تفسير القاسمي - ج ٨

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٨

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

(إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي ما هذا التوحيد إلا فرية محضة ، لا مستند له سوى هذا الذكر بزعمهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) (٨)

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) أي مع أن فينا من هو أثرى وأعلى رئاسة. قال الزمخشريّ : أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم ، وينزل عليه الكتاب من بينهم كما قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد ، على ما أوتي من شرف النبوة من بينهم (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) إضراب عن مقدّر. أي : إنكارهم للذكر ليس عن علم ، بل هم في شك منه. يقولون في أنفسهم : إمّا وإمّا (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي على الإنكار. فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد ، وصدّقوا وتصديقهم لا ينفعهم حينئذ لأنهم صدقوا مضطرين.

قال الناصر في (الانتصاف) : ويؤخذ منه أن (لما) لائقة بالجواب. وإنما ينفى بها فعل يتوقع وجوده. كما يقول سيبويه. وفرق بينها وبين (لم) بأن (لم) نفي لفعل يتوقع وجوده لم يقبل مثبته (قد). و (لما) نفي لما يتوقع وجوده أدخل على مثبته (قد).

وقال : وإنما ذكرت ذلك لأني حديث عهد بالبحث في قوله عليه الصلاة والسلام : الشفعة فيما لم يقسم. فإني استدللت به على أن الشفعة خاصة بما يقبل القسمة. فقيل لي : إن غايته أنه أثبت الشفعة فيما نفى عنه القسمة. فإما لأنها لا تقبل قسمة. وإما أنها تقبل ولم تقع القسمة ، فأبطلت ذلك بأن آلة النفي المذكورة (لم) ومقتضاها ، قبول المحل الفعل المنفيّ وتوقع وجوده. ألا تراك تقول : الحجر لا يتكلم. ولو قلت : الحجر لم يتكلم. لكان ركيكا من القول ، لإفهامه قبوله للكلام. انتهى. وهو لطيف جيد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (٩)

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) أي حتى يتخيروا للنبوة ما تهوى أنفسهم. كلا (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [القصص : ٦٨] ، (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤].

٢٤١

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) (١٠)

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) أي فليصعدوا في المراقي التي توصلهم إلى السماء ، وليتحكموا بما شاءوا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية.

روى ابن جرير بسنده عن الربيع بن أنس قال : الأسباب أدق من الشعر وأشدّ من الحديد. وهو بكل مكان. غير أنه لا يرى. انتهى.

وهذا البيان ينطبق على ما يعرّف به الأثير الموجود في أجزاء الخلاء المظنون أنها فارغة. فتأمل.

ثم قال ابن جرير : وأصل السبب عند العرب ، كل ما تسبب به إلى الوصول إلى المطلوب من حبل أو وسيلة ، أو رحم أو قرابة أو طريق أو محجة ، وغير ذلك. انتهى.

وقال المهايميّ : أي فليصعدوا في الأسباب التي هي معارج الوصول إلى العرش ، ليستووا عليه ، فيدبروا العالم وينزلوا الوحي على من شاءوا. وأنّى لهم ذلك؟؟

القول في تأويل قوله تعالى :

(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) (١١)

(جُنْدٌ ما) أي هم جند حقير (هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) أي الذين كانوا يتحزبون على الأنبياء قبلك. وأولئك قد قهروا وأهلكوا. وكذا هؤلاء. فلا تبال بما يقولون ولا تكترث لما به يهذون. و (هُنالِكَ) إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول ، فهو مجاز. وجوز أن يكون حقيقة ، للإشارة إلى مكان قولهم وهو مكة. قال قتادة : وعده الله وهو بمكة يومئذ ، أنه سيهزم جندا من المشركين. فجاء تأويلها يوم بدر. وقال ابن كثير : هذه الآية كقوله جلت عظمته (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر : ٤٤ ـ ٤٥]. وكان ذلك يوم بدر. وفي الآية أوجه من الإعراب أشار له السمين بقوله : (جُنْدٌ) يجوز فيه وجهان : أحدهما ـ وهو الظاهر ـ أنه خبر مبتدأ. أي هم جند. و (ما) فيها وجهان ، أحدهما ـ أنها مزيدة. والثاني أنها صفة ل (جند) على سبيل التعظيم ، للهزء بهم ، أو للتحقير. فإن (ما) إذا كانت صفة تستعمل لهذين المعنيين.

٢٤٢

و (هُنالِكَ) يجوز فيه ثلاثة أوجه : أحدها ـ أن يكون خبرا ل (جند) و (ما) مزيدة و (مَهْزُومٌ) نعت ل (جند). الثاني ـ أن يكون صفة ل (جند). الثالث ـ أن يكون منصوبا ب (مهزوم). و (مَهْزُومٌ) يجوز فيه أيضا وجهان : أحدهما ـ أنه خبر ثان لذلك المبتدأ المقدر ، والثاني أنه صفة ل (جند). و (هُنالِكَ) مشار به إلى موضع التقاول والمحاورة بالكلمات السابقة ، وهو مكة. أي سيهزمون بمكة. وهو إخبار بالغيب. وقيل : مشار به إلى نصرة الإسلام. وقيل : إلى حفر الخندق ، يعني إلى مكان ذلك. الثاني من الوجهين الأولين أن يكون (جند) مبتدأ و (ما) مزيدة و (هُنالِكَ) نعت و (مَهْزُومٌ) خبره. وفيه بعد ، لتفلّته عن الكلام الذي قبله. انتهى.

