تفسير القاسمي - ج ٨

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٨

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

الواو. والمعنى واحد. إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها ، دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا السياق ، للعطف لا للقسم. انتهى.

وقوله تعالى : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) الجواب للقسم. وفي تأكيد المقسم عليه بتقديم الإقسام وتوكيد الجملة ، اهتمام به بتحقيق الحق فيه الذي هو التوحيد ، وتمهيد لما يعقبه من البرهان الناطق به ، وهو قوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) (٥)

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) فإن وجودها وانتظامها على هذا النمط البديع ، من أوضح دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته ، وأعدل شواهد وحدته. أي مالك السموات والأرض وما بينهما من الموجودات ومربيّها ومبلغها إلى كمالاتها. والمراد بالمشارق مشارق الشمس. وإعادة ذكر الرب فيها ، لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم. فإنها ثلاث مائة وستون مشرقا. تشرق كل يوم من مشرق منها. وبحسبها تختلف المغارب ، وتغرب كل يوم في مغرب منها. وأما قوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) فهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما. أفاده أبو السعود.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٦)

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي الجهة العليا القربى من كرة الأرض (بِزِينَةٍ) أي عجيبة بديعة (الْكَواكِبِ) بالجر ، بدل من (زينة). وقرئ بالإضافة ، على أنها بيانية ، أو على معنى ما زينت هي به ، وهو ضوؤها ، والمراد التزيين في رأي العين. فإن الكواكب تبدو للناظرين كأنها جواهر متلألئة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) (٧)

(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) أي خارج عن الطاعة ، يقذفه بشهبها ، كيما يتطاول إلى استراق السمع من جهتها و (حِفْظاً) إما منصوب بإضمار فعله. أي حفظناها حفظا ، أو بعطفه على (بِزِينَةٍ) من حيث المعنى. أي خلقنا الكواكب

٢٠١

للسماء زينة وحفظا. أو على المفعول لأجله بزيادة الواو. والعامل فيه (زَيَّنَّا).

القول في تأويل قوله تعالى :

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) (٨)

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) قرئ بالتخفيف والتشديد. وأصله (يتسمعون) أي يتطلبون السماع. والضمير لكل شيطان. لأنه في معنى الشياطين. والجملة مستأنفة لبيان ما عليه حال المسترقة للسمع من أنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة إلخ. أو هي علة للحفظ. أي لئلا يسمعوا. فحذفت اللام ثم (أن) وأهدر عملها. وضعفوه بلزوم اجتماع حذفين ، وهو منكر. كما ذكروه في قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] ، أي لئلا تضلوا ، وقد يقال : إنما ينكر حذف شيئين فيما يخلّ بانسجام الكلام. أما في تقدير أمر له نظائر ، ومرجعه إلى تحليل معنى. لا يأباه اللفظ ـ فلا وجه للتعصب في رده ، لمجرد أن الكوفيين ، مثلا ، ذهبوا إليه أو غيرهم. وشاهد المعنى أعدل من حكم القواعد وتحكيمها (وَيُقْذَفُونَ) أي يرمون (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) أي من جميع جوانب السماء ، إذا قصدوا الصعود إليها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) (٩)

(دُحُوراً) أي للدحور وهو الطرد (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي شديد غير منقطع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (١٠)

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) أي اختلس الكلمة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ) أي لحقه شعلة نارية تنقضّ من السماء (ثاقِبٌ) أي مضيء. كأنه يثقب الجوّ بضوئه.

تنبيه :

ذكر المفسرون أن الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء. فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب ، وكانوا يخبرونهم به ويوهمونهم

٢٠٢

أنهم يعلمون الغيب. فمنعهم الله تعالى من الصعود إلى قرب السماء بهذه الشهب. فإنه تعالى يرميهم بها فيحرقهم.

