تفسير القاسمي - ج ٨

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٨

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٣٥)

(وَما يُلَقَّاها) أي هذه الخصلة الشريفة ، والفضيلة العظيمة ، وهي مقابلة الإساءة بالإحسان (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي على تجرع الشدائد. أو على طاعته تعالى وأمره ، تخلقا بالعلم والعفو (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي من الخير وكمال النفس. ومن الله تعالى بالتخلق بأخلاقه. ومن الثواب وكمال العقل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٦)

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي وإما يلقين الشيطان في نفسك وسوسة من حديث النفس ، إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة ، والانتقام منه ، فاستجر بالله واعتصم من خطواته ، بالرجوع إلى جنابه تعالى ، واللجأ إلى حضرته ، من شره ووسوسته ونزغه. قال ابن كثير : قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في سورة الأعراف وهو قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف : ١٩٩ ـ ٢٠٠] ، وفي سورة المؤمنون وهو قوله سبحانه : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) [المؤمنون : ٩٦ ـ ٩٨].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (٣٧)

(وَمِنْ آياتِهِ) أي حججه تعالى على خلقه ، ودلالته على وحدانيته وعظيم سلطانه (اللَّيْلُ وَالنَّهارُ) أي اختلافهما ، ومعاقبة كل واحد منها صاحبه (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي نورهما وإشراقهما وتقدير منازلهما ، واختلاف سيرهما في سمائهما ، لبقاء صلاح الكون (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) لأنهما مسخران بتسخير خالق قادر عليم ، فهما مخلوقان (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي تفردونه بالعبادة. فإن من طاعته أن تخلصوا له العبادة ، ولا تشركوا في طاعته أحدا. لأنها لا تنبغي لأحد سواه.

٣٤١

تنبيه :

استدل بالآية الشيخ أبو إسحاق في (المهذب) على صلاة الكسوف. قال : لأنه لا صلاة تتعلق بالشمس والقمر غيرها. وأخذ من ذلك تفضيلها على صلاة الاستسقاء ، لكونها في القرآن ، بخلافها. كذا في (الإكليل).

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) (٣٨)

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) أي عن عبادته كبرا وعتوا (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي من الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي لا يملّون عبادته ، لأنها قرة أعينهم وحياة أنفسهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) (٤١)

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) أي ساكنة لا حركة لعشب فيها ولا نبات ولا زرع (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي اهتزت بالنبات وتحركت بزينته ، وربت بارتفاعه على سطحها ، أي صارت ربوة مرتفعة (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) أي هذه الأرض الدارسة ، فأخرج منها النبات ، وجعلها تهتز بالزرع من بعد يبسها (لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) أي يميلون عن حججنا وأدلتنا ، ويزيغون عنها تكذيبا لها وجحودا لها (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) أي لإحاطة علمه بهم ، وكونه بالمرصاد لهم ، فسيجزيهم.

تنبيه :

شملت الآية من يضع الكلام في الآيات على غير مواضعه ، كما فسّرها ابن عباس. قال في (الإكليل) : ففيها الرد على من تعاطى تفسير القرآن بما لا يدل عليه

٣٤٢

جوهر اللفظ ، كما يفعله الباطنية والاتحادية والملاحدة وغلاة المتصوفة (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) أي بهذا القرآن (لَمَّا جاءَهُمْ) أي فهم هالكون. فالخبر محذوف. أو الجملة بدل من جملة (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي منيع محمي عن التغيير والتبديل ، وعن محاكاته بنظير.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤٢)

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي لا يتطرق إليه البطلان من جهة من الجهات.

قال القاشاني : لا من جهة الحق فيبطله بما هو أبلغ منه وأشد إحكاما في كونه حقا وصدقا. ولا من جهة الخلق فيبطلونه بالإلحاد في تأويله ، ويغيرونه بالتحريف لكونه ثابتا في اللوح محفوظا من جهة الحق ، كما قال (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] ، وفيه تمثيل لتشبيهه بشخص حمي من جميع جهاته. فلا يمكن أعداءه الوصول إليه لأنه في حصن حصين من حماية الحق المبين. هذا على أن ما بين يديه وما خلفه ، كناية عن جميع الجهات. كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله. أو المعنى : لا يتطرق إليه باطل في كل ما أخبر عنه من الأخبار الماضية والآتية. والماضية ما بين يديه ، والآتية ما خلفه. أو العكس كما مرّ (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) قال ابن جرير : أي هو تنزيل من عند ذي حكمة ، بتدبير عباده وصرفهم فيما فيه مصالحهم ، محمود على نعمه عليهم بأياديه عندهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) (٤٣)

(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) أي ما يقول لك كفار قومك ، إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم ، من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة. أي فاصبر كما صبروا (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) أي لذنوب التائبين إليه من ذنوبهم ، بالصفح عنهم (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) أي لمن أصرّ على كفره وذنوبه ، ومات قبل التوبة منها.

