تفسير القاسمي - ج ٨

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٨

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

وخطبا هائلا ، لا يقادر قدره. لما فيه من هتك حرمة حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو السعود : وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإيجاب حرمته حيّا وميتا ، ما لا يخفى. ولذلك بالغ تعالى في الوعيد حيث قال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٥٤)

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) أي مما لا خير فيه ، كنكاحهن على ألسنتكم ، على ما روي عن بعض الجفاة (أَوْ تُخْفُوهُ) أي في نفوسكم (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة. وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود ، مزيد تهويل وتشديد ومبالغة في الوعيد.

قال ابن كثير : أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أزواجه ، أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده. لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة ، وأمهات المؤمنين. واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته. هل يحل لغيره أن يتزوجها؟ على قولين. مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله (من بعده) أم لا؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، فما نعلم في حلها لغيره ، والحالة هذه نزاعا والله أعلم. انتهى.

تنبيه :

في (الإكليل) : هذه آية الحجاب التي أمر بها أمهات المؤمنين. بعد أن كان النساء لا يحتجبن. وفيها جواز سماع كلامهن ومخاطبتهن. وفيها تحريم أذى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسائر وجوه الأذى. انتهى.

وقال ابن كثير : هذه آية الحجاب. وفيها أحكام ، وآداب شرعية. وهي مما وافق تنزيلها قول عمر رضي الله عنه ، كما روى البخاريّ (١) عنه أنه قال : يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر. فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب! فأنزل الله آية الحجاب.

وكان يقول لو أطاع فيكن ، ما رأتكن عين.

__________________

(١) أخرجه في : التفسير ، ٣٣ ـ سورة الأحزاب ، ٨ ـ باب قوله لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ، حديث رقم ٢٦٧.

١٠١

وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب بنت جحش ، التي تولى الله تزويجها بنفسه تعالى. وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة (في قول قتادة والواقديّ وغيرهما) وزعم أبو عبيدة ، معمر بن المثنى ، وخليفة بن خياط ؛ أن ذلك كان في سنة ثلاث. فالله أعلم.

وروى البخاريّ (١) عن أنس قال : لما تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون. فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا. فلما رأى ذلك قام. فلما قام ، قام من قام وقعد ثلاثة نفر. فجاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس. ثم إنهم قاموا فانطلقوا. فجئت فأخبرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم قد انطلقوا. فجاء حتى دخل. فذهبت أدخل ، فألقى الحجاب بيني وبينه ، فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) الآية.

ورواه مسلم (٢) أيضا والنسائيّ.

وعن أنس أيضا قال : بني على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب بنت جحش ، بخبز ولحم. فأرسلت على الطعام داعيا. فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون ، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعو. فقلت : يا رسول الله! ما أجد أحدا أدعوه. قال : ارفعوا طعامكم. وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت. فخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته. قالت : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. كيف وجدت أهلك؟ يا رسول الله! بارك الله لك.

فتقرّى حجر نسائه كلهن. يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة. ثم رجع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون. وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شديد الحياء. فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة. فما أدري أخبرته أو أخبر ، أن القوم خرجوا. فرجع ، حتى إذا وضع رجله في أسكفّة الباب داخلة ، والأخرى خارجة ، أرخى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب. انفرد به البخاريّ.

وأخرج نحوه مسلم والترمذيّ. كما بسطه ابن كثير.

__________________

(١) أخرجه في : التفسير ، ٣٣ ـ سورة الأحزاب ، ٨ ـ باب قوله (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) ، حديث رقم ٢٠٣٥.

(٢) أخرجه في : النكاح ، حديث ٨٧.

١٠٢

قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : قال عياض : فرض الحجاب مما اختصصن به. فهو فرض عليهن بلا خلاف ، في الوجه والكفين ، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها. ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات ، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. ثم استدل بما في (الموطأ) أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها. وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها يستر شخصها. انتهى.

وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن. وقد كن بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحججن ويطفن. وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث ، وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص. وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء ، لما ذكر له طواف عائشة : أقبل الحجاب أو بعده؟ قال قد أدركت ذلك بعد الحجاب. انتهى.

ومما يؤيده ما رواه البخاريّ (١) في التفسير عن عائشة رضي الله عنها. قالت : خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها. وكانت امرأة جسيمة ، لا تخفى على من يعرفها. فرآها عمر بن الخطاب. فقال : يا سودة! أما والله! ما تخفين علينا. فانظري كيف تخرجين.

قالت : فانكفأت راجعة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيتي ، وإنه ليتعشى وفي يده عرق ، فدخلت فقالت : يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي عمر كذا وكذا. قالت فأوحى الله إليه ثم رفع عنه ، وإن العرق في يده ما وضعه ، فقال : إنه قد أذن لكن أن تخرجنّ لحاجتكن.

قال الكرمانيّ : فإن قلت وقع هنا أنه كان بعد ما ضرب الحجاب وفي الوضوء ـ أي من البخاريّ ـ أنه كان قبل الحجاب. فالجواب لعله وقع مرتين.

قال ابن حجر : قلت بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني.

والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبويّ ، حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام : احجب نساءك ، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب. ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلا ، ولو كن مستترات ، فبالغ في ذلك فمنع منه ، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن ، دفعا

__________________

(١) أخرجه في : التفسير ، ٣٣ ـ سورة الأحزاب ، ٨ ـ باب قوله (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ) حديث رقم ١٢٣.

١٠٣

للمشقة ، ورفعا للحرج ، انتهى بحروفه. وإنما نقلنا الجمع بين الروايتين ، مع أن الأمسّ به شرح الصحيح ، لما اتفق من نقل كثير من المفسرين إحدى الروايتين ونقل آخرين الثانية ، مما يوقع الواقف في شبهة الاختلاف ، فآثرنا توسيع الكلام لتحقيق المقام. زادنا الله من فضله علما ، إنه هو العليم العلام.

