تفسير القاسمي - ج ١

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ١

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

وقال ابن تيمية أيضا : قد يجيء كثير من هذا الباب قولهم : هذه الآية نزلت في كذا ، لا سيما إن كان المذكور شخصا ، كقولهم ، إن آية الظهار ، نزلت في امرأة ثابت ابن قيس وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله ، وإن قوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ) [المائدة : ٤٩] نزلت في بني قريظة والنضير ، ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة أو في قوم من اليهود والنصارى ، أو في قوم من المؤمنين. فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أنّ حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم ، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق. والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه ، فلم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين ، وإنما غاية ما يقال إنها تختص بنوع ذلك الشخص ، فتعم ما يشبهه ، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرا أو نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته. وإن كانت خبرا بمدح أو ذم ، فإنها متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته.

قال ابن تيمية أيضا : قولهم أنزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول ، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية ، وإن لم يكن السبب ، كما نقول عنى بهذه الآية كذا. وقد تنازع العلماء في قول الصحابيّ : نزلت هذه الآية في كذا ، هل يجري مجرى المسند كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله ، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاريّ يدخله في المسند ، وغيره لا يدخله فيه. وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح ، كمسند أحمد ، وغيره ، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه ، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند.

وقال الزركشيّ في البرهان : قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : نزلت هذه الآية في كذا ، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم ، لا أن هذا كان السبب في نزولها. فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية ، لا من جنس النقل لما وقع. انتهى.

وقال المحقق أبو إسحاق الشاطبيّ في الموافقات : معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن. والدليل على ذلك أمران :

أحدهما : أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن ، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب ، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع. إذ الكلام الواحد

٢١

يختلف فهمه بحسب حالين ، وبحسب مخاطبين ، وبحسب غير ذلك. كالاستفهام لفظه واحد ، ويدخله معان أخر ، من تقرير وتوبيخ وغير ذلك. وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها. ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة. وعمدتها مقتضيات الأحوال. وليس كل حال ينقل ، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول. وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة ، فات فهم الكلام جملة ، أو فهم شيء منه. ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط ، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد. ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال. وينشأ عن هذا الوجه.

الوجه الثاني : وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات ، مورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال ، حتى يقع الاختلاف ، وذلك مظنة وقوع النزاع. ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيميّ ، قال : خلا عمر ذات يوم ، فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؟! فأرسل إلى ابن عباس فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد ، وقبلتها واحدة؟! فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين! إنّا أنزل القرآن علينا فقرأناه ، وعلمنا فيم نزل. وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا ، اقتتلوا. قال فزجره عمر وانتهره! فانصرف ابن عباس. ونظر عمر فيما قال ، فعرفه ، فأرسل إليه فقال : أعد عليّ ما قلت. فأعاده عليه ، فعرف عمر قوله وأعجبه. وما قاله صحيح في الاعتبار ، ويتبين بما هو أقرب. فقد روى ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا : كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال : يراهم شرار خلق الله ، إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار ، فجعلوها على المؤمنين. فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عباس عليه ، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن.

ثم ساق الشاطبيّ نحو ما تقدم عن ابن تيمية مطولا ، وقال في آخر البحث ، وهذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل ، بحيث لو فقد ذكر السبب ، لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص ، دون تطرق الاحتمالات ، وتوجه الإشكالات. وقد قال عليه‌السلام : خذوا القرآن من أربعة ، منهم عبد الله بن مسعود (١). وقد قال

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. عن مسروق : ذكر عبد الله ابن عمرو ، عبد الله بن مسعود فقال : لا أزال أحبه. سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبيّ بن كعب».

٢٢

في خطبة خطبها : والله! لقد علم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله. وقال في حديث آخر : والذي لا إله غيره! ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت ، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني ، تبلغه الإبل ، لركبت إليه (١). وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالما بالقرآن.

وعن الحسن أنه قال : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيما أنزلت ، وما أراد بها. وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب.

وعن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن شيء من القرآن ، فقال : اتق الله وعليك بالسداد ، فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن. وعلى الجملة فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير. انتهى.

وقال ولي الله الدهلويّ في الفوز الكبير : ومن المواضع الصعبة معرفة أسباب النزول. ووجه الصعوبة فيها خلاف المتقدمين والمتأخرين. والذي يظهر من استقراء كلام الصحابة والتابعين ، أنهم لا يستعملون «نزلت في كذا» لمحض قصة كانت في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي سبب نزول الآية. بل ربما يذكرون بعض ما صدقت عليه الآية مما كان في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويقولون : «نزلت في كذا» ولا يلزم هناك انطباق جميع القيود ، بل يكفي انطباق أصل الحكم فقط. وقد يقررون حادثة تحققت في تلك الأيام المباركة ، واستنبط صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكمها من آية ، وتلاها في ذلك الباب ، ويقولون : «نزلت في كذا» وربما يقولون : في هذه الصورة ، فأنزل الله قوله كذا ، فكأنه إشارة إلى أنه استنباطه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإلقاؤها في تلك الساعة بخاطره المبارك أيضا ، نوع من الوحي والنفث في الروع. فلذلك يمكن أن يقال : فأنزلت ، ويمكن أن يعبر في هذه الصورة بتكرار النزول. ويذكر المحدثون في ذيل آيات القرآن كثيرا من الأشياء ليست من قسم سبب النزول في الحقيقة. مثل استشهاد الصحابة في مناظراتهم بآية ، أو تمثيلهم بآية ، أو تلاوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية للاستشهاد في كلامه الشريف ، أو رواية حديث وافق الآية في أصل الغرض ، أو تعيين موضع النزول ، أو تعيين أسماء

__________________

(١) أخرجه البخاري : قال عبد الله رضي الله عنه : والله الذي لا إله غيره! ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين أنزلت. ولا أنزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت. ولو أعلم أحدا أعلم منبي بكتاب الله ، تبلغه الإبل ، لركبت إليه.