فائدة :

روى ابن عباس في هذه الآية أنه لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل. فقالوا إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل. ويقول ويقول. فلو بعثت إليه فنهيته! فبعث إليه. فجاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل. قال فخشي أبو جهل لعنه الله. إن جلس إلى جنب أبي طالب ، أن يكون أرق له عليه. فوثب فجلس في ذلك المجلس. ولم يجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلسا قرب عمه. فجلس عند الباب ، فقال له أبو طالب : أي ابن أخي! ما بال قومك يشكونك! يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول. قال ، وأكثروا عليه من القول. وتكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها. تدين لهم بها العرب. وتؤدي إليهم بها العجم الجزية. ففزعوا لكلمته ولقوله. فقال القوم : كلمة واحدة؟ نعم ، وأبيك عشرا. فقالوا : وما هي؟ وقال أبو طالب : وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا إله إلا الله. فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) ونزلت الآية. رواه ابن جرير والإمام أحمد والنسائيّ ، والترمذيّ وحسّنه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) (١٢)

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل قريش (قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ) وهم قوم هود (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) أي الملك الثابت. وأصله البيت المطنّب ، أي المربوطة أطنابه ـ أي حباله ـ بأوتاده. استعير للملك استعارة تصريحية. وصف به فرعون مبالغة بجعله عين ملكه. أو شبه فرعون في ثبات ملكه بذي بيت ثابت أقيم عموده وثبتت أوتاده. على

٢٤٣

طريق الاستعارة المكنية. وأثبت له ما هو من خواصه تخييلا ، وهو قوله : (ذُو الْأَوْتادِ) فإنه لازم له. أو هو كناية. حيث أطلق اللازم وأريد الملزوم وهو الملك الثابت. وقد جاء هذا في قول الأسود من شعراء الجاهلية :

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة

في ظل ملك ثابت الأوتاد

أو المعنى : ذو الجموع الكثيرة. سمّوا بذلك لأن بعضهم يشد بعضا ، كالوتد يشد البناء. فالاستعارة تصريحية في الأوتاد. أو هو مجاز مرسل للزوم الأوتاد للجند. أو هو على حقيقته والمراد المباني العظيمة والهياكل الثابتة الفخيمة. واللفظ صادق في الكل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ) (١٣)

(وَثَمُودُ) وهم قوم صالح (وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أي الغيضة ، وهم قوم شعيب (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي الكفار المتحزبون على رسلهم ، الذين جعل الجند المهزوم منهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) (١٤)

(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) أي فوجبت عليهم عقوبتي. قال الشهاب : (إِنْ) نافية و (كُلٌ) محذوف الخبر. والتفريغ من أعمّ العام. أي ما كل أحد مخبر عنه بشيء ، إلا مخبر عنه بأنه كذب جميع الرسل ، لأن الرسل يصدق كلّ منهم الكل. فتكذيب واحد منه تكذيب للكل. أو على أنه من مقابلة الجمع بالجمع. فيكون كل كذب رسوله. أو الحصر مبالغة. كأن سائر أوصافهم بالنظر إليه ، بمنزلة العدم. فهم غالون فيه. انتهى.

وقال الزمخشريّ : وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه ، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولا ، والاستثنائية ثانيا. وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص ـ أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه.

وزاد الناصر فائدة أخرى للتكرير. وهي أن الكلام لما طال بتعديد آحاد

٢٤٤

المكذبين ، ثم أريد ذكر ما حاق بهم من العذاب جزاء لتكذيبهم ، كرر ذلك مصحوبا بالزيادة المذكورة ، ليلى قوله تعالى : (فَحَقَّ عِقابِ) على سبيل التطرية المعتادة عند طول الكلام. وهو كما قدمته في قوله : (وَكُذِّبَ مُوسى) [الحج : ٤٤] ، حيث كرر الفعل ليقترن بقوله : (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) [الحج : ٤٤]. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) (١٥)

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ) أي أهل مكة (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي أخذة واحدة بعذاب بئيس. يقال : صاح الزمان بهم ، إذا هلكوا. كما قال :

صاح الزمان بآل برمك صيحة

خرّوا لشدّتها على الأذقان

وأصله من الغارة إذا عافصت القوم فوقعت الصيحة فيهم (ما لَها مِنْ فَواقٍ) أي من توقف مقدار فواق. وهو ما بين الحلبتين. أو رجوع وترداد. فإنه فيه يرجع اللبن إلى الضرع ف (فواق) إما بحذف مضافين أو مجاز مرسل بذكر الملزوم وإرادة لازمه. وقرئ بالضم. وهما لغتان. وقيل : المفتوح اسم مصدر من (أفاق المريض) إفاقة وفاقة ، إذا رجع إلى الصحة. والمضموم اسم ساعة رجوع اللبن للضرع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) (١٦)

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أي نصيبنا من العذاب الذي وعدته. كقوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) [الحج : ٤٧] و [العنكبوت : ٥٣ و ٥٤] ، (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) أي الجزاء. وقولهم ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية. كما قص عنهم نظائره في عدة آيات.

القول في تأويل قوله تعالى :

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (١٧)

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي فقد وعدت بالنصر والظفر والملك والتأييد ، كما أوتي داود عليه‌السلام ، مما سارت به الأمثال ولذا قال تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) أي : القوة. أي : الاجتهاد في أداء الأمانة والتشدد في القيام بالدعوة ومجانبة إظهار الضعف والوهن (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجّاع إليه تعالى بالإنابة والخشية والعبادة والصيام.