٣٤٣

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٤٤)

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي بيّنت أدلته وما فيه ، بلسان نعرفه لنفهم ما فيه. قال الزمخشري : كانوا لتعنتهم يقولون : هلا نزل القرآن بلغة العجم؟ فقيل : لو كان كما يقترحون ، لم يتركوا الاعتراض والتعنت وقالوا : لو لا فصلت آياته؟ أي بيّنت ولخصت بلسان نفقهه (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) الهمزة همزة الإنكار ، يعني : لأنكروا وقالوا : أقرآن أعجميّ ورسول عربي؟ أو مرسل إليه عربيّ؟ والمعنى : إن آيات الله على أي طريقة جاءتهم ، وجحدوا فيها متعنتا. لأن القوم غير طالبين للحق. وإنما يتعبون أهواءهم. انتهى.

قال الشهاب : والأعجمي أصله (أعجم). ومعناه من لا يفهم كلامه للكنة أو لغرابة لغته وزيدت الياء للمبالغة. كما في أحمري. ويطلق على كلامه مجازا. لكنه اشتهر حتى ألحق بالحقيقة. وأما العجمي فالمنسوب إلى العجم. وهم من عدا العرب وقد يخص بأهل فارس ولغتهم العجمية أيضا. فبين الأعجمي والعجمي عموم وخصوص وجهي. انتهى. (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) أي : هو للمؤمنين بالغيب هداية تهديهم إلى الحق ، وتبصّرهم بالمعرفة. وشفاء يزيل أمراض قلوبهم من الرذائل. كالنفاق والشك ، أي تبصّرهم بطريق النظر والعمل ، فتعلمهم وتزكيهم (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي لا يسمعونه ولا يفهمونه. بل يشتبه عليهم لاستيلاء الغفلة عليهم ، وسد الغشاوات الطبيعية طرق أسماع قلوبهم وأبصارها. فلا ينفذ فيها ولا يتنبهوا بها ولا يتيقظوا (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي مثلهم في عدم قبولهم الحق ، واستماعهم له ، مثل من يصيّح به من مسافة شاطة ، لا يسمع من مثلها الصوت ، فلا يسمع النداء. وذلك لبعدهم عن منبع النور الى يدرك به الحق ويرى. وانهماكهم في ظلمات الهيولى. قال الشهاب : وجعل النداء من مكان بعيد ، تمثيلا لعدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا له. يقال : أنت تنادى من مكان بعيد ، أي لا تفهم ما أقول. وقيل : إنه على حقيقته ، وإنهم يوم القيامة ينادون كذلك ، تفضيحا لهم.

٣٤٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (٤٥)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) قال ابن جرير : أي فاختلف في العمل بما فيه الذين أوتوه من اليهود. وقال ابن كثير : أي كذب وأوذي ، فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي العدة بالقيامة وفصل الخصومة حينئذ. أي لو لا أنه تعالى قدر الجزاء في الآخرة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي بتعجيل العذاب (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) [الكهف : ٥٨] ، (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) [القمر : ٤٦] ، (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي موقع للريب والاضطراب لأنفسهم وأتباعهم ، لعمى بصائرهم وتبلد عقولهم. وإلا فالحق أجلى من أن يخفى. وقال ابن كثير : أي وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم ، لما قالوا. بل كانوا شاكّين فيما قالوه ، غير محققين لشيء كانوا فيه. هكذا وجّهه ابن جرير. وهو محتمل. والله أعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (٤٦)

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) أي من عمل بطاعة الله ، فائتمر لأمره وانتهى عما نهاه ، فلنفسه نفعه. لأنه يجازى عليه جزاءه الحسن (وَمَنْ أَساءَ) أي عمل السيّئ وعصى (فَعَلَيْها) ضرّه. لأنه جنى على نفسه بذلك ، ما أكسبها سخط الله تعالى والعقاب الأليم و (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي لا يعاقب أحدا إلا بذنبه ، ولا يعذّب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه ، وإرسال الرسول إليه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) (٤٧)