٢٣

المذكورين بطريق الإبهام ، أو بطريق التلفظ بكلمة قرآنية ، أو فضل سور وآيات من القرآن ، أو صورة امتثاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر من أوامر القرآن ونحو ذلك. وليس شيء من هذا في الحقيقة من أسباب النزول ، ولا يشترط إحاطة المفسر بهذه الأشياء ، إنما شرط المفسر أمران :

الأول : ما تعرض له الآيات من القصص ، فلا يتيسر فهم الإيماء بتلك الآيات إلا بمعرفة تلك القصص.

والثاني : ما يخصص العام من القصة ، أو مثل ذلك من وجوه صرف الكلام عن الظاهر. فلا يتيسر فهم المقصود من الآيات بدونها.

ومما ينبغي أن يعلم أن قصص الأنبياء السابقين لا تذكر في الحديث إلا على سبيل القلة ، فالقصص الطويلة العريضة التي تكلف المفسرون روايتها ، كلها منقولة عن علماء أهل الكتاب ، إلا ما شاء الله تعالى. وقد جاء في صحيح البخاريّ مرفوعا : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم (١). وليعلم أن الصحابة والتابعين ربما كانوا يذكرون قصصا جزئية لمذاهب المشركين واليهود وعاداتهم من الجهالات لتتضح تلك العقائد والعادات ، ويقولون : نزلت الآية في كذا. ويريدون بذلك أنها نزلت في هذا القبيل ، سواء كان هذا وما أشبهه ، أو ما قاربه. ويقصدون إظهار تلك الصورة ، لا بخصوصها ، بل لأجل أن التصوير صالح لتلك الأمور الكلية. ولهذا تختلف أقوالهم في كثير من المواضع ، وكلّ يجرّ الكلام إلى جانب. وفي الحقيقة ، المطالب متحدة. وإلى هذه النكتة أشار أبو الدرداء حيث قال : لا يكون أحد فقيها حتى يحمل الآية على محامل متعددة. انتهى.

وقال أيضا : من جملة الآثار المروية في كتب التفسير بيان سبب النزول. وسبب النزول على قسمين :

الأول : أن تقع حادثة يظهر فيها إيمان المؤمنين ، ونفاق المنافقين ، كما وقع في أحد والأحزاب ، أنزل الله تعالى مدح هؤلاء ، وذم أولئك ، ليكون فيصلا بين

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في التوحيد باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها. عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا : (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ ...) الآية».

٢٤

الفريقين. وربما يقع في مثل هذا من التعريض بخصوصيات الحادثة ما يبلغ حدّ الكثرة. فيجب أن يذكر شرح الحادثة مختصرا ليتضح سوق الكلام على القارئ.

القسم الثاني : أن يتم معنى الآية بعمومها من غير احتياج إلى العلم بالحادثة التي هي سبب النزول. والحكم لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. وقد ذكر قدماء المفسرين تلك الحادثة بقصد الإحاطة بالآثار المناسبة للآية ، أو بقصد بيان ما صدق عليه العموم. وليس ذكر هذا القسم من الضروريات.

وقد تحقق عند الفقير ، أن الصحابة والتابعين كثيرا ما كانوا يقولون : نزلت الآية في كذا وكذا ، وكان غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية ، وذكر بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها ، سواء تقدمت القصة أو تأخرت ، إسرائيليّا كان ذلك أو جاهليّا أو إسلاميّا ، استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها والله أعلم.

فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلا ، وللقصص المتعددة هنالك سعة. فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية ، انتهى كلامه.

٥ ـ قاعدة في الناسخ والمنسوخ

قد تقرر أن النسخ في الشرائع جائز ، موافق للحكمة وواقع. فإن شرع موسى نسخ بعض الأحكام التي كان عليها إبراهيم. وشرع عيسى نسخ بعض أحكام التوراة. وشريعة الإسلام نسخت جميع الشرائع السابقة. لأن الأحكام العملية التي تقبل النسخ ، إنما تشرع لمصلحة البشر. والمصلحة تختلف باختلاف الزمان ، فالحكيم العليم يشرع لكل زمن ما يناسبه.

وكما تنسخ شريعة بأخرى ، يجوز أن تنسخ بعض أحكام شريعة بأحكام أخرى في تلك الشريعة. فالمسلمون كانوا يتوجهون إلى بيت المقدس في صلاتهم ، فنسخ ذلك بالتوجه إلى الكعبة ، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين. ولكنّ هناك خلافا في نسخ أحكام القرآن ولو بالقرآن. فقد قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهانيّ المفسر الشهير : ليس في القرآن آية منسوخة ، وهو يخرّج كل ما قالوا إنه منسوخ على وجه صحيح بضرب من التخصيص أو التأويل.

وظاهر أن مسألة القبلة ليس فيها نسخ للقرآن ، وإنما هي نسخ لحكم ، لا ندري

٢٥

هل فعله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم باجتهاده ، أم بأمر من الله تعالى غير القرآن ، فإن الوحي غير محصور في القرآن.