٢٤٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (١٩)

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ) أي تبعا لتسبيحه (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) أي مجموعة عنده يسبحن معه (كُلٌّ لَهُ) أي لله تعالى (أَوَّابٌ) أي مطيع منقاد. يرجع بتسبيحه وتقديسه إليه.

قال ابن كثير : أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار. كما قال عزوجل : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠] ، وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجّع بترجيعه ، إذا مرّ به الطير وهو سابح في الهواء ، فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب. بل يقف في الهواء ويسبح معه وتجيبه الجبال الشامخات ترجّع معه ، وتسبح تبعا له. انتهى. أي بأن خلق فيها حياة ونطقا. أو كان له عليه‌السلام من شدة صوته الحسن دويّ في الجبال. وحنين من الطيور إليه ، وترجيع. وقد عهد من الطير القمريّ أنه ينتظر سكتة المصوّت والقارئ بصوت حسن أو المنشد ، فيجيبه ، والله أعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٢٠)

(وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي قويناه بوفرة العدد والعدد ونفوذ السلطة وإمداده بالتأييد والنصر (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي النبوة أو الكلام المحكم المتضمن للمواعظ والأمثال والحضّ على الآداب ومكارم الأخلاق. وكان زبوره عليه‌السلام ، كله حكما غررا (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي فصل الخصام بتمييز الحق من الباطل ، ورفع الشبه ، وإقامة الدلائل. وكان يقيم بذلك العدل الجالب محبة الخلائق ، ولا يخالفه أحد من أقاربه ولا من الأجانب. ثم ذكر تعالى من حكمته عليه‌السلام وقضائه الفصل ، وشدة خوفه وخشيته مع ذلك ، ما قصه بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٢١)

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) أي ولجوه. و (المحراب) مقدم كل بيت وأشرفه.

٢٤٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) (٢٢)

(إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ) أي منا. فلسنا فاتكين وإنما نحن (خَصْمانِ) أي شخصان متخاصمان تحاكمنا إليك (بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) أي تعدى (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِ) أي بما يطابق أمر الله (وَلا تُشْطِطْ) أي ولا تبعد عن الحق أو تجاوزه (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي بحيث لا تميل عن الحق أصلا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) (٢٣)

(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) أي أنثى من الضأن (وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) أي فلم ينظر إلى غناه عنها ، ولا إلى افتقاري إليها ، بل أراد التغلب عليّ (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) أي : ملكنيها. بمعنى اجعلني كافلها كما أكفل ما تحت يدي. أو بمعنى اجعلها كفلي أي نصيبي : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي غلبني في المكالمة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢٥)

(قالَ) أي داود (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) أي طلب نعجتك التي أنت أحوج إليها ليضمها (إِلى نِعاجِهِ) أي مع استغنائه عن هذا الضم (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) أي الإخوان الأصدقاء المتخالطين في شؤونهم (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي بغي الأعداء. مع أن واجب حقهم النصفة على الأقل. إن لم يقوموا بفضيلة الإيثار (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي فإنهم لا يبغون (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أي وهم قليل. و (ما) مزيدة للإبهام والتعجيب من قلتهم.

قال الشهاب : فيه مبالغة من وجوه : وصفهم بالقلة ، وتنكير (قليل) وزيادة (ما) الإبهامية. والشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه. فكأنه قيل : ما أقلهم.

٢٤٧

وفي قضائه عليه‌السلام هذا ، من الحكمة وفصل الخطاب ما يهيج الأفئدة ويقر عين المغبون. ذلك أنه صدع بالحق أبلغ صدع. فجهر بظلم خصمه وبغيه جهرا لا محاباة فيه ولا مواربة فأقر عين المظلوم. وعرف الباغي ظلمه وحيفه ، وأن سيف العدل والإنصاف فوقه. ثم نفس عن قلب المظلوم البائس. وروّح عن صدره بذكر ما عليه الأكثر من هذه الخلة ـ خلة البغي وعدم الإنصاف ـ مع الخلطة والخلة ، ليتأسى ويتسلى كما قيل (إن التأسي روح كل حزين) ثم أكد الأمر بقلة القائمين بحقوق الأخوة ، ممن آمن وعمل صالحا ، فكيف بغيرهم؟. وكلها حكم وغرر ودرر ، حقائق تنطبق على أكثر هذا السواد الأعظم من الناس ، الذين يدعون المحبة ، والصداقة. ولعظم شأن حقوق المحبة أسهب في آدابها علماء الأخلاق ، إسهابا نوعوا فيه الأبواب ، ولونوا فيه الفصول ، ومع ذلك لا تزال الشكوى عامة. وقد امتلأت من منظومها ومنثورها كتب الأدب ، كما لا يخفى على من له إلمام به. وبالله التوفيق (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي ابتليناه بتلك الحكومة (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي ما استغفر منه (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) أي لقربا (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي مرجعا حسنا وكرامة ، في الآخرة.