ثم بين تعالى من لا يجب الاحتجاب منهم من الأقارب ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (٥٥)

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَ) أي لا حرج ولا إثم عليهن ، في أن لا يحتجبن من هؤلاء المسمّين.

قال الطبريّ : وعني ب (إخوانهن وأبناء إخوانهن) إخوتهن. وأبناء إخوتهن. وخرج معهم جمع ذلك ، مخرج جمع فتى إذا جمع (فتيان) فكذلك جمع أخ إذا جمع (إخوان) وأما إذا جمع إخوة فذلك نظير جمع فتى إذا جمع (فتية).

تنبيهات :

الأول ـ قيل : إنما لم يذكر العم والخال ، لأنهما بمنزلة الوالدين. ولذلك سمي العم أبا في قوله تعالى (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة : ١٣٣] ، أو لأنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أبناء الإخوة ، وأبناء الأخوات. فإن مناط عدم لزوم الاحتجاب بينهن وبين الفريقين ، عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخؤولة. لما أنهن عمات لأبناء الإخوة ، وخالات لأبناء الأخوات. وقيل : لأنه كره ترك الاحتجاب منهما ، مخافة أن يصفاهنّ لأبنائهما.

وهو رأي عكرمة والشعبيّ. كما أخرجه الطبريّ من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة والشعبيّ أنه قال لهما : ما شأن العم والخال لم يذكرا؟ قالا : لأنهما ينعتانها لأبنائهما. وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمها.

قال الشهاب : لكنه قيل عليه ، إن هذه العلة ، وهو احتمال أن يصفا لأبنائهما

١٠٤

وهما يجوز لهما التزوج بها ، جار في النساء كلهن ، ممن لم يكن أمهات محارم. فينبغي التعويل على الأول. انتهى.

والتحقيق في رده ما رواه البخاري (١) في التفسير من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : استأذن عليّ أفلح أخو أبي القعيس ، بعد ما أنزل الحجاب ، فقلت : لا آذن له حتى أستأذن فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني ، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس. فدخل عليّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت له : يا رسول الله! إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن. فأبيت أن آذن حتى أستأذنك ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما منعك أن تأذني؟ عمك. قلت : يا رسول الله! إن الرجل ليس هو أرضعني ، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس ، فقال : ائذني له فإنه عمك ، تربت يمينك.

قال عروة : فلذلك كانت عائشة تقول : حرموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب انتهى. فبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) «ائذني له فإنه عمك» مع قوله في الحديث الآخر (٣) «العم صنو الأب» يرد على عكرمة والشعبيّ.

الثاني ـ قيل : أريد بقوله تعالى (وَلا نِسائِهِنَ) المسلمات ، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول على أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل هو عامّ في المسلمات والكتابيات. وإنما قال (وَلا نِسائِهِنَ) لأنهن من أجناسهن.

الثالث ـ استدل بعموم قوله تعالى (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) من ذهب إلى أن عبد المرأة محرم لها. وذهب قوم إلى أنه كالأجانب. والآية مخصوصة بالإماء دون العبيد ، وتقدم تفصيل ذلك في سورة النور.

الرابع ـ قال السيوطيّ في (الإكليل) : استدل الحسن والحسين بعدم ذكر أبناء العمومة فيها ، على تحريم نظرهما إليهن ، فكانا لا يدخلان عليهن (وَاتَّقِينَ اللهَ) أي أن تتعدين ما حدّ لكنّ ، فتبدين من زينتكن ما ليس لكن ، أو تتركن الحجاب فيراكن أحد غير هؤلاء. وقال الرازيّ : أي واتقينه عند المماليك. قال ، ففيه دليل على أن

__________________

(١) أخرجه في : التفسير ، ٣٣ ـ سورة الأحزاب ، ٩ ـ باب قوله (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ) ، حديث ١٢٨٣.

(٢) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٣٣ ـ سورة الأحزاب ، ٩ ـ باب قوله (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ) ، حديث رقم ١٢٨٣.

وأخرجه مسلم في : الرضاع ، حديث ٣ ـ ٦.

(٣) أخرجه مسلم في : الزكاة ، حديث رقم ١١.

١٠٥

التكشف لهم مشروط بشرط السلامة والعلم بعدم المحذور. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) أي فهو شاهد على ما تفعلنه من احتجابكن وترككنّ الحجاب لمن أبيح لكن تركه ، وغير ذلك من أموركن ، فاحذرن أن تلقينه. وهو شاهد عليكن بمعصيته وخلاف أمره ونهيه فتهلكن. قال الرازيّ : هذا التذييل في غاية الحسن في هذا الموضع ، لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم ، فقال : إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض. فخلوتكم مثل ملتكم بشهادة الله تعالى فاتقوا. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٥٦)

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) قال الرازيّ : لما أمر الله المؤمنين بالاستئذان وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراما ، كمّل بيان حرمته. وذلك لأن حالته منحصرة في اثنتين : حالة خلوته وذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٣] ، وحالة يكون في ملأ. والملأ إما الملأ الأعلى وإما الملأ الأدنى ، أما في الملأ الأعلى فهو محترم. فإن الله وملائكته يصلون عليه. وأما في الملأ الأدنى فذلك واجب الاحترام بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) انتهى.

وقد روى البخاريّ (١) عن أبي العالية قال : صلاة الله : ثناؤه عليه عند الملائكة. وصلاة الملائكة الدعاء. وقال ابن عباس : يصلون يبرّكون. أي يدعون له بالبركة. فيوافق قول أبي العالية ، لكنه أخص منه. وبالجملة ، فالصلاة تكون بمعنى التمجيد والدعاء والرحمة ، على حسب ما أضيفت إليه في التنزيل أو الأثر. وقد أطنب الإمام ابن القيّم في (جلاء الأفهام) في مبحث معنى الصلاة ، وأطال فأطاب. فلينظر.