قال ابن كثير : يعني إذا أراد الشيطان أن يسترق السمع ، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه. ولهذا قال جلّ جلاله (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي : لئلا يصلوا إلى الملإ الأعلى ، وهي السموات ومن فيها من الملائكة ، إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى بما يقوله من شرعه وقدره. كما وردت الأخبار بذلك في تفسير قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ ، قالُوا الْحَقَّ ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سبأ : ٢٣] ، انتهى.

قال بعض علماء الفلك : كما أن العرش تحفّه الأرواح الغيبية ـ حسبما تقدم بيانه في آية (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] ، في الأعراف ـ فكذلك الكواكب الأخرى مسكونة مع الحيوانات والدواب بأرواح ، منها الصالح (الملك) ومنها الطالح (الشيطان) وكذلك أرضنا هذه. فيها من الملائكة ومن الشياطين مالا نبصره (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف : ٢٧]. ولا يخفى أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود. فعدم إدراكنا لهذه الأرواح لا يدل على عدم وجودها. كما أن عدم معرفة القدماء للميكروبات وللكهرباء التي تشاهد الآن آثارها العظيمة ، لم يكن يدل على عدم وجودها إذ ذاك في العالم. فمن الجهل الفاضح إنكار الشيء لعدم معرفته أو العثور عليه. على أن لنا الآن من مسألة استحضار الأرواح أكبر دليل على وجود أرواح في هذه الأرض ، لا نبصرها ولا نشعر بها. وقد قدّر الله تعالى أن الحيوانات في هذه الأرض ، إذا خرجت عنها إلى حيث ينقطع الهواء ويبطل التنفس ، تموت في الحال. وكذلك قدر أن الأرواح الطالحة التي في أرضنا هذه ، إذا أرادت الصعود إلى السماء والاختلاط بالأرواح التي في الكواكب الأخرى ، انقضّ عليها ، قبل أن تخرج من جوّ الأرض ، شهاب من هذه الكواكب أو من غيرها ، فأحرقها وأهلكها ، بإفساد تركيبها ومادتها. حتى لا يحصل اتصال بين هذه وتلك ، ولا تطلع على أسرار العوالم الأخرى. وهذه الشهب التي تنقضّ ، إن كانت صادرة من أجرام ملتهبة ، كانت ملتهبة. وإن كانت صادرة من أجرام غير ملتهبة. التهبت فيما بعد لشدة شرعتها واحتكاكها بالغازات التي تمر فيها في جوّنا هذا. ولعل في مادة الشياطين ما يجتذب إلى هذه الشهب ويتحد بها. كما تجتذب العناصر الكيماوية بعضها بعضا (مثال ذلك عنصر الصوديم فإنه يجتذب إليه الأكسجين من

٢٠٣

الماء فيحلله) ولا نقول إن جميع الشهب تنقضّ لهذا السبب ، بل منها ما ينقضّ لأسباب أخرى. كاجتذاب بعض الأجرام السماوية له. ومنها ما ينقض لإهلاك الشياطين ، كما بينّا هنا. والشياطين مخلوقة من مواد غازية كانت ملتهبة (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) [الحجر : ٢٧] والمراد (بالسماء الدنيا) في هذه الآية الفضاء المحيط بنا القريب منا. أي هذا الجوّ الذي نشاهده وفيه العوالم كلها. أما ما وراءه من الجواء البعيدة عنا ، التي لا يمكن أن نصل إليها بأعيننا ولا بمناظيرنا ، فهو فضاء محض لا شيء فيه. فلفظ (السماء) له معان كثيرة كلها ترجع إلى معنى السموّ. وتفسّر في كل مقام بحسبه.

ثم قال : فكل مسألة جاء بها القرآن حق ، لا يوجد في العلم الطبيعيّ ما يكذبها. لأنه وحي الله حقا ، والحق لا يناقضه الحق (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت : ٥٣].

وقال أيضا : يعتقد الآن علماء الفلك أن أكثر الشهب تنشأ من ذوات الأذناب. ويحتمل أن بعضها ناشئ من بعض الشموس المنحلّة ، أو الباقية الملتهبة ، أو من براكين بعض السيارات ، أو مما لم ينطفئ من السيارات للآن. ومتى علمنا أن ذوات الأذناب والسيارات جميعا مشتقة من الشموس ، كان مصدر جميع الشهب هو الشموس أو النجوم.

