تفسير القاسمي - ج ١

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ١

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

ومثل هذا قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ...) [النبأ : ١ ـ ٥] ، زجرهم ب «كلا» الأولى عن التساؤل والاختلاف ، ثم أكد كلّا الأولى بكلّا الثانية وتهددهم فيما بينهما بقوله بعد : (سَيَعْلَمُونَ) ثم أكد هذا التهديد بقوله بعد : (كلا) الثانية (سَيَعْلَمُونَ).

وأما تكرير قوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات : ١٩ ـ ٢٤ ـ ٢٨] ، فيجوز أن يكون ما عدا الكلمة الأولى تأكيدا لها ، وأن تتكرر العدة بالويل على من كذب ، بقوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ). ويجوز أن يريد بكلّ عدة من عذاب الويل من كذب بما بين عدتي كل ويل.

وأما قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ١٣ ـ ١٦ ـ ١٨] فيجوز أن تكون مكررة على جميع أنعمه ، ويجوز أن يراد بكل واحدة منهنّ ما وقع بينها وبين التي قبلها من نعمة ، ويجوز أن يراد بالأولى ما تقدمها من النعم ، وبالثانية ما تقدّمها ، وبالثالثة ما تقدم على الأولى والثانية ، وبالرابعة ما تقدم على الأولى والثانية والثالثة ... وهكذا إلى آخر السورة.

فإن قيل : كيف يكون قوله (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) [الرحمن : ٣١] نعمة ، وقوله : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) [الرحمن : ٤١] نعمة؟ وكذلك قوله : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) [الرحمن : ٤٣] ، وقوله : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) [الرحمن : ٣٥] ، وقوله (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)؟

قلنا : هذه كلها نعم جسام ، لأن الله هدد العباد بها استصلاحا لهم ليخرجوا من حيز الكفر والطغيان والفسوق والعصيان ، إلى حيّز الطاعة والإيمان والانقياد والإذعان ، فإن من حذّر من طرق الردى وبيّن ما فيها من الأذى ، وحثّ على طرق السلامة الموصلة إلى المثوبة والكرامة ، كان منعما غاية الإنعام ، ومحسنا غاية الإحسان.

ومثل ذلك قوله : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) [يس : ٥٢] ، وعلى هذا تصلح فيه مناسبة الربط بذكر صفة الرحمة في ذلك المقام.

وأما قوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦] فإنه تذكير بالموت والفناء للترغيب في الإقبال على العمل لدار البقاء ، وفي الإعراض عن دار الفناء.

وأما قوله : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ)

١٦١

[الروم : ٤٩] ، فإن تقديره عند بعضهم : وإن كانوا من قبل إنزال القطر عليهم ، من قبل إنزاله ، لمبلسين. فأكد (قَبْلِ) الأولى بـ (قَبْلِ) الثانية. وهذا لا اهتمام فيه ، فإنه معلوم أن اليأس من نزول المطر كان محققا قبل الإنزال ، فلا حاجة ـ في مثل هذا ـ إلى التأكيد.

وقدّر آخرون : وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبل إرسال الرياح ، أو من قبل إثارة السحاب لمبلسين ، فعلى هذا لا يكون تكريرا ولا تأكيدا.

وعود الضمائر إلى المصادر التي دلت عليها الأفعال ، ولم تذكر معها ـ كثير في القرآن وفصيح الكلام. مثاله : قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] فعاد الضمير إلى العدل الذي دلّ عليه (اعْدِلُوا). ومثله قوله : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) [المائدة : ١٠٦] ، أي : لا نشتري بالقسم الذي دلّ عليه قوله : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ).

وأما قوله : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) [الليل : ١٢] ، ففيه ثلاث تأكيدات : (أحدها) إنّ ، و (الثاني) اللام في للهدى ، و (الثالث) تقديم الخبر ، فإن العرب لا يقدمون إلا ما يعتنون به ويهتمون. ومثله قوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) [الأنعام : ٩٩] ، وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) [النازعات : ٢٦] ، أكد ب (إنّ واللام وتقديم الخبر).

