تفسير القاسمي - ج ١

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ١

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

إلى كثير من البيان. فإن السنة ، على كثرتها وكثرة مسائلها ، إنما هي بيان للكتاب. كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى. وقد قال الله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤]. وفي الحديث : «ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ. فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (١).

وإنما الذي أعطي القرآن ، وأما السنة فبيان له. وإذا كان كذلك فالقرآن على اختصاره جامع. ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كليات. لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] الآية. وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها في القرآن. وإنما بينتها السنة. وكذلك العاديات من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها. وأيضا فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال ، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات ومكمل كل واحد منها. وهذا كله ظاهر أيضا. فالخارج من الأدلة عن الكتاب هو السنة والإجماع والقياس. وجميع ذلك إنما نشأ عن القرآن.

وقد عد الناس قوله تعالى : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [النساء : ١٠٥] ، متضمنا للقياس.

وقوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) [الحشر : ٧] ، متضمنا للسنة.

وقوله : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١١٥] ، متضمنا للإجماع.

وهذا أهم ما يكون. وفي الصحيح عن ابن مسعود قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات (٢) إلخ ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل القرآن ، باب كيف نزول الوحي ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) أخرجه البخاري في التفسير ، سورة الحشر ، باب وما آتاكم الرسول فخذوه : عن عبد الله قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد. يقال لها أم يعقوب. فجاءت فقالت : إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن هو في كتاب الله؟ فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه. أما قرأت : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)؟ قالت : بلى. قال : فإنه قد نهى عنه. قالت : فإني أرى أهلك يفعلونه. قال : فاذهبي فانظري. فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئا. فقال : لو كانت كذلك ما جامعتنا.

٨١

القرآن فأتته فقالت : ما حديث بلغني عنك ، أنك لعنت كذا وكذا؟ فذكرته. فقال عبد الله : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه. قال الله عزوجل : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الحديث. وعبد الله من العالمين بالقرآن.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

فعلى هذا لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه ، وهو السنة ، لأنه إذا كان كليا وفيه أمور جلية ، كما في شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها ، فلا محيص عن النظر في بيانه. وبعد ذلك ينظر في تفسير السلف الصالح له ، إن أعوزته السنة ، فإنهم أعرف به من غيرهم ، وإلا فمطلق الفهم العربيّ لمن حصله يكفي فيها أعوز من ذلك. والله أعلم.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيب المتقدم. فالعالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة لا يعوزه منها شيء. والدليل على ذلك أمور : منها النصوص القرآنية في قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] الآية. وقوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٣٨]. وقوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨]. وقوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩] يعني الطريقة المستقيمة. ولو لم يكمل فيه جميع معانيها لما صح إطلاق هذا المعنى عليه حقيقة. وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما في الصدور. ولا يكون شفاء لجميع ما في الصدور إلا وفيه تبيان كل شيء. ومنها ما جاء في الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك كقوله عليه‌السلام (١) : إن هذا القرآن حبل الله وهو النور المبين ، والشفاء النافع ، عصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن تبعه ، لا

__________________

(١) أخرجه الدارمي في سننه ، في فضائل القرآن ، باب فضل من قرأ القرآن ، عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم. إن هذا القرآن حبل الله ، والنور المبين والشفاء النافع. عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه. لا يزيغ فيستعتب ولا يعوج فيقوّم. ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد. فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات. أما إني لا أقول : ألم ، ولكن ألف ولام وميم.

٨٢

يعوج فيقوم ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرد إلخ ، فكونه حبل الله بإطلاق ، والشفاء النافع ، إلى تمامه ، دليل على كمال الأمر فيه ، ونحو هذا في حديث عليّ عن النبيّ عليه‌السلام (١).

وعن ابن مسعود ، أن كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه. وأن أدب الله القرآن. وسئلت عائشة (٢) عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، وصدق ذلك قوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤]. وعن قتادة : ما جالس القرآن أحد إلا فارقه بزيادة أو نقصان. ثم قرأ : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢]. وعن محمد بن كعب القرظيّ في قول الله تعالى : (إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) [آل عمران : ١٩٣]. قال : هو القرآن. ليس كلهم رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي الحديث (٣) : يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله. وما ذاك إلا أنه أعلم بأحكام الله. فالعالم بالقرآن عالم بجملة الشريعة. وعن عائشة أن من قرأ القرآن فليس فوقه أحد. وعن عبد الله قال : إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين. وعن عبد الله بن عمر قال : من جمع القرآن فقد حمل أمرا عظيما ، وقد أدرجت النبوة بين جنبيه ، إلا أنه لا يوحى إليه. وفي رواية عنه : من قرأ القرآن فقد اضطربت النبوة بين جنبيه. وما ذاك إلا أنه جامع لمعاني النبوة. وأشباه هذا مما يدل على هذا المعنى. ومنها التجربة وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا. وأقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظواهر

__________________

(١) أخرجه الدارمي في سننه ، في فضائل القرآن ، باب فضل من قرأ القرآن ، ونصه : عن الحارث قال : دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث. فدخلت على علي فقلت : ألا ترى أن ناسا يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال : قد فعلوها؟ قلت : نعم. قال : أما أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ستكون فتن». قلت : وما المخرج منها؟ قال : «كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل. هو الذي من تركه من جبّار قصمه الله. ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. فهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم. وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء. ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه. وهو الذي لم ينته الجن إذ سمعته أن قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً). هو الذي من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم.

(٢) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها. حديث رقم ١٣٩ ، عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فإن خلق نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان القرآن.

(٣) أخرجه البخاري في الأذان ، باب إمامة العبد والمولى ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله.

٨٣

الذين ينكرون القياس. ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل. وقال ابن حزم الظاهريّ : كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة ، نعلمه والحمد لله. حاشى القراض فما وجدنا له أصلا فيهما البتة. إلى آخر ما قال.