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي لا يعلمها إلا هو. أو المعنى : إذا سئل عنها يقال : الله عالم بها (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) أي أوعيتها (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا

٣٤٥

تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي مقرونا بعلمه. قال الزمخشري : يعلم عدد أيام الحمل وساعاته وأحواله من الخداج والتمام والذكورة والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) أي الذين كنتم تشركونهم في عبادتي (قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي أعلمناك ما منا من يشهد لهم بالشركة ويقرّبها الآن. ف (شَهِيدٍ) فعيل من الشهادة ونفي الشهادة كناية عن التبرؤ منهم. أو هو منهم إنكار لعبادتها. فيكون كذبا ، كقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٤٨)

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي يعبدون من الأوثان ، فلم تنفعهم ولم تدفع عنهم شيئا (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي وأيقنوا يومئذ مالهم من ملجأ يلجئون إليه من عذاب الله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) (٤٩)

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أي لا يمل من مسألته ربه بالخير ، كالمال وصحة الجسم (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) أي الضرّ في نفسه من سقم أو جهد في معيشته (فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) أي من روح الله ورحمته ، ومن أن يكشف ما نزل به. قال الزمخشري : بولغ فيه من طريقين : من طريق بناء (فعول) ومن طريق التكرير. والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) (٥٠)

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) أي بتفريجها عنه (لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي حقي نلته بعملي ، لا بفضل من الله. جحدا للمنعم (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي للحالة الحسنى من الكرامة. حرصا ورجما

٣٤٦

بالغيب ، وتلاعبا بما شاء الهوى (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) أي فلنخبرن هؤلاء المتمنين على الله الأباطيل ، بحقيقة أعمالهم. ولنبصرنّهم عكس ما اعتقدوا فيها (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) وهو تخليدهم في النار.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (٥١)

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي إذا كشفنا ما به من ضر ، ورزقناه غنى وصحة وسعة ، أعرض عما دعي إليه من الطاعة. وتكبر وشمخ بأنفه عن الإجابة. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي كثير. يديم تضرعه ، ويستغرق في الابتهال أنفاسه. وقد استعير (العرض) لكثرة الدعاء. كما يستعار له (الطول) أيضا. فيقال : أطال فلان الدعاء ، إذا أكثر. وكذلك أعرض دعاءه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٥٢)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) أي القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) أي من غير نظر واتباع دليل (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي من أضل منكم. فوضع الموصول موضع الصلة ، شرحا لحالهم وتعليلا لمزيد ضلالهم. والشقاق الخلاف. لكون المخالف في شق وجانب ممن خالفه. قال الشهاب : الآية رجوع لإلزام الطاعنين والملحدين. وختم السورة بما يلتفت لفت بدئها ، وهو من الكلام المنصف. وفيه حث على التأمل ، واستدراج للإقرار. مع ما فيه من سحر البيان. وحديث الساعة وقع في البين تتميما للوعيد. وتنبيها على ما هم عليه من الضلال البعيد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٣)

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) يعني وقائع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنواحي بلد المشركين من أهل مكة وأطرافها. وظهوره على الناس تصديقا للوعد (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) أي من

٣٤٧

غلبتهم وقهرهم وكسر شوكتهم. وكما وقع في بدر وفتح مكة (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) أي أن هذا القرآن ، بوعده ووعيده ، هو الحق الثابت ، إذا لا برهان بعد عيان. فقد نصر الله رسوله وصحبه ، وخذل الباطل وحزبه (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي لا يخفى عليه شيء ما ، مما يفعله خلقه ، وهو مجازيهم عليه. ففيه وعد ووعيد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤)

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي في شك عظيم من البعث بعد الممات ، ومعادهم إلى ربهم (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي فلا يخرج عن إحاطته شيء (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤].

٣٤٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الشورى

سميت بالشورى ، لإشعار آياتها بذلة الدنيا وعزة الآخرة ، وصفات طالبيها ، مع اجتماع قلوبهم بكل حال. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايمي : وهي مكية. وقيل إن فيها مدنيا. ومرّ مرارا تحقيق ذلك ، وآيها ثلاث وخمسون.