ولكن الجمهور على أن القرآن ينسخ بالقرآن ، بناء على أنه لا مانع من نسخ حكم آية مع بقائها في الكتاب ، يعبد الله تعالى بتلاوتها ، وتذكر نعمته ، بالانتقال من حكم كان موافقا للمصلحة ولحال المسلمين في أول الإسلام ، إلى حكم يوافق المصلحة في كل زمان ومكان. فإنه لا ينسخ حكم إلا بأمثل منه ، كالتخفيف في تكليف المؤمنين بقتال عشرة أمثالهم ، والاكتفاء بمقاتلة الضعف بأن تقاتل المائة مائتين. واتفقوا على أنه لا يقال بالنسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الآيتين من آيات الأحكام العملية ، وعلم تاريخهما ، فعند ذلك يقال : إن الثانية ناسخة للأولى. أما آيات العقائد والفضائل والأخبار فلا نسخ فيها.

وقال الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه‌الله تعالى : مراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة ـ وهو اصطلاح المتأخرين ـ ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة ، إما بتخصيص أو تقييد مطلق. وحمله على المقيد وتفسيره وتبيينه. حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخا ، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد. فالنسخ ، عندهم وفي لسانهم ، هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ ، بل بأمر خارج عنه. ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى ، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر. انتهى.

وقال وليّ الله الدهلويّ في الفوز الكبير : من المواضع الصعبة في فن التفسير التي ساحتها واسعة جدّا ، والاختلاف فيها كثير ، معرفة الناسخ والمنسوخ ، وأقوى الوجوه الصعبة اختلاف اصطلاح المتقدمين والمتأخرين ، وما علم في هذا الباب ، من استقراء كلام الصحابة والتابعين ، أنهم كانوا يستعملون النسخ بإزاء المعنى اللغويّ الذي هو إزالة شيء بشيء ، لا بإزاء مصطلح الأصوليين. فمعنى النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى ، إما بانتهاء مدة العمل ، أو بصرف الكلام عن المعنى المتبادر إلى غير المتبادر ، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقيا ، أو تخصيص عام ، أو بيان الفارق بين المنصوص وما قيس عليه ظاهرا ، أو إزالة عادة الجاهلية ، أو الشريعة السابقة ، فاتسع باب النسخ عندهم وكثر جولان العقل هنالك ، واتسعت دائرة الاختلاف. ولهذا بلغ عدد الآيات المنسوخة خمسمائة.

٢٦

وإن تأملت ، متعمقا ، فهي غير محصورة. والمنسوخ باصطلاح المتأخرين عدد قليل. لا سيما بحسب ما اخترناه من التوجيه. انتهى.

وقال الإمام الشاطبيّ في الموافقات : الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم ، في الإطلاق ، أعم منه في كلام الأصوليين. فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا ، وعلى تخصيص العموم ، بدليل متصل أو منفصل ، نسخا ، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا ، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعيّ ، بدليل شرعيّ متأخر ، نسخا. لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد. وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف ، وإنما المراد ما جيء به آخرا ، فالأول غير معمول به ، والثاني هو المعمول به. وهذا المعنى جاء في تقييد المطلق. فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده ، فلا إعمال له في إطلاقه ، بل المعمل هو المقيد ، فكأن المطلق لم يفد مع مقيده شيئا ، فصار مثل الناسخ والمنسوخ. وكذلك العامّ مع الخاص. إذ كان ظاهر العام شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ. فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار ، فأشبه الناسخ والمنسوخ. إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة ، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص ، وبقي السائر على الحكم الأول ، والمبين مع المبهم ، كالمقيد مع المطلق. فلما كان كذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني ، لرجوعها إلى شيء واحد. ولا بد من أمثلة تبين المراد : فقد روي عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) [الإسراء : ١٨] أنه ناسخ لقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) [الشورى : ٢٠] وهذا ، على التحقيق ، تقييد لمطلق. إذ كان قوله (نُؤْتِهِ مِنْها) مطلقا ومعناه مقيد بالمشيئة ، وهو قوله في الأخرى (لِمَنْ نُرِيدُ) وإلا فهو إخبار ، والأخبار لا يدخلها النسخ.

وقال في قوله (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) إلى قوله : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) [الشعراء : ٢٢٤ ـ ٢٢٦] هو منسوخ بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً ..) [الشعراء : ٢٢٧] الآية ، قال مكيّ ـ وقد ذكر عن ابن عباس ، في أشياء كثيرة في القرآن فيها حرف الاستثناء ، أنه قال : منسوخ ـ قال : وهو مجاز لا حقيقة. لأن المستثنى مرتبط بالمستثنى منه ، بيّنه حرف الاستثناء أنه في بعض الأعيان الذين عمهم اللفظ الأول ، والناسخ منفصل من المنسوخ ، رافع

٢٧

لحكمه ، وهو بغير حرف. هذا ما قال. ومعنى ذلك : أنه تخصيص للعموم قبله ، ولكنه أطلق عليه لفظ النسخ ، إذ لم يعتبر فيه الاصطلاح الخاص.

وقال في قوله تعالى : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) [النور : ٢٧] أنه منسوخ بقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ..) [النور : ٢٩] الآية. وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء. غير أن قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) يثبت في الآية الأخرى أنما يراد بها المسكونة.

وقال في قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة : ٤١] ، أنه منسوخ بقوله : (ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة : ١٢٢] ، والآيتان في معنيين. ولكنه نبه على أن الحكم بعد غزوة تبوك أن لا يجب النفير على الجميع.

وقال في قوله تعالى : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [الأنفال : ١] منسوخ بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ..) [الأنفال : ٤١] الآية ، وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله : (لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).

وقال في قوله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أنه منسوخ بقوله : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها ..) الآية. وآية الأنعام خبر من الأخبار ، والأخبار لا تنسخ ولا تنسخ.

وقال في قوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ ..) [النساء : ٨] الآية : أنه منسوخ بآية المواريث. وقال مثله الضحاك والسدي وعكرمة. وقال الحسن : منسوخ بالزكاة. وقال ابن المسيّب : نسخه الميراث والوصية.