وأنت تعلم أن القراض نوع من أنواع الإجارة. وأصل الإجارة في القرآن ثابت. وبيّن ذلك إقراره عليه‌السلام وعمل الصحابة به.

ولقائل أن يقول : إن هذا غير صحيح. لما ثبت في الشريعة من المسائل والقواعد غير الموجودة في القرآن ، وإنما وجدت في السنة. ويصدق ذلك ما في الصحيح من قوله عليه‌السلام (١) : لا ألفينّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري ، مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري. ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه. وهذا ذم ومعناه اعتماد السنة أيضا. ويصححه قول الله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [النساء : ٥٩] الآية. قال ميمون بن مهران : الرد إلى الله ، إلى كتابه. والرد إلى الرسول ، إذا كان حيا ، فلما قبضه الله ، فالرد إلى سنته. ومثله (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) [الأحزاب : ٣٦] الآية.

يقال إن السنة يؤخذ بها على أنها بيان لكتاب الله لقوله : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] وهو جمع بين الأدلة.

لأنا نقول : إن كانت السنة بيانا للكتاب ، ففي أحد قسميها. فالقسم الآخر زيادة على حكم الكتاب ، كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو على خالتها. وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع. وقيل (٢) لعليّ بن أبي طالب : هل عندكم كتاب؟ قال : لا. إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. قال قلت : وما في هذه الصحيفة؟ قال : العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر. وهذا ، وإن كان فيه دليل على أنه لا شيء عندهم إلا كتاب الله ، ففيه دليل على أن عندهم ما ليس في كتاب الله. وهو خلاف ما أصلت.

والجواب عن ذلك مذكور في الدليل الثاني وهو السنة بحول الله.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في سننه : في كتاب السنّة ، باب في لزوم السنة. حديث رقم ٤٦٠٥.

(٢) أخرجه البخاري في العلم ، باب كتابة العلم.

٨٤

ومن نوادر الاستدلال القرآنيّ ما نقل عن عليّ أنه قال : الحمل ستة أشهر. انتزاعا من قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] مع قوله : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) [لقمان : ١٤] واستنباط مالك بن أنس أن من سب الصحابة فلا حظّ له في الفيء من قوله : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) [الحشر : ١٠] الآية. وقول من قال : الولد لا يملك. من قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦]. وقول ابن العربيّ : إن الإنسان قبل أن يكون علقة لا يسمى إنسانا. من قوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) [العلق : ٢]. واستدلال منذر بن سعيد على أن العربيّ غير مطبوع على العربية بقوله : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [النحل : ٧٨] وأغرب ذلك استدلال ابن الفخار القرطبيّ على أن الإيماء بالرؤوس إلى جانب عند الإباية ، والإيماء بها سفلا عند الإجابة ، أولى مما يفعله المشارقة من خلاف ذلك ، بقوله تعالى : (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) [المنافقون : ٥] الآية.

وكان أبو بكر الشبليّ الصوفي إذا لبس شيئا خرق فيه موضعا. فقال له ابن مجاهد : أين في العلم إفساد ما ينتفع به؟ فقال : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) [ص : ٣٣].

ثم قال الشبليّ : أين في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فسكت ابن مجاهد وقال له : قل. قال : قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] الآية. واستدل بعضهم على منع سماع المرأة بقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) [الأعراف : ١٤٣] الآية. وفي بعض هذه الاستدلالات نظر.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

وعلى هذا لا بد في كل مسألة ، يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه ، أن يلتفت إلى أصلها في القرآن. فإن وجدت منصوصا على عينها أو ذكر نوعها أو جنسها فذاك. وإلا فمراتب النظر فيها متعددة. وقد تقدم أن كل دليل شرعيّ فإما مقطوع به أو راجع إلى مقطوع به. وأعلى مراجع المقطوع به القرآن الكريم. فهو أول مرجوع إليه. أما إذا لم يرد في المسألة إلا العمل خاصة فيكفي الرجوع فيها إلى السنة

٨٥

المنقولة بالآحاد. كما يكفي الرجوع فيها إلى قول المجتهد. وهو أضعف. وإنما يرجع فيها إلى أصلها في الكتاب لافتقاره إلى ذلك في جعلها أصلا يرجع إليه ، أو دينا يدان الله به ، فلا يكتفي بمجرد تلقيها من أخبار الآحاد كما تقدم.

فصل

في أقسام العلوم المضافة إلى القرآن

قال الشاطبيّ : العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام :

قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه ، كعلوم اللغة العربية التي لا بد منها وعلم القراآت والناسخ والمنسوخ وقواعد أصول الفقه وما أشبه ذلك. فهذا لا نظر فيه هنا. ولكن قد يدعي فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة. فإن علم العربية أو علم الناسخ والمنسوخ وعلم الأسباب وعلم المكّي والمدنيّ وعلم القراآت وعلم أصول الفقه معلوم عند جميع العلماء أنها معينة على فهم القرآن. وأما غير ذلك فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضا. ولا يكون كذلك. كما تقدم في حكاية الرازيّ في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فهم قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [ق : ٦]. وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه ب (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) أن علوم الفلسفة مطلوبة. إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها.

ولو قال قائل : إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة. وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم. هل كانوا آخذين فيها أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع القطع. بتحققهم بفهم القرآن. يشهد لهم بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجم الغفير. فلينظر امرؤ أين يضع قدمه.

وثمّ أنواع أخر يعرفها من زاول هذه الأمور ولا ينبئك مثل خبير. فأبو حامد ممن فتل هذه الأمور خبرة وصرح فيها بالبيان الشافي في مواضع من كتبه.