(قال) : وهذا يفهمنا معنى هذه الآية. اه كلامه.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) [الملك : ٥] ، وقوله عزوجل : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) [الحجر : ١٦ ـ ١٨] ، وقوله سبحانه إخبارا عن الجن : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [الجن : ٨ ـ ٩].

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) (١١)

(فَاسْتَفْتِهِمْ) أي فاستخبر مشركي مكة (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أي أقوى خلقة

٢٠٤

وأمتن بنية (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) أي من السموات والأرض والجبال. كقوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) [النازعات : ٢٧] الآية ، وقوله (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] ، وفي اضطرارهم إلى الجواب بصغر خلقهم وتضاؤله عما ذكر ، اعتراف بأنه لا يتعالى عليه أمر بعد هذا. كشأن البعث وغيره. وإليه الإشارة بقوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي لزج ضعيف لا قوة فيه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) (١٢)

(بَلْ عَجِبْتَ) أي من إنكارهم للبعث بعد اضطرارهم للاعتراف بما يحققه (وَيَسْخَرُونَ) أي من تقرير أمر البعث والاحتجاج عليه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) (١٣)

(وَإِذا ذُكِّرُوا) أي بما يؤيده ، أو وعظوا وخوفوا من المخالفة (لا يَذْكُرُونَ) أي ما يقتضيه؟ لتعنتهم وعنادهم. أو لا يخافون ولا يتعظون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) (١٤)

(وَإِذا رَأَوْا آيَةً) أي برهانا واحتجاجا على مصداقه ، من آيات الكائنات في أنفسهم أو في الآفاق (يَسْتَسْخِرُونَ) أي يبالغون في السخرية ، بدل الاعتبار والتدبر والتفكر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) (١٥)

(وَقالُوا إِنْ هذا) أي ادعاء ما ذكر ، والاستدلال عليه والصدع بشأنه ، والقراع فيه (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) (١٨)

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ) أي تبكيتا لهم.

٢٠٥

(نَعَمْ) أي تبعثون (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي ذليلون ، لا جدل منكم يدفعه ولا قدرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) (١٩)

(فَإِنَّما هِيَ) أي البعثة (زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي صيحة واحدة (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي قيام من مراقدهم أحياء ، أولو قوة مدركة ، بها يبصرون. أو ينتظرون ما يفعل بهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) (٢٠)

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي الجزاء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) (٢٢)

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أنفسهم بالكفر والمعاصي والسعي بالفساد (وَأَزْواجَهُمْ) أي وأشباههم من الفجرة. أو نساءهم الكافرات (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٢٣)

(مِنْ دُونِ اللهِ) أي من الأصنام وغيرها ، زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي فعرفوهم طريقها ليسلكوها. والتعبير ب (الهداية) و (الصراط) للتهكم بهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٢٤)

(وَقِفُوهُمْ) أي احبسوهم في الموقف (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) أي عن عقائدهم وأعمالهم.

٢٠٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) (٢٥)

(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) أي لا ينصر بعضكم بعضا ، وقد كان شأنكم التعاضد في الحياة الأولى ، وهو توبيخ لهم وتقريع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) (٢٦)

(بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) أي منقادون مخذولون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) (٢٨)

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي عن القهر والغلبة. أي كنتم تضطرونا إلى ما تدعونا إليه. كما في آية (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) [سبأ : ٣٣] ، وقيل عن الحلف والقسم. وقيل عن جهة الخير وناحية الحق. من (اليمن) ضد الشؤم. أي توهمونا وتخدعونا أن ما أنتم عليه أمر ميمون فيه الخير والفوز فأين مصداقه وقد نزل ما نزل؟

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (٣٥)

(قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) أي عن الاستجابة للداعي إليها.