والجمع بين الآيتين ممكن ، لاحتمال حمل الآية على الندب ، والمراد بأولي القربى من لا يرث. بدليل قوله : (وَإِذا حَضَرَ) كما ترى الرزق بالحضور ، فإن المراد غير الوارثين. وبيّن الحسن أن المراد الندب أيضا بدليل آية الوصية والميراث فهو من بيان المجمل والمبهم.

وقال هو وابن مسعود في قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٨٤] أنه منسوخ بقوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] بدليل أن ابن عباس فسر الآية بكتمان الشهادة ، إذ تقدم قوله (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) ثم قال : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ

٢٨

يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) الآية. فحصل أن ذلك من باب تخصيص العموم أو بيان المجمل.

وقال في قوله (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) [النور : ٣١] أنه منسوخ بقوله : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) [النور : ٦٠] الآية ، وليس بنسخ وإنما هو تخصيص لما تقدم من العموم.

وعن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت في قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥] أنه ناسخ لقوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١] فإن كان المراد أن طعام أهل الكتاب حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه فهو تخصيص للعموم.

وإن كان المراد طعامهم حلال بشرط التسمية فهو أيضا من باب تخصيص. لكن آية الأنعام هي آية العموم المخصوص في الوجه الأول ، وفي الثاني بالعكس.

وقال عطاء في قوله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) [الأنفال : ١٦] أنه منسوخ بقوله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥] إلى آخر الآيتين ، وإنما هو تخصيص وبيان لقوله (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ) فكأنه على معنى (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ) وكانوا مثلي عدد المؤمنين ، فلا تعارض ولا نسخ بالإطلاق الأخير ، والأمثلة كثيرة. انتهى.

وسيأتي في تفسير قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦] زيادة على ما هنا بعونه تعالى.

٦ ـ قاعدة في القراءة الشاذة والمدرج :

قال أبو عبيد في فضائل القرآن : المقصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها. كقراءة عائشة وحفصة «والصلاة الوسطى صلاة العصر» وقراءة ابن مسعود «فاقطعوا أيمانهما» وقراءة جابر «فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم».

قال : فهذه الحروف وما شاكلها قد صارت مفسرة للقرآن. وقد كان يروى مثل هذا عن التابعين في التفسير فيستحسن. فكيف إذا روي عن كبار الصحابة ، ثم صار في نفس القراءة ، فهو أكثر من التفسير وأقوى؟ فأدنى ما يستنبط من هذه الحروف

٢٩

معرفة صحة التأويل. انتهى.

وقال القراب في الشافعي : التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة ، وإنّما هو من جمع بعض المتأخرين فانتشر ، وأوهم أنه لا تجوز الزيادة على ذلك ، وذلك لم يقل به أحد. انتهى.

ومن القراآت ما يشبه من أنواع الحديث المدرج. وهو ما زيد في القراآت على وجه التفسير. كقراءة سعد بن أبي وقاص «وله أخ أو أخت من أم» أخرجها سعيد بن منصور ، وقراءة ابن عباس «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج» (١) أخرجها البخاريّ ، وقراءة ابن الزبير «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم» قال عمرو : فما أدري أكانت قراءته أم فسر ـ أخرجه سعيد بن منصور وأخرجه الأنباريّ ، وجزم بأنه تفسير.

وأخرج عن الحسن أنه كان يقرأ : «وإن منكم إلا واردها الورود الدخول» قال الأنباريّ : قوله : «الورود الدخول» تفسير من الحسن لمعنى الورود ، وغلط فيه بعض الرواة فأدخله في القرآن.

قال ابن الجزريّ في آخر كلامه : وربما كانوا يدخلون التفسير في القراآت إيضاحا وبيانا. لأنهم محققون لما تلقوه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرآنا. فهم آمنون من الالتباس. وربما كان بعضهم يكتبه معه ، وأما من يقول : إن بعض الصحابة كان يجيز القراءة بالمعنى فقد كذب وساء ـ كذا في الإتقان.

٧ ـ قاعدة في قصص الأنبياء والاستشهاد بالإسرائيليات

قال الإمام أبو العباس أحمد بن زروق في قواعد التصوف : التأثير بالأخبار عن الوقائع أتم لسماعها من التأثير بغيرها. فمن ثم قيل : الحكايات جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب العارفين. قيل : فهل تجد لذلك شاهدا من كتاب الله؟ قال : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) [هود : ١٢٠] ، ووجه ذلك : أن شاهد الحقيقة بالفعل أظهر وأقوى في الانفعال من شاهدها اللغويّ ، إذ مادة

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في التفسير ـ سورة البقرة ـ باب ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية .. فتأثموا أن يتجروا في المواسم. فنزلت : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في مواسم الحج.

٣٠

الفاعل مستمرة في الفعل لغابر الدهر.

وقال وليّ الله الدهلويّ ، قدس‌سره ، في أصول التفسير ، في فصل الكلام على معرفة أسباب النزول :

شرط المفسر أمران :

الأول : ما تعرض له الآيات من القصص ، فلا يتيسر فهم الإيماء بتلك الآيات إلا بمعرفة تلك القصص.

والثاني : ما يخصص العام من القصة ، أو مثل ذلك من وجوه صرف الكلام عن الظاهر ، فلا يتيسر فهم المقصود من الآيات بدونها.

ومما ينبغي أن يعلم أن قصص الأنبياء السالفين لا تذكر في الحديث إلا على سبيل القلة ، فالقصص الطويلة العريضة التي تكلف المفسرون روايتها ، كلها منقولة عن علماء أهل الكتاب إلا ما شاء الله تعالى. انتهى.

