تفسير القاسمي - ج ١

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ١

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

التحريم. فبيّن أن ما أسكر كثيره فقليله حرام (١). وكذلك نهى عن الخليطين (٢) للمعنى الذي نهى من أجله عن الانتباذ في الدبّاء والمزفّت وغيرها. فهذا ونحوه دائر في المعنى بين الأصلين. فكان البيان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعيّن ما دار بينهما إلى أي جهة يضاف من الأصلين.

والثالث : أن الله أباح من صيد الجارح المعلّم ما أمسك عليك. وعلم من ذلك أن ما لم يكن معلّما فصيده حرام إذ لم يمسك إلا على نفسه. فدار بين الأصلين ما كان معلما ولكنه أكل من صيده. فالتعليم يقتضي أنه أمسك عليك. والأكل يقتضي أنه اصطاد لنفسه لا لك. فتعارض الأصلان. فجاءت السنة ببيان ذلك. فقال عليه‌السلام (٣) «فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه» وفي حديث آخر (٤) «إذا قتله ولم يأكل منه شيئا فإنما أمسكه عليك» وجاء في حديث آخر «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل ، وإن أكل منه ..» الحديث. وجميع ذلك رجوع للأصلين الظاهرين.

والرابع : أن النهي ورد على المحرم أن لا يقتل الصيد مطلقا. وجاء أن على من قتله عمدا الجزاء. وأبيح للحلال مطلقا. فمن قتله فلا شيء عليه. فبقي قتله خطأ في محل النظر. فجاءت السنة بالتسوية بين العمد والخطأ. قال الزهريّ : جاء القرآن بالجزاء على العامد وهو في الخطأ سنة. والزهريّ من أعلم الناس بالسنن.

والخامس : أن الحلال والحرام من كل نوع قد بينه القرآن. وجاءت بينهما أمور ملتبسة لأخذها بطرف من الحلال والحرام. فبيّن صاحب السنة صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك على الجملة وعلى التفصيل.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأشربة ، باب في النهي عن المسكر ، حديث ٣٦٨١. عند جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أسكر كثيرة فقليله حرام».

(٢) أخرجه مسلم في الأشربة ، حديث ٢٦. عن أبي قتادة أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن خليط التمر والبسر وعن خليط الزبيب والتمر وعن خليط الزهور والرطب ، وقال «انتبذوا كل واحد على حدته».

(٣) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد ، باب ما جاء في التصيّد. عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : إنّا قوم نتصيد بهذه الكلاب ، فقال : «إذا أرسلت كلابك المعلّمة وذكرت اسم الله ، فكل مما أمسكن عليك. إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل. فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه. وإن خالطها كلب من غيرها فلا تأكل».

(٤) أخرجه البخاري في الذبائح ، باب ما أصاب المعراض بعرضه. عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله! إنا نرسل الكلاب المعلّمة. قال : «كل ما أمسكن عليك» قلت : وإن قتلن؟ قال : «وإن قتلن».

١٢١

فالأول : قوله «الحلال (١) بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات ...» الحديث.

ومن الثاني : قوله في حديث عبد الله بن زمعة (٢) «واحتجبي منه يا سودة» لما رأى من شبهه بعتبة ..» الحديث. وفي حديث عديّ بن حاتم في الصيد «فإن اختلط بكلابك كلب من غيرها فلا تأكل. لا تدري لعله قتله الذي ليس منها» وقال في بئر (٣) بضاعة ، وقد كانت تطرح فيها الحيض والعذرات «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء» فحكم بأحد الطرفين وهو الطهارة. وجاء في الصيد (٤) «كلّ ما أصميت ودع ما أنميت» وقال في حديث عقبة بن الحارث في الرضاع (٥) ، إذ أخبرته المرأة السوداء بأنها أرضعته والمرأة التي أراد تزوجها. قال فيه «كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما ، دعها عنك» إلى أشياء من هذا القبيل كثيرة.

والسادس : أن الله عزوجل حرم الزنى وأحل التزويج وملك اليمين. وسكت عن النكاح المخالف للمشروع ، فإنه ليس بنكاح محض ولا سفاح محض. فجاء في السنة ما بيّن الحكم في بعض الوجوه حتى يكون محلا لاجتهاد العلماء في إلحاقه بأحد الأصلين مطلقا ، أو في بعض الأحوال. وبالأصل الآخر في حال آخر ، فجاء في

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان ، باب فضل من استبرأ لدينه. عن عامر قال : سمعت النعمان بن بشير يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس. فمن اتقى المشتبهات استبرأ لدينه وعرضه. ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى. ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب».

(٢) أخرجه البخاري في العتق ، باب أم الولد. عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن يقبض إليه ابن وليدة زمعة. قال عتبة : إنه ابني. فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زمن الفتح أخذ سعد ابن وليدة زمعة. فأقبل به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأقبل معه بعبد بن زمعة. فقال سعد : يا رسول الله! هذا ابن أخي. عهد إليّ أنه ابنه. فقال عبد بن زمعة : يا رسول الله! هذا أخي ، ابن وليدة زمعة ، ولد على فراشه. فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ابن وليدة زمعة فإذا هو أشبه الناس به (أي بعتبة) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هو لك يا عبد بن زمعة» من أجل أنه ولد على فراش أبيه. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احتجبي منه يا سودة بنت زمعة» مما رأى من شبهه بعتبة. وكانت سودة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) أخرجه أبو داود في الطهارة ، باب ما جاء في بئر بضاعة ، حديث ٦٦. عن أبي سعيد الخدري أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنتوضأ من بئر بضاعة ـ وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الماء طهور لا ينجّسه شيء» ..

(٤) أخرجه الطبراني في كشف الخطأ ، حديث ١٩٥٧ ، عن ابن عباس.

(٥) أخرجه البخاري في النكاح ، باب شهادة المرضعة.

١٢٢

الحديث «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل. فإن دخل بها فلها المهر بما استحل منها» (١) وهكذا سائر ما جاء ، في النكاح الفاسد ، من السنة.

والسابع : أن الله أحلّ صيد البحر فيما أحل من الطيبات وحرّم الميتة فيما حرم من الخبائث. فدارت ميتة البحر بين الطرفين فأشكل حكمها. فقال عليه‌السلام «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (٢) وروي في بعض الحديث «أحلت لنا ميتتان : الحيتان والجراد» (٣) وأكل عليه‌السلام مما قذفه البحر (٤) لما أتى به أبو عبيدة.

والثامن : أن الله تعالى جعل النفس بالنفس وأقصّ من الأطراف بعضها من بعض في قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ...) [المائدة : ٤٥] إلى آخر الآية ، هذا في العمد.