٢٠٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) (٣٦)

(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) أي لقول من يقول بالمقدمات الخيالية عن الجنون. فرد عليهم بأنه لم يأت بكلام مخيل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) (٣٧)

(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) أي الذين هم أعقل الأمم وأحكم الحكماء. فمتى يتفقون على قول مصدره الجنون؟

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ) (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (٤٤)

(إِنَّكُمْ) أي بافترائكم (لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أي في الصف مترائين ، لا يحجب بعضهم عن بعض ، ولا يتفاضلون في المقاعد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) (٤٥)

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي شراب معين ، جار كالنهر لا ينقطع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٤٧)

(بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ) أي ما يغتال العقل ، ولا فساد من فساد خمر الدنيا (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي تذهب عقولهم.

٢٠٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) (٤٩)

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي على أزواجهن أو مبيضّاته تشبيها بالثوب المقصور ، وهو المحوّر. (عِينٌ) أي كبار الأعين (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) أي بيض نعام في الصفاء ، مستور لم يركب عليه غبار.

قال الشهاب : وهذا على عادة العرب في تشبيه النساء بها. وخصت ببيض النعام ، لصفائه وكونه أحسن منظرا من سائره. ولأنها تبيض في الفلاة وتبعد ببيضها عن أن يمس. ولذا قالت العرب للنساء (بيضات الخدور) ولأن بياضه يشوبه قليل صفرة مع لمعان ، كما في الدرّ. وهو لون محمود جدا. إذ البياض الصرف غير محمود. وإنما يحمد إذا شابه قليل حمرة في الرجال ، وصفرة في النساء. انتهى.

وحكى ابن جرير عن ابن عباس ؛ أنه عنى بالبيض المكنون (اللؤلؤ).

ثم قال : والعرب تقول لكل مصون (مكنون) لؤلؤا كان أو غيره. كما قال أبو دهبل :

وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوّاص ميزت من جوهر مكنون

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٥٠)

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) معطوف على (يطاف) والمعنى ، يشربون فيتحادثون على الشراب ، كعادة أهل الشرب ، عما جرى لهم وعليهم.

وقال القاشانيّ : أي يتحادثون أحاديث أهل الجنة والنار ، ومذاكرة أحوال السعداء والأشقياء ، مطلعين على كلا الفريقين وما هم فيه من الثواب والعقاب ، كما ذكر في وصف أهل الأعراف.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) (٥٣)

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي في المحادثة (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) أي جليس في الدنيا

٢٠٩

(يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أي لمبعوثون فمجزيّون. أي يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب. والمعنى : فهنا قد صدقنا ربنا وعده ، وأحل بالقرين وعيده. كما أشار بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) (٥٤)

(قالَ) أي ذلك القائل (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) أي إلى أهل النار من كوى الجنة ومطالّها ، لأريكم ذلك القرين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٥٧)

(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي وسطه (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي لتهلكني بالإغواء (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) أي بالهداية واللطف بي (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي معك في النار. وقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٥٩)

(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) من تتمة كلامه لقرينه ، تقريعا له. أو معاودة إلى محادثة جلسائه ، تحدثا بنعمة الله تعالى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (٦١)

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي لنيل مثله ، فليجدّ المجدّون.

ولما وصف ملاذّ أهل الجنة ، تأثره بمطاعم أهل النار ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) (٦٢)

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) وهي شجرة كريهة المنظر والطعم ، كما ستذكر صفتها.