وقد يتوهم التأكيد فيما ليس بتأكيد في مثل قوله (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦] ، فإنه لم يرد كمالها في العدد ، ولو أراده لكان تأكيدا ، وإنما أراد كمالها في صفتها ، فإن كمال الصيام في تتابعه. بدليل وجوب المتابعة حيث أمرنا بها فيه ، فلما تقرر في الشريعة أن متابعة الصوم أفضل من تفريقه ، وقيدت هذه الأيام بالتفريق ، فقد يظن ظانّ أنها ناقصة لتفريقها ، وأن كمالها في تتابعها ـ أخبر أن كمال هذه الأيام في تفريقها لا في تتابعها. ويحتمل أن يريد ، بالكاملة ، كمال الصوم بترك الرفث والفسوق ، وترك المشاتمة ، وغير ذلك مما يكون اجتنابه أو فعله مكملا للصوم ، فإن العبادات تنقسم إلى كاملة وناقصة. فالناقصة ما اقتصر فيها على أركانها وشرائطها ، والكاملة ما أتى فيها بالأركان والشرائط والسنن.

وأعلم أن للتفسير أحكاما وضرو با ، فمن ذلك :

فهم معنى اللفظ : وهو منقسم إلى ثلاثة أقسام : (أحدها) ما يعرفه العامة والخاصة كالأرض والسماء والجبال والأشجار والأمطار. (القسم الثاني) ما يعرفه معظم الخاصة كالمعاد والملاذ. (القسم الثالث) ما يعرفه القليل من الخاصة كالرفرف والصفصف.

١٦٢

ومن ضروب التفسير ما يتردد بين محملين : أحدهما أظهر عند النزول فيرجع فيه إلى الصحابة والتابعين ، ويحمل على ظاهره حينئذ. ومنه ما يحمل على أخفى محمليه لدليل يقوم عليه. ومنه ما يتساوى فيه الأمران فيخص أحدهما بالسبب الذي نزل لأجله. ومنه ما يتساوى من غير ترجيح عندنا وهو راجح في نفس الأمر ، لأن الرسول عليه‌السلام قد بيّن للناس ما نزل إليهم ، فبعض المتأخرين يحمله على جميع محامله. والوقف أولى به.

وقد يتردد بين محامل كثيرة يتساوى بعضها مع بعض ، يترجح بعضها على بعض.

وأولى الأقوال : ما دلّ عليه الكتاب في موضع آخر ، أو السنة ، أو إجماع الأمة ، أو سياق الكلام ، وإذا احتمل الكلام معنيين وكان حمله على أحدهما أوضح وأشد موافقة للسياق ـ كان الحمل عليه أولى. وقد يقدر بعض النحاة ما يقتضيه علم النحو. لكن يمنع منه أدلّة شرعية ، فيترك ذلك التقدير ، ويقدر تقدير آخر يليق بالشرع. وقد يعبّر النحاة والمفسرون وغيرهم بالعام ويريدون به الخاص فيجهله كثير من الناس. وعلى الجملة : فالقاعدة في ذلك أن يحمل القرآن على أصح المعاني وأفصح الأقوال ، فلا يحمل على معنى ضعيف ، ولا على لفظ ركيك. وكذلك لا يقدر فيه من المحذوفات إلا أحسنها وأشدها موافقة وملائمة للسياق. وإذا كان للاسم الواحد معان ك (الْعَزِيزُ) بمعنى القاهر ، وبمعنى الممتنع ، وبمعنى الذي لا نظير له ، حمل في كل موضع على ما يقتضيه ذلك السياق كيلا ينبتر الكلام وينخرم النظام. وإذا اتحد معنى القراءتين ـ كالسراط والصراط ـ فهذا ظاهر. وإن اختلف معناهما وجب القطع بأنهما مرادتان. مثال ذلك قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) و (يَكْذِبُونَ) [البقرة : ١٠] ، أخبر بأنهم يعذبون بالتكذيب والكذب ، وهذا اختصار في صورة الخط ، دون اللفظ.