تنبيهات :

الأول ـ للمفسرين في هذا النبأ أقوال عديدة ووجوه متنوعة. مرجعها إلى مذهبين : مذهب من يرى أنها تشير تعريضا إلى وزر ألمّ به داود عليه‌السلام ثم غفر له ، ومذهب من يرى أنها حكومة في خصمين لا إشعار لها بذلك. فممن ذهب إلى الأول ابن جرير. فإنه قال : هذا مثل ضربه الخصم المتسوّرون على داود محرابه. وذلك أن داود كانت له ، فيما قيل ، تسع وتسعون امرأة. وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قتل امرأة واحدة ، فلما قتل نكح ، فيما ذكر ، داود امرأته ، ثم لما قضى للخصمين بما قضى ، علم أنه ابتلي. فسأل غفران ذنبه وخرّ ساجدا لله وأناب إلى رضا ربه ، وتاب من خطيئته. هذا ما قاله ابن جرير. ثم أسند قصته مطولة من روايات عن ابن عباس والسدّيّ وعطاء والحسن وقتادة ووهب ومجاهد. ومن طريق عن أنس مرفوعا. ويشبه سياق بعضها ما ذكر في التوراة المتداولة الآن قال السيوطي في (الإكليل) : القصة التي يحكونها في شأن المرأة ، وأنها أعجبته ، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل ، أخرجها ابن أبي حاتم من حديث أنس مرفوعا. وفي إسناده ابن لهيعة ، وحاله معروف ، عن ابن صخر عن يزيد الرقاشيّ وهو ضعيف. وأخرجها من حديث ابن عباس موقوفا. انتهى.

٢٤٨

أقول : أما المرفوع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ، فلم يأت من طريق صحيح ، وأما الموقوف من ذلك على الصحب والأتباع رضي الله عنهم ، فمعوّلهم في ذلك ما ذكر في التوراة من هذا النبأ ، أو الثقة بمن حكى عنها. وينبني على ذلك ذهابهم إلى تجويز مثل هذا على الأنبياء. وقد ذهبت طائفة إلى تجويز ما عدا الكذب في التبليغ. كما فصّل في مطولات الكلام.

قال ابن حزم رحمه‌الله : وهو قول الكرامية من المرجئة. وابن الطيّب الباقلانيّ من الأشعرية ، ومن اتبعه. وهو قول اليهود والنصارى. ثم رد هذا القول ، رحمه‌الله ، ردّا متينا.

وأما المذهب الثاني ، فهو ما جزم به ابن حزم في (الفصل) وعبارته : ما حكاه تعالى عن داود عليه‌السلام قوله صادق صحيح ، لا يدل على شيء مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولّدها اليهود. وإنما كان ذلك الخصم قوما من بني آدم ، بلا شك ، مختصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم. بغى أحدهما على الآخر على نصّ الآية. ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرّضين بأمر النساء ، فقد كذب على الله عزوجل ، وقوله ما لم يقل ، وزاد في القرآن ما ليس فيه ، وكذّب الله عزوجل وأقر على نفسه الخبيثة ، أنه كذّب الملائكة. لأن الله تعالى يقول : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) فقال هو : لم يكونوا قط خصمين ، ولا بغى بعضهم على بعض ، ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة ، ولا كان للآخر نعجة واحدة ، ولا قال له أكفلنيها فاعجبوا. لم يقحمون فيه الباطل أنفسهم؟ ونعوذ بالله من الخذلان ، ثم كل ذلك بلا دليل ، بل الدعوى المجرّدة. وتالله! إن كل امرئ منا ليصون نفسه وجاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره ، ثم يعرّض زوجها للقتل عمدا ، ليتزوجها. وعن أن يترك صلاته لطائر يراه. هذه أفعال السفهاء المتهوّكين الفسّاق المتمردين. لا أفعال أهل البرّ والتقوى. فكيف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أوحى إليه كتابه وأجرى على لسانه كلامه؟ لقد نزّهه الله عزوجل عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله. فكيف أن يستضيف إلى أفعاله؟ وأما استغفاره وخروره ساجدا ، ومغفرة الله له ، فالأنبياء عليهم‌السلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة. والاستغفار فعل خير لا ينكر من ملك ولا من نبيّ. ولا من مذنب ولا من غير مذنب. فالنبيّ يستغفر الله لمذنبي أهل الأرض. والملائكة كما قال الله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [غافر : ٧]. وأما قوله تعالى عن داود عليه‌السلام (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) وقوله تعالى : (فَغَفَرْنا

٢٤٩

لَهُ ذلِكَ) فقد ظن داود عليه‌السلام أن يكون ما آتاه الله عزوجل من سعة الملك العظيم فتنة. فقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه ، فاستغفر الله تعالى من هذا الظن ، فغفر الله تعالى له هذا الظن. إذ لم يكن ما آتاه الله من ذلك فتنة. انتهى كلام ابن حزم ، وهو وقوف على ظاهر الآية ، مجردا عن إشارة وإيماء.

وقال البرهان البقاعي في (تفسيره) : وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود.

ثم قال : وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه‌السلام. لأن عيسى عليه‌السلام من ذريته ، ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه. انتهى.

ثم قال : وقوله تعالى : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي الوقوع في الحديث عن إسناد الظلم إلى أحد بدون سماع لكلامه. وهذه الدعوى تدريب لداود عليه‌السلام في الأحكام. وذكرها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم تدريب له في الأناة في جميع أموره على الدوام. ولما ذكر هذا ، ربما أوهم شيئا في مقامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدفعه بقوله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ). فالقصة لم يجر ذكرها إلا للترقية في رتب الكمال. وأول دليل على ما ذكرته ، أن هذه الفتنة إنما هي بالتدريب في الحكم ، لا بامرأة ولا غيرها. وأن ما ذكروه من قصة المرأة باطل وإن اشتهر. فكم من باطل مشهور ، ومذكور ، هو عين الزور. انتهى.