٢١٠

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (٦٥)

(إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً) أي محنة وعذابا (لِلظَّالِمِينَ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها) أي حملها (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) أي مثل ما يتخيل ويتوهم من قبح رؤوس الشياطين ، فهي قبيحة الأصل والثمر والمنظر والملمس. قال الزمخشريّ : وشبه برءوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهية وقبح المنظر. لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس ، لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير. فيقولون في القبيح الصورة (كأنه وجه شيطان) (كأنه رأس شيطان) وإذا صوره المصوّرون جاءوا بصورته على أقبح ما يقدّر وأهوله. كما أنهم اعتقدوا في الملك أنه خير محض لا شر فيه. فشبهوا به الصورة الحسنة. قال الله تعالى : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف : ٣١] ، وهذا تشبيه تخييليّ. انتهى. أي لأمر مركوز في الخيال. وبه يندفع ما يقال إنه تشبيه بما لا يعرف ، وذلك لأنه لا يشترط أن يكون معروفا في الخارج. بل يكفي كونه مركوزا في الذهن والخيال. ألا ترى امرأ القيس ـ وهو ملك الشعراء ـ يقول :

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وهو لم ير الغول. والغول نوع من الشياطين ، لأنه في خيال كل أحد مرتسم بصورة قبيحة ، وإن كان قابلا للتشكل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (٦٦)

(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها) أي من طلعها (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أي لغلبة الجوع أو الإكراه على أكلها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) (٦٧)

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) أي لشرابا كالصديد أو الغساق ، ممزوجا من ماء متناه في الحرارة ، يقطع أمعاءهم.

٢١١

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) (٦٨)

(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ) أي مصيرهم (لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي إلى دركاتها. أو إلى نفسها لا مفر لهم منها ولا محيص كيفما تحولوا. قال ابن كثير : أي ثم إن مردّهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج وسعير تتوهج. فتارة في هذا وتارة في هذا. كما قال تعالى : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) هكذا تلا قتادة هذه الآية عند هذه الآية. وهو تفسير حسن قويّ. انتهى.

ومن لطائف الإشارات في هذه الآية ، ما قاله القاشانيّ. وعبارته : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) وهي شجرة النفس الخبيثة المحجوبة النابتة في قعر جهنم المتشعبة أغصانها في دركاتها القبيحة الهائلة ثمراتها من الرذائل والخبائث كأنها من غاية القبح والتشوّه والخبث بالتنفر (رُؤُسُ الشَّياطِينِ) أي تنشأ منها الدواعي المهلكة والنوازع المردية الباعثة على الأفعال القبيحة والأعمال السيئة. فتلك أصول الشيطنة ومبادئ الشر والمفسدة ، فكانت رؤوس الشياطين (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها) يستمدون منها ويتغذون ويتقوّون ، فإن الأشرار غذاؤهم من الشرور ولا يلتذون إلا بها (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) بالهيئات الفاسقة والصفات المظلمة ، كالممتلئ غضبا وحقدا وحسدا وقت هيجانها (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) الأهواء الطبيعية والمنى السيئة الرديئة ، ومحبات الأمور السفلية ، وقصور الشرور الموبقة ، التي تكسر بعض غلة الأشرار (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) لغلبة الحرص والشره ، بالشهوة والحقد والبغض والطمع وأمثالها. واستيلاء دواعيها مع امتناع حصول مباغيها. انتهى.

وهذه الإشارات من المجازات التي تتسع لها اللغة. لأنها لا تنحصر في الحقيقة ، ولا يقال إنها المرادة هنا ، لنبؤها عن نظائرها من آيات الوعيد ، والله أعلم. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) (٧٠)

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال. و (الإهراع) الإسراع الشديد كأنهم يزعجون على

٢١٢

الإسراع على آثارهم ، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير نظر وبحث ، بل مجرد تقليد وترك اتباع دليل. قال الرازيّ : ولو لم يوجد في القرآن آية غير هذه الآية في ذم التقليد ، لكفى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) (٧٢)

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أي أنبياء حذروهم العواقب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (٧٣)

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي الذين أنذروا وخوّفوا. فقد أهلكوا جميعا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٧٤)

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي الذين أخلصوا دينهم لله. أو الذين أخلصهم تعالى لدينه. على القراءتين. أي فإنه تعالى نصرهم وجعل العاقبة لهم. ثم أشار تعالى إلى أنبائهم ، تثبيتا لفؤاده صلوات الله عليه. وتبشيرا لأتباعه ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) (٧٧)