ومن ضروب التفسير وأحكامه : بيان كون اللفظ حقيقة أو مجازا. ومنه : بيان رجحان إحدى الحقيقتين على الأخرى. ومنه : بيان رجحان أحد المجازين على الآخر. ومنه : بيان ترجيح الحقيقة على المجاز. ومنه : بيان ترجيح ما يناسب الكلام ويطابقه على ما ليس كذلك. ومنه : ترجيح بعض الإعراب على بعض. ومنه : بيان التقديم والتأخير. ومنه : بيان مظان الإطالة. ومنه : بيان مظان الاختصار. وفائدة الاختصار ، سهولته على المتكلم ، وإيصال المعنى على الفور إلى المخاطب. كقوله

١٦٣

تعالى : (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) [يونس : ١٠٦]. ومنه : الحذف وهو أنواع وقد تقدمت في أول هذا الكتاب ـ يعني كتابه ـ

ومن ضروب التفسير وأحكامه : تعين المضاف المحذوف. ومنه : ترجيح بعض المضافات المحذوفة على بعض. ومنه : استواء المضافات المحذوفة من غير ترجيح. ومنه : ترجيح بعض المفاعيل المحذوفة على بعض. ومنه : استواؤها. ومنه : تعين بعضها. ومنه : ترجيح بعض ما تصح الإشارة إليه بذلك على بعض. ومنه : تعين ما يشار إليه بذلك. ومنه : عود الإشارة بذلك إلى ما ليس بمذكور. ومنه : ترجيح بعض الموصوفات على بعض. ومنه تعين بعض الموصوفات المحذوفة. ومنه ترجيح ما تعود إليه الضمائر. ومنع : تردد ما تعود إليه الضمائر. ومنه : عود الضمائر إلى ما ليس بمذكور. ومنه : عود الضمائر إلى ما دل عليه اللفظ وليس بمذكور ، انتهى.

سر تكرير قصة موسى مع فرعون

ذكرنا قبل ما قاله العز بن عبد السلام ـ في التكرير ـ من الأسرار الباهرة التي تشمل قصة موسى مع فرعون. ثم رأيت كلاما ـ في ذلك ـ لشيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية ـ في خلال رسالة له ـ يقول رحمه‌الله :

«وثنّى في القرآن قصة موسى مع فرعون لأنهما في طرفي نقيض ، في الحق والباطل. فإن فرعون في غاية الكفر والباطل ، حيث كفر بالربوبية وبالرسالة. وموسى في غاية الحق والإيمان من جهة أن الله كلمه تكليما لم يجعل الله بينه وبين خلقه واسطة من خلقه ، فهو مثبت لكمال الرسالة ، وكمال التكليم ، ومثبت لرب العالمين بما استحقه من النعوت ، وهذا بخلاف أكثر الأنبياء مع الكفار ، فإن الكفار أكثرهم لا يجحدون وجود الله ، ولم يكن أيضا للرسل ـ من التكليم ـ ما لموسى. فصارت قصة موسى وفرعون أعظم القصص ، وأعظمها اعتبارا لأهل الإيمان ولأهل الكفر. ولهذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقص على أمته عامة ليله عن بني إسرائيل ، وكان يتأسّى بموسى في أمور كثيرة ، ولما بشّر بقتل أبي جهل يوم بدر قال : «هذا فرعون هذه الأمة». وكان فرعون وقومه من الصابئة المشركين الكفار ، ولهذا كان يعبد آلهة من دون الله ، كما أخبر عنه بقوله : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف : ١٢٧] وإن كان عالما بما جاء به موسى. مستيقنا له ، لكنه كان جاحدا مثبورا ، كما أخبر الله بذلك في قوله : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً

١٦٤

وَعُلُوًّا ...) [النمل : ١٣ ـ ١٤] الآية. وقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ....) ـ إلى قوله ـ (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ....) [الإسراء : ١٠١ ـ ١٠٢] الآية.