وقال ابن كثير : قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات. ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه. ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ، لأنه من رواية يزيد الرقاشيّ عن أنس رضي الله عنه. ويزيد ، وإن كان من الصالحين ، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة. فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة ، وأن يردّ علمها إلى الله عزوجل. فإن القرآن حق ، وما تضمن فهو حق أيضا. انتهى.

وقال القاضي عياض في (الشفا) : وأما قصة داود عليه‌السلام ، فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره فيها الأخباريون على أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا ، ونقله بعض المفسرين. ولم ينص الله على شيء من ذلك ، ولا ورد في حديث صحيح. والذي نص الله عليه قوله : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) وقوله فيه (أَوَّابٌ) فمعنى (فَتَنَّاهُ) أي اختبرناه. و (أَوَّابٌ) قال قتادة : مطيع.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : القدر ، ٧ ـ باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن.

٢٥٠

وهذا التفسير أولى. قال ابن عباس وابن مسعود : ما زاد داود على أن قال للرجل : انزل عن امرأتك وأكفلنيها .. فعاتبه الله على ذلك ونبهه عليه. وأنكر عليه شغله بالدنيا ، وهذا هو الذي ينبغي أن يعوّل عليه من أمره. وقد قيل خطبها على خطبته ، وقيل بل أحب بقلبه أن يستشهد. وحكى السمرقنديّ أن ذنبه الذي استغفر منه قوله (لَقَدْ ظَلَمَكَ) فظلمه بقول خصمه. وقيل : بل لما خشيه على نفسه ، وظن من الفتنة بما بسط له من الملك والدنيا. وإلى نفي ما أضيف في الأخبار إلى داود من ذلك ـ ذهب أحمد بن نصر وأبو تمام ، وغيرهما من المحققين. قال الداوديّ : ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت. ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم. وقيل : إن الخصمين اللذين اختصما إليه ، رجلان في نتاج غنم على ظاهر الآية. وقيل : بل لما خشي على نفسه وظن من الفتنة لما بسط له من الملك والدنيا. انتهى.

وقال ابن القيم في أواخر كتابه (الجواب الكافي) في مباحث العشق : وقد أرشد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتحابين إلى النكاح. كما في سنن ابن ماجة (١) مرفوعا : لم ير للمتحابّين مثل النكاح. ونكاحه لمعشوقه هو دواء العشق الذي جعله الله دواءه شرعا وقدرا. وبه تداوى نبيّ الله داود صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يرتكب نبيّ الله محرما. وإنما تزوج المرأة وضمها إلى نسائه لمحبته لها. وكانت توبته بحسب منزلته عند الله وعلوّ مرتبته. ولا يليق بنا المزيد على هذا. انتهى.

وهذا منه تسليم ببعض القصة لا بتمامها. وهو من الأقوال فيها.

وأما دعوى بعضهم أن التوراة تعدّ داود ملكا حكيما ، لا نبيا ، بدليل ذكره في أسفار الملوك منها ، وما فيها من أنه بعث إليه نبيّ يقال له قاشان ، ضرب له المثل المذكور ـ فدعوى مردودة من وجوه : منها أن الاستدلال بالتوراة التي بين أيديهم في إثبات أو نفي لا يعول عليه. كيف لا؟ وقد أوتينا بيضاء نقية محفوظة من التغيير والتبديل بحمده تعالى. ومنها أن نبوة داود عليه‌السلام لا خلاف فيها عند المسلمين ، فلا عبرة بخلاف غيرهم. ومنها أنه لا مانع أن تجتمع النبوة والملك لمن أراده الله واصطفاه. وقد فعل ذلك بداود وسليمان عليهما‌السلام. ومنها أنه لا حاجة في كتابنا الكريم أن يتمم بما جاء في غيره ، أو يحاول رده إلى سواه من الكتب ، أو هي إليه ، لاستغنائه بنفسه. بل وكونه مهيمنا على سائر الكتب ، كما أخبر الله تعالى عنه ، فليتأمل ذلك. والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في : النكاح ، ١ ـ باب ما جاء في فضل النكاح ، حديث ١٨٤٧ ..

٢٥١

وقد روي أن عمر بن عبد العزيز حدّث بنبإ داود على ما يرويه القصاص ، وعنده رجل من أهل الحق. فكذّب المحدّث به ، وقال : إن كانت القصة على ما في كتاب الله ، فما ينبغي أن يلتمس خلافها. وأعظم بأن يقال غير ذلك ، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيّه ، فما ينبغي إظهارها عليه. فقال عمر : لسماعي هذا الكلام ، أحبّ إلى مما طلعت عليه الشمس. نقله الزمخشري.

قال الناصر في (الانتصاف) : وقد التزم المحققون من أئمتنا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، داود وغيره ، منزهون من الوقوع في صغائر الذنوب ، مبرءون من ذلك ، والتمسوا المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة. وهذا هو الحق الأبلج ، والسبيل الأبهج ، إن شاء الله تعالى ، انتهى.

التنبيه الثاني ـ قال ابن الفرس : في هذه القصة دليل على جواز القضاء في المسجد (أي لظاهر المحراب. إلا أنه ليس نصّا في محراب المسجد) والتلطف في ردّ الإنسان عن المكروه صنعه. وأنه لا يؤاخذ بعنف ما أمكن. وجواز المعاريض من القول.