وفي البخاريّ (٢) عن كعب بن عجرة رضي الله عنه ، أنه قيل : يا رسول الله! أما السلام عليك فقد عرفناه. فكيف الصلاة عليك؟ قال : قولوا : اللهم! صلي على

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٣٣ ـ سورة الأحزاب ، ١٠ ـ باب (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ).

(٢) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٣٣ ـ سورة الأحزاب ، ١٠ ـ باب (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) ، حديث رقم ١٥٩١.

١٠٦

محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم! بارك على آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

وروى الإمام أحمد (١) وأبو داود والنسائيّ وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في مستدركه ، عن أبي مسعود البدريّ ؛ أنهم قالوا : يا رسول الله! أما السلام فقد عرفناه. فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ فقال : قولوا : اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد. وذكره. ورواه الشافعيّ في مسنده عن أبي هريرة بمثله.

ومن هاهنا ذهب الشافعيّ رحمه‌الله ، إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التشهد الأخير. فإن تركه لم تصح صلاته. ووافقه الإمام أحمد في رواية. وقال به إسحاق بن راهويه والإمام ابن المواز المالكيّ وغيرهم. كما بسطه ابن القيم في (جلاء الأفهام) وابن كثير في (التفسير) وقد تقصّيا ، عليهما الرحمة ، أيضا الروايات في الأمر بالصلاة وكيفيتها. فأوسعا. فليرجع إليهما.

تنبيهات :

الأول ـ تدل الآية على وجوب الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطلقا. لأن الأصل في الأمر للوجوب. فذهب قوم إلى وجوبها في المجلس مرة. ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس. وآخرون إلى وجوبها في العمر مرة واحدة. ثم هي مستحبة في كل حال. وآخرون إلى وجوبها كلما ذكر. وبعضهم إلى أن محل الآية على الندب. قال ابن كثير : وهذا قول غريب. فإنه قد ورد الأمر بالصلاة عليه في أوقات كثيرة. فمنها واجب ومنها مستحب على ما نبينه. فمنه بعد النداء للصلاة ، لحديث (٢)(إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ) الحديث ومنه عند دخول المسجد لحديث (٣)(كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دخل المسجد صلّى على محمد وسلّم). ثم قال : اللهم! اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج صلّى على محمد وسلّم. ثم قال : اللهمّ! اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك. ومنه الصلاة ، فتستحب على قول الشافعي في التشهد الأول منها ، وتجب في الثاني. ومنه في صلاة الجنازة بعد

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤ / ١١٨.

(٢) أخرجه البخاري في : الأذان ، ٧ ـ باب ما يقول إذا سمع المنادي ، حديث ٣٩٠ ، عن أبي سعيد الخدري.

(٣) أخرجه الترمذي في : الصلاة ، ١١٧ ـ باب ما جاء ما يقول عند دخول المسجد ، حديث ٣١٤.

١٠٧

التكبيرة الثانية ، لقول أبي أمامة : من السنة ذلك. وهذا من الصحابيّ في حكم المرفوع ، على الصحيح. ومنه ختم الدعاء. فيستحب الصلاة فيه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن آكد ذلك دعاء القنوت. ومنه يوم الجمعة وليلتها. فيستحب الإكثار منها فيهما ، ومنه في خطبة يوم الجمعة. يجب على الخطيب في الخطبتين الإتيان بها. وهو مذهب الشافعيّ وأحمد. ومنه عند زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحديث (ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه‌السلام) تفرد به أبو داود (١) وصححه النوويّ في (الأذكار). وعن الحسن بن الحسن بن عليّ ؛ أنه رأى قوما عند القبر فنهاهم وقال : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا تتخذوا قبري عيدا. ولا تتخذوا بيوتكم قبورا. وصلوا عليّ حيثما كنتم. فإن صلاتكم تبلغني.

قال ابن كثير : فلعله رآهم يسيئون الأدب برفع أصواتهم فوق الحاجة ، فنهاهم. وقد روي أنه رأى رجلا ينتاب القبر. فقال : يا هذا! ما أنت ورجل بالأندلس ، منه إلا سواء. أي الجميع يبلغه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين. وقد استحب أهل الكتاب أن يكرر الكاتب الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما كتبه. وقد روي في حديث (من صلى عليّ في كتاب لم تزل الصلاة جارية له ، ما دام اسمى في ذلك الكتاب).

. قال الحافظ ابن كثير : وليس هذا الحديث بصحيح. بل عدّه الحافظ الذهبيّ موضوعا. وقد ذكر الخطيب البغداديّ أنه رأى بخط الإمام أحمد بن حنبل رحمه‌الله ، كثيرا اسم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير ذكر الصلاة عليه كتابة. قال : وبلغني أنه كان يصلي عليه لفظا.

الثاني ـ الصلاة على غير الأنبياء ، إن كانت على سبيل التبعية ، كنحو : اللهم صل على محمد وآله وأزواجه ، فهذا جائز إجماعا. وأما استقلالا فجوّزه قوم لآية (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) [الأحزاب : ٤٣] ، وآية (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ١٥٧] ، وآية (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٠٣] ، ولحديث (٢) كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال :

__________________

(١) أخرجه في : المناسك ، ٩٦ ـ باب في زيارة القبور ، حديث ٢٠٤١.

(٢) أخرجه البخاري في : الزكاة ، ٦٤ ـ باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة ، حديث ٨٠٠ ، عن عبد الله بن أبي أوفى.

