتهن ، كما يشاهد من بعض الجهلة. وقال الثعالبي : إنه إشارة إلى ما في تقدم ولادتهن من اليمن (ومن يمن المرأة تبكيرها بأنثى).

قال الشهاب : والضمير في (يُزَوِّجُهُمْ) للأولاد ، وما بعده حال منه ، أو مفعول ثان إن ضمّن معنى التصيير ، يعني يجعل أولاد من يشاء ذكورا وإناثا مزدوجين. كما يفرد بعضهم بالذكور وبعضهم بالإناث. ويجعل بعضهم لا أولاد له أصلا.

٣٧٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٥١)

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) أي إلهاما وقذفا في القلب منه ، بلا واسطة (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه ، كما كلم موسى عليه‌السلام (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) أي من ملائكته كجبريل (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) أي فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه ، ما يشاء إيحاءه ، من أمر ونهي وغير ذلك ، على سبيل الإلقاء والنفث في الروع والإلهام ، أو الهتاف أو المنام (إِنَّهُ عَلِيٌ) أي من أن يواجه ويخاطب. بل يفنى ويتلاشى من يواجهه ، لعلوّه من أن يبقى معه غيره ، أو يحتمل شيء حضوره. قاله القاشاني.

وقال المهايمي : أي لا يبلغ البشر حد مكالمته شفاها ، ولا يحتمل سماع كلامه مع رؤيته. انتهى. (حَكِيمٌ) أي يدبر بالحكمة وجوه التكليم ، ليظهر علمه في تفصيل المظاهر ، ويكمل به عباده ، ويهتدوا إليه ويعرفوه. وقال المهايمي : أي حكيم في تبليغ كلامه العلي إلى البشر الضعيف.

تنبيه :

في (الإكليل) : استدلت بالآية ، عائشة رضي الله عنها ، على أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ير ربه. واستدل مالك بقوله : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) على أن من حلف لا يكلم زيدا ، فأرسل إليه رسولا أو كتابا ، أنه يحنث. لأنه تعالى استثناه من الكلام ، فدل على أنه منه. انتهى. وفيه بعد. إذ لا يقال لمن ألهمه الله ، إنه كلمه إلا مجازا. فلا يكون الاستثناء متصلا. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣)

(وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الإيحاء على الطرق الثلاثة (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) أي وحيا من أمرنا. وسمّاه روحا لأنه تحيا به القلوب الميتة. قال الشهاب :

٣٧٦

فهو استعارة أو مجاز مرسل ، لما فيه من الهداية والعلم الذي هو كالحياة. وقيل : هو جبريل.

و (أَوْحَيْنا) مضمن معنى (أرسلنا). والمعنى : أرسلناه إليك بالوحي (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ) أي الروح أو الكتاب أو الإيمان (نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) أي بالتوفيق للقبول والنظر فيه (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي خلقا وملكا (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي في الآخرة. فيقضي بينهم بالعدل. إذ لا حاكم سواه ، فيجازي كلا بما يستحقه من ثواب أو عقاب. نسأله تعالى أن يحسن لنا المآب. إنه الكريم الوهاب.

٣٧٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الزخرف

سميت به لدلالة آيته على أن الدنيا في غاية الخسة في نفسها ، وغاية العداوة مع ربّها بحيث لا تليق بالأصالة إلا لأعدائه. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايميّ. وهي مكية. قيل : إلا آية (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) [الزخرف : ٤٥] ، وآيها تسع وثمانون.

٣٧٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٣)

(حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي معانيه ومواعظه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤)

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌ) أي رفيع القدر ، بحيث لا رفعة وراءها (حَكِيمٌ) أي ذو الحكمة الجامعة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) (٥)

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) أي أنهملكم ونصرف عنكم الذكر لإسرافكم. وإنما كانت الحاجة إلى الذكر للإسراف ، إذ لو كانوا على السيرة العادلة والطريقة الوسطى لما احتيج إلى التذكير. بل التذكير يجب عند الإفراط والتفريط. ولهذا بعث الأنبياء في زمان الفترة. قاله القاشاني.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) (٨)

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي قوة (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي سلف في القرآن في غير موضع منه ، ذكر قصتهم وحالهم في تكذيبهم وتعذيبهم وما مثلناه لهم. أي فليتوقع هؤلاء المستهزئون من العقوبة مثل ما حلّ بسلفهم.

٣٧٩

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠)

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي مهادا تستقرون عليها (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي طرقا تتطرقونها من بلدة إلى بلدة ، لمعايشكم ومتاجركم (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي بتلك السبل إلى حيث أردتم من القرى والأمصار.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (١١)

(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) أي بمقدار الحاجة إليه. فلم يجعله طوفانا يهلك ، ولا رذاذا لا ينبت ، بل غيثا مغيثا (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي أحيينا به بلدة ميتا من النبات ، قد درست من الجدب وعفت من القحط (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي من بعد فنائكم ومصيركم بالأرض.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (١٤)

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي خلق كل شيء فزوّجه ، فجعل منه الذكر والأنثى (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) أي من السفن والبهائم ما تركبونه (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي مطيقين (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي لصائرون إليه ، وراجعون بعد مماتنا.

تنبيه :

في (الإكليل) : في الآية استحباب هذا الذكر عند ركوب الدابة والسفينة. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوله كلما استوى على راحلته أو دابته.

٣٨٠