ما اقتضته الحكمة الربانية في التنزيل الكريم

قال الشيخ وليّ الله الدهلويّ ـ قدس‌سره ـ في الفوز الكبير :

ليعلم أن المقصود من نزول القرآن تهذيب طوائف الناس من العرب والعجم ، والحضر والبدو. فاقتضت الحكمة الإلهية أن لا يخاطب ، في التذكير بآلاء الله ، بأكثر مما يعلمه أكثر أفراد بني آدم. ولم يبالغ في البحث والتفتيش مبالغة زائدة ، وسيق الكلام في أسماء الله وصفاته عزوجل بوجه يمكن فهمه والإحاطة به بإدراك وفطانة ، خلقت أفراد الإنسان ، في أصل الفطرة عليها. بدون ممارسة الحكمة الإلهية ، وبدون مزاولة علم الكلام ، فأثبت ذات المبدأ إجمالا ، لأن هذا العلم سار في جميع أفراد بني آدم ، لا ترى طائفة منهم في الأقاليم الصالحة والأمكنة القريبة من الاعتدال ، ينكرون ذلك. ولما امتنع ، بالنسبة إليه ، إثبات الصفات بطريق تحقيق الحقائق ، مع أنهم إن لم يطلعوا على الصفات الإلهية لم ينالوا معرفة الربوبية التي هي أنفع الأشياء في تهذيب النفوس ـ اقتضت الحكمة الإلهية أن يختار شيء من الصفات البشرية الكاملة مما يعلمونها ، ويجري التمدح بها فيها بينهم ، فتستعمل بإزاء المعاني الغامضة التي لا مدخل للعقول البشرية في ساحة جلالها ، وجعل نكتة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، ترياقا للداء العضال من الجهل المركب ، ومنع من الصفات البشرية التي تثير الأوهام بجانب العقائد الباطلة في إثبات مثلها. كإثبات الولد والبكاء والجزع. وإن تأملت بتعمق النظر ، وجدت الجريان على مسطر العلوم الإنسانية غير المكتسبة ، وميزت صفات يمكن إثباتها ، ولا يقع بها خلل من الصفات التي تثيرها الأوهام الباطلة أمرا دقيقا لا تدركه أذهان العامة. لا جرم كان هذا العلم توقيفيا ، ولم يؤذن لهم في التكلم بكل ما يشتهون ، واختار سبحانه وتعالى من آلائه وآيات قدرته ، جل وعلا ، ما تساوت في فهمه الحضر والبدو والعرب والعجم ، ولهذا لم يذكر النعم النفسانية المخصوصة بالأولياء والعلماء ، ولم يخبر بالنعم الارتفاقية المخصوصة بالملوك. وإنما ذكر سبحانه وتعالى ما ينبغي ذكره. كخلق السموات والأرضين ، وإنزال الماء من السحاب ، وإجرائها من الأرض ، وإخراج أنواع الثمار والحبوب والأزهار بواسطة الماء ، وإلهام الصناعات الضرورية والقدرة على فعلها. وقد

١٦٥

قرر في مواضع كثيرة من التنبيه على اختلاف أحوال الناس عند هجوم المصائب وانكشافها ، ما كان كثير الوقوع من الأمراض النفسانية. واختار من أيام الله ـ يعني الوقائع التي أحدثها الله سبحانه وتعالى كتنعيم المطيعين ، وتعذيب العصاة ـ ما قرع سمعهم. وذكر لهم إجمالا مثل قصص قوم نوح وعاد وثمود. وكان العرب تتلقاها أبا عن جدّ. ومثل قصص إبراهيم وأنبياء بني إسرائيل عليهم‌السلام ، فإنها كانت مألوفة لأسماعهم لمخالطة اليهود والعرب في قرون كثيرة. لا القصص الشاذة غير المألوفة. ولا أخبار المجازاة بين فارس والهنود. وانتزع من القصص المشهورة جملا تنفع في تذكيرهم. ولم يسرد القصص بتمامها مع جميع خصوصياتها.

والحكمة في ذلك أن العوام إذا سمعوا القصص النادرة غاية الندرة ، أو استقصى بين أيديهم ذكر الخصوصيات ـ يميلون إلى القصص نفسها ، ويفوتهم التذكر الذي هو الغرض الأصليّ فيها. ونظير هذا الكلام ما قاله بعض العارفين : إن الناس لما حفظوا قواعد التجويد شغلوا عن الخشوع في التلاوة.