١٠٨

«اللهم! صل عليهم. فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال : اللهم! صل على آل أبي أوفى». وكرهه قوم ، لكون صيغة الصلاة صارت شعارا للأنبياء إذا ذكروا. فلا يلحق بهم غيرهم. فلا يقال : قال عمر صلى الله عليه. كما لا يقال قال محمد عزوجل. وإن كان عزيزا جليلا. لكون هذا من شعار ذكر الله عزوجل. وحملوا ما ورد من ذلك في الكتاب والسنة على الدعاء لهم.

وقال ابن حجر : إن ذلك وقع من الشارع. ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما شاء وليس لغيره أن يتصرف إلا بإذنه. ولم يثبت عنه إذن في ذلك. انتهى.

وقد يقال : كفى في المرويّ المأثور المتقدم إذنا.

والاستدلال بأن ذلك من حقه فيه مصادرة على المطلوب. على أن المرجح أن الأصل الإباحة حتى يرد الحظر. ولا حظر هنا. فتدبر.

وأما السلام ، فقال الجوينيّ : هو في معنى الصلاة. فلا يستعمل في الغائب. ولا يفرد به غير الأنبياء. فلا يقال : عليّ عليه‌السلام. وساء في هذا الأحياء والأموات. وأما الحاضر فيخاطب به. فيقال : سلام عليك ، وسلام عليكم. أو السلام عليك أو عليكم. وقد غلب ـ كما قال ابن كثير ـ على كثير من النساخ للكتب ، أن يفرد عليّ رضي الله عنه بأن يقال (عليه‌السلام) من دون سائر الصحابة.

قال : والتسوية بينهم في ذلك أولى. انتهى.

والخطب سهل. ومن رأى المرويّ في هذا الباب ، علم أن الأمر أوسع من أن يحرّج فيه. على أن هذه المسألة من فروع تخصيص العرف ، وفيه بحث في الأصول.

الثالث ـ قال النوويّ : إذا صلى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليجمع بين الصلاة والتسليم. فلا يقتصر على أحدهما ، فلا يقول (صلى الله عليه) فقط. ولا (عليه‌السلام) فقط.

قال ابن كثير : وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة. وهي قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فالأولى أن يقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما. انتهى.

الرابع ـ قال الرازيّ : إذا صلّى الله وملائكته عليه ، فأي حاجة إلى صلاتنا؟ نقول : الصلاة عليه ليس لحاجته إليها. وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه. وإنما هو لإظهار تعظيمه كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه ، ولا حاجة له إليه. وإنما هو لإظهار تعظيمه منا ، رحمة بنا ، ليثيبنا عليه. ولهذا جاء في الحديث (من صلى عليّ مرة ، صلى الله عليه بها عشرا). انتهى.

١٠٩

وكان سبق لي ، من أيام معدودات أن كتبت في مقدمة مجموعة الخطب في سر الصلاة عليه ، ما مثله : ويسنّ يوم الجمعة إكثار الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ليذكر الرحمة ببعثته ، والفضل بهدايته والمنة باقتفاء هديه وسنته ، والصلاح الأعظم برسالته ، والجهاد للحق بسيرته ، ومكارم الأخلاق بحكمته ، وسعادة الدارين بدعوته ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله. ما ذاق عارف سرّ شريعته. وأشرق ضياء الحق على بصيرته ، فسعد في دنياه وآخرته.

الخامس ـ قال الرازيّ : ذكر (تسليما) للتأكيد ليكمل السلام عليه. ولم يؤكد الصلاة بهذا التأكيد ، لأنها كانت مؤكدة بقوله (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) انتهى.

وقيل : إنه من الاحتباك. فحذف (عليه) من أحدهما. و (المصدر) من الآخر.

قال القاضي : قيل معنى (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي انقادوا لأوامره. فالسلام من التسليم والانقياد.

السادس ـ قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : سئلت عن إضافة الصلاة إلى الله دون السلام ، وأمر المؤمنين بها وبالسلام ، فقلت : يحتمل أن يكون السلام له معنيان : التحية والانقياد. فأمر به المؤمنون لصحتهما منهم. والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد ، فلم يضف إليهم ، دفعا للإيهام. والعلم عند الله. انتهى.

وقال الشهاب : قد لاح لي في تخصيص السلام بالمؤمنين دون الله وملائكته ، نكتة سرية. وهي أن السلام تسليمه عما يؤذيه. فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأذية إنما هي من البشر وقد صدرت منهم ، فناسب التخصيص بهم والتأكيد. انتهى.

ولما أمر تعالى بالصلاة على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي هي الثناء عليه وتمجيده وتعظيمه ، بيّن وعيد من لا يرعاها ، بأن يجرأ على ضدها بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) (٥٧)

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) أي ينالون فيه الهوان والخزي. والمقصود من الآية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وذكر الله تعالى إنما

١١٠

هو لتعظيمه ، ببيان قربه ، وكونه حبيبه ، حتى كأنّ ما يؤذيه يؤذيه. كما أن من يطيعه يطيع الله. وقد روى الطبريّ عن ابن عباس ؛ أنها نزلت في الذين طعنوا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين اتخذ صفية بنت حييّ. وهذا في الحقيقة من أفراد ما تشمله الآية. بل لو قيل إنها عني بها من خاض في مسألة زينب ، لكان أقرب ، لتقارب الآيات في الباب الواحد ، وتناسقها كسلسلة واحدة ، في تلك المسألة التي كانت المقصود الأعظم من السورة بتمامها. كما لا يخفى على من تدبرها. وبالجملة ، فاللفظ عامّ في كل ما يصاب به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أنواع المكروه. فيدخل المقصود من التنزيل دخولا أوليّا. وعلى هذا ، فالأذية على حقيقتها. وقيل المراد بأذية الله ورسوله ، ارتكاب ما لا يرضيانه ، مجازا مرسلا. لأنه سبب ، أو لازم له. وإن كان بالنسبة إلى غيره ، فإنه كان في العلاقة وذكر الله والرسول على ظاهره. ومن جوّز إطلاق اللفظ الواحد على معنيين ، كاستعمال اللفظ المشترك في معنييه ، أو في حقيقته ومجازه ، فسر الأذية بالمعنيين باعتبار المعمولين. فتكون بالنسبة إليه تعالى ، ارتكاب ما يكره مجازا ، وإلى الرسول على ظاهره. فإن تعدد المعمول بمنزلة تكرر لفظ العامل. فيجيء فيه الجمع بين المعنيين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٥٨)

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي بقول أو فعل (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أي بغير جناية يستحقون بها الأذية (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) أي ظاهرا بيّنا.