٣٤٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(حم (١) عسق) (٢)

(حم عسق) قد روى بعض المفسرين ها هنا ، في تفسير (حم عسق) آثارا واهية جدا لا يعول عليها. بل هي ، كما قال ابن كثير منكرة ، وقد قدمنا أن الصواب أن هذه الحروف ، أوائل السور الكريمة ، أسماء لها. و (حم عسق) اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما ، وعدّا آيتين. وقيل اسم واحد ، والفصل ليناسب سائر الحواميم ، فيكون آية واحدة. وهو الوجه عندي لاشتهارها بهما معا. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣)

(كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كلام مستأنف ، وارد لتحقيق أن مضمون السورة موافق لما في تضاعيف سائر الكتب المنزلة على الرسل المتقدمة في الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق. أو أن إيحاءها مثل إيحائها ، بعد تنويهها بذكر اسمها والتنبيه على فخامة شأنها. والكاف في حيز النصب على أنه مفعول لـ (يوحي) على الأول ـ وعلى أنه نعت لمصدر مؤكد له ، على الثاني و (ذلك) على الأول إشارة إلى ما فيها. وعلى الثاني إلى إيحائها. وما فيه من معنى البعد ، للإيذان بعلوّ رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل. أي مثل ما في هذه السورة من المعاني ، أوحى إليك في سائر السور ، وإلى من قبلك من الرسل في كتبهم. على أن مناط المماثلة ما أشير إليه من الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق وما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد. أو مثل إيحائها ، أوحى إليك عند إيحاء سائر السور. وإلى سائر الرسل عند إيحاء كتبهم إليهم. لا إيحاء مغايرا له. كما في قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) [النساء : ١٦٣] الآية. على أن مدار المثلية كونه بواسطة الملك. وصيغة المضارع على حكاية الحال الماضية ،

٣٥٠

للإيذان باستمرار الوحي ، وأن إيحاء مثله عادته. وفي جعل مضمون السورة أو إيحاءها مشبها به ، من تفخيمها ما لا يخفى. وكذا في وصفه تعالى بوصفي العزة والحكمة. وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل. مع ما فيه من التشويق. وقرئ (يوحى) على البناء للمفعول ، على أن (كذلك) مبتدأ (ويوحى) خبره المسند إلى ضميره ، أو مصدره و (يوحي) مسند إلى (إليك). و (الله) مرتفع بما دل عليه (يوحي) كأنه قيل : من يوحي؟ فقيل : الله. (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان له ، أو مبتدأ ، كما في قراءة (نوحي) ، والعزيز وما بعده خبران له. أو العزيز الحكيم صفتان له. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٤)

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) خبران له. وعلى الوجوه السابقة ، استئناف مقرر لعزته وحكمته. أفاده أبو السعود.

القول في تأويل قوله تعالى :

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (٦)

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) أي يتشققن لتأثرهن من تجليات عظمته ، ويتلاشين من علوّ قهره وسلطنته ، يدل عليه مجيئه بعد (الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) أو من دعائهم له ولدا ، كما في سورة مريم (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي يسألون المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين به (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي شركاء وأندادا (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أي رقيب على أفعالهم يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها يوم القيامة (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي بموكل لحفظ أعمالهم. وإنما أنت منذر (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٧)

٣٥١

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أي أهلها ، وهي مكة (وَمَنْ حَوْلَها) أي من العرب وسائر الناس (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) أي يوم القيامة الذي تكون فيه الفضيحة أعظم ، لأنه يجمع فيه الخلائق (لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي منهم فريق في الجنة ، وهم الذين آمنوا بالله ، واتبعوا ما جاءهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفريق في السعير ، أي النار الموقدة المسعورة على أهلها. وهم الذين كفروا بالله وخالفوا ما جاءهم به رسوله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٨)

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي أهل دين واحد وملة واحدة (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي ولكن لم يفعل ذلك فيجعلهم أمة واحدة ، لمنافاة ذلك ما يقتضيه حكمة خلق الإنسان من تنوع أفراده المستلزم اختلاف أميالهم ومشاربهم. ولذا شاء ما اقتضاه خلقهم واستعدادهم. فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون. فأدخل من شاء في رحمته وهم المؤمنون ، وفي عذابه ، الكافرين. قال أبو السعود : ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين ، تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول مدخله (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي والكافرون بالله ما لهم من وليّ يتولاهم يوم القيامة ، ولا نصير ينصرهم من عقاب الله فينقذهم من عذابه ، لأنه يدخلهم في قهره. وتوصيفهم بالظالمين ، إشارة إلى عدل المؤمنين في باب الاعتقادات والأخلاق والأعمال والأفعال ، وأنه تعالى يواليهم وينصرهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (١٠)