وقسم هو مأخوذ من جملته ، من حيث هو كلام ، لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما ، بل من جهة ما هو هو. وذلك ما فيه من دلالة النبوة. وهو كونه معجزة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن هذا المعنى ليس مأخوذا من تفاصيل القرآن كما تؤخذ

٨٦

منه الأحكام الشرعية. إذ لم تنص آياته وسوره على ذلك مثل نصها على الأحكام بالأمر والنهي وغيرهما. وإنما فيه التنبيه على التعجيز أن يأتوا بسورة مثله. وذلك لا يختص به شيء من القرآن دون شيء ، ولا سورة دون سورة ، ولا نمط منه دون آخر. بل ماهيته هي المعجزة له حسبما نبه عليه قوله عليه‌السلام : «ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر. وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ. فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» فهو بهيأته التي أنزله الله عليها دال على صدق الرسول عليه‌السلام. وفيها عجز الفصحاء اللسن والخصماء اللّدّ عن الإتيان بما يماثله أو يدانيه. ووجه كونه معجزا لا يحتاج إلى تقريره في هذا الموضع. لأنه كيما تصور الإعجاز به ، فماهيته هي الدالة على ذلك. فإلى أي نحو منه ملت دلّك على صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فهذا القسم أيضا لا نظر فيه هنا وموضعه كتب الكلام.

وقسم هو مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله وخطاب الخلق به ومعاملته لهم بالرفق والحسنى ، من جعله عربيا يدخل تحت نيل أفهامهم مع أنه المنزه القديم. وكونه تنزل لهم بالتقريب والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به قبل النظر إلى ما حواه من المعارف والخيرات. وهذا نظر خارج عما تضمنه القرآن من العلوم. وينبني صحة الأصل المذكور في كتاب الاجتهاد. وهو أصل التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله. ويشتمل على أنواع من القواعد الأصلية والفوائد الفرعية والمحاسن الأدبية. فلنذكر منها أمثلة يستعان بها في فهم المراد. فمن ذلك عدم المؤاخذة قبل الإنذار. ودلّ على ذلك إخباره تعالى عن نفسه بقوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] فجرت عادته في خلقه أن لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل. فإذا قامت الحجة عليهم. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ولكل جزاء مثله ، ومنها الإبلاغ في إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق. فإنه تعالى أنزل القرآن برهانا في نفسه على صحة ما فيه. وزاد على يدي رسوله عليه‌السلام من المعجزات ما فيه بعض الكفاية.

ومنها ترك الأخذ من أول مرة بالذنب ، والحلم عن تعجيل المعاندين بالعذاب ، مع تماديهم على الإباية والجحود ، بعد وضوح البرهان ، وإن استعجلوا به.

ومنها تحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التي يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحي من ذكره في عادتنا. كقوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء : ٤٣]. (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ) [التحريم : ١٢]. وقوله :

٨٧

(كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة : ٧٥] حتى إذا وضح السبيل في مقطع الحق ، وحضر وقت التصريح بما ينبغي التصريح به ، فلا بد منه. وإليه الإشارة بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) [البقرة : ٢٦] (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) [الأحزاب : ٥٣].

ومنها التأني في الأمور والجري على مجرى التثبت والأخذ بالاحتياط ، وهو المعهود في حقنا فلقد أنزل القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما في عشرين سنة ، حتى قال الكفار : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢]. فقال الله : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ). وقال : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) [الإسراء : ١٠٦]. وفي هذه المدة كان الإنذار يترادف والصراط يستوي بالنسبة إلى كل وجهة وإلى كل محتاج إليه.

وحين أبى من أبى من الدخول في الإسلام بعد عشر سنين أو أكثر ، بدءوا بالتغليظ بالدعاء. فشرع الجهاد لكن على تدريج أيضا. حكمة بالغة وترتيبا يقتضيه العدل والإحسان. حتى إذا كمل الدين ودخل الناس فيه أفواجا ولم يبق لقائل ما يقول ، قبض الله نبيه إليه ، وقد بانت الحجة ووضحت الحجة واشتد أسّ الدين وقوي عضده بأنصار الله. فلله الحمد كثيرا على ذلك.

ومنها كيفية تأدب العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالتضرع والدعاء. فقد بيّن مساق القرآن آدابا استقرئت منه. وإن لم ينص عليها بالعبارة ، فقد أغنت إشارة التقرير عن التصريح بالتعبير. فأنت ترى أن نداء الله للعباد لم يأت في القرآن ، في الغالب ، إلا بـ (يا) ، المشيرة إلى بعد المنادى. لأن صاحب النداء منزه عن مداناة العباد ، موصوف بالتعالي عنهم والاستغناء. فإذا قرر نداء العباد للرب أتى بأمور تستدعي قرب الإجابة. منها إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى وأنه حاضر مع المنادي غير غافل عنه ، فدل على استشعار الراغب هذا المعنى إذ لم يأت في الغالب إلا : ربنا ربنا كقوله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) [البقرة : ٢٨٦] (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة : ١٢٧] ، (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي) [آل عمران : ٣٥] ، (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠].

ومنها : كثرة مجيء النداء باسم الرب المقتضى للقيام بأمور العباد وإصلاحها. فكان العبد متعلقا بمن شأنه التربية والرفق والإحسان قائلا : يا من هو المصلح لشئوننا على الإطلاق أتمّ لنا ذلك بكذا. وهو مقتضى ما يدعو به. وإنما أتى

٨٨

(اللهم) في مواضع قليلة ، ولمعان اقتضتها الأحوال.

ومنها : تقديم الوسيلة بين يدي الطلب كقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُاهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٥ ـ ٦] الآية (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) [آل عمران : ١٦] (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) [آل عمران : ٥٣] (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ) [آل عمران : ١٩١] ، (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) [يونس : ٨٨] الآية. (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ) إلى قوله : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) [نوح : ٢١] ، (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة : ١٢٧] إلى غير ذلك من الآداب التي تؤخذ من مجرد التقرير.