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) أي بقوله (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] ، (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي نحن بهلاك قومه. لأنه لا يجيب المضطر غيره. (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي من الغرق والطوفان. والمراد بأهله ، من آمن معه (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) أي في الأرض بعد هلاك قومه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) (٧٩)

٢١٣

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي أبقينا عليه في الأمم بعده ثناء حسنا ، فمفعول (تركنا) محذوف ، أو ما حكاه تعالى بقوله (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) أي أن يسلموا عليه إلى يوم القيامة. أي أن يقولوا هذه الجملة. قال السمين : قوله (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) مبتدأ وخبر. وفيه أوجه : أحدها أنه مفسر ل (تركنا) والثاني أنه مفسر لمفعوله. أي تركنا عليه شيئا وهو هذا الكلام. أو ثمّ قول مقدر. أي فقلنا سلام. أو ضمن (تركنا) معنى (قلنا) أو سلط (تركنا) على ما بعده. وقرئ (سلاما) وهو مفعول به ل (تركنا).

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٨٠)

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تعليل لما أثيب به من التكرمة ، بأنه مجازاة له على إحسانه ، وهو مجاهدته في إعلاء كلمة الله ، والدعوة إلى الحق ليلا ونهارا ، سرّا وجهارا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (٨١)

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي المصدقين ، وتعليل إحسانه بالإيمان ، إظهار لفضل الإيمان ومزيته. حيث مدح من هو من كبار الرسل به. فالمقصود بالصفة مدحها نفسها ، لا مدح موصوفها. وذلك لأن الإيمان أساس لكل خير يوجد ، ومركز لدائرته ، ومسك خاتمته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (٨٢)

(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي من كفار قومه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) (٨٣)

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي ممن شايعه وتابعه في الإيمان والدعوة القوية إلى التوحيد.

٢١٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٤)

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي أقبل إلى توحيده بقلب خالص من الشوائب ، باق على الفطرة ، سليم عن النقائص والآفات ، محافظ على عهد التوحيد الفطريّ ، منكر على من غيّر وبدّل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) (٨٥)

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) أي من دون الله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) (٨٦)

(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) أي أتريدون بطريق الكذب ، آلهة دون الله؟

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٨٧)

(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي بمن هو الحقيق بالعبادة ، لكونه ربّا للعالمين ، حتى تركتم عبادته وأشركتم به غيره ، والمعنى : لا يقدّر في وهم ولا ظن ما يصد عن عبادته. لأن استحقاقه للعبادة أظهر من أن يختلج عرق شبهة فيه. فأنكر ظنهم الكائن في بيان استحقاقه للعبادة. وهو الذي حملهم على عبادة غيره. أو المعنى : فما ظنكم به؟ ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟ وعلى كلّ ، فالاستفهام إنكاري. والمراد من إنكار الظن إنكار ما يقتضيه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) (٨٨)

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) أي ليريهم على أنه يستدل بها على شيء لأنهم كانوا منجّمين.

٢١٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (٨٩)

(فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) أي مريض لا يمكنني الخروج معكم إلى معيّدكم. ترخص عليه‌السلام بذلك. ليتخلص من شهود زورهم ومنكراتهم وأفانين شركهم ، مما تجوزه المصلحة. أو عنى أنه سقيم القلب. تشبيها لغمه وحزنه بالمرض ، على طريق التشبيه. أو أراد أنه مستعد للموت استعداد المريض. فهو استعارة أو مجاز مرسل.

قال الزمخشري : والذي قاله إبراهيم عليه‌السلام ، معراض من الكلام. ولقد نوى به ان من في عنقه الموت ، سقيم. ومنه المثل (كفى بالسلامة داء) وقول لبيد :

فدعوت ربّي بالسلامة جاهدا

ليصحّني ، فإذا السلامة داء

ومات رجل فجأة ، فالتفّ عليه الناس وقالوا : مات وهو صحيح. فقال أعرابيّ :

أصحيح من الموت في عنقه؟ انتهى.