فإذن ، لا يخفى أن من وجوه التفسير معرفة القصص المجملة في غضون الآيات الكريمة ، ثم ما كان منها غير إسرائيليّ. كالذي جرى في عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أخبر عنه. فهذا تكفّل ببيانه المحدثون. وقد رووه بالأسانيد المتصلة ، فلا مغمز فيه.

وأما ما كان إسرائيليا ، وهو الذي أخذ جانبا وافرا من التنزيل العزيز ، فقد تلقى السلف شرح قصصه ، إما مما استفاض على الألسنة ودار من نبئهم ، وإما من المشافهة عن الإسرائيليين الذين آمنوا. وهؤلاء كانوا تلقفوا أنباءها عن قادتهم. إذ الصحف كانت عزيزة لم تتبادلها الأيدي ، كما هو في العصور الأخيرة. واشتهر ضنّ رؤسائهم بنشرها لدى عمومهم ، إبقاء على زمام سيطرتهم ، فيروون ما شاؤوا غير مؤاخذين ولا مناقشين. فذاع ما ذاع.

ومع ذلك فلا مغمز على مفسرينا الأقدمين في ذلك ، طابق أسفارهم أم لا ، إذ لم يألوا جهدا في نشر العلم وإيضاح ما بلغهم وسمعوه. إما تحسينا للظن في رواة تلك الأنباء وأنهم لا يروون إلا الصحيح ، وإما تعويلا على ما رواه الإمام أحمد والبخاريّ والترمذيّ عن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (١) ورواه أبو داود أيضا بإسناد صحيح عن

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل. عن عبد الله بن عمرو ؛ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «بلغوا عني ولو آية. وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».

٣١

أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» فترخصوا في روايتها كيفما كانت ، ذهابا إلى أن القصد منها الاعتبار بالوقائع التي أحدثها الله تعالى لمن سلف لينهجوا منهج من أطاع فأثنى عليه وفاز. وينكبوا عن مهيع من عصى فحقت عليه كلمة العذاب وهلك. هذا ملحظهم رضي الله عنهم.

وقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه كان يقول : إذا روينا في الأحكام شددنا ، وإذا روينا في الفضائل تساهلنا ، فبالأحرى القصص. وبالجملة فلا ينكر أن فيها الواهيات بمرة ، والموضوعات ، مما استبان لمحققي المتأخرين. وقد رأيت ، ممن يدعي الفضل ، الحط من كرامة الإمام الثعلبيّ ، قدس الله سره العزيز ، لروايته الإسرائيليات وهذا ، وأيم الحق ، من جحد مزايا ذوي الفضل ومعاداة العلم. على أنه ، قدس‌سره ، ناقل عن غيره ، وراو ما حكاه بالأسانيد إلى أئمة الأخبار. وما ذنب مسبوق بقول نقله باللفظ وعزاه لصاحبه؟ فمعاذا بك ، اللهم! من هضيمة السلف. وقد رأيت له في تاريخ القاضي ابن خلّكان ترجمة عالية أحببت إثباتها هنا ، تعريفا بمقامه لدى الجاهل به.

قال القاضي في حرف الهمزة : أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبيّ النيسابوريّ المفسر المشهور : كان أوحد زمانه في علم التفسير ، وصنف التفسير الكبير الذي فاق غيره من التفاسير ، وله كتاب العرائس في قصص الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم ، وغير ذلك. ذكره السمعانيّ ، وقال : يقال له الثعلبيّ ، والثعالبيّ ، وهو لقب له ليس بنسب ، قاله بعض العلماء.

وذكره عبد الغافر بن إسماعيل الفارسيّ في كتاب سياق تاريخ نيسابور ، وأثنى عليه ، وقال : حدث عن أبي طاهر بن خزيمة والإمام أبي بكر بن مهران المقرئ ، وكان كثير الحديث ، كثير الشيوخ ، توفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة.

وقال غيره : توفي في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة.

وقال غيره : توفي يوم الأربعاء لسبع بقين من المحرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. رحمه‌الله تعالى. انتهى.

والقصد أن الصالحين كانوا يتقبلون الروايات على علاتها للملاحظة المارة ، لصفاء سريرتهم. فلا ينبغي إلا تفنيد الموضوع منها ، لا الحط من مقامهم وقرض أعراضهم. كيف وقد تلقى الصحابة ومن بعدهم الإسرائيليات وحكوها ، بل بعضهم

٣٢

اقتنى أسفارها وأدمن مطالعتها ، لما استبان له من البشائر النبوية ، وتحقق تحريفهم.

روى الحافظ الذهبيّ في تذكرة الحفاظ ، في ترجمة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، أنه أصاب جملة من كتب أهل الكتاب وأدمن النظر فيها ورأى فيها عجائب.

وقال السيوطيّ في الإتقان في طبقات المفسرين : وورد عن عبد الله بن عمرو ابن العاص أشياء تتعلق بالقصص وأخبار الفتن والآخرة ، وما أشبهها بأن يكون مما تحمله عن أهل الكتاب.

وقال أيضا ، في آخر الإتقان : حديث الفتون طويل جدا ، يتضمن شرح قصة موسى وتفسير آيات كثيرة تتعلق به ، وقد نبه الحفاظ منهم المزيّ وابن كثير على أنه موقوف من كلام ابن عباس. قال ابن كثير : وكان ابن عباس تلقاه من الإسرائيليات. انتهى.

وقد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل كنيسة لليهود وسمع قراءة التوراة حتى أتوا على صفته.

روى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، قال : إن الله عزوجل ابتعث نبيه لإدخال رجل الجنة ، فدخل الكنيسة فإذا يهود ، وإذا يهوديّ يقرأ عليهم التوراة. فلما أتوا على صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمسكوا ، وفي ناحيتها رجل مريض ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لكم أمسكتم؟ فقال المريض : إنهم أتوا على صفة نبيّ فأمسكوا. ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة فقرأ حتى أتى على صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته. فقال : هذه صفتك وصفة أمتك. أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «لوا أخاكم» (١).