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي يتولونهم. مع أنه لا ولاية لهم في الحقيقة ، إذ لا قدرة ولا قوة (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) أي هو الذي يجب أن يتولى وحده ، ويعتقد أنه المولى والسيد دون غيره ، لتوليه سبحانه كل شيء ، وسلطانه وحكمه. والفاء جواب

٣٥٢

شرط مقدر. كأنه قيل بعد إنكار كل وليّ سواه : إن أرادوا وليا بحق ، فالله هو الوليّ بالحق ، لا وليّ سواه (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي هو المحيي القادر ، فكيف تستقيم ولاية غيره ، وقوله (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) تمهيد لما يأتي بعد ، من الأمر بإقامة الدين وعدم التفريق فيه ، الذي هو وصية الله تعالى لأنبيائه ، وشرعته لخلقه ، وتنبيه على أن خلاف من خالف من المشركين والكافرين ، إنما مردّه إلى الله تعالى وحكمه وقضائه. وأنه لا دين إلا دينه ، ولا عبادة إلّا عبادته ، ولا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه ، والقصد الرد على مشركي مكة وأمثالهم ، في تشريعهم ما لم يأذن به الله ، وتحكيمهم إتباع الآباء وأفانين الأهواء. فإن السورة مكية. ومع ذلك ، فتدل الآية على أن ما اختلف فيه المختلفون وتنازعوا في شيء من الخصومات ، يجب أن يكون التحاكم فيه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن لا يوثر على حكومته حكومة غيره. كقوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [النساء : ٥٩] ، وتدل أيضا على الرجوع إلى المحكم من كتاب الله ، والظاهر من سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا اختلفوا في تأويل آية واشتبه عليهم. وعلى تفويض ما لم تصل إلي دركه العقول ، إلى الله تعالى ، بأن يقال : الله أعلم. كما في قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]. وقوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) بتقدير (قل) أو هو حكاية لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أي الذي هذه الصفات صفاته ، ربي لا آلهتكم التي تدعون من دونه ، التي لا تقدر على شيء (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي في أموري كلها (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع في المعاد ، أو من الذنوب ، أو في الأمور المعضلة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١)

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنسكم (أَزْواجاً) أي نساء (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أي أصنافا مختلفة ، أو ذكورا وإناثا (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي يكثركم. من (الذرء) وهو البث. يقال : ذرأ الله الخلق. بثهم كثّرهم. وفسر بـ (يخلقكم). وضمير (فيه) للبطن أو الرحم. وقال الزمخشريّ : أي في هذا التدبير ، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا ، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل. والضمير في (يَذْرَؤُكُمْ) يرجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء

٣٥٣

على الغيب مما لا يعقل. فإن قلت : ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل : يذرؤكم به؟ قلت : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. انتهى.

وقيل (في) مستعارة للسببية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) قال ابن جرير : فيه وجهان : أحدهما أن يكون معناه : ليس هو كشيء. وأدخل المثل في الكلام ، توكيدا للكلام ، لكونهما بمعنى واحد. والآخر أن يكون معناه : ليس مثله شيء. وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام. انتهى.

وبقي ثالث وهو أن المثل بمعنى الصفة. أي ليس كصفته صفة. ورابع ـ وهو ما عول عليه المحققون ـ أن المراد من مثله ذاته. كما في قولهم : مثلك لا يبخل. على قصد المبالغة في نفيه عنه. فإنه إذا نفي عمن يناسبه. كان نفيه عنه أولى. ثم سلكت هذه الطريقة في شأن من لا مثل له سبحانه ووجه المبالغة أن الكناية من باب دعوى الشيء ببيّنة. وقد بينت الكناية في الآية بوجه آخر أشار إليه الشّمنّي. وهو أنه نفي للشيء بنفي لازمه. لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم. كما يقال : ليس لأخي زيد أخ. فأخو زيد ملزوم. والأخ لازمه. لأنه لا بد لأخي زيد من أخ هو زيد. فنفي هذا اللازم. والمراد نفي ملزومه. أي ليس لزيد أخ. إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ. هو زيد. فكذا نفي أن يكون لمثل الله مثل. والمراد نفي مثله تعالى ـ إذ لو كان له مثل ، لكان هو تعالى مثل مثله ، لتحقق المماثلة من الجانبين. فلا يصح نفي مثله (أي نفي مثل ذلك المثل) وبالجملة ، فأطلق نفي مثل المثل ، وأريد لازمه من نفي المثل. قال بعض الأفاضل : طالما كنت أجد في نفسي من هذا شيئا. وذلك أن محصل هذا أن نفي المثل لازم لحقيقة الآية. وقد تقرر أولا أنها تقتضي إثباته. ولذا أوّلوها بالأوجه المذكورة. فكيف يعقل أن إثبات الشيء ونفيه يلزمان معا لشيء واحد؟ مع تصريحهم بأن تنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات. وبفرض صحة أن كلا منهما لازم لها ، فقصرها على هذا دون ذاك تحكم. مع أن القصد إبطال دلالتها على المحال. ولا يكفي فيه قولنا إنه غير مراد كما لا يخفى. ثم ظهر أن إثبات المثل ليس لازما لحقيقة الآية قطعا. بل هو محتمل فقط. كما تحتمل نفيه. وإن كان الأول أقرب ، لكن عارضه في خصوص هذه المادة. أنه لو كان له مثل إلخ. فبطل ذلك الاحتمال من أصله. فالتعويل في نفي المثل على هذه المقدمة القطعية بخلاف المثال فافهم ذلك. وقال العصام : هذا ـ أي كون الآية من باب الكناية ـ وجه تلقاه الفحول بالقبول. ورجّحوه بأن الكناية أبلغ من التصريح. وعدم الزيادة أحق بالترجيح. وفيه بحث ، وهو أن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي

٣٥٤

المثل. لأن الشيء ليس مثل مثله. بل المثل المشارك للشيء في صفة ، منع كون الشيء أقوى منه فيها وبمنزلة الأصل. والمثل بمنزلة الملحق به المتقارب. انتهى.

ورده السيلكوتي فقال : ما قيل إن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل لأن مثل الشيء أضعف منه ، فتوهم محض. لأن المماثلة هي الشركة ، في أخص الصفات والمساواة في جميع الوجوه مما به المماثلة. صرّح به في (شرح العقائد النسفية) انتهى. ومثل هذه اللطائف الأدبية مما تتحلى به أجياد الأفهام. وتتشعب في أودية بدائعه عيون محاسن الكلام.

تنبيه :

قال السيوطي في (الإكليل) : في الآية ردّ على المشبهة. وأنه تعالى ليس بجوهر ولا بجسم ولا عرض ولا لون ولا حالّ في مكان ولا زمان. انتهى.

وكان حقه أن يتم الاستنباط. فكما أن صدر الآية فيه رد على المشبهة. فكذا تتمتها وهو قوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) رد على المعطلة. ولذا كان أعدل المذاهب مذهب السلف. فإنهم أثبتوا النصوص بالتنزيه من غير تعطيل ولا تشبيه. وذلك أن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله تعالى وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق. ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات ، فجمعوا بين التمثيل والتعطيل. فمثلوا أولا وعطلوا آخرا. فهذا تشبيه وتمثيل منهم ، للمفهوم من أسمائه وصفاته تعالى ، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم. فعطلوا ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات اللائقة به عزوجل. بخلاف سلف الأمة وأجلاء الأئمة. فإنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصف به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. من غير تحريف ولا تشبيه. قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فرد على المشبهة بنفي المثلية ، ورد على المعطلة بقوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) قال الحافظ ابن عبد البرّ : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز. إلا أنهم لم يكيّفوا شيئا من ذلك. وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج ، فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة. ويزعمون أن من أقرّ بها مشبه ، وهم عند من أقرّ بها نافون للمعبود. انتهى.

قال الذهبي : صدق والله! فإن من تأول سائر الصفات ، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام ، أدّاه ذلك السلب إلى تعطيل الرب وأن يشابه المعدوم. كما نقل عن حماد بن زيد أنه قال : مثل الجهمية كقوم قالوا : في دارنا نخلة. قيل : لها سعف؟

٣٥٥

قالوا : لا. قيل لها كرب؟ قالوا : لا. قيل لها رطب؟ قالوا : لا. قيل : فلها ساق؟ قالوا : لا. قيل : فما في داركم نخلة. قلت : كذلك هؤلاء النفاة قالوا إلهنا الله تعالى. وهو لا في زمان ولا في مكان ولا يرى ولا يسمع ، ولا يبصر ولا يتكلم ، ولا يرضى ولا يريد ، ولا ولا. وقالوا : سبحان المنزه عن الصفات. بل نقول : سبحان الله العظيم السميع المريد ، الذي كلم موسى تكليما ، واتخذ إبراهيم خليلا. ويرى في الآخرة ، المتصف بما وصف به نفسه ، ووصفه به رسله ، المنزه عن سمات المخلوقين وعن جحد الجاحدين. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