وقال السيوطي في (الإكليل) : في الآية استعمال المعاريض والمجاز للمصلحة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) (٩٠)

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي إلى معيّدهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ) (٩١)

(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) أي ذهب إليها في خفية (فَقالَ) أي للأصنام استهزاء (أَلا تَأْكُلُونَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٩٦)

٢١٦

(ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) أي بإيجاب ولا سلب (فَراغَ عَلَيْهِمْ) أي هجم عليهم (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أي التي هي أقوى الباطشتين ، فكسرها. (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ) أي إلى إبراهيم بعد ما رجعوا (يَزِفُّونَ) أي يسرعون لمعاتبته على ما صدر منه. فأخذ عليه‌السلام يبرهن لهم على فساد عبادتهم (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) أي من الأصنام (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي وما تعملونه من الأصنام المنوعة الأشكال ، المختلفة المقادير. ولما قامت عليهم الحجة ، عدلوا إلى أخذه باليد والقهر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) (٩٨)

(قالُوا ابْنُوا لَهُ) أي لإحراقه (بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي الأذلّين بإبطال كيدهم. جعل النار عليه بردا وسلاما.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٩٩)

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي مهاجر إلى بلد أعبد فيه ربي ، وأعصم فيه ديني. قال الرازي : فيه دليل على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء ، تجب مهاجرته. وذلك لأن إبراهيم عليه‌السلام ، مع ما خصه تعالى به من أعظم أنواع النصرة ، لما أحسّ من قومه العداوة الشديدة ، هاجر. فلأن يجب على غيره. بالأولى. وقوله : (سَيَهْدِينِ) أي إلى ما فيه صلاح ديني ، أو إلى مقصدي. وإنما بتّ القول لسبق وعده تعالى. إذ تكفل بهدايته. أو لأن من كان مع الله كان الله معه (١) (احفظ الله يحفظك).

القول في تأويل قوله تعالى :

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (١٠١)

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ولدا صالحا يعينني على الدعوة والطاعة (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) أي متسع الصدر حسن الصبر والإغضاء في كل أمر ، والحلم رأس الصلاح وأصل الفضائل.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : القيامة ، ٥٩ ـ باب حدثنا بشر بن هلال.

٢١٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١٠٢)

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) أي السنّ الذي يقدر فيه على السعي والعلم (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) أي : إني أمرت في المنام بذبحك ـ ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة ـ فانظر هل تصبر على إمضائي أمر الرؤيا والعمل بظاهرها؟ (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ، أي يأمرك الله به. فإن كان ذاك أمرا من لدنه فأمضه. قال القاضي : ولعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأمورا به. أو علم أن رؤيا الأنبياء حق ، وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر ، ثم قال : ولعل الأمر في المنام دون اليقظة ، لتكون مبادرتهما إلى الامتثال ، أدل على كمال الانقياد والإخلاص. انتهى.

قال الرازي : الحكمة في مشاورة الابن في هذا الباب ، أن يطلع ابنه على هذه الواقعة ليظهر له صبره في طاعة الله ، فتكون فيه قرة عين لإبراهيم ، حيث يراه قد بلغ في الحلم إلى هذا الحد العظيم. وفي الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية. ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة ، والثناء الحسن في الدنيا. وقوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي على الذبح ، أو على قضاء الله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (١٠٣)

(فَلَمَّا أَسْلَما) أي استسلما وانقادا لأمره تعالى بدون إبطاء ، واستلّ إبراهيم السكين ، (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي صرعه على شقه ، فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبي الجبهة. و (تله) أصل معناه : رماه على التلّ ، وهو التراب المجتمع. ك (تربه). ثم عم لكل صرع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١٠٥)

(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي لا تذبحه وقد قمت بمصداقها في بذل الوسع من الأخذ بإمضاء ما تشير إليه وكمال الطاعة في هذا الشاقّ. وأوتيت