وروى الإمام أحمد أيضا في مسنده عن أبي صخر العقيليّ قال : حدثني رجل من الأعراب قال : جلبت جلوبه إلى المدينة في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما فرغت من بيعتي قلت لألقينّ هذا الرجل فلأسمعنّ منه ، قال : فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون ، فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرا التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه على ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة! هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟ فقال برأسه : هكذا ، أي لا. فقال ابنه : إي والله الذي أنزل التوراة! إنا لنجد في كتابنا

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده. جزء أول ص ٤١٦.

٣٣

صفتك ومخرجك ، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله! فقال : أقيموا اليهودي عن أخيكم ، ثم ولي دفنه وحنطه وصلى عليه (١).

وروى الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة عبد الله بن سلام الحبر رضي الله عنه : عن إبراهيم بن أبي يحيى ، قال : حدثنا معاذ بن عبد الرحمن عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه : جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني قرأت القرآن والتوراة ، فقال : اقرأ هذا ليلة وهذا ليلة. قال الذهبيّ : فهذا ـ إن صح ـ ففيه الرخصة في تكرير التوراة وتدبرها. انتهى.

أي ليعلم المحرف فيها من سياق القرآن الكريم ، وليتبصر فيما تقوم به الحجة على حملة أسفارها ، وليزداد معرفة بمجادلتهم من معتقدهم ، ولغير ذلك.

قال الحافظ ابن كثير في مقدمة تفسيره : غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدّي الكبير ، في تفسيره ، عن هذين الرجلين ابن مسعود وابن عباس. ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». رواه البخاريّ عن عبد الله بن عمرو.

ولهذا كان عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنهما ، قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب ، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك ، ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد ، لا للاعتقاد. فإنها على ثلاثة أقسام :

أحدها : ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق ، فذاك صحيح.

والثاني : ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه.

والثالث : ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل ، فلا نؤمن به ولا نكذبه ، ويجوز حكايته لما تقدم ، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني. انتهى.

فحيث جازت حكايته ، على ما قاله ، فالأولى رواية ما كان من القسم الأول أو الثالث عن نص كتبهم ، كما هو مذهب عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنهما ، كما نقله ابن كثير هنا ، والذهبي والسيوطيّ كما تقدم.

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده. جزء خامس ص ٤١١.

٣٤

وإنما كان الأولى ، في رواية الإسرائيليات ، ما ذكرنا دفعا لمناقشة بعضهم على الإسرائيليات المتداولة في التفاسير بأنها لم ترو في كتب الحديث المشهورة حتى تكون المرجع ، ولم تؤخذ من أسفارهم حتى تتطابق معها ، فارتأى النقل عنها لذلك ، لا اعتقادا بسلامتها من التحريف المحقق ، كلا. بل توسعا في باب الأخبار للاستشهاد والاعتبار. قياما بالحجة على الخصم من معتقده ، وناهيك بذلك.

قال ابن حزم في كتاب الملل والنحل ، بعد ما أوضح البراهين العديدة على تحريفهم وتبديلهم : إن الله تعالى كما أطلق أيديهم في تبديل ما شاء رفعه من ذينك الكتابين ، كفّ أيديهم عما شاء إبقاءه من ذينك الكتابين ، حجة عليهم.

وممن كان يرى جواز النقل عن كتبهم ، من قدماء الشافعية ، الإمام الماورديّ. كما تراه في مواضع من كتابه «أعلام النبوة».

وممن حقق هذا البحث الإمام برهان الدين البقاعيّ ، ثم الدمشقي ، في تفسيره «المناسبات» الذي قال عنه شيخ الإسلام القاضي زكريا : «ما ألف نظيره وجدير بأن يكتب بماء الذهب» كما حكاه عنه تلميذه الإمام الهيتميّ في آخر فتاويه الحديثية. وهاك ما قاله البقاعيّ ، رحمه‌الله ، في تفسير قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [البقرة : ٣٤] ، ما نصه : فإن أنكر منكر الاستشهاد بالتوراة أو بالإنجيل ، وعمي عن أن الأحسن في باب النظر أن يرد على الإنسان بما يعتقده ، تلوت عليه قول الله تعالى استشهادا على كذب اليهود (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ٩٣] ، وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً) [المائدة : ٤٨] في آيات من أمثال ذلك كثيرة.

وذكرته باستشهاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتوراة في قصة الزاني (١). وروى الشيخان (٢) عن

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في التفسير سورة آل عمران باب (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ؛ أن اليهود جاءوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا. فقال لهم : كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا نحممهما ونضربهما. فقال : لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا : لا نجد فيها شيئا. فقال لهم عبد الله بن سلام : كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم. فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها. ولا يقرأ آية الرجم. فنزع يده عن آية الرجم ، فقال : ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا : هي آية الرجم. فأمر بهما فرجما قريبا من حيث موضع الجنائز عند المسجد. فرأيت صاحبها يجنأ عليها يقيها الحجارة.

(٢) أخرجه البخاريّ ، في الرقاق ، باب يقبض الله الأرض : عن أبي سعيد الخدريّ : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في ـ

٣٥

أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : تكون الأرض يوم القيامة خبزة نزلا لأهل الجنة. فأتى رجل من اليهود فقال : بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال : بلى. قال : تكون الأرض خبزة. كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنظر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه.

وقريب من ذلك حديث الجساسة (١) في أشباهه.