وأما الخطأ فالدية لقوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) [النساء : ٩٢]. وبيّن عليه‌السلام دية الأطراف على النحو الذي يأتي بحول الله. فجاء طرفان أشكل بينهما الجنين إذا أسقطته أمه بالضربة ونحوها. فإنه يشبه جزء الإنسان كسائر الأطراف ويشبه الإنسان التام لخلقته. فبينت السنة فيه أن ديته الغرة وأن له حكم نفسه لعدم تمحض أحد الطرفين له.

والتاسع : أن الله حرم الميتة وأباح المذكاة. فدار الجنين ، الخارج من بطن المذكاة ميتا ، بين الطرفين ، فاحتملهما. فقال في الحديث «ذكاة الجنين ذكاة أمه» (٥) ترجيحا لجانب الجزئية على جانب الاستقلال.

والعاشر : أن الله قال : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ

__________________

(١) أخرجه أبو داود في النكاح ، باب في الولي ، حديث رقم ٢٠٨٣.

(٢) أخرجه أبو داود في الطهارة ، باب الوضوء بماء البحر ، حديث ٨٣.

(٣) أخرجه ابن ماجة في الصيد ، باب صيد الحيتان والجراد ، حديث ٣٢١٨.

(٤) أخرجه البخاري في المغازي ، باب غزوة سيف البحر. عن جابر رضي الله عنه قال : غزونا جيش الخبط. وأمر أبو عبيدة. فجعنا جوعا شديدا. فألقى البحر حوتا ميتا ، لم نر مثله ، يقال له العنبر.

فأكلنا منه نصف شهر. فأخذ أبو عبيدة عظاما من عظامه فمر الراكب تحته. قال أبو عبيدة : كلوا. فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «كلوا رزقا أخرجه الله. أطعمونا إن كان معكم» فأتاه بعضهم بعضو ، فأكله.

(٥) أخرجه الترمذي في الصيد ، باب ما جاء في ذكاة الجنين.

١٢٣

واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) [النساء : ١١] فبقيت البنتان مسكوتا عنهما. فنقل في السنة حكمهما. وهو إلحاقهما بما فوق البنتين. ذكره القاضي إسماعيل. فهذه أمثلة يستعان بها على ما سواها ، فإنه أمر واضح لمن تأمل ، وراجع إلى أحد الأصلين المنصوص عليهما أو إليهما معا ، فيأخذ من كل منهما بطرف فلا يخرج عنهما ولا يعدوهما. وأما مجال القياس فإنه يقع في الكتاب العزيز أصول تشير إلى ما كان من نحوها أن حكمه حكمها ، وتقرب إلى الفهم الحاصل من إطلاقها أن بعض المقيدات مثلها. فيجتزي بذلك الأصل عن تفريع الفروع اعتمادا على بيان السنة فيه.

وهذا النحو بناء على أن المقيس عليه ، وإن كان خاصا ، في حكم العام معنى. فإذا كان كذلك ووجدنا في الكتاب أصلا وجاءت السنة بما في معناه ، أو ما يلحق به ، أو يشبهه ، أو يدانيه فهو المعنى هاهنا. وسواء علينا أقلنا إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله بالقياس أو بالوحي ، إلا أنه جار إفهامنا مجرى المقيس ، والأصل الكتاب شامل له. وله أمثلة :

أحدها : أن الله عزوجل حرم الربا ، وربا الجاهلية الذي قالوا فيه (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] هو فسخ الدين في الدين. يقول الطالب : إما أن تقضي وإما أن تربي. وهو الذي دل عليه أيضا قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) [البقرة : ٢٧٩] فقال عليه‌السلام : «وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله» (١) وإذا كان كذلك ، وكان المنع فيه ، إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض ، ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بذلك المعنى ، فقال عليه‌السلام «الذهب بالذهب والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد ، فمن زاد وازداد فقد أربى ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» (٢) ، ثم زاد على ذلك بيع النّساء إذا اختلفت الأصناف. وعده من الربا لأن

__________________

(١) أخرجه أبو داود في المناسك ، باب صفة حجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حديث ١٩٠٥ : ... فخطب الناس فقال : «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع. ودماء الجاهلية موضوعة. وأول دم أضعه دماؤنا : دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضعه ربانا : ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ...» إلخ.

(٢) أخرجه مسلم في المساقاة ، حديث ٨٢.

١٢٤

النّساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة ويدخل فيه بحكم المعنى «السلف يجر نفعا». وذلك لأن بيع هذا الجنس بمثله في الجنس من باب بدل الشيء بنفسه. لتقارب المنافع فيما يراد منها. فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير شيء ، وهو ممنوع. والأجل في أحد العوضين لا يكون عادة إلا عند مقارنة الزيادة به في القيمة. إذ لا يسلم الحاضر في الغائب إلا ابتغاء ما هو أعلى من الحاضر في القيمة. وهو الزيادة. ويبقى النظر : لم جاز مثل هذا في غير النقدين والمطعومات ، ولم يجز فيهما؟ محل نظر. يخفى وجهه على المجتهدين. وهو من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها إلى اليوم. فلذلك بينتها السنة. إذ لو كانت بينة لو كل في الغالب أمرها إلى المجتهدين ، كما وكل إليهم النظر في كثير من محال الاجتهاد. فمثل هذا جار مجرى الأصل والفرع في القياس. فتأمله.

والثاني : أن الله تعالى حرم الجمع بين الأم وابنتها في النكاح ، وبين الأختين. وجاء في القرآن : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤] ، فجاء نهيه عليه‌السلام عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس ، لأن المعنى الذي لأجله ذمّ الجمع بين أولئك موجود هنا. وقد يروى في هذا الحديث «فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» (١). والتعليل يشعر بوجه القياس.

والثالث : أن الله تعالى وصف الماء الطهور بأنه أنزله من السماء ، وأنه أسكنه في الأرض ولم يأت مثل ذلك في ماء البحر. فجاءت السنة بإلحاق ماء البحر بغيره من المياه بأنه

«الطهور ماؤه ، الحلّ ميتته» (٢).

والرابع : أن الدية في النفس ، ذكرها الله تعالى في القرآن. ولم يذكر ديات الأطراف. وهي مما يشكل قياسها على العقول. فبيّن الحديث من دياتها ما وضح به السبيل وكأنه جار مجرى القياس الذي يشكل أمره. فلا بد من الرجوع إليه ، ويحذى حذوه.

والخامس : أن الله تعالى ذكر الفرائض المقدرة من النصف والربع والثمن والثلث والسدس. ولم يذكر ميراث العصبة إلا ما أشار إليه قوله في الأبوين : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) [النساء : ١١] الآية وقوله في الأولاد : (لِلذَّكَرِ

__________________

(١) أخرج البخاري في النكاح ، باب لا تنكح المرأة على عمتها : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها».