قال الزمخشريّ : أطلق إيذاء الله ورسوله ، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات ، لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق أبدا. وأما أذى المؤمنين والمؤمنات ، فمنه ومنه.

تنبيه :

في (الإكليل) : في هذه الآية تحريم أذى المسلم ، إلا بوجه شرعيّ. كالمعاقبة على ذنب. ويدخل في الآية كل ما حرم للإيذاء. كالبيع على بيع غيره ، والسوم على سومه ، والخطبة على خطبته. وقد نص الشافعيّ على تحريم أكل الإنسان مما يلي غيره ، إذا اشتمل على إيذاء.

١١١

وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عائشة مرفوعا(أربى الربا عند الله ، استحلال عرض امرئ مسلم) ثم قرأ هذه الآية. وأخرج عن قتادة في هذه الآية : إياكم وأذى المؤمن ، فإن الله يحوطه ويغضب له. وقد زعموا أن عمر بن الخطاب قرأها ذات يوم ، فأفزعه ذلك. حتى ذهب إلى أبيّ بن كعب. فدخل عليه فقال : يا أبا المنذر! إني قرأت آية من كتاب الله فوقعت مني كل موقع (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية. والله! إنى لأعاقبهم وأضربهم. فقال له : إنك لست منهم. إنما أنت مؤدّب ، إنما أنت معلّم. انتهى.

قال الزمخشريّ : وعن الفضيل : لا يحل لك أن تؤذي كلبا أو خنزيرا بغير حق ، فكيف؟

وكان ابن عون لا يكرى الحوانيت إلا من أهل الذمة ، لما فيه من الروعة عند كرّ الحول. فرحمه‌الله ورضي عنه.

ولما بيّن تعالى سوء حال المؤذين ، زجرا لهم عن الإيذاء ، أمر النبيّ عليه الصلاة والسلام بأن يأمر بعض المتأذين منهم ، بما يدفع إيذاءهم في الجملة من الستر والتميز ، عن مواقع الإيذاء ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥٩)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) جمع (جلباب) كسرداب ، وهو الرداء فوق الخمار ، تتغطى به المرأة. وهو معنى قول بعضهم : جلبابها ملاءتها تشتمل بها. وقيل هو الخمار. قالت جنوب أخت عمرو ذي الكلب ترثيه :

تمشي النسور إليه وهي لاهية

مشي العذارى ، عليهن الجلابيب

وقال آخر يصف الشيب :

حتّى اكتسى الراس قناعا أشهبا

أكره جلباب لمن تجلببا

وقال الزمخشريّ : الجلباب ثوب واسع ، أوسع من الخمار ، ودون الرداء. تلويه المرأة على رأسها ويبقى منه ما ترسله على صدرها. وعن ابن عباس رضي الله

١١٢

عنهما : الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل. ثم قال : ومعنى (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن. يقال إذا زلّ عن وجه المرأة : أدني ثوبك على وجهك. وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجّيراهن في الجاهلية متبذلات ، تبرز المرأة في درع وخمار ، لا فصل بين الحرة والأمة. وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون للإماء إذا خرجن بالليل ، إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان. وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة. يقولون حسبناها أمة. فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء ، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويهبن ، فلا يطمع فيهن طامع ، وذلك قوله (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) أي أولى وأجدر بأن يعرفن أنهن حرائر ، فلا يتعرض لهن ولا يلقين ما يكرهن. ثم قال الزمخشريّ : فإن قلت : ما معنى (من) في (من جلابيبهن) قلت : هو للتبعيض. إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين : أحدهما ـ أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب. والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار كالأمة والماهنة ، ولها جلبابان فصاعدا في بيتها. والثاني ـ أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها ، لتتقنع حتى تتميز من الأمة. انتهى.

ومن الآثار في الآية ، ما رواه الطبريّ عن ابن عباس قال : أمر الله نساء المؤمنين إذ خرجن من بيوتهن في حاجة ، أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ، وبيدين عينا واحدة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان ، من السكينة. وعليهن أكسية سود يلبسنها. وأخرج عن يونس بن يزيد أنه سأل الزهريّ : هل على الوليدة خمار ، متزوجة أو غير متزوجة؟ قال : عليها الخمار إن كانت متزوجة ، وتنهى عن الجلباب. لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات.

تنبيهات :

الأول ـ قال ابن كثير : روي عن سفيان الثوريّ أنه قال : لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة. وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة ، لا لحرمتهنّ. واستدل بقوله تعالى : (وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ). انتهى.

الثاني ـ قال السبكيّ في (طبقاته) : استنبط أحمد بن عيسى ، من فقهاء الشافعية ، من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات ، من تغيير لباسهم وعمائمهم ، أمر حسن. وإن لم يفعله السلف. لأن فيه تمييزا لهم حتى يعرفوا ، فيعمل بأقوالهم. انتهى.