٢١٨

أجر الامتثال والصبر والثبات. وفي جواب (لما) ثلاثة أوجه ، أظهرها أنه محذوف. أي نادته الملائكة. أو ظهر صبرهما. أو أجزلنا لهما أجرهما ، الثاني في أنه (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) بزيادة (الواو) وهو رأي الكوفيين والأخفش. الثالث أنه (وَنادَيْناهُ) والواو زائدة أيضا. (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي باللطف والعناية والنداء والوحي والفرج بعد الشدة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (١٠٦)

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي الاختيار البيّن الذي يتميز فيه المخلص من غيره. إشارة إلى أن هذا الأمر كان ابتلاء وامتحانا لإبراهيم في صدق الخلة لله ، وتضحية أعز عزيز لديه ، وأحب محبوب عنده ، لأمر ربه تعالى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (١٠٧)

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) أي رزقناه ما يذبح بدلا عنه وفداء له ، منة وتطولا. وقد روي أنه عليه‌السلام لما نودي ، حانت منه التفاتة إلى ما حوله ، فأبصر كبشا قد انتشب قرناه في شجرة. فتم به المرئي في المنام المقصود به القربان لله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (١١٢)

(وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) (١١٣)

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) أي مثل ما تركنا على نوح. كما تقدم بيانه وإعرابه (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبارَكْنا عَلَيْهِ) أي على إبراهيم (وَعَلى إِسْحاقَ) أي : بتكثير الذرية وتسلسل النبوة فيهم ، وجعلهم ملوكا ، وإيتائهم ما لم يؤت أحد (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ) أي في علمه (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أي بالكفر والمعاصي (مُبِينٌ) أي ظاهر الظلم.

٢١٩

تنبيهات :

الأول ـ يروي المفسرون هاهنا في قصة الذبح روايات منكرة لم يصحّ سندها ولا متنها : بل ولم تحسن ، فهي معضلة تنتهي إلى السّدّي وكعب. والسّدّي حاله معلوم في ضعف مروياته. وكذلك كعب.

قال ابن كثير رحمه‌الله : لما أسلم كعب الأحبار في الدولة العمرية ، جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديما : فربما استمع له عمر. فترخص الناس في استماع ما عنده عنه ، غثها وسمينها ، وليس لهذه الأمة حاجة إلى حرف واحد مما عنده. انتهى.

ولقد صدق رحمه‌الله. ولذا لا نرى التزيد على أصل ما قص في التنزيل من الضروريّ له ، إلا إذا صح سنده ، أو اطمأن القلب به. وقد ولع الخطباء في دواوينهم برواية هذه القصة في خطبة الأضحى من طرقها الواهية عند المحدثين. ويرونها ضربة لازب على ضعف سندها وكون متنها منكرا أيضا أو موضوعا. ولما صنفت مجموعة الخطب حذفت هذه الرواية من خطبة الأضحى ككل مرويّ ضعيف في فضائل الشهور والأوقات ، واقتصرت على جياد الأخبار والآثار. وذلك من فضل الله علينا فلا نحصي ثناء عليه. وأمثل ما روي في هذا النبأ من الآثار ما أخرجه الإمام أحمد (١) عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا ، قال : لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك ، عرض له الشيطان عند السعي ، فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى جمرة العقبة. فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب. ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات ، ثم تلّه للجبين ، وعلى إسماعيل عليه‌السلام قميص أبيض. فقال له : يا أبت! إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره ، فاخلعه حتى تكفنني فيه. فعالجه ليخلصه ، فنودي من خلفه : أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين ، قال ابن عباس : لقد رأيتنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش.

الثاني ـ قال السيوطيّ في (الإكليل) : في هذه الآية أن رؤيا الأنبياء وحي ، وجواز نسخ الفعل قبل التمكن ، وتقديم المشيئة في كل قول. واستدل بعضهم بهذه القصة على أن من نذر ذبح ولده ، لزمه ذبح شاة.

__________________

(١) أخرجه في المسند ١ / ٢٩٧. والحديث رقم ٧ ر ٢٧.

٢٢٠