(٢) أخرجه أبو داود في الطهارة ، باب الوضوء بماء البحر ، حديث ٨٣ ..

١٢٥

مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] وقوله في آية الكلالة : (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) [النساء : ١٧٦]. وقوله : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١٧٦] فاقتضى أن ما بقي ، بعد الفرائض المذكورة ، فللعصبة. وبقي من ذلك ما كان من العصبة غير هؤلاء المذكورين ، كالجدّ والعم وابن العم وأشباههم. فقال عليه‌السلام : «ألحقوا الفرائض بأهلها. فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» (١) : وفي رواية فلأولى عصبة ذكر. فأتى هذا على ما بقي مما يحتاج إليه ، بعد ما نبه الكتاب على أصله.

والسادس : أن الله تعالى ذكر من تحريم الرضاعة قوله : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) [النساء : ٢٣] فألحق النبيّ عليه‌السلام ، بهاتين ، سائر القرابات من الرضاعة التي يحرمن من النسب. كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وأشباه ذلك. وجهة إلحاقها هي جهة الإلحاق بالقياس إذ ذاك ، من باب القياس بنفي الفارق. نصّت عليه السنة إذ كان لأهل الاجتهاد سوى النبيّ عليه‌السلام ، في ذلك ، نظر. وتردد بين الإلحاق والقصر على التعبد ، فقال عليه الصلاة والسلام «إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب» (٢)

وسائر ما جاء في هذا المعنى. ثم ألحق بالإناث الذكور ، لأن اللبن للفحل. ومن جهة درّ المرأة ، فإذا كانت المرأة بالرضاع فالذي له اللبن أم بلا إشكال.

والسابع : أن الله حرم مكة بدعاء إبراهيم. فقال : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) [البقرة : ١٢٦] وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) [العنكبوت : ٦٧]. وذلك حرم مكة ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه للمدينة بمثل ما دعا إبراهيم لمكة. ومثله معه. فأجابه الله. وحرم ما بين لابتيها فقال «إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها» (٣). وفي رواية «ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء» (٤). وفي حديث آخر «فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل

__________________

(١) أخرجه البخاري في الفرائض ، باب ميراث الولد من أبيه وأمه.

(٢) أخرجه الترمذي في الرضاع ، باب ما جاء يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

(٣) أخرجه مسلم في الحج ، حديث رقم ٤٥٩.

(٤) أخرجه مسلم في الحج ، حديث رقم ٤٦٠.

١٢٦

الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» (١) ومثله في صحيفة عليّ المتقدمة. فهذا نوع من الإلحاق بمكة في الحرمة. وقد جاء فيها قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) إلى قوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج : ٢٥] والإلحاد شامل لكل عدول عن الصواب إلى الظلم وارتكاب المنهيات على تنوعها. حسبما فسرته السنة. فالمدينة لاحقة في هذا المعنى.

والثامن : أن الله تعالى قال : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ...) الآية [البقرة : ٢٨٢] فحكم في الأموال بشهادة النساء ، منضمة إلى شهادة رجل. وظهر به ضعف شهادتين. ونبّه على ذلك في قوله : «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن» (٢) ، وفسر نقصان العقل بأن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل. وحين ثبت ذلك بالقرآن وقال فيه : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) [البقرة : ٢٨٢]. دلّ على انحطاطهن عن درجة الرجل. فألحقت السنة ، بذلك ، اليمين مع الشاهد. فقضى عليه‌السلام بذلك. لأن لليمين في اقتطاع الحقوق واقتضائها حكما قضى به قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ..) [آل عمران : ٧٧] الآية فجرى الشاهد واليمين مجرى الشاهدين. أو الشاهد والمرأتين في القياس. إلا أنه يخفى. فبيّنته السنة.

والتاسع : أن الله تعالى ذكر البيع في الرقاب وأحله. وذكر الإجارة في بعض الأشياء. كالجعل المشار إليه في قوله تعالى : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) [يوسف : ٧٢]. والإجارة على القيام بمال اليتيم في قوله : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦]. وفي العمال على الصدقة ، كقوله تعالى : (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) [التوبة : ٦٠]. وفي بعض منافع لا تأتي على سائرها. فأطلقت السنة فيها القول بالنسبة إلى سائر منافع الرقاب من الناس والدواب والدور والأرضين. فبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك كثيرا. ووكل سائرها إلى أنظار المجتهدين. وهذا هو المجال القياسيّ في الشرع. ولا علينا : أقصد النبيّ عليه‌السلام القياس على الخصوص أم لا؟

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاعتصام ، باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلوّ في الدين والبدع.

(٢) أخرجه البخاري في الحيض ، باب ترك الحائض الصوم.

١٢٧

لأن جميع ذلك يرجع إلى قصده بيان ما أنزل الله إليه ، على أي وجه كان.

والعاشر : أن الله تعالى أخبر عن إبراهيم. في شأن الرؤيا بما أخبر به من ذبح ولده. وعن رؤيا يوسف ورؤيا الفتيين. وكانت رؤيا صادقة. ولم يدل ذلك على صدق كل رؤيا. فبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحكام ذلك ، وأن الرؤيا الصالحة (١) من الرجل الصالح جزء من أجزاء النبوءة. وأنها من المبشرات. وأنها على أقسام. إلى غير ذلك من أحكامها. فتضمن إلحاق غير أولئك المذكورين بهم. وهو المعنى الذي في القياس. والأمثلة في هذا المعنى كثيرة.

ومنها النظر إلى ما يتألف من أدلة القرآن المتفرقة من معان مجتمعة ، فإن الأدلة قد تأتي في معان مختلفة ولكن يشملها معنى واحد شبيه بالأمر في المصالح المرسلة والاستحسان. فتأتي السنة بمقتضى ذلك المعنى الواحد ، فيعلم أو يظن أن ذلك المعنى مأخوذ من مجموع تلك الأفراد. بناء على صحة الدليل الدّال على أن السنة إنما جاءت مبينة الكتاب. ومثال هذا الوجه ما تقدم في أول كتاب الأدلة الشرعية ، في طلب معنى قوله عليه‌السلام «لا ضرر ولا ضرار» (٢) من الكتاب ، ويدخل فيه ما في معنى هذا الحديث من الأحاديث. فلا معنى للإعادة.