١١٣

الثالث ـ قال الشهاب : قوله تعالى (يُدْنِينَ) يحتمل أن يكون مقول القول. وهو خبر بمعنى الأمر ، أو جواب الأمر ، على حدّ (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣١] ، انتهى (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) أي لما سلف منهنّ من التفريط (رَحِيماً) أي بعباده ، حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (٦١)

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) أي عن نفاقهم (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي ضعف إيمان ، عن مراودة النساء بالفجور (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) أي بأخبار السوء اللاتي يفترونها وينشرونها. كمجيء عدوّ وانهزام سريّة. وهكذا مما يكسرون به قلوب المؤمنين. وأصله التحريك. من (الرجفة) وهي الزلزلة. يسمى به الخبر المفترى ، لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت. أو لاضطراب قلوب المؤمنين به (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي لنسلطنك عليهم بما يضطرهم إلى الجلاء (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها) أي في المدينة من قوة بأسك عليهم (إِلَّا قَلِيلاً) أي زمنا قليلا ريثما يستعدون للرحلة (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا) أي مبغضين لله وللخلق. لا يستريحون بالخروج. للصوق اللعنة بهم أينما وجدوا. (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) أي أسروا وبولغ في قتلهم لذلتهم وقلتهم. ثم أشار تعالى إلى أن ذلك ليس ببدع ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٦٢)

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي في المفترين والمؤذين الذين مضوا ، إذا تمرّدوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا ، أن يسلّط عليهم أهل الإيمان فيقهرونهم. (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي لأنه لا يبدلها ، أو لا يقدر أحد أن يبدلها.

تنبيهات :

الأول ـ قال الشهاب : إما أن يراد بالمنافقين والمراض والمرجفين ، قوم مخصوصون ، ويكون العطف لتغاير الصفات مع اتحاد الذات ، على حدّ (إلى الملك

١١٤

القرم وابن الهمام) أو يراد بهم أقوام مختلفون في الذوات والصفات. فعلى الأول ، تكون الأوصاف الثلاثة للمنافقين. وهو الموافق لما عرف من وصفهم بالذين في قلوبهم مرض ، كما مرّ في البقرة. والأراجيف بالمدينة أكثرها منهم. لكنه لا يوافق ما ذيل به من الوعيد بالإجلاء والقتل. فإنه لم يقع للمنافقين. وعلى الثاني ، هم المنافقون وقوم ضعاف الدين. كأهل الفجور. والمرجفون اليهود الذين كانوا مجاورين لهم بالمدينة. وقد وقع القتال والإجلاء لمن لم ينته منهم. وهم اليهود. انتهى.

الثاني ـ ذكروا أن معنى قوله تعالى : (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) أنهم إذا خرجوا لا ينفكّون عن المذلّة ، ولا يجدون ملجأ. بل أينما يكونون ، يطلبون ويؤخذون ويقتلون. وعليه ، فالجملة خبريّة. وانظر هل من مانع أن تكون الجملة دعائيّة كقوله (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) [التوبة : ٩٨] و [الفتح : ٦] ، وقوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة : ١] ، كأنه قيل : أخذهم الله. أي أهلكهم وقتلهم أبلغ قتل وأشدّه. ولم أر أحدا تعرّض له. وقد أفاد ابن عطية ، أن كل ما كان بلفظ الدعاء من الله تعالى ، فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء. لأن الله لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته ، أي لاستحالة حقيقة الدعاء وهو الطلب من الغير.

الثالث ـ في (الإكليل) : في الآية تحريم الأذى بالإرجاف. وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّيّ في قوله : (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم قوم كانوا يجلسون على الطريق ، يكابرون المرأة مكابرة. فنزلت فيهم الآية إلى قوله : (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) قال : هذا حكم في القرآن ، ليس يعمل به ، لو أن رجلا أو أكثر من ذلك اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها ، كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم ، أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم. انتهى.

وهذا وقوف مع وجه تحتمله الآية. كما قدمنا. على أن للحاكم أن يفعل ذلك ، إذا رأى في ذلك مصلحة ودرء مفسدة. على قاعدة رعاية المصالح التي هي أم الباب. كما بسط ذلك النجم الطوفيّ في (رسالته) وأيدناه بما علقناه عليها.

الرابع ـ كتب الناصر في (الانتصاف) على قول الكشاف في قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) أي زمنا قليلا ريثما يرتحلون ويتلقطون أنفسهم وعيالاتهم ، ما مثاله : فيها إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعيّ ، يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتحصل له منزل آخر ، على حسب الاجتهاد. انتهى.

١١٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) (٦٣)

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي يسألونك عن وقت قيامها. وكان المشركون في مكة يسألونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عنها استعجالا على سبيل الهزء. وكذلك اليهود في المدينة أو غيرهم. لأن هذه السورة مدنية ، وقد أرشده تعالى أن يردّ علمها إليه لاستئثاره تعالى به. فلم يطلع عليه نبيا ولا ملكا ، وأن يبين لهم أنها قريبة الوقوع ، تهديدا للمستعجلين وإسكاتا للممتحنين.

لطيفة :

تذكير (قريبا) باعتبار موصوفه ، الخبر ، أي شيئا قريبا. أو لأن الساعة في معنى اليوم أو الوقت. أو أن (قريبا) ظرف منصوب على الظرفية ، فإن (قريبا) و (بعيدا) يكونان ظرفين. فليس صفة مشتقة ، حتى تجري عليه أحكام التذكير والتأنيث.

قال أبو السعود : والإظهار في حيز الإضمار ، للتهويل وزيادة التقرير. وتأكيد استقلال الجملة. يعني أن قوله : (وَما يُدْرِيكَ) خطاب مستقل له عليه‌السلام ، غير داخل تحت الأمر ، مسوق لبيان أنها مع كونها غير معلومة للخلق ، مرجوة المجيء عن قريب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا) (٦٦)

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ) أي أبعدهم من رحمته (وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) أي نارا شديدة الاتّقاد في الآخرة (خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) أي حافظا يتولاهم (وَلا نَصِيراً) أي يخلصهم (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي تصرف من جهة إلى جهة ، تشبيه بقطعة لحم في قدر تغلي. ترامى بها الغليان من جهة إلى جهة. أو المعنى : من حال إلى حال. فالمراد تغيير هيئاتها من سواد وتقديد وغيره.