وقال الذهبي رحمه‌الله أيضا : مقال متأخري المتكلمين ، أن الله تعالى ليس في السماء ولا على العرش ولا على السموات ولا في الأرض ولا داخل العالم ولا خارج العالم ولا هو بائن عن خلقه ولا متصل بهم. وقالوا : جميع هذه الأشياء صفات الأجسام والله تعالى منزه عن الجسم. قال لهم أهل السنة والأثر : نحن لا نخوض في ذلك ونقول ما ذكرناه اتباعا للنصوص ولا نقول بقولكم. فإن هذه السلوب نعوت للمعدوم. تعالى الله جلّ جلاله عن العدم. بل هو موجود متميز عن خلقه ، موصوف بما وصف به نفسه ، من أنه فوق العرش بلا كيف. انتهى.

وقال الإمام ابن تيمية في (الرسالة التدمرية) في القاعدة الأولى : إن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي. فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، وأنه سميع بصير ، ونحو ذلك. والنفي كقوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال ، إلا إذا تضمن إثباتا. وإلا فجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال. لأن النفي المحض عدم محض. والعدم المحض ليس بشيء. وما ليس بشيء فهو كما قيل ليس بشيء ، فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا. ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع. والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال. فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات مدح ، كقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) ، إلى قوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) [البقرة : ٢٥٥] ، فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام ، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم وكذلك قوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) أي لا يكرثه ولا يثقله. وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها. بخلاف المخلوق القادر ، إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة ، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته. وكذلك قوله : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [سبأ : ٣] ، فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات

٣٥٦

والأرض. وكذلك قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) [ق : ٣٨] ، فإن نفي مس اللغوب ، الذي هو التعب والإعياء ، دل على كمال القدرة ونهاية القوة. بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه. وكذلك قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] ، إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء ، ولم ينف مجرد الرؤية. لأن المعدوم لا يرى ، وليس في كونه لا يرى مدح. إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا. وإنما المدح في كونه لا يحاط به ، وإن رئي. كما أنه لا يحاط به وإن علم ، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علما ، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية. فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ، ما يكون مدحا وصفة كمال. وكان ذلك دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها. لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة. وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها. وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتا ، هو مما لم يصف الله به نفسه. فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب ، لم يثبتوا في الحقيقة إلها محمودا ، بل ولا موجودا. وكذلك من شاركهم في بعض ذلك. كالذين قالوا لا يتكلم أو لا يرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش. ويقولون : ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا مجانب له ، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم ، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت. ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق ؛ ميّز لنا بين هذا الرب الذي نثبته وبين المعدوم. وكذلك كونه لا يتكلم أو لا ينزل ، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال. بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات. فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات والناقص. فمن قال لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم ، فهو بمنزلة من قال لا هو قائم بنفسه ولا بغيره ولا قديم ولا محدث ولا متقدم على العالم ولا مقارن له. ومن قال إنه ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا متكلم ، لزمه أن يكون ميتا أصم أعمى أبكم. فإن قال العمى عدم البصر عما من شأنه أنه يقبل البصر ، وما لم يقبل البصر كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير ، قيل له هذا اصطلاح اصطلحتموه. وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة. وأيضا فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها. فإن الله قادر على جعل الجماد حيّا كما جعل عصا موسى حية ابتلعت الحبال والعصي. وأيضا فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصا مما يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها. فالجماد الذي لا يوصف

٣٥٧

بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس ، أعظم نقصا من الحي الأعمى الأخرس. فإن قيل إن البارئ لا يمكن اتصافه بذلك ، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك. مع أنه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيها له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها. وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات. فكيف من قال ذلك على غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحيّ. وأيضا فنفس نفي هذه الصفات نقص ، كما أن إثباتها كمال. فالحياة من حيث هي هي ، مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها ، صفة كمال. وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والعقل ونحو ذلك. وما كان صفة كمال فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات. فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به ، لكان المخلوق أكمل منه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١٣)

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مفاتيح الأرزاق وخزائن الملك والملكوت (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه ويغنيه ، ويقتّر على آخرين (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) اعلم أنه تعالى لما عظّم وحيه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الشورى : ٣] ، ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك ، وهو ما شرعه له ولهم من الاتفاق على عبادته وحده لا شريك له كما قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] ، وفي الحديث (١) : نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد. يعنى : عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم. كقوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨]. وتخصيص هؤلاء الخمسة ، وهم أولو العزم

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الأنبياء ، ٤٨ ـ باب (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) ، حديث رقم ١٦١٧ ، عن أبي هريرة.