ومنها النظر إلى تفاصيل الأحاديث في تفاصيل القرآن. وإن كان في السنة بيان زائد. ولكن صاحب هذا المأخذ يتطلب أن يجد كل معنى في السنة مشارا إليه من حيث وضع اللغة ، لا من جهة أخرى. أو منصوصا عليه في القرآن. ولنمثله ثم ننظر في صحته أو عدم صحته. وله أمثلة كثيرة :

أحدها : حديث ابن عمر في تطليقه زوجه وهي حائض (٣). فقال عليه‌السلام لعمر «مره فليراجعها. ثم ليتركها حتى تطهر. ثم تحيض ثم تطهر. ثم ، إن شاء ، أمسك بعد ، وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء». يعني أمره في قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١].

__________________

(١) أخرجه البخاري في التعبير ، ٢ ـ باب رؤيا الصالحين ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ، و ٣ ـ باب الرؤيا من الله ، عن أبي قتادة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ، و ٤ ـ باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الأحكام ، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره حديث ٢٣٤٠.

(٣) أخرجه البخاري في الطلاق ، باب قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ).

١٢٨

والثاني : حديث فاطمة (١) بنت قيس في أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ، إذ طلقها البتة. وشأن المبتوتة أن لها السكنى وإن لم يكن لها نفقة. لأنها بذت على أهلها بلسانها. فكان ذلك تفسيرا لقوله : (وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [الطلاق : ١].

والثالث : حديث سبيعة الأسلمية (٢) ، إذ ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر. فأخبرها عليه‌السلام أن قد حلّت. فبيّن الحديث أن قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤] مخصوص في غير الحامل. وأن قوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤] عامّ في المطلقات وغيرهن.

والرابع : حديث أبي هريرة في قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [البقرة : ٥٩] قالوا : حبة في شعرة (٣) : يعني عوض قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ).

والخامس : حديث (٤) جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم مكة. طاف بالبيت سبعا. فقرأ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة : ١٢٥]. فصلى خلف المقام ، ثم أتى الحجر فاستلمه. ثم قال : نبدأ بما بدأ الله به. وقرأ : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ).

والسادس : حديث (٥) النعمان بن بشير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠]. قال «الدعاء هو العبادة» وقرأ الآية إلى قوله. (داخِرِينَ).

والسابع : حديث (٦) عديّ بن حاتم قال : لما نزلت : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل».

__________________

(١) أخرجه مسلم في الطلاق ، حديث ٣٦.

(٢) أخرجه البخاري في الطلاق ، باب (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ). عن أم سلمة ، زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن امرأة من أسلم يقال لها سبيعة ، كانت تحت زوجها. توفي عنها وهي حبلى ...

(٣) أخرجه البخاري في التفسير ، سورة البقرة ، باب (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ).

(٤) أخرجه النسائي في مناسك الحج ، باب القول بعد ركعتي الطواف.

(٥) أخرجه الترمذي في التفسير ، سورة البقرة ، باب حدثنا هناد.

(٦) أخرجه البخاري في الصوم ، باب قول الله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا). عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : لما نزلت : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ...)

١٢٩

والثامن : حديث سمرة بن جندب ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلاة الوسطى صلاة العصر» (١) ، وقال يوم الأحزاب : «اللهم! املأ قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس» (٢).

والتاسع : حديث أبي هريرة قال عليه‌السلام : «إن موضع سوط في الجنة لخير من الدنيا وما فيها» (٣). اقرءوا إن شئتم (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٣٥].

والعاشر : حديث أنس في الكبائر. قال عليه‌السلام ، فيها «الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقول الزور» (٤).

وثمّ أحاديث أخر فيها ذكر الكبائر. وجميعها تفسير لقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [النساء : ٣١] الآية.

وهذا النمط في السنة كثير. ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على النص والإشارة العربية التي تستعلمها العرب أو نحوها. وأول شاهد في هذا ، الصلاة والحج والزكاة والحيض والنفاس واللّقطة والقراض والمساقاة والديات والقسامات وأشباه ذلك من أمور لا تحصى.

فالملتزم لهذا لا يفي بما ادعاه إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب ولا يوافق على مثلها السلف الصالح ولا العلماء الراسخون في العلم.

ولقد رام بعض الناس فتح هذا الباب الذي شرع في التنبيه عليه ، فلم يوف به إلا على التكلف المذكور ، والرجوع إلى المآخذ الأول في مواضع كثيرة ، لم يتأت له فيها نص ولا إشارة إلى خصوصات ما ورد في السنة. فكان ذلك نازلا بقصده الذي قصد.

وهذا الرجل المشار إليه لم ينصب نفسه في هذا المقام إلا لاستخراج معاني الأحاديث التي خرّج مسلم بن الحجاج في كتابه «المسند الصحيح» دون ما سواها مما نقله الأئمة سواه. وهو من غرائب المعاني المصنفة في علوم القرآن والحديث. وأرجو أن يكون ما ذكر هنا من المآخذ موفيا بالغرض في الباب. والله الموفق للصواب.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في كتاب التفسير ، سورة البقرة ، باب حدثنا حميد بن مسعدة.

(٢) أخرجه البخاري في التفسير ، سورة البقرة ، باب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى.

(٣) ابن كثير ١ / ٤٣٥.

(٤) أخرجه البخاري في الأدب ، باب عقوق الوالدين من الكبائر ..

١٣٠

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

وقد ظهر ، مما تقدم ، الجواب عما أوردوا من الأحاديث التي قالوا : إن القرآن لم ينبه عليها. فقوله عليه‌السلام (١) «يوشك رجل منكم متكئا على أريكته ... إلى آخره» لا يتناول ما نحن فيه. فإن الحديث إنما جاء فيمن يطرح السنة معتمدا على رأيه في فهم القرآن. وهذا لم ندّعه في مسألتنا هذه. بل هو رأي أولئك الخارجين عن الطريقة المثلى.

وقوله : «ألا وإنّ ما حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ما حرم الله» صحيح على الوجه المتقدم. إما بتحقيق المناط الدائر بين الطرفين الواضحين والحكم عليه ، وإما بالطريقة القياسية ، وإما بغيرها من المآخذ المتقدمة. ومرّ الجواب عن تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها. وتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، وعلى العقل. وأما فكاك الأسير فمأخوذ من قوله تعالى : (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) [الأنفال : ٧٢] وهذا فيمن لم يهاجر ، إذا لم يقدر على الهجرة إلا بالانتصار بغيره ، فعلى الغير النصر. والأسير في هذا المعنى أولى بالنصر. فهو مما يرجع إلى النظر القياسيّ. وأما أن «لا يقتل مسلم بكافر» (٢) فقد انتزعها العلماء من الكتاب. كقوله : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [النساء : ١٤١] وقوله : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الحشر : ٢٠] وهذه الآية أبعد ، ولكن الأظهر أنه لو كان حكمها موجودا في القرآن على التنصيص أو نحوه لم يجعلها عليّ خارجة عن القرآن حيث قال : ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة. إذ لو كان في القرآن لعدّ الثّنتين ، دون قتل المسلم بالكافر. ويمكن أن يؤخذ حكم المسألة مأخذ القياس المتقدم. لأن الله قال : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) [البقرة : ١٧٨] فلم يقد من الحر العبد. والعبودية من آثار الكفر. فأولى أن لا يقاد من المسلم للكافر. وأما إخفار ذمة المسلم فهو من باب نقض العهد. وهو في القرآن. وأقرب الآيات إليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في المقدمة ، باب تعظيم حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتغليظ على من عارضه ، حديث ١٢.