قال الزمخشريّ : وخصت الوجوه بالذكر ، لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده ، ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة. وناصب الظرف (يقولون) أو

١١٦

(اذكر) أو (لا يجدون) أو (خالدين) أو (نصيرا) (يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) أي فكنا ننجو من هذا العذاب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (٦٩)

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) وهم رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم حتى قلدوهم فيه (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي بما زينوه لنا. قال الزمخشريّ : وزيادة الألف لإطلاق الصوت جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر ، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع ، وأن ما بعده مستأنف (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أي مثلي العذاب الذي آتيتناه ، لأنهم ضلوا وأضلوا (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) أي لعنا هو أشد اللعن وأعظمه. وقرئ (كثيرا) تكثيرا لأعداد اللعائن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) لما بين تعالى وعيد من يؤذي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من استحقاقه اللعنة في الدارين ، تعريضا بمن صدر منهم شيء من الأذى في قصة زيد وزينب ، التي سيقت السورة لأجلها ، ختمها أيضا بالوصية بالتباعد عن التشبه بقوم صدر منهم إيذاء لموسى عليه‌السلام ، بتنقصه تارة ، وقلة الأدب معه طورا ، ونسبته إلى ما ينافي الرسالة آونة. كما يمر كثير من ذلك بقارئي توراتهم. مما ينبئ عن عدم إيفائهم رسالته ونبوته حقها ، من التعظيم له والصلاة عليه والتسليم لأمره وقضيته. فكانت النتيجة أن غضب الله عليهم ورماهم بأفانين العقوبات ، ولحقتهم المخازي ، وبرأ رسوله موسى عليه‌السلام من إفكهم ، ونزه مقامه عن تنقيصهم ، بأن حقق فضله ، وأسمى منزلته ، وآتاه الوجاهة ـ وهي العظمة والقرب ـ عنده. وهكذا حقت كلمة اللعنة والخزي على مؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولحقهم الدمار ، وشرح لنبيه صدره ، ورفع له ذكره ، وأعلى منزلته ، وفخم وجاهته ، ما تعاقبت الأدوار. ويقرب من هذه الآية ، في المعنى والإشارة ، قوله تعالى (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ ، فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ، وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [الصف : ٥] ، وفيهما كلتيهما تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتأسّيه بأخيه موسى صلوات الله وسلامه عليهما. وكثيرا ما كان

١١٧

يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جواب جفاة الأعراب حين ما يبلغه أو يسمع ما يكره : رحمة الله على موسى. لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر.

وقد روى المفسرون هاهنا آثارا. أحسنها ما أخرجه البزار عن أنس مرفوعا : كان موسى رجلا حييّا. وأنه أتى الماء ليغتسل. فوضع ثيابه على صخرة. وكان لا يكاد تبدو عورته. فقال بنو إسرائيل إن موسى آدر أو به آفة. يعنون أنه لا يضع ثيابه. فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء بني إسرائيل. فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال. أو كما قال. فذلك قوله (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) ورواه (١) البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرة أيضا.

قال الرازيّ وحديث إيذاء موسى مختلف فيه ـ أي لكثرة الروايات فيه ـ مع أن الإيذاء المذكور في القرآن كاف كقولهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) [المائدة : ٢٤] ، وقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] ، وقولهم : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] ، إلى غير ذلك. فقال للمؤمنين : لا تكونوا أمثالهم. انتهى.

وقال ابن كثير : يحتمل أن يكون كل ما روي مرادا. وأن يكون معه غيره. انتهى. أي لعموم المعمول المحذوف. وما بيناه أولا ، هو الأقرب. والله أعلم.

تنبيهات :

الأول ـ (الوجيه) لغة بمعنى السيد ، كالوجه. يقال : هؤلاء وجوه البلد ووجهاؤه. أي أشرافه. وبمعنى ذي الجاه ـ والجاه القدر والمنزلة. مقلوب عن (وجه) فلما أخرت (الواو) إلى موضع (العين) وصارت جوها ، قلبت (الواو) ألفا. فصارت (جاها). كذا في القاموس وشرحه.

الثاني ـ قال الزمخشريّ : (وجيها) أي ذا جاه ومنزلة عنده. فلذلك كان يميط عنه التهم ويدفع الأذى ويحافظ عليه لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة. كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة. وقال ابن جرير : أي كان موسى عند الله مشفّعا فيما يسأل ، ذا وجه ومنزلة عنده ، بطاعته إياه. أي مقبولا ومجابا فيما يطلب لقومه من الله تعالى ، عناية منه تعالى وتفضيلا.

الثالث ـ اتخذ العامة ، وكثير من المتعالمين ، وصف الوجاهة للأنبياء ، ذريعة

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الغسل ، ٣٠ ـ باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة ، حديث رقم ٢٠١.

١١٨

المطلب والرغبة منهم ، مما لا ينطبق على عقل ولا نقل ، ولا يصدق على المعنى اللغويّ بوجه ما ، وقد كتب في ذلك الإمام الشيخ محمد عبده فتيا ، أبان وجه الصواب فيما تشابه من هذه المسألة. وذلك أنه سئل ، رحمه‌الله ، عمن يتوسل بالأنبياء ، والأولياء ، معتقدا أن النبيّ أو الوليّ يستميل إرادة الله تعالى عما هي عليه ، كما هو المعروف للناس من معنى الشفاعة والجاه عند الحكام. وأن التوسل بهم إلى الله تعالى كالتوسل بأكابر الناس إلى الحكام.