هذا فيما يصدقه كتابنا ، وأما ما لا يصدقه ولا يكذبه ، فقد روى البخاريّ عن عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنهما ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ورواه مسلم والترمذيّ والنسائيّ عن أبي سعيد رضي الله عنه ، وهو معنى ما في الصحيحين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا : (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) الآية. فإن دلالة هذا على سنّية ذكر مثل ذلك أقرب من الدلالة على غيرها. ولذا أخذ كثير من الصحابة رضي الله عنهم عن أهل الكتاب.

فإن فهم أحد من الشافعية منع أئمتهم من قراءة شيء من الكتب القديمة مستندا إلى قول الإمام أبي القاسم الرافعيّ في شرحه : وكتب التوراة والإنجيل مما لا يحل الانتفاع به لأنهم بدلوا وغيروا وكذا قال غيره من الأصحاب. قيل له : هذا مخصوص بما علم تبديله. بدليل أن كل من قال ذلك علل بالتبديل. فدار الحكم معه.

ونص الشافعيّ ظاهر في ذلك. قال المزنيّ عنه في مختصره ، في باب جامع

__________________

ـ السفر نزلا لأهل الجنة. فأتى رجل من اليهود فقال : بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم. ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال : بلى. قال : تكون الأرض خبزة واحدة (كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فنظر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه ، ثم قال : ألا أخبرك بإدامهم؟ قال : إدامهم بالأم ونون. قالوا : وما هذا؟ قال : ثور ونون ، يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا.

(١) قصة الجساسة أوردها الإمام مسلم في صحيحه في الفتن وأشراط الساعة ، قصة الجساسة ، حديث ١١٩. وهو حديث طويل روته فاطمة بنت قيس ، أخت الضحاك بن قيس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٦

السير : وما كان من كتبهم ـ أي الكفار ـ فيه طب وما لا مكروه فيه ، بيع ، وما كان فيه شرك بطل وانتفع بأوعيته.

وقال في الأم في سير الواقديّ في باب ترجمة كتب الأعاجم ، قال الشافعيّ : وما وجد من كتبهم فهو مغنم كله ، وينبغي للإمام أن يدعو من يترجمه ، فإن كان علما من طب أو غيره لا مكروه فيه ، باعه كما يبيع ما سواه من المغانم. وإن كان كتاب شرك شقّوا الكتاب فانتفعوا بأوعيته وأداته فباعها ، ولا وجه لتحريقه ولا دفنه قبل أن يعلم ما هو. انتهى.

فقوله في الأم : «كتاب شرك» مفهم لأنه كله شرك ، ولهذا عبر المزنيّ عن ذلك بقوله : وما كان فيه شرك ، أي من أبواب الكتاب وفصوله.

وأدل من ذلك قولهم في باب الأحداث : أن حكمها في مس المحدث حكم ما نسخت تلاوته من القرآن في أصح الوجهين : والتعبير «بالأصح» على ما اصطلحوا عليه ، يدل على أن الوجه القائل بحرمة مس المحدث وحمله لها قويّ.

وأدل من ذلك ما ذكره محرر المذهب ، الشيخ محي الدين النوويّ رحمه‌الله في مسائل ألحقها في آخر باب الأحداث من شرح المهذّب وأقره ، أن المتولي قال : فإن ظن أن فيها شيئا غير مبدل ، كره مسه. انتهى.

فكراهة المس للاحترام فرع جواز الإبقاء والانتفاع بالقراءة.

وأصرح من ذلك كله قول الشافعي رحمه‌الله : أن ما لا مكروه فيه يباع. وكذا قول البغويّ في تهذيبه في آخر باب الوضوء : وكذلك لو تكلم ـ أي الجنب ـ بكلمة توافق نظم القرآن أو قرأ آية نسخت قراءتها أو قرأ التوراة والإنجيل أو ذكر الله سبحانه أو صلى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجائز.

قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الله على كل أحيانه (١).

فإنه لا يتخيل أنه يجوز للجنب ما لا يجوز للمحدث ، بل كل ما جاز للجنب قراءته من غير أمر ملجئ جاز للمحدث ، ولا عكس.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في الأذان باب هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا؟ وقالت عائشة : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الله على كل أحيانه.

٣٧

وتعليله لذلك بحديث عائشة رضي الله عنها دالّ على أن ذلك ذكر لله تعالى. ولا يجوز الحمل على العموم ، لا سيما إذا لوحظ قول القاضي الحسين : أنه يجوز الاستنجاء بها ، لأنه مبنيّ على الوجه القائل بأن الكل مبدل. وهو ضعيف أو محمول على المبدل منهما. لأنه لا يخفى على أحد أن مسلما ، فضلا عن عالم ، لا يقول أنه يستنجي بنحو قوله في العشر الكلمات التي صدرت بها الألواح : قال الله جميع هذه الآيات كلها. أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق لا يكونن لك آلهة غيري. لا تعملنّ شيئا من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق ، وفي الأرض من تحت ، ومما في الماء أسفل الأرض. لا تسجدن لها ولا تعبدنّها. لأني أنا الرب إلهك إله غيور. لا تقسم بالرب إلهك كذبا. لأن الرب لا يزكي من حلف باسمه كذبا. أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيكها الرب إلهك. لا تقتل ، لا تزن ، لا تسرق ، لا تشهد على صاحبك شهادة زور.

وقد أشبع الكلام في المسألة شيخنا حافظ عصره أبو الفضل ابن حجر في آخر شرحه للبخاريّ. وآخر ما حط عليه ، التفرقة بين من رسخ قدمه في العلوم الشرعية ، فيجوز له النظر في ذلك ، فإنه يستخرج منه ما ينتفع به المهتدون. وبين غيره فلا يجوز له ذلك. وأيده بنظر الأئمة فيها قديما وحديثا ، والرد على أهل الكتابين بما يستخرجونه منها. فلو لا جواز ذلك ما أقدموا عليه. والله الموفق.