(٢) أخرجه البخاري في الديات ، باب لا يقتل المسلم بالكافر.

١٣١

الدَّارِ) [الرعد : ٢٥] وفي الآية الأخرى : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [البقرة : ٢٧] وقد مرّ تحريم المدينة وانتزاعه من القرآن. وأما من تولى قوما بغير إذن مواليه فداخل بالمعنى في قطع ما أمر الله به أن يوصل. وأيضا فإن الانتفاء من ولاء صاحب الولاء ، الذي هو لحمة كلحمة النسب ، كفر لنعمة ذلك الولاء. كما هو في الانتساب إلى غير الأب .. وقد قال تعالى فيها : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) [النحل : ٧٢] وصدق هذا المعنى في الصحيح من قوله «أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم» (١) ، وفيه «إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة» (٢).

وحديث معاذ ظاهر في أن ما لم يصرّح به في القرآن ، ولا حصل بيانه فيه ، فهو مبين في السنة. وإلا فالاجتهاد يقضي عليه. وليس فيه معارضة لما تقدم.

ثم قال الشاطبيّ : حيث قلنا : إن الكتاب دال على السنة ، وإن السنة ، إنما جاءت مبيّنة له ، فذلك بالنسبة إلى الأمر والنهي والإذن ، أو ما يقتضي ذلك ، وبالجملة ما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة التكليف. وأما ما خرج عن ذلك من الإخبار عما كان أو ما يكون ، مما لا يتعلق به أمر ولا نهي ولا إذن ، فعلى ضربين :

أحدهما : أن يقع في السنة موقع التفسير للقرآن. فهذا لا نظر في أنه بيان له.ؤكما في قوله تعالى : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) [البقرة : ٥٨] قال :ؤ«دخلوا يزحفون على أوراكهم»ؤوفي قوله (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [البقرة : ٥٩] قال : قالوا حبة في شعرة. وفي قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ...) [البقرة : ١٤٣] الآية. قال (٣) : يدعى نوح فيقال : هل بلغت؟ فيقول : نعم ، فيدعى قومه. فيقال : هل بلّغكم؟ فيقولون : ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد. فيقال : من شهودك؟ فيقول : محمد وأمته. قال فيؤتى بكم تشهدون أنه قد بلّغ ، فذلك قول الله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان ، حديث ١٢٢.

(٢) أخرجه مسلم في الإيمان ، حديث ١٢٣.

(٣) أخرج البخاري في الاعتصام ، باب قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً). عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له : هل بلّغت؟ فيقول : نعم. يا رب. فتسأل أمته : هل بلغكم؟ فيقولون : ما جاءنا من نذير. فيقال : من شهودك؟ فيقول : محمد وأمته. فيجاء بكم فتشهدون».

١٣٢

وفي قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠]. قال «إنكم تتبعون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله» (١).

وفي قوله : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩] ، «إن أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش ، إلى آخر الحديث» (٢).

وقال : «ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل .... الآية : الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها» (٣).

وفي قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الأعراف : ١٧٢] الآية. قال : «لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ، ثم عرضهم على آدم فقال : رب! من هؤلاء؟ قال : هؤلاء ذريتك» (٤) الحديث.

وفي قوله : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود : ٨٠] قال : «يرحم الله لوطا ، كان يأوي إلى ركن شديد. فما بعث الله من بعده نبيّا إلا في ذروة من قومه» (٥).

وقال : «الحمد لله أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني» (٦). وفي رواية : «ما أنزل الله في التوراة والإنجيل مثل أمّ القرآن وهي السبع المثاني» (٧).

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ، ٥ / ٣ عن بهز عن أبيه عن جده قال : سمعت نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ألا إنكم توفون سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله عزوجل».

(٢) أخرجه مسلم في الإمارة ، حديث ١٢١.

(٣) أخرجه مسلم في الإيمان ، حديث ٢٤٩.

(٤) أخرجه الترمذي في التفسير ، سورة الأعراف.

(٥) أخرجه الترمذي في التفسير ، سورة يوسف. حدثنا الحسين بن حريث الخزاعي. عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» قال : «ولو لبثت في السجن ما لبث ثم جاءني الرسول أجبت». ثم قرأ : (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ). قال : «ورحمة الله على لوط ، إن كان ليأوي إلى ركن شديد ، إذ (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ). فما بعث الله من بعده نبيّا إلا في ذروة من قومه».

(٦) أخرجه البخاري في فضائل القرآن ، باب فاتحة الكتاب.

(٧) أخرجه الترمذي في ثواب القرآن ، باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب.

١٣٣

وسأله اليهود عن قول الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) [الإسراء : ١٠١] ففسرها لهم (١).

وحديث (٢) موسى مع الخضر ثابت صحيح.

وفي قوله تعالى : (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩]. قال : «لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث : قوله إني سقيم ..» (٣) الحديث.

وقال : «إنكم محشورون إلى الله عراة غرلا» (٤). ثم قرأ : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ...) [الأنبياء : ١٠٤] الآية.

وفي قوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١]. قال : «ذلك يوم يقول الله لآدم : ابعث بعث النار ...» (٥) الحديث.

وقال : «إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار» (٦). وأمثلة هذا الضرب كثيرة.

والثاني : أن لا يقع موقع التفسير ، ولا فيه معنى تكليف اعتقاديّ أو عمليّ. فلا يلزم أن يكون له أصل في القرآن. لأنه أمر زائد على موقع التكليف ، وإنما أنزل القرآن

__________________

(١) أخرجه الترمذي في التفسير ، سورة الإسراء ، حدثنا محمود بن غيلان ، عن صفوان بن عسال ؛ أن يهوديين ، قال أحدهما لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله. فقال : لا تقل نبي. فإنه إن سمعها تقول نبي كانت له أربعة أعين. فأتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألاه عن قول الله عزوجل : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ). فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تشركوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تسرقوا ، ولا تسحروا ، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا محصنة ، ولا تفروا من الزحف. وعليكم ، يا معشر اليهود خاصة ، لا تعدوا في السبت» فقبّلا يديه ورجليه وقالا : نشهد أنك نبي. قال : «فما يمنعكما أن تسلما»؟ قالا : إن داود دعا الله أن لا يزال في ذريته نبي. وإنا نخاف ، إن أسلمنا ، أن تقتلنا اليهود.