قال الزمخشري : وإنما جاءت على طريقة التمثيل والتعريض ، دون التصريح ، لكونها أبلغ في التوبيخ. من قبل أن المتأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرّض به ، كان أوقع في نفسه ، وأشد تمكنا من قلبه ، وأعظم أثرا فيه ، وأجلب لاحتشامه وحيائه ، وأدعى إلى التنبيه على الخطأ فيه ، من أن يباده به صريحا ، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة. ألا ترى إلى الحكماء؟ كيف أوصوا في سياسة الولد ، إذا وجدت منه هنة منكرة ، بأن يعرّض له بإنكارها عليه ، ولا يصرح. وأن تحكي له حكاية ملاحظة لحاله ، إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية ، فاستسمج حال نفسه. وذلك أزجر له. لأنه ينصب ذلك مثالا لحاله ، ومقياسا لشأنه. فتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة ، مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة.

الثالث ـ قال ابن مسعود في قوله تعالى : (إِنَّ هذا أَخِي) أي على ديني. أخرجه ابن أبي حاتم. ففيه جواز إطلاق (الأخ) على غير المناسب. واستدل بقوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) على جواز الشركة. أفاده في (الإكليل).

الرابع ـ قال السيوطيّ في (الإكليل) : استدل بقوله تعالى : (وَخَرَّ راكِعاً) من أجاز التعويض عن سجود التلاوة بركوع. والأكثرون على أن الركوع هنا مجاز مرسل ، عن السجود. لأنه ، لإفضائه إليه ، جعل كالسبب ، ثم تجوّز به عنه. أو هو استعارة له ، لمشابهته له في الانحناء والخضوع.

٢٥٢

الخامس ـ قال ابن كثير : اختلف الأئمة في سجدة (ص) هل هي من عزائم السجود؟ على قولين : أحدهما أنها ليست من العزائم ، بل هي سجدة شكر ، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إنها ليست من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسجد فيها ، رواه أحمد والبخاري (١) وأصحاب السنن. وعنه أنه قال : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد في (ص) وقال : سجدها داود عليه الصلاة والسلام توبة ، ونسجدها شكرا ، تفرد به النسائي (٢). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه. فلما كان يوم آخر قرأها. فلما بلغ السجدة تشزّن الناس للسجود. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما هي توبة نبيّ. ولكن رأيتكم تشزنتم ، فنزل وسجد. تفرّد به أبو داود (٣). وإسناده على شرط الصحيح ، وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٢٦)

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) أي استخلفناك على الملك في الأرض كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها ، ومنه قولهم : خلفاء الله في أرضه (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) أي هوى النفس ، من الميل إلى مال أو جاه أو قريب أو صاحب (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي صراطه الموصل إلى الكمالات ، كحفظ المملكة والنصر على الأعداء ، والنجاة في الآخرة ورفع الدرجات فيها (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) أي بسبب نسيانهم ، وهو ضلالهم عن السبيل ، فإن تذكره يقتضي ملازمة الحق ومخالفة الهوى.

تنبيه :

في الآية بيان وجوب الحكم بالحق ، وأن لا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء أو سبب يقتضي الميل. واستدل بها بعضهم على احتياج الأرض إلى خليفة من الله. كذا في (الإكليل).

__________________

(١) أخرجه البخاري في : سجود القرآن ، ٣ ـ باب سجدة ص ، حديث ٥٨٩.

(٢) أخرجه في : الافتتاح ، ٤٨ ـ باب سجود القرآن ، السجود في ص.

(٣) أخرجه في : السجود ، ٥ ـ باب السجود في ص ، حديث رقم ١٤١٠.

٢٥٣

وقال ابن كثير : هذه وصية من الله عزوجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى. ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله. وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب ، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد. روى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة ، أن الوليد بن عبد الملك قال له : أيحاسب الخليفة ، فإنك قد قرأت الكتاب الأول وقرأت القرآن وفقهت؟ فقلت : يا أمير المؤمنين؟ أقول؟ قال : قل في أمان. قلت : يا أمير المؤمنين! أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام؟ إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة. ثم توعده في كتابه قال تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) الآية.

وقال الرازي : اعلم أن الإنسان خلق مدنيّا بالطبع. لأن الإنسان الواحد لا تنتظم مصالحه إلا عند وجود مدينة تامة. حتى هذا يحرث وذاك يطحن وذلك يخبز وذلك ينسج والآخر يخيط. وبالجملة ، فيكون كل واحد منهم مشغولا بمهمّ. وينتظم من أعمال الجميع مصالح الجميع. فثبت أن الإنسان مدنيّ بالطبع. وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات ، ولا بد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات ويفصل تلك الحكومات. وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل. فثبت أنه لا تنتظم مصالح الخلق إلا بسلطان قاهر سائس. ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس. إن كان حكمه على وفق هواه ولطلب مصالح دنياه ، عظم ضرره على الخلق. فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه ، ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه. وذلك يفضي إلى تخريب العالم ووقوع الهرج والمرج في الخلق. وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك. أما إذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحقة الإلهية ، انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه : فهذا هو المراد من قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) يعني لا بد من حاكم بين الناس بالحق. فكن أنت ذلك. ثم قال : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الآية ، وتفسيره أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله ، والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب. فينتج أن متابعة الهوى توجب سوء العذاب. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٢٧)

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) أي خلقا باطلا ، لا حكمة فيه. أو

٢٥٤

مبطلين عابثين ، كقوله تعالى (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الدخان : ٣٨ ـ ٣٩]. وهو أن تقوم الناس بالقسط في المعتقدات والعبادات والمعاملات (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ولذا أنكروا البعث والجزاء على الأعمال ، وأخذوا يصدّون عن سبيل الله ويبغون في الأرض الفساد.