والحاصل أن القرآن احتوى ، من هذا النوع ، من الفوائد والمحاسن التي تقتضيها القواعد الشرعية ، على كثير يشهد بها شاهد الاعتبار ، ويصححها نصوص الآيات والأخبار.

وقسم هو المقصود الأول بالذكر ، وهو الذي نبه عليه العلماء وعرفوه مأخوذا من نصوص الكتاب ، منطوقها ومفهومها ، على حسب ما أداه اللسان العربيّ فيه. وذلك أنه محتو من العلوم على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول.

أحدها ـ معرفة المتوجّه إليه وهو الله المعبود ، سبحانه.

والثاني ـ معرفة كيفية التوجه إليه.

والثالث ـ معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه.

وهذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود الذي عبر عنه قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] فالعبادة هي المطلوب الأول. غير أنه لا يمكن إلا بمعرفة المعبود. إذ المجهول لا يتوجّه إليه ولا يقصد بعبادة ولا بغيرها. فإذا عرف ، ومن جملة المعرفة به أنه آمر وناه وطالب للعباد بقيامهم بحقه ، توجه الطلب. إلا أنه لا يتأتى دون معرفة كيفية التعبد ، فجيء بالجنس الثاني. ولما كانت النفوس من شأنها طلب النتائج والمآلات ، وكان مآل الأعمال عائدا على العاملين بحسب ما كان منهم من طاعة أو معصية ، وانجرّ ، مع ذلك ، التبشير والإنذار في ذكرها ـ أتى بالجنس الثالث موضحا لهذا الطرف ، وأن الدنيا ليست بدار إقامة ، وإنما الإقامة في الدار الآخرة.

فالأول ـ يدخل تحته علم الذات والصفات والأفعال. ويتعلق بالنظر في

٨٩

الصفات أو في الأفعال ، النظر في النبوءات لأنها الوسائط بين المعبود والعباد ، وفي كل أصل ثبت للدين علميا كان أو عمليا. ويتكمل بتقرير البراهين والمحاجة لمن جادل من خصماء المبطلين.

والثاني ـ يشتمل على التعريف بأنواع التعبدات من العبادات والعادات والمعاملات وما يتبع كل واحد منها من المكملات. وهي أنواع فروض الكفايات. وجامعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنظر فيمن يقوم به.

والثالث ـ يدخل في ضمنه النظر في ثلاثة مواطن : الموت وما يليه ، ويوم القيامة وما يحويه ، والمنزل الذي يستقر فيه. ومكمل هذا الجنس الترغيب والترهيب. ومنه الإخبار عن الناجين والهالكين وأحوالهم وما أداهم إليه حاصل أعمالهم. وإذا تقرر هذا تلخص من مجموع العلوم الحاصلة في القرآن اثنا عشر علما. وقد حصرها الغزاليّ في ستة أقسام : ثلاثة منها هي السوابق والأصول المهمة. وثلاثة هي توابع ومتممة.

فأما الثلاثة ـ فهي تعريف المدعوّ إليه ، وهو شرح معرفة الله تعالى ، ويشتمل على معرفة الذات والصفات والأفعال وتعريف طريق السلوك إلى الله تعالى على الصراط المستقيم ، وذلك بالتحلية بالأخلاق الحميدة والتزكية عن الأخلاق الذميمة وتعريف الحال عند الوصول إليه. ويشتمل على ذكر حالي النعم (النعيم) والعذاب ، وما يتقدم ذلك من أحوال القيامة.

وأما الثلاثة الأخر ـ فهي تعريف أحوال المجيبين للدعوة. وذلك قصص الأنبياء والأولياء. وسرّه الترغيب. وأحوال الناكبين. وذلك قصص أعداء الله. وسرّه الترهيب. والتعريف بمحاجة الكفار بعد حكاية أقوالهم الزائفة. وتشتمل على ذكر الله بما ينزه عنه ، وذكر النبيّ عليه‌السلام بما لا يليق به. وادّكار عاقبة الطاعة والمعصية. وسرّه في جنبة الباطل التحذير والإفضاح ، وفي جنبة الحق التثبيت والإيضاح. والتعريف بعمارة منازل الطريق وكيفية أخذ الأهبة والزاد. ومعناه محصول ما ذكره الفقهاء في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات.

وهذه الأقسام الستة تتشعب إلى عشرة ، وهي : ذكر الذات ، والصفات ، والأفعال ، والمعاد ، والصراط المستقيم ، وهو جانب التحلية والتزكية ، وأحوال الأنبياء ، والأولياء ، والأعداء ، ومحاجة الكفار ، وحدود الأحكام.

٩٠

فصل

«في أن المدنيّ من السور منزل في الفهم على المكيّ»

قال الشاطبيّ : المدنيّ من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على المكيّ ، وكذلك المكيّ بعضه مع بعض. والمدنيّ بعضه مع بعض. على حسب ترتيبه في التنزيل. وإلا لم يصح. والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدنيّ ، في الغالب ، مبنيّ على المكيّ. كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبنيّ على متقدمه ، دل على ذلك الاستقراء ، وذلك إنما يكون ببيان مجمل ، أو تخصيص عموم ، أو تقييد مطلق ، أو تفصيل ما لم يفصل ، أو تكميل ما لم يظهر تكميله. وأول شاهد على هذا أصل الشريعة : فإنها جاءت متممة لمكارم الأخلاق ومصلحة لما أفسد قبل من ملة إبراهيم عليه‌السلام. ويليه تنزيل سورة الأنعام. فإنها نزلت مبينة لقواعد العقائد وأصول الدين. وقد خرّج العلماء منها قواعد التوحيد التي صنف فيها المتكلمون من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة. هذا ما قالوا. وإذا نظرت بالنظر المسوق في هذا الكتاب تبين به ، من قرب ، بيان القواعد الشرعية الكلية التي إذا انخرم منها كلي واحد انخرم نظام الشريعة ، أو نقص منها أصل كلّي.