(٢) أخرجه البخاري في الأنبياء ، باب حديث الخضر مع موسى عليهما‌السلام.

(٣) أخرجه البخاري في الأنبياء ، باب قول الله تعالى : وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً.

(٤) أخرجه البخاري في الأنبياء ، باب قول الله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً). عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنكم محشورون حفاة عراة غرلا» ثم قرأ : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ).

(٥) أخرج الترمذي في التفسير ، سورة الحج ، باب حدثنا ابن أبي عمر : عن عمران بن حصين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما نزلت : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) إلى قوله : (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ). قال : أنزلت عليه هذه وهو في سفر. فقال «أتدرون أي يوم ذلك»؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم. قال «ذلك يوم يقول الله لآدم : ابعث بعث النار. فقال : يا رب ، وما بعث النار ...؟ إلخ الحديث».

(٦) أخرجه الترمذي في التفسير ، سورة الحج ، باب حدثنا محمد بن إسماعيل.

١٣٤

لذلك. فالسنة إذا خرجت عن ذلك فلا حرج. وقد جاء من ذلك نمط صالح في الصحيح. كحديث (١) أبرص وأقرع وأعمى ، وحديث (٢) جريج العابد ، ووفاة موسى (٣). وجمل من قصص الأنبياء ، عليهم‌السلام ، والأمم قبلنا ، مما لا ينبني عليه عمل. ولكن في ذلك من الاعتبار نحو مما في القصص القرآنيّ. وهو نمط ربما رجع إلى الترغيب والترهيب. فهو خادم للأمر والنهي ، ومعدود في المكملات لضرورة التشريع فلم يخرج بالكلية عن القسم الأول. والله أعلم.

١١ ـ قاعدة في أنه : هل في القرآن مجاز أم لا؟

قال شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية في كتاب «الإيمان» :

فإن قيل : ما ذكر من تنوع دلالة اللفظ بالإطلاق والتقييد في كلام الله ورسوله وكلام كلّ أحد ، بيّن ظاهر لا يمكن دفعه. لكن نقول : دلالة لفظ الإيمان على الأعمال مجاز ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإيمان بضع وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شعبة. أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» مجاز. وقوله «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ورسله ... إلى آخره» حقيقة. وهذا عمدة المرجئة ، والجهمية ، والكرامية ، وكلّ من لم يدخل الأعمال في اسم الإيمان. ونحن نجيب بجوابين : أحدهما كلام عامّ في لفظ الحقيقة والمجاز ، والثاني ما يختص بهذا الموضع. فبتقدير أن يكون أحدهما مجازا ، ما هو الحقيقة من ذلك من المجاز؟ هل الحقيقة هو المطلق أو المقيّد؟ أو كلاهما حقيقة؟ حتى يعرف أنّ لفظ الإيمان إذا أطلق ، على ماذا يحمل؟ فيقال أولا : تقسيم الألفاظ الدالة على معانيها إلى حقيقة ومجاز ،

__________________

(١) أخرج البخاري في الأنبياء ، حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل. عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لله أن يبتليهم ... إلخ» الحديث.

(٢) أخرج البخاري في العمل في الصلاة ، باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة : عن أبي هريرة رضي الله عنه ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نادت امرأة ابنها ، وهو في صومعة ، قالت : يا جريج. قال : اللهم ، أمي وصلاتي. قالت : يا جريج. قال : اللهم أمي وصلاتي. قالت : يا جريج. قال : اللهم ، أمي وصلاتي. قالت : اللهم لا يموت جريج حتى ينظر في وجه المياميس. وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم. فولدت. فقيل لها : ممن هذا الولد؟ قالت : من جريج. نزل من صومعته. قال جريج : أين هذه التي تزعم أن ولدها لي؟ قال : يا بابوس ، من أبوك؟ قال : راعي الغنم.

(٣) أخرج البخاري في الأنبياء ، باب وفاة موسى : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما‌السلام. فلما جاءه صكه ... إلخ الحديث.

١٣٥

أو تقسيم دلالتها ، أو المعاني المدلول عليها ، إن استعمل لفظ الحقيقة والمجاز في المدلول أو في الدالة ، فإنّ هذا كلّه قد يقع في كلام المتأخرين. ولكنّ المشهور أنّ الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ. وبكلّ حال ، فهذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة. لم يتكلم به أحد من الصحابة ، ولا التابعين لهم بإحسان ، ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم : كمالك ، والثوريّ ، والأوزاعيّ ، وأبي حنيفة والشافعيّ ، بل ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو : كالخليل ، وسيبويه ، وأبي عمرو بن العلاء ... ونحوهم.

وأول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز ، أبو عبيدة معمر بن المثنّى في كتابه. ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة ، وإنما عنى ، بمجاز الآية ، بما يعبّر به عن الآية. ولهذا ، قال : من قال من الأصوليين كأبي الحسين البصريّ وأمثاله : إنه يعرف الحقيقة من المجاز بطرق : منها نص أهل اللغة على ذلك ، بأن يقولوا : هذا حقيقة وهذا مجاز ـ فقد تكلم بلا علم. فإنه ظنّ أنّ أهل اللغة قالوا هذا. ولم يقل ذلك أحد من أهل اللغة ولا من سلف الأمة وعلمائها. وإنما هذا اصطلاح حادث ، والغالب أنّه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين. فإنه لم يوجد هذا في كلام أحد من أهل الفقه والأصول والتفسير والحديث ونحوهم من السلف. وهذا الشافعي هو أول من جرّد الكلام في أصول الفقه ، ولم يقسم هذا التقسيم ، ولا تكلم بلفظ الحقيقة والمجاز. وكذلك محمد بن الحسن له في المسائل المبنيّة على العربية كلام معروف في الجامع الكبير وغيره ، ولم يتكلم بلفظ الحقيقة ، والمجاز. وكذلك سائر الأئمة لم يوجد لفظ المجاز في كلام أحد منهم إلّا في كلام أحمد بن حنبل ، فإنه قال في كتاب «الردّ على الجهمية» في قوله : إنّا ، ونحن ، ونحو ذلك في القرآن : هذا من مجاز اللغة. يقول الرجل : إنا سنعطيك ، إنا سنفعل ، فذكر أن هذا من مجاز اللغة. وبهذا احتج على مذهبه من أصحابه من قال : إن في القرآن مجازا : كالقاضي أبي يعلى ، وابن عقيل ، وأبي الخطاب ، وغيرهم. وآخرون من أصحابه منعوا أن يكون في القرآن مجاز : كأبي الحسن الجزريّ ، وأبي عبد الله بن حامد ، وأبي الفضل التميميّ بن أبي الحسن التميميّ. وكذلك منع أن يكون في القرآن مجاز ، محمد بن جرير مندار وغيره من المالكية ، ومنع منه داود بن عليّ ، وابنه أبو بكر ، ومنذر بن سعيد البلّوطي وصنف فيه مصنفا. وحكى بعض الناس عن أحمد ـ في ذلك ـ روايتين. وأما سائر الأئمة فلم يقل أحد منهم ، ولا من قدماء أصحاب أحمد : إنّ في القرآن مجازا ـ لا مالك ولا الشافعي ولا أبو حنيفة. فإن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجا

١٣٦

إنما اشتهر في المائة الرابعة وظهرت أوائله في المائة الثالثة ، وما علمته موجودا في المائة الثانية. اللهم إلا أن يكون في أواخرها. والذين أنكروا أن يكون أحمد أو غيره نطقوا بهذا التقسيم قالوا : إن معنى قول أحمد «من مجاز اللغة» أي : مما يجوز في اللغة ، أي يجوز في اللغة أن يقول الواحد العظيم الذي له أعوان : نحن فعلنا كذا أو نفعل كذا ونحو ذلك. قالوا : ولم يرد أحمد بذلك أنّ اللفظ استعمل في غير ما وضع له. وقد أنكر طائفة أن يكون في اللغة مجاز ، لا في القرآن ولا غيره. كأبي إسحاق الأسفرائينيّ. وقال المنازعون له : النزاع معه لفظيّ ، فإنه إذا سلم أن في اللغة لفظا مستعملا في غير ما وضع له لا يدل على معناه إلّا بقي منه. فهذا هو المجاز ، وإن لم تسمه مجازا. فيقول من ينصره : إن الذين قسموا اللفظ إلى حقيقة ومجاز ، قالوا : الحقيقة هو اللفظ المستعمل في ما وضع له ، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له ـ كلفظ الأسد والحمار ، إذا أريد بهما البهيمة ، أو أريد بهما الشجاع والبليد ـ وهذا التقسيم والتحديد يستلزم أن يكون اللفظ قد وضع أولا لمعنى ، ثم بعد ذلك قد يستعمل في موضوعه ، وقد يستعمل في غير موضوعه. ولهذا كان المشهور عند أهل التقسيم ، أن كلّ مجاز فلا بد له من حقيقة ، وليس لكل حقيقة مجاز. فاعترض عليهم بعض متأخريهم ، وقال : اللفظ الموضوع قبل للاستعمال لا حقيقة ولا مجاز. فإذا استعمل في غير موضوعه فهو مجاز لا حقيقة له. وهذا كله إنما يصح أنْ لو علم أن الألفاظ العربية وضعت أولا لمعان ، ثم بعد ذلك استعملت فيها ، فيكون لها وضع متقدم على الاستعمال. وهذا إنما صح على قول من يجعل اللغات اصطلاحية ، فيدّعي أن قوما من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا ، وهكذا بكذا ، ويجعل هذا عاما في جميع اللغات. وهذا القول لا نعرف أحدا من المسلمين قاله قبل أبي هاشم بن الجبائيّ. فإنه وأبا الحسن الأشعريّ ، كلاهما قرأ على أبي علي الجبائي. لكن الأشعريّ رجع عن مذهب المعتزلة ، وخالفهم في القدر والوعيد ، وفي الأسماء والأحكام ، وفي صفات الله تعالى. وبيّن من تناقضهم وفساد قولهم ما هو معروف عنه. فتنازع الأشعريّ وأبو هاشم. وقال الأشعريّ : هي توقيفية. ثم خاض الناس بعدهما في هذه المسألة ، فقال آخرون : بعضها توقيفيّ ، وبعضها اصطلاحيّ. وقال فريق رابع : بالوقف.

«والمقصود هنا : أنه لا يمكن أحدا أن ينقل عن العرب ، بل ولا عن أمة من الأمم أنه اجتمع جماعة فوضعوا جميع هذه الأسماء الموجودة في اللغة ثم استعملوها بعد الوضع. وإنما المعروف المنقول بالتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما

١٣٧

عنوه بها من المعاني. فإن ادعى مدّع أنه يعلم وضعا يتقدم ذلك فهو مبطل ، فإن هذا لم ينقله أحد من الناس. ولا يقال نحن نعلم ذلك بالدليل ، فإنه ـ إن لم يكن اصطلاح متقدم ـ لم يمكن الاستعمال. قيل : ليس الأمر كذلك ، بل نحن نجد أن الله يلهم الحيوان من الأصوات ما به يعرف بعضها مراد بعض ، وقد سمي ذلك منطقا وقولا في قول سليمان : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) [النمل : ١٦] ، وفي قوله : («قالَتْ نَمْلَةٌ : يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨] ، وفي قوله : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠]. وكذلك الآدميون ، فالمولود إذا ظهر منه التمييز سمع أبويه ، أو من يربيه ، ينطق باللفظ ، ويشير إلى المعنى ، فصار يفهم أن ذلك اللفظ يستعمل في ذلك المعنى ـ أي أراد المتكلم به ذلك المعنى ـ ثم هذا يسمع لفظا بعد لفظ حتى يعرف لغة القوم الذين نشأ بينهم من غير أن يكونوا قد اصطلحوا معه على وضع متقدم. بل ولا فقهوه على معاني الأسماء. وإن كان أحيانا قد يسأل عن مسمى بعض الأشياء فيوقف عليها. كما يترجم للرجل اللغة التي لا يعرفها فيوقف على معاني ألفاظها ، وإن باشر أهلها مدة ، علم ذلك بلا توقيف من أحد. نعم ، قد يضع الناس الاسم لما يحدث ، مما لم يكن من قبلهم يعرفه فيسميه ، كما يولد لأحدهم فيسميه اسما إما منقولا أو مرتجلا. وقد يكون المسمّي واحدا لم يصطلح مع غيره. وقد يستوون فيما يسمونه. وكذلك قد يحدث الرجل آلة من صناعة ، أو يصنّف كتابا ، أو يبني مدينة. ونحو ذلك فيسميه باسم ، لأنه ليس من الأجناس المعروفة حتى يكون له اسم في اللغة العامة. وقد قال تعالى : (الرَّحْمنُعَلَّمَ الْقُرْآنَخَلَقَ الْإِنْسانَعَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ١ ـ ٤] ، (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت : ٢١] ، وقال : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىوَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى : ٢ ـ ٣] وهو سبحانه يلهم الإنسان المنطق كما يلهم غيره. وهو سبحانه ، إذا كان قد علّم آدم الأسماء كلها ، وعرض المسميات على الملائكة ـ كما أخبر بذلك في كتابه ـ. فنحن نعلم أنه لم يعلّم آدم جميع اللغات التي يتكلم بها جميع الناس إلى يوم القيامة ، وأن تلك اللغات اتصلت إلى أولاده فلا يتكلّمون إلا بها ... فإن دعوى هذا كذب ظاهر ...! فإن آدم ، عليه‌السلام ، إنما ينقل عنه بنوه. وقد أغرق الله ، عام الطوفان ، جميع ذريته إلا من في السفينة. وأهل السفينة انقطعت ذريتهم إلا أولاد نوح. ولم يكونوا يتكلّمون بجميع ما تكلمت به الأمم بعدهم. فإن اللغة الواحدة : كالفارسية ، والعربية ، والرومية ، والتركية .. فيها من الاختلاف والأنواع ما لا يحصيه إلا الله. والعرب أنفسهم ، لكلّ قوم لغات لا يفهمها غيرهم. فكيف يتصور