قال الزمخشري : ومن جحد الخالق فقد جحد الحكمة من أصلها. ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفه الخالق ، وظهر بذلك أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره. فكان إقراره بكونه خالقا ، كلا إقرار.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢٨)

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) قال المهايمي : أي : أنترك البعث بالكلية ، أم نبعث ونجعل الذين آمنوا فشكروا نعمة العقل والكتاب. وعملوا الصالحات فشكروا نعمة الأعضاء ، كالمفسدين ، بصرف العقل والأعضاء إلى الغير ما خلقت له؟ (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ) أي مخالفة أمر الله رعاية لمحبته (كَالْفُجَّارِ) أي الذين يخالفون أوامر الله ، ولا يبالون بعداوته. أي لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله.

قال ابن كثير : وإذا كان الأمر كذلك ، فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع ، ويعاقب فيها هذا الفاجر ، وهذا الإرشاد يدل العقول السليمة والفطر المستقيمة ، على أنه لا بدّ من معاد وجزاء. فإذا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ، ويموت كذلك. ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده. فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل ، الذي لا يظلم مثقال ذرة ، من إنصاف هذا من هذا. وإذا لم يقع هذا في هذه الدار ، فتعين أن هناك دارا أخرى لهذا الجزاء والمواساة. ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة ، قال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩)

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ) أي كثير الخير (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) قال المهايمي : أي لينظروا في ألفاظه وترتيبها ولوازمها. فيستخرجوا منها علوما بطريق الاستدلال.

٢٥٥

وقال الزمخشري : تدبر الآيات : التفكر فيها والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة ، لأن من اقتنع بظاهر المتلوّ لم يحل منه بكثير طائل. وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها ، ومهرة نثور لا يستولدها. وعن الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله. حفظوا حروفه وضيعوا حدوده. حتى إن أحدهم ليقول : والله! لقد قراءات القرآن فما أسقطت منه حرفا ، وقد ، الله! أسقطه كله. ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل ، والله! ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده. والله! ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة ، لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء. اللهم اجعلنا من العلماء المتدبرين ، وأعذنا من القراء المتكبرين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٣٠)

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي كثير الرجوع إلى الله تعالى ، بالتوبة والإنابة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) (٣١)

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ) أي من الخيل ، جمع (صافن) وهو الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل ، (الْجِيادُ) جمع (جواد) وهو الذي يسرع في جريه أو بمعنى الحسان جمع (جيّد).

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (٣٢)

(فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) أي آثرته عليه. عدل عنه للمناسبة اللفظية وقصد التجنيس. وفائدة التضمين إشارة إلى عروضه ، و (ذِكْرِ رَبِّي) إما مضاف لفاعله أو لمفعوله.

قال الزمخشريّ : و (الخير) المال كقوله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [البقرة : ١٨٠] ، وقوله : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات : ٨] ، والمال : الخيل التي شغلته ، أو

٢٥٦

سمي الخيل خيرا كأنها نفس الخير ، لتعلق الخير بها. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة ، وقال في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم : ما وصف لي رجل فرأيته ، إلا كان دون ما بلغني ، إلا زيد الخيل ، وسماه زيد الخير ، وسأل رجل بلالا رضي الله عنه عن قوم يستبقون ، من السابق؟ فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له الرجل : أردت الخيل. فقال : وأنا أردت الخير. (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) أي غربت الشمس. متعلق بقوله تعالى : (أَحْبَبْتُ) وفيه استعارة تصريحية أو مكنية لتشبيه الشمس بامرأة حسناء ، أو ملك. وباء (بِالْحِجابِ) للظرفيّة ، أو الاستعانة أو الملابسة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) (٣٣)

(رُدُّوها عَلَيَ) يعني الصافنات. وهذا من مقول القول ، فلا حاجة إلى تقدير قول آخر (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي فجعل يمسح مسحا ، أي يمسح بالسيف بسوقها وأعناقها ، يعني يقطعها.

تنبيه :

قال ابن كثير : ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أن سليمان عليه‌السلام اشتغل بعرض الخيل حتى فات وقت صلاة العصر ، والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا ، كما شغل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر ، حتى صلاها بعد الغروب. وذلك ثابت في الصحيحين (٢) من غير وجه. ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو ، والقتال. والخيل تراد للقتال ، وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف ، ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة حتى لا تمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود. كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح (تستر) وهو منقول عن مكحول والأوزاعيّ وغيرهما ، والأول أقرب. لأنه قال بعد (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) قال

__________________

(١) أخرجه البخاري في : المناقب ، ٢٨ ـ باب حدثني محمد بن المثنى ، حديث رقم ١٣٦٨ ، عن أنس.

(٢) أخرجه البخاري في : المغازي ، ٢٩ ـ باب غزوة الخندق ، حديث رقم ١٤٠٠ ، عن علي.

وأخرجه مسلم في : المساجد ومواضع الصلاة ، حديث رقم ٢٠٢.