ثم لما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة كان من أول ما نزل عليه سورة البقرة ، وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام. فإنها بينت من أقسام أفعال المكلفين جملتها ، وإن تبيّن في غيرها تفاصيل لها. كالعبادات التي هي قواعد الإسلام. والعادات من أصل المأكول والمشروب وغيرهما. والمعاملات من البيوع والأنكحة وما دار بها. والجنايات من أحكام الدماء وما يليها. وأيضا ، فإن حفظ الدين فيها وحفظ النفس والعقل والنسل والمال مضمن فيها. وما خرج عن المقرر فيها فبحكم التكميل. فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبنيّ عليها ، كما كان غير الأنعام ، من المكيّ المتأخر عنها ، مبنيا عليها. وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب وجدتها كذلك حذو القذة بالقذة. فلا يغيبنّ على الناظر في الكتاب هذا المعنى فإنه من أسرار علوم التفسير. وعلى حسب المعرفة به تحصل له المعرفة بكلام ربه سبحانه.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

وللسنة هنا مدخل لأنها مبينة للكتاب. فلا تقع في التفسير إلا على وفقه.

٩١

وبحسب المعرفة بالتقديم والتأخير يحصل بيان الناسخ من المنسوخ في الحديث. كما يتبين ذلك في القرآن أيضا. ويقع في الأحاديث أشياء تقررت قبل تقرير كثير من المشروعات. فيأتي فيها إطلاقات أو عمومات ربما أو همت ففهم منها ما يفهم منها لو وردت بعد تقرير تلك المشروعات. كحديث (١) «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة». أو حديث (٢) «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، صدقا من قلبه ، إلا حرمه الله على النار». وفي المعنى أحاديث كثيرة وقع من أجلها الخلاف بين الأئمة فيمن عصى الله من أهل الشهادتين. فذهبت المرجئة إلى القول بمقتضى هذه الظواهر على الإطلاق. وكأن ما عارضها مؤول عند هؤلاء. وذهب أهل السنة والجماعة إلى خلاف ما قالوه حسبما هو مذكور في كتبهم. وتأولوا هذه الظواهر. ومن جملة ذلك أن طائفة من السلف قالوا : إن هذه الأحاديث منزلة على الحالة الأولى للمسلمين. وذلك قبل أن تنزل الفرائض والأمر والنهي. ومعلوم أن من مات في ذلك الوقت ولم يصلّ أو لم يصم ، مثلا ، وفعل ما هو محرم في الشرع ـ لا حرج عليه. لأنه لم يكلف بشيء من ذلك بعد. فلم يضيع من أمر إسلامه شيئا. كما أن من مات والخمر في جوفه قبل أن تحرم فلا حرج عليه ، لقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) [المائدة : ٩٣] الآية. وكذلك من مات قبل أن تحوّل القبلة نحو الكعبة ، لا حرج عليه في صلاته إلى بيت المقدس. لقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] إلى أشياء من هذا القبيل فيها بيان لما نحن فيه ، وتصريح بأن اعتبار الترتيب في النزول مفيد في فهم الكتاب والسنة.

فصل

في الاعتدال في التفسير

قال الشاطبيّ : ربما أخذ تفسير القرآن على التوسط والاعتدال. وعليه أكثر السلف المتقدمين. بل ذلك شأنهم وبه كانوا أفقه الناس فيه ، وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه. وربما أخذ على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال ، إما على

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان ، حديث رقم ٤٣ عن عثمان.

(٢) أخرجه البخاري في العلم ، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا ، عن أنس بن مالك.

٩٢

الإفراط وإما على التفريط ، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم ، فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم اللسان الذي به جاء وهو العربية ، فما قاموا في تفهم معانيه ، ولا قعدوا. كما تقدم عن الباطنية وغيرها. ولا إشكال في اطّراح التعويل على هؤلاء. والذين أخذوه على الإفراط أيضا قصروا في فهم معانيه من جهة أخرى. وقد تقدم في كتاب المقاصد بيان أن الشريعة أمية. وأن ما لم يكن معهودا عند العرب فلا يعتبر فيها. ومرّ فيه أنها لا تقصد التدقيقات في كلامها. ولا تعتبر ألفاظها كل الاعتبار إلا من جهة ما تؤدي المعاني المركبة. فما وراء ذلك ، إن كان مقصودا لها ، فبالقصد الثاني. ومن جهة ما هو معين على إدراك المعنى المقصود. كالمجاز والاستعارة والكناية ، وإذا كان كذلك فربما لا يحتاج فيه إلى فكر. فإن احتاج الناظر فيه إلى فكر خرج عن نمط الحسن إلى نمط القبح والتكلف. وذلك ليس من كلام العرب. فكذلك لا يليق بالقرآن من باب الأولى. وأيضا ، فإنه حائل بين الإنسان وبين المقصود من الخطاب من التفهم لمعناه ثم التعبد بمقتضاه. وذلك أنه إعذار وإنذار وتبشير وتحذير وردّ إلى الصراط المستقيم. فكم بين من فهم معناه ورأى أنه مقصود العبارة فداخله من خوف الوعيد ورجاء الموعود ما صار به مشمّرا عن ساعد الجد والاجتهاد ، باذلا غاية الطاقة في الموافقات ، هاربا بالكلية عن المخالفات ـ وبين من أخذ في تحسين الإيراد والاشتغال بمآخذ العبارة ومدارجها ، ولم اختلفت مع مرادفتها مع أن المعنى واحد.

وتفريع التجنيس ، ومحاسن الألفاظ ، والمعنى في الخطاب ، بمعزل عن النظر فيه.

كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو التفقه في العبارة ، بل التفقه في المعبر عنه ، وما المراد به. هذا لا يرتاب فيه عاقل. ولا يصح أن يقال : إن التمكن في التفقه في الألفاظ والعبارات وسيلة إلى التفقه في المعاني ، بإجماع العلماء. فكيف يصح إنكار ما لا يمكن إنكاره؟ ولأن الاشتغال بالوسيلة والقيام بالفرض الواجب فيها ، دون الاشتغال بالمعنى المقصود ، لا ينكر في الجملة. وإلّا لزم ذم علم العربية بجميع أصنافه. وليس كذلك باتفاق العلماء. لأنا نقول : ما ذكرته في السؤال لا ينكر بإطلاق. كيف؟ وبالعربية فهمنا عن الله تعالى مراده من كتابه. وإنما المنكر الخروج في ذلك إلى حد الإفراط الذي يشكّ في كونه مراد المتكلم. أو يظن أنه غير مراد. أو يقطع به فيه. لأن العرب لم يفهم منها قصد مثله في كلامها. ولم يشتغل بالتفقه فيها سلف هذه الأمة. فما يؤمننا من سؤال الله تعالى لنا يوم القيامة : من أين فهمتم عني أني قصدت التجنيس الفلانيّ بما أنزلت من قولي : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ

٩٣

يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٠٤] ، أو قولي (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) [الشعراء : ١٦٨]؟

فإن في دعوى مثل هذا على القرآن ، وأنه مقصود للمتكلم به ، خطرا. بل هو راجع إلى معنى قوله تعالى : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) [النور : ١٥] ، وإلى أنه قول في كتاب الله بالرأي. وذلك بخلاف الكناية في قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء : ٤٣] ، وقوله : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة : ٧٥] ، وما أشبه ذلك. فإنه شائع في كلام العرب ، مفهوم من مساق الكلام ، معلوم اعتباره عند أهل اللسان ضرورة. والتجنيس ونحوه ليس كذلك. وفرق ما بينهما خدمة المعنى المراد وعدمه. إذ ليس في التجنيس ذلك ، والشاهد على ذلك ندوره في العرب الأجلاف البوّالين على أعقابهم (كما قال أبو عبيدة) ، ومن كان نحوهم. وشهرة الكناية وغيرها. ولا تكاد تجد ما هو نحو التجنيس إلا في كلام المولدين ومن لا يحتج به. فالحاصل أن لكل علم عدلا ، وطرفا إفراط وتفريط. والطرفان هما المذمومان. والوسط هو المحمود.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

إذا تعين أن العدل في الوسط فمأخذ الوسط ربما كان مجهولا. والإحالة على مجهول لا فائدة فيه. فلا بد من ضابط يعوّل عليه في مأخذ الفهم. والقول في ذلك ، والله المستعان. إن المساقاة تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل. وهذا معلوم في علم المعاني والبيان. فالذي يكون على بال من المستمع المتفهم الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها. لا ينظر في أولها دون آخرها ولا في آخرها دون أولها. فإن القضية ، وإن اشتملت على جمل ، فبعضها متعلق بالبعض. لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد. فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله ، وأوله على آخره. وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف. فإن فرّق النظر ، في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده. فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض إلا في موطن واحد. وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربيّ وما يقتضيه. لا بحسب مقصود المتكلم. فإذا صح له الظاهر على العربية رجع إلى نفس الكلام. فعمّا قريب يبدو له منه المعنى المراد. فعليه بالتعبد به ، وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب التنزيل فإنها تبين كثيرا

٩٤

من المواضع التي يختلف مغزاها على الناظر. غير أن الكلام المنظور فيه ، تارة يكون واحدا بكل اعتبار ، بمعنى أنه أنزل في قضية واحدة ، طالت أو قصرت. وعليه أكثر سور المفصل. وتارة يكون متعددا في الاعتبار ، بمعنى أنه أنزل في قضايا متعددة كسورة البقرة وآل عمران والنساء واقرأ باسم ربك وأشباهها. ولا علينا أنزلت السورة بكمالها دفعة واحدة ، أم نزلت شيئا بعد شيء. ولكن هذا القسم له اعتباران : اعتبار من جهة تعدد القضايا فتكون كل قضية مختصة بنظرها. ومن هنالك يلتمس الفقه على وجه ظاهر لا كلام فيه ، ويشترك مع هذا الاعتبار القسم الأول. فلا فرق بينهما في التماس العلم والفقه. واعتبار من جهة النظم الذي وجدنا عليه السورة. إذ هو ترتيب بالوحي لا مدخل فيه لآراء الرجال ، ويشترك معه أيضا القسم الأول. لأنه نظم ألقي بالوحي ، وكلاهما لا يلتمس منه فقه على وجه ظاهر. وإنما يلتمس منه ظهور بعض أوجه الإعجاز. وبعض مسائل نبه عليها في المسألة السابقة قبل. وجميع ذلك لا بد فيه من النظر في أول الكلام وآخره بحسب تلك الاعتبارات. فاعتبار جهة النظم ، مثلا ، في السورة لا يتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر. فالاقتصار على بعضها فيه غير مفيد غاية المقصود. كما أن الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما ، لا يفيد إلّا بعد كمال النظر في جميعها. فسورة البقرة مثلا كلام واحد باعتبار النظم. واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها : منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب. ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم. ومنها ما هو المقصود في الإنزال. وذلك تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب.

ومنها : الخواتم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت وما أشبه ذلك. ولا بد من تمثيل شيء من هذه الأقسام : فبه يبين ما تقدم.

فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ١٨٣] إلى قوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). كلام واحد وإن نزل في أوقات شتى. وحاصله بيان الصيام وأحكامه وكيفية آدابه ، وقضائه وسائر ما يتعلق به من الجلائل التي لا بد منها ، ولا ينبني إلا عليها.

ثم جاء قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨] الآية. كلاما آخر ، بيّن أحكاما أخر.

وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩]. وانتهى الكلام على قول طائفة. وعند أخرى أن قوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ)

٩٥

[البقرة : ١٨٩]. الآية ، من تمام مسألة الأهلة. وإن انجرّ معه شيء آخر. كما انجرّ على القولين معا تذكير وتقديم لأحكام الحج في قوله : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ).

وقوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر : ١]. نازلة في قضية واحدة.

وسورة اقرأ نازلة في قضيتين : الأولى إلى قوله : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ٥] والأخرى ما بقي إلى آخر السورة.

وسورة المؤمنين نازلة في قضية واحدة وإن اشتملت على معان كثيرة فإنها من المكيات.

وغلب المكيّ أنه مقرر لثلاثة معان. أصلها معنى واحد. وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى :

أحدها : تقرير الوحدانية لله الواحد الحق. غير أنه يأتي على وجوه. كنفي الشريك بإطلاق. أو نفيه ، بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة من كونه مقرّبا إلى الله زلفى ، أو كونه ولدا أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة.

والثاني : تقرير النبوة للنبيّ محمد وأنه رسول الله إليهم جميعا ، صادق فيما جاء به من عند الله. إلا أنه وارد على وجوه أيضا : كإثبات كونه رسولا حقا ، ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب أو ساحر أو مجنون أو يعلّمه بشر ، أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم.

والثالث : إثبات أمر البعث والدار الآخرة ، وإنه حق لا ريب فيه ، بالأدلة الواضحة والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به. فرد بكل وجه يلزم الحجة ويبكت الخصم ويوضح الأمر.

فهذه المعاني الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة. في عامة الأمر. وما ظهر ببادي الرأي خروجه عنها ، فراجع إليها في محصول الأمر. ويتبع ذلك الرغيب والترهيب والأمثال والقصص وذكر الجنة والنار ووصف يوم القيامة وأشباه ذلك.

فإذا تقرر هذا وعدنا إلى النظر في سورة المؤمنين مثلا ، وجدنا فيها المعاني الثلاثة على أوضح الوجوه. إلا أنه غلب على نسقها ذكر إنكار الكفار للنبوءة التي هي المدخل للمعنيين الباقيين. وإنهم إنما أنكروا ذلك بوصف البشرية ، ترفعا منهم أن يرسل إليهم من هو مثلهم أو ينال هذه الرتبة غيرهم ، إن كانت. فجاءت السورة

٩٦

تبين وصف البشرية وما تنازعوا فيه منها. وبأيّ وجه تكون على أكمل وجوهها ، حتى تستحق الاصطفاء والاجتباء من الله تعالى ، فافتتحت السورة بثلاث جمل : إحداها ، وهي الآكد في المقام ، بيان الأوصاف المكتسبة للعبد. التي إذا اتصف بها رفعه الله وأكرمه. وذلك قوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) [المؤمنون : ١ ـ ١١] والثانية بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذي حصل له ، جاريا على مجاري الاعتبار والاختيار. بحيث لا يجد الطاعن ، إلى من هذا حاله ، سبيلا. والثالثة. بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في التربية والرفق والإعانة على إقامة الحياة. وإن ذلك له بتسخير السماوات والأرض وما بينهما. وكفى بهذا تشريفا وتكريما. ثم ذكرت قصص من تقدم مع أنبيائهم واستهزائهم بهم بأمور. منها كونهم من البشر. ففي قصة نوح مع قومه قولهم : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) [المؤمنون : ٢٤]. ثم أجمل ذكر قوم آخرين أرسل فيهم رسولا منهم ، أي من البشر ، لا من الملائكة : فقالوا (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) [المؤمنون : ٣٣] الآية (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) [المؤمنون : ٣٤]. ثم قالوا : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [المؤمنون : ٣٨] أي هو من البشر. ثم قال تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا ، كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) [المؤمنون : ٤٤] فقوله : (رَسُولُها) مشيرا إلى أن المراد رسولها الذي تعرفه منها. ثم ذكر موسى وهارون وردّ فرعون وملئه بقولهم : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) [المؤمنون : ٤٧] إلخ. هذا كله حكاية عن الكفار الذين غضوا من رتبة النبوءة بوصف البشرية ، تسلية لمحمد عليه‌السلام. ثم بيّن أن وصف البشرية للأنبياء لا غضّ فيه ، وأن جميع الرسل إنما كانوا من البشر ، يأكلون ويشربون ، كجميع الناس ، والاختصاص أمر آخر من الله تعالى. فقال بعد تقرير رسالة موسى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥٠] وكانا مع ذلك يأكلان ويشربان. ثم قال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون : ٥١] أي هذا من نعم الله عليكم ، والعمل الصالح شكر تلك النعم ، ومشرّف للعامل به. فهو الذي يوجب التخصيص ، لا الأعمال السيئة. وقوله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [المؤمنون : ٥٢] إشارة إلى التماثل بينهم وأنهم جميعا مصطفون من البشر. ثم ختم هذا المعنى بنحو مما به بدأ فقال : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) إلى قوله : (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) [المؤمنون : ٥٧ ـ ٦١].

وإذا تأمل هذا النمط من أول السورة إلى هنا ، فهم أن ما ذكر من المعنى هو

٩٧

المقصود مضافا إلى المعنى الآخر. وهو أنهم إنما قالوا ذلك وغضوا من الرسل بوصف البشرية استكبارا من أشرافهم وعتوّا على الله ورسوله. فإن الجملة الأولى من أول السورة تشعر بخلاف الاستكبار وهو التعبد لله بتلك الوجوه المذكورة. والجملة الثانية مؤذنة بأن الإنسان منقول في أطوار العدم وغاية الضعف. فإن التارات السبع أتت عليه. وهي كلها ضعف إلى ضعف. وأصله العدم. فلا يليق ، بمن هذه صفته ، الاستكبار. والجملة الثالثة مشعرة بالاحتياج إلى تلك الأشياء والافتقار إليها. ولو لا خلقها لم يكن للإنسان بقاء بحكم العادة الجارية. فلا يليق بالفقير الاستكبار على من هو مثله في النشأة والخلق. فهذا كله كالتنكيت عليهم. والله أعلم.