وقد حررت هذه المسألة في فن المرفوع من حاشيتي على شرح ألفية الشيخ زين الدين العرافيّ. فراجعه إن شئت. والله الهادي.

ثم صنفت في ذلك تصنيفا حسنا سميته ، الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة ، كلام البقاعيّ الدمشقيّ رحمه‌الله تعالى.

وأما مسألة تحريف الكتابين ، أعني التوراة والإنجيل ، فقد نقل البخاريّ في أواخر صحيحه في باب قول الله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) عن ابن عباس : يحرفون يزيلون ، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله عزوجل ، ولكن يحرفونه يتأولونه عن غير تأويله.

قال أبو الفضل ابن حجر في شرحه : قال شيخنا ابن الملقن في شرحه : هذا الذي قاله أحد القولين في تفسير هذه الآية ، وهو مختاره. أي البخاريّ.

ثم قال ابن حجر : اختلف في هذه المسألة على أقوال :

٣٨

أحدها : أنها بدلت كلها. وهو مقتضى القول المحكيّ بجواز الامتهان ، وهو إفراط. وينبغي حمل إطلاق من أطلقه على الأكثر ، وإلا فهي مكابرة. والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل. من ذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] الآية ـ ومن ذلك قصة رجم اليهوديين وفيه وجود آية الرجم. ويؤيده قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ٩٣].

ثانيها : أن التبديل وقع ولكن في معظمها. وأدلته كثيرة. وينبغي حمل الأول عليه.

ثالثها : وقع في اليسير منها. ومعظمها باق على حاله. ونصره الشيخ تقيّ الدين ابن تيمية في كتابه «الرد الصحيح على من بدل دين المسيح».

رابعها : إنما وقع التبديل والتغيير في المعاني لا في الألفاظ وهو المذكور هنا.

وبالجملة فكتب الكتابيّين ، كأقوالهم ، لا يعتمد عليها كلها. لظهور الكذب والتناقض فيها إلى اليوم. ولظهور تلفيقها. فهي ككتب القصص عندنا. فيها شيء من القرآن والسنة ، ولكنه ممزوج بالأكاذيب والآراء المقتبسة من الأمم. ثم إن موافقة القرآن الكريم أو الحديث الصحيح لبعض ما في كتبهم دون بعض ، يدل على أن الله تعالى بيّن له حق كلامهم من باطله ، وصدقه من كذبه. وهذا معنى قوله تعالى : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨].

قال بعضهم : لا شيء يعول عليه في صحة بعض أقوال كتب اليهود دون بعض ، بعد ما طرأ عليها من الضياع والتحريف والخلط. إلا الوحي. وقد ثبتت نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدلائل الساطعة والآثار النافعة. انتهى. أي فعلى وحيه المعوّل فالحمد لله الذي وفقنا لاتباعه.

فصل

في معنى ما نقل أن للقرآن ظاهرا وباطنا.

قال الشاطبيّ في الموافقات : من الناس من زعم أن للقرآن ظاهرا وباطنا ، وربما نقلوا في ذلك بعض الأحاديث والآثار. فعن الحسن ، مما أرسله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : ما أنزل الله آية إلا لها ظهر وبطن ، بمعنى ظاهر وباطن ، وكل حرف حد وكل

٣٩

حد مطلع. وفسر بأن الظهر والظاهر هو ظاهر التلاوة ، والباطن هو الفهم عن الله لمراده ، لأن الله تعالى قال : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [النساء : ٧٨]. والمعنى لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب ، ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام. كيف وهو منزل بلسانهم؟ ولكن لم يحظوا بفهم مراد الله من الكلام ، وكان هذا هو معنى ما روي عن علي أنه سئل هل عندكم كتاب؟ فقال : لا ، إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة (١). الحديث. وإليه يرجع تفسير الحسن للحديث إذ قال : الظهر هو الظاهر والباطن هو السر.

وقال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢]. فظاهر المعنى شيء ، وهم عارفون به لأنهم عرب. والمراد شيء آخر ، وهو الذي لا شك فيه أنه من عند الله. وإذا حصل التدبر لم يوجد في القرآن اختلاف البتة. فهذا الوجه الذي من جهته يفهم الاتفاق ، وينزاح الاختلاف هو الباطن المشار إليه. ولما قالوا في الحسنة : هذا من عند الله ، وفي السيئة : هذا من عند رسول الله ، بيّن لهم أن كلا من عند الله ، وأنهم لا يفقهون حديثا ، لكن بين الوجه الذي يتنزل عليه أن كلا من عند الله بقوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ..) [النساء : ٧٩] الآية. وقال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد. وذلك ظاهر أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن فلم يحصل منهم تدبر.

قال بعضهم : الكلام في القرآن على ضربين : أحدهما يكون برواية ، فليس يعتبر فيها إلا النقل. والآخر يقع بفهم فليس يكون إلا بلسان من الحق إظهار حكمة عن لسان العبد ، وهذا الكلام يشير إلى معنى كلام عليّ.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في الاعتصام باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلوّ في الدين والبدع. عن إبراهيم التيميّ قال : حدثني أبي قال : خطبنا عليّ رضي الله عنه على منبر من آجرّ ، وعليه سيف ، فيه صحيفة معلقة. فقال : والله ، ما عندنا من كتاب يقرأ إلا كتاب الله. وما في هذه الصحيفة. فنشرها فإذا فيها : أسنان الإبل. وإذا فيها : المدينة حرم من عير إلى كذا (وكذا يعني ثورا. كما جاء في روايات أخرى متعددة) فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وإذا فيه (كذا) : ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم. فمن أخفر مسلما عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وإذا فيها : من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا.

٤٠