٢٥٧

الحسن البصري : قال : لا ، والله! لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك. ثم أمر بها فعقرت. وكذلك قال قتادة.

وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبّا لها. وهذا القول اختاره ابن جرير. قال : لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة ، ويهلك مالا من ماله بلا سبب ، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها. وهذا الذي رجح ابن جرير ، فيه نظر ، لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ، ولا سيما إذا كان غضبا لله تعالى ، بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة. ولهذا لما خرج عنها لله تعالى ، عوضه الله عزوجل ما هو خير منها. وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، غدوّها شهر ورواحها شهر. فهذا أسرع وخير من الخيل ، روى الأمام أحمد (١) عن ابن قتادة وأبي الدهماء ، وكانا يكثران السفر نحو البيت ، قالا : أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي ، أخذ بيدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجل يعلمني مما علمه الله عزوجل. وقال : إنك لا تدع سببا اتقاء الله تعالى ، إلا أعطاك الله عزّ جلّ خيرا منه. انتهى ما ذكره ابن كثير.

وقال القاشانيّ : أي طفق يمسح السيف بسوقها ، يعرقب بعضها وينحر بعضها ، كسرا لأصنام النفس التي تعبدها بهواها ، وقمعا لسورتها وقواها ، ورفعا للحجاب الحائل بينه وبين الحق ، واستغفارا وإنابة إليه بالتجريد والترك.

وقد ذهب الرازي إلى تأويل آخر استصوبه ، قال : إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم. كما أنه كذلك في دين الإسلام. ثم إن سليمان عليه‌السلام احتاج إلى الغزو. فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها. وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس ، وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه. وهو المراد من قوله : (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) ثم إنه عليه‌السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتي توارت بالحجاب أي غابت عن بصره. ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه. فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها ، والغرض من ذلك المسح أمور :

الأول تشريفا لها وإبانة لعزتها ، لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدوّ.

والثاني ـ أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتصنع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه.

__________________

(١) أخرجه في المسند ٥ / ٧٨.

٢٥٨

الثالث ـ أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها. فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها ، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض.

وقال : فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقا مطابقا موافقا. ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات.

قال : وأنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة. مع أن العقل والنقل يردها. وليس لهم في إثباتها شبهة فضلا عن حجة فإن قيل : إن الجمهور فسّروا الآية بذلك الوجه ، فما قولك فيه؟ فنقول : لنا هاهنا مقامان :

المقام الأول ـ أن ندعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها. وقد ظهر ، والحمد لله ، أن الأمر كما ذكرناه ، وظهوره لا يرتاب العاقل فيه.

المقام الثاني ـ أن يقال : هب أن لفظ الآية لا يدل عليه ، إلا أنه كلام ذكره الناس. فما قولك فيه؟ وجوابنا أن الأدلة الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم‌السلام. ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات. ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية ، فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالي بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم؟ والله أعلم. انتهى كلام الرازي.

وسبقه ابن حزم حيث قال : تأويل الآية على أنه قتل الخيل إذ اشتغل بها عن الصلاة. خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة. قد جمعت أفانين من القول ، لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها ، والتمثيل بها. وإتلاف مال منتفع به بلا معنى. ونسبة تضييع الصلاة إلى نبيّ مرسل ، ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها. وإنما معنى الآية أنه أخبر أنه أحب حب الخير. من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس أو تلك الصافنات بحجابها. ثم أمر بردها. فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده ، برّا بها وإكراما لها ، هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره. وليس فيها إشارة أصلا إلى ما ذكروه من قتل الخيل وتعطيل الصلاة. وكل هذا قد قاله ثقات المسلمين. فكيف ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ انتهى كلام ابن حزم.

وأقول : الذي يتجه أن هذه القصة أشير بها إلى نبأ لديهم. لأن التنزيل الكريم مصدق الذي بين يديه. إلا أن له الهيمنة عليه. فما وقف فيه على حدّ من أنباء ما بين يديه ، يوقف عنده ولا يتجاوز. وحينئذ ، فالقصة المعروفة عندهم هي التي أشير إليها. لكن مع الهيمنة عليها ، إذ لا تقبل على علّاتها. وقوله تعالى :

٢٥٩

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) (٣٤)

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) أي ابتليناه (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) أي جسما مجسدا كناية عن صنم ـ على ما رووه ـ وإنما أوثر الجسد عليه ـ إجلالا لسليمان عليه‌السلام ، وإشارة إلى أن قصته ـ إن صحت ـ كانت أمرا عرض وزال ، بدليل قوله تعالى : (ثُمَّ أَنابَ) أي إلى ربه بالتوبة والاستغفار ، كما بينه بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٣٥)

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي غيري ، لفخامته وعظمته ، هبة فضل وإيثار امتنان (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) (٣٦)

(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ) أي فذللناها لطاعته إجابة لدعوته (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) أي لينة سهلة ، مع شدة وقوة ، ولذا وصفت في الآية الأخرى ب (عاصِفَةً)(حَيْثُ أَصابَ) أي أراد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) (٣٧)

(وَالشَّياطِينَ) عطف على الريح (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) أي في قعر البحر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٣٨)

(وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي مسلسلين في الأغلال لا يبعثهم إلى عمل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٩)

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ) أي على من شئت من المقرنين وغيرهم (أَوْ أَمْسِكْ) أي

٢٦٠