وأخرجه مسلم في : الفضائل ، حديث رقم ١٤٥.

٣٥٨

عليهم‌السلام ، بالذكر ، لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة. ولاستمالة قلوب الكفرة ، لاتفاق الكل على نبوّة بعضهم. وابتدأ بنوح عليه‌السلام لأنه أول الرسل. والمعنى : شرع لكم من الدين ما وصى به جميع الأنبياء من عهد نوح عليه‌السلام إلى زمن نبينا عليه الصلاة والسلام. والتعبير بالتوصية فيهم والوحي له ، للإشارة إلى أن شريعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي الشريعة الكاملة. ولذا عبر فيه ب (الّذي) التي هي أصل الموصولات. وأضافه إليه بضمير العظمة ، تخصيصا له ولشريعته بالتشريف وعظم الشأن وكمال الاعتناء. وهو السر في تقديمه على ما بعده مع تقدمه عليه زمانا (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي من إخلاص العبادة لله وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الأوثان (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) وهو من صرف اختياره إلى ما دعي إليه (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي يوفق للعمل لطاعته واتباع رسله من يقبل إلى طاعته ويتوب من معاصيه. ثم أشار إلى حال أهل الكتاب ، إثر بيان حال المشركين ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١٤)

(وَما تَفَرَّقُوا) أي في دينهم وصاروا شيعا (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي الدلائل الصحيحة والبراهين اليقينية على حقية ما لديهم (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي ظلما وتعديا وطلبا للرئاسة (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو تأخير العذاب. إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي باستئصالهم ، لاستيجاب جناياتهم لذلك (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) وهم أهل مكة الذين من الله عليهم بالكتاب العزيز (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي موقع لأتباعهم في الشك ، لكثرة ما يبثونه من الوساوس الصادّة عن سبيل الله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٥)

٣٥٩

(فَلِذلِكَ فَادْعُ) أي فلأجل ما ذكر من التفرق والشك المريب ، فادع الناس كافة إلى إقامة الدين لمقاومة الباطل ودحره ، وهتك وساوسه (وَاسْتَقِمْ) أي على الدعوة إليه والصدع به (كَما أُمِرْتَ) أي أوحي إليك (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي : أيّ كتاب كان ، لا كالذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. وفيه تحقيق للحق ، وبيان لاتفاق الكتب في الأصول ، وتأليف لقلوب أهل الكتابين ، وتعريض بهم. أفاده أبو السعود (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي لأسوّي بينكم في دعوة واحدة كما قال تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) [آل عمران : ٦٤] الآية. ثم أشار إلى أن ما وراء الأمر المذكور والتبليغ به من الحساب ، فهو إليه تعالى. فقال (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي لا خصومة ولا محاجة بعد هذا. لأن الحق قد ظهر. ولم يبق للمحاجة حاجة ، ولا للمخالفة محل سوى المكابرة. والحجة في الأصل مصدر بمعنى الاحتجاج. كما ذكره الراغب. وتكون بمعنى الدليل. والمراد هو الأول دون الثاني. وهو ظاهر (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) أي يوم القيامة ، فيقضي بالحق فيما اختلفنا فيه (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي المعاد والمرجع للجزاء.

تنبيهان :

الأول ـ تفسير العدل بما ذكرناه ، لأنه الذي يقتضيه سياق الكلام لا سيما والسورة مكية. ولم يكن مظهره صلوات الله عليه بها فصل الخصومات والقضاء في الحكومات. نعم من ذهب إلى ذلك فإنما وقف مع عمومها. ومنه قول قتادة : أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعدل حتى مات. والعدل ميزان الله في الأرض. به يأخذ للمظلوم من الظالم. وللضعيف من الشديد. وبالعدل يصدق الله الصادق ويكذب الكاذب. وبالعدل يرد المعتدي ويوبخه.

الثاني ـ قال ابن كثير : اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات. كل منها منفصلة عن التي قبلها. حكم برأسها. قالوا : ولا نظير لها سوى آية الكرسي. فإنها أيضا عشرة فصول كهذه. انتهى

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (١٦)

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) أي يخاصمون في دينه الذي ابتعث به خاتم أنبيائه ،

٣٦٠