ثم ذكر القصص في قوم نوح (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) [المؤمنون : ٢٤] ، والملأ هم الأشراف ، وكذلك فيمن بعدهم (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ) [المؤمنون : ٣٣] الآية. وفي قصة موسى : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) [المؤمنون : ٤٧] ومثل هذا الوصف يدل على أنهم ، لشرفهم في قومهم ، قالوا هذا الكلام.

ثم قوله : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) [المؤمنون : ٥٤] إلى قوله : (لا يَشْعُرُونَ) رجوع إلى وصف أشراف قريش وأنهم إنما تشرفوا بالمال والبنين. فرد عليهم بأن الذي يجب له الشرف من كان على هذا الوصف ، وهو قوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) [المؤمنون : ٥٧] ثم رجعت الآيات إلى وصفهم في ترفهم وحال مآلهم وذكر النعم عليهم والبراهين على صحة النبوءة ، وأن ما قال عن الله حقّ من إثبات الوحدانية ونفي الشريك وأمور الدار الآخرة للمطيعين والعاصين ، حسبما اقتضاه الحال والوصف للفريقين. فهذا النظر ، إذا اعتبر كليا في السورة ، وجد على أتم من هذا الوصف. لكن على منهاجه وطريقه. ومن أراد الاعتبار في سائر سور القرآن فالباب مفتوح. والتوفيق بيد الله.

فسورة المؤمنين قصة واحدة في شيء واحد.

وبالجملة ، فحيث ذكر قصص الأنبياء ، عليهم‌السلام ، كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وهارون ، فإنما ذلك تسلية لمحمد عليه‌السلام وتثبيت لفؤاده ، لما كان يلقى من عناد الكفار وتكذيبهم له على أنواع مختلفة. فتذكر القصة على النحو الذي يقع له مثله. وبذلك اختلف مساق القصة الواحدة بحسب اختلاف الأحوال. والجميع حق واقع لا إشكال في صحته.

٩٨

وعلى حذو ما تقدم من الأمثلة يحتذي في النظر في القرآن لمن أراد فهم القرآن ، والله المستعان.

فصل

فيما جاء من إعمال الرأي في القرآن الكريم

قال الشاطبيّ : إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه وجاء أيضا ما يقتضي إعماله. وحسبك من ذلك ما نقل عن الصدّيق. فإنه نقل عنه أنه قال ، وقد سئل في شيء من القرآن : أيّ سماء تظلني وأيّ أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ وربما روى فيه : إذا قلت في كتاب الله برأيي. ثم سئل عن الكلالة المذكورة في القرآن فقال : أقول فيها برأيي. فإن كان صوابا فمن الله ، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان : الكلالة كذا وكذا.

فهذان قولان اقتضيا إعمال الرأي وتركه في القرآن ، وهما لا يجتمعان :

والقول فيه : إن الرأي ضربان : أحدهما جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة ، فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما ، لأمور :

أحدها : أن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد. ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم. فإما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها ، وذلك غير ممكن. فلا بد من القول فيه بما يليق.

والثاني : أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبيّنا ذلك كله بالتوقيف. فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول. والمعلوم أنه عليه‌السلام لم يفعل ذلك. فدل على أنه لم يكلّف به على ذلك الوجه. بل بيّن منه ما لا يوصل إلى علمه إلا به. وترك كثيرا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم. فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف.

والثالث : أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم. وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا. ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه. والتوقيف ينافي هذا. فإطلاق القول بالتوقيف والمنع من الرأي ، لا يصح.

والرابع : أن هذا الفرض لا يمكن. لأن النظر في القرآن من جهتين : من جهة الأمور الشرعية ، فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأي والنظر جدلا. ومن جهة

٩٩

المآخذ العربية ، وهذا لا يمكن فيه التوقيف. وإلا لزم ذلك في السلف الأولين. وهو باطل. فاللازم عنه مثله. بالجملة فهو أوضح من إطناب فيه.

وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية أو الجاري على الأدلة الشرعية ، فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال. كما كان مذموما في القياس أيضا. لأنه تقوّل على الله بغير برهان. فيرجع إلى الكذب على الله تعالى. وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء. كما روي عن ابن مسعود : ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم. فعليكم بالعلم. وإياكم التبدع. وإياكم والتنطع. وعليكم بالعتيق. وعن عمر بن الخطاب : إنما أخاف عليكم رجلين : رجل يتأول القرآن على غير تأويله ، ورجل ينافس الملك على أخيه. وعن عمر أيضا : ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه. ولا من فاسق بيّن فسقه ، ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله. والذي ذكر عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن قوله : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) فقال : أيّ سماء تظلني .. الحديث. وسأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال له ابن عباس : فما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال الرجل : إنما سألتك لتحدثني. فقال ابن عباس : هما يومان ذكرهما الله في كتابه ، الله أعلم بهما. نكره أن نقول في كتاب الله ما لا نعلم. وعن سعيد بن المسيّب أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن قال : أنا لا أقول في القرآن شيئا. وسأله رجل عن آية؟ فقال : لا تسألني عن القرآن وسل عنه من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه (يعني عكرمة).

وكأن هذا الكلام مشعر بالإنكار على من يزعم ذلك.

وقال ابن سيرين : سألت عبيدة عن شيء من القرآن؟ فقال : اتق الله وعليك بالسداد. فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن.

وعن مسروق قال : اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله.

وعن إبراهيم قال : كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه.

وعن هشام بن عروة قال : ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله.

وإنما هذا كله توقّ وتحرز أن يقع الناظر فيه في الرأي المذموم والقول فيه من غير تثبت.

وقد نقل عن الأصمعيّ ، وجلالته في معرفة كلام العرب معلومة. أنه لم يفسر

١٠٠