١٣٨

أن ينقل هذا جميعه عن أولئك الذين كانوا في السفينة؟ وأولئك جميعهم لم يكن لهم نسل ، وإنما النسل لنوح ، وجميع الناس من أولاده ، وهم ثلاثة : سام وحام ويافث. كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) [الصافات : ٧٧] فلم يجعل باقيا إلا ذريته. وكما روي ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أولاده ثلاثة» رواه أحمد وغيره. ومعلوم أن الثلاثة لا يمكن أن ينطقوا بهذا كله ، ويمتنع نقل ذلك عنهم! فإن الذين يعرفون هذه اللغة لا يعرفون هذه. وإذا كان الناقل ثلاثة منهم قد علّموا أولادهم ، وأولادهم قد علّموا أولادهم ، ولو كان كذلك لاتصلت. ونحن نجد بني الأب الواحد يتكلم كل قبيلة منهم بلغة لا تعرفها الأخرى. والأب الواحد لا يقال إنه علم أحد ابنيه لغة ، وابنه الآخر لغة ، فإن الأب قد لا يكون له إلا ابنان ، واللغات في أولاده أضعاف ذلك. والذي أجرى الله عليه عادة بني آدم ، أنهم إنما يعلمون أولادهم لغتهم التي يخاطبونهم بها ، أو يخاطبهم بها غيرهم. فأما لغات لم يخلق الله من يتكلم بها فلا يعلّمونها أولادهم ، وأيضا فإنه يوجد بنو آدم يتكلمون بألفاظ ما سمعوها قط من غيرهم والعلماء من المفسرين وغيرهم لهم في الأسماء التي علمها آدم قولان معروفان عن السلف :

أحدهما : أنه إنما علمه أسماء من يعقل ، واحتجّوا بقوله : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) [البقرة : ٣١] قالوا : وهذا الضمير لا يكون إلا لمن يعقل. وما لا يعقل يقال فيها : علمها. ولهذا قال أبو العالية : «علّمه أسماء الملائكة لأنه لم يكن حينئذ من يعقل إلا الملائكة ، ولم يكن له ذرية ، ولا كان إبليس قد انفصل عن الملائكة ولا كان له ذرية». وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : «علّمه أسماء ذريته». وهذا يناسب الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن آدم سأل ربه أن يريه صور الأنبياء من ذريته ، فرآهم ، فرأى فيهم من يبص ، فقال : يا ربّ! من هذا؟ قال : ابنك داود» (١). فيكون قد أراه صور ذريته ، أو بعضهم ، أو أسماءهم. وهذه أسماء أعلام لا أجناس.

الثاني : أنّ الله علمه أسماء كل شيء. وهذا قول الأكثرين كابن عباس وأصحابه. قال ابن عباس : «علمه حتى الفسوة والفسيّة والقصعة والقصيعة» أراد أسماء الأعراض والأعيان مكبّرها ومصغّرها. والدليل على ذلك ، ما ثبت في

__________________

(١) أخرجه الترمذي في التفسير ، سورة الأعراف.

١٣٩

الصحيحين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في حديث الشفاعة (١) :

«إن الناس يقولون : يا آدم! أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وعلمك أسماء كل شيء». وأيضا قوله : «الأسماء كلّها». لفظ عام مؤكد ، فلا يجوز تخصيصه بالدعوى.

وقوله : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) لأنه اجتمع من يعقل ومن لا يعقل ، فغلب من يعقل. كما قال : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥]. قال عكرمة : «علّمه أسماء الأجناس دون أنواعها ، كقولك : إنسان ، وجن ، وملك ، وطائر». وقال مقاتل بن السائب. وابن قتيبة : «علّمه أسماء ما خلق في الأرض من : الدواب ، والهوامّ ، والطير».

ومما يدل على أن هذه اللغات ليست متلقّاة عن آدم ، أن أكثر اللغات ناقصة عن اللغة العربية. ليس عندهم أسماء خاصة للأولاد والبيوت والأصوات وغير ذلك مما يضاف إلى الحيوان. بل إنما يستعملون في ذلك الإضافة. فلو كان آدم عليه‌السلام علمه الجميع لعلمها متناسبة. وأيضا ، فكل أمة ، ليس لها كتاب ، ليس في لغتها أيام الأسبوع ، إنما يوجد في لغتها اسم اليوم والشهر والسنة ، لأن ذلك عرف بالحس والعقل ، فوضعت له الأمم الأسماء ، لأن التعبير يتبع التصوّر. وأما الأسبوع فلم يعرف إلا بالسمع ، لم يعرف ـ أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ـ إلا بأخبار الأنبياء الذين شرع لهم أن يجتمعوا في الأسبوع يوما يعبدون الله فيه ، ويحفظون به الأسبوع الذي بدأ الله فيه خلق هذا العالم. ففي لغة العرب والعبرانيين ومن تلقى عنهم أيام الأسبوع ، بخلاف الترك ونحوهم ، فإنه ليس في لغتهم أيام الأسبوع لأنهم لم يعرفوا ذلك فلم يعبّروا عنه.

فعلم أن الله تعالى ألهم النوع الإنسانيّ أن يعبّر عما يريده ويتصوّره بلفظه. وأن أول من علم ذلك أبوهم آدم ، وهم علموا كما علّم ، وإن اختلفت اللغات. وقد أوحى الله إلى موسى بالعبرانية ، وإلى محمد بالعربية ، والجميع كلام الله. وقد بيّن الله من ذلك ما أراد من خلقه وأمره ، وإن كانت هذه اللغة ليست الأخرى ، مع أن العبرانية من

__________________

(١) أخرج البخاري في التوحيد ، باب قوله (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) ، عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يجتمع المؤمنون يوم القيامة ...» إلخ.

١٤٠