فقال امرؤ : إن هذا مخلّ بالعقيدة وإن قياس التوسل إلى الله تعالى على التوسل بالحكام محال. وإن عقيدة التوحيد أن لا فاعل ولا نافع ولا ضار إلّا الله تعالى. وإنه لا يدعى معه أحد سواه. كما قال تعالى : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجن : ١٨] ، وإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان أعظم منزلة عند الله تعالى من جميع البشر ، وأعظم الناس جاها ومحبة ، وأقربهم إليه ، ليس له من الأمر شيء ، ولا يملك للناس ضرّا ولا نفعا ولا رشدا ولا غيره. كما في نص القرآن. وإنما هو مبلّغ عن الله تعالى. ولا يتوسل إليه تعالى إلا بالعمل بما جاء على لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتباع ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون من هديه وسنته. وإنه لا سبب لجلب المنافع ودفع المضارّ إلا ما هدى الله الناس إليه. ولا معنى للتوسل بنبيّ أو وليّ إلا باتباعه والاقتداء به. يرشدنا إلى هذا كثير من الآيات الواردة في القرآن العظيم ، كقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١] ، (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣] ، إلى غير ذلك من الآيات. هذا هو اعتقادي وهو الذي قلته للناس. فإن كنتم ترون فيه خطأ فأرجو بيانه. وإن كان هو الصواب فأرجو إقراري عليه كتابة ، لأدافع بذلك من أساء بي الظن.

فأجاب رحمه‌الله ، بعد البسملة والحوقلة : اعتقادك هذا هو الاعتقاد الصحيح. ولا يشوبه شوب من الخطأ. وهو ما يجب على كل مسلم يؤمن بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعتقده. فإن الأساس الذي بنيت عليه رسالة النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو هذا المعنى من التوحيد. كما قال الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص : ١ ـ ٢] ، و (الصَّمَدُ) هو الذي يقصد في الحاجات ، ويتوجه إليه المربوبون في معونتهم على ما يطلبون ، وإمدادهم بالقوة فيما تضعف عنه قواهم. والإتيان بالخبر على هذه الصورة يفيد الحصر. كما هو معروف عند أهل اللغة. فلا صمد إلا هو. وقد أرشدنا إلى وجوب القصد إليه وحده بأصرح عبارة في قوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦] ، وقد قال الشيخ محي

١١٩

الدين بن العربيّ ، شيخ الصوفية ، في صفحة ٢٢٦ من الجزء الرابع من (فتوحاته) عند الكلام على هذه الآية : إن الله تعالى لم يترك لعبده حجة عليه. بل لله الحجة البالغة. فلا يتوسل إليه بغيره. فإن التوسل إنما هو طلب القرب منه. وقد أخبرنا الله أنه قريب. وخبره صدق. انتهى ملخصا.

على أن الذين يزعمون جواز شيء مما عليه العامة اليوم في هذا الشأن ، إنما يتكلمون فيه بالمبهمات ، ويسلكون طرقا من التأويل لا تنطبق على ما في نفوس الناس. ويفسرون الجاه والواسطة بما لا أثر له في مخيلات المعتقدين. فأيّ حالة تدعوهم إلى ذلك؟ وبين أيديهم القرون الثلاثة الأولى ، ولم يكن فيها شيء من هذا التوسل ولا ما يشبهه بوجه من الوجوه ، وكتب السنة والسير بين أيدينا شاهدة بذلك ، فكل ما حدث بعد ذلك فأقل أوصافه أنه (بدعة) في الدين وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار. وأسوأ البدع ما كان فيه شبهة الإشراك بالله تعالى وسوء الظن به. كهذه البدع التي نحن بصدد الكلام فيها ، وكأن هؤلاء الزاعمين يظنون أن في ذلك تعظيما لقدر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو الأنبياء أو الأولياء. مع أن أفضل التعظيم للأنبياء هو الوقوف عند ما جاءوا به ، واتقاء الزيادة عليهم فيما شرعوه بإذن ربهم. وتعظيم الأولياء يكون باختيار ما اختاروه لأنفسهم. وظنّ هؤلاء الزاعمين أن الأنبياء والأولياء يفرحون بإطرائهم وتنظيم المدائح وعزوها إليهم ، وتفخيم الألفاظ عند ذكرهم ، واختراع شؤون لهم مع الله ، لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا رضيها السلف الصالح. هذا الظن بالأنبياء والأولياء هو أسوأ الظن. لأنهم شبهوهم في ذلك بالجبارين من أهل الدنيا ، الذين غشيت أبصارهم ظلمات الجهل قبل لقاء الموت ، وليس يخطر بالبال أن جبارا لقي الموت وانكشف له الغطاء عن أمر ربه فيه ، يرضى أن يفخمه الناس بما لم يشرعه الله. فكيف بالأنبياء والصديقين؟ إن لفظ (الجاه) الذي يضيفونه إلى الأنبياء والأولياء عند التوسل ، مفهومه العرفيّ هو السلطة. وإن شئت قلت نفاذ الكلمة عند من يستعمل عليه أو لديه ، فيقال فلان اغتصب مال فلان بجاهه ، ويقال فلان خلص فلانا من عقوبة الذنب بجاهه ، لدى الأمير أو الوزير مثلا. فزعم زاعم أن لفلان جاها عند الله بهذا المعنى ، إشراك جليّ لا خفيّ. وقلما يخطر ببال أحد من المتوسلين معنى اللفظ اللغويّ ، وهو المنزلة والقدر. على أنه لا معنى للتوسل بالقدر والمنزلة نفسها. لأنها ليست شيئا ينفع. وإنما يكون لذلك معنى ، لو أوّلت بصفة من صفات الله ، كالاجتباء والاصطفاء ، ولا علاقة لها بالدعاء ولا يمكن لمتوسل أن يقصدها في دعائه. وإن كان (الآلوسيّ) بنى تجويز التوسل بجاه النبيّ خاصة على

١٢٠