ولما ساق المفسرون الوجوه البعيدة في التفسير صار علم التفسير نادرا كالمعدوم.

ومما تكرر من القصص قصة خلق آدم من الأرض وسجود الملائكة له وامتناع الشيطان منه وكونه ملعونا. وسعيه بعد ذلك في إغواء بني آدم. وقصة مخاصمة نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم‌السلام وأقوامهم ، في باب التوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وامتناع الأقوام من الامتثال بشبهات ركيكة ، مع ذكر جواب الأنبياء. وابتلاء الأقوام بالعقوبة الإلهية. وظهور نصرته عزوجل للأنبياء وتابعيهم ، وقصة موسى مع فرعون وقومه ، ومع سفهاء بني إسرائيل ، ومكابرة هذه الجماعة حضرته عليه الصلاة والسلام. وقيام الله سبحانه وتعالى بعقوبة الأشقياء. وظهور نصرة نبيه مرة بعد مرة ، وقصة خلافة داود وسليمان وآياتهما وكراماتهما. ومحنة أيوب ويونس ، وظهور رحمة الله سبحانه لهما ، واستجابة دعاء زكريا. وقصص سيدنا عيسى العجيبة : من تولده بلا أب ، وتكلمه في المهد ، وظهور الخوارق منه. فذكرت هذه القصص بأطوار مختلفة إجمالا وتفصيلا بحسب ما اقتضاه أسلوب السور.

ومن القصص التي ذكرت مرة أو مرتين فقط رفع سيدنا إدريس ، ومناظرة سيدنا إبراهيم لنمروذ ورؤيته إحياء الطير ، وذبح ولده. وقصة سيدنا يوسف ، وقصة ولادة

١٦٦

سيدنا موسى وإلقائه في اليم ، وقتله القبطيّ ، وخروجه إلى مدين وتزوجه هناك. ورؤية النار على الشجرة. وسماع الكلام منها. وقصة ذبح البقرة. وقصة التقاء موسى والخضر. وقصة طالوت وجالوت. وقصة بلقيس. وقصة ذي القرنين. وقصة أصحاب الكهف. وقصة رجلين تحاورا فيما بينهما. وقصة أصحاب الجنة. وقصة رسل عيسى الثلاثة. والمؤمن الذي قتله الكفار شهيدا. وقصة أصحاب الفيل.

فليس المقصود من هذه القصص معرفتها بأنفسها ، بل المقصود انتقال ذهن السامع إلى وخامة الشرك والمعاصي ، وعقوبة الله عليها ، واطمئنان المخلصين بنصرة الله تعالى ، وظهور عنايته عزوجل بهم.

وقد ذكر جل شأنه من الموت وما بعده كيفية موت الإنسان ، وعجزه في تلك الساعة ، وعرض الجنة والنار عليه بعد الموت ، وظهور ملائكة العذاب.

وقد ذكر أشراط الساعة من نزول عيسى ، وخروج دابة الأرض ، وخروج يأجوج ومأجوج ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام ، والحشر والنشر ، والسؤال والجواب ، والميزان ، وأخذ صحف الأعمال باليمين والشمال ، ودخول المؤمنين الجنة ، ودخول الكفار النار ، واختصام أهل النار من التابعين والمتبوعين فيما بينهم ، وإنكار بعضهم على بعض ، ولعن بعضهم بعضا ، واختصاص أهل الإيمان برؤية الله عزوجل ، وتلوّن أنواع التعذيب من السلاسل والأغلال والحميم والغسّاق والزقوم. وأنواع التنعيم من الحور والقصور ، والأنهار والمطاعم الهنيئة ، والملابس الناعمة ، والنساء الجميلة ، وصحبة أهل الجنة فيما بينهم صحبة طيبة مفرحة للقلوب.

فتفرقت هذه القصص في سور مختلفة بإجمال وتفصيل بحسب اقتضاء أسلوبها.

والكلية في مباحث الأحكام أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث بالملة الحنيفية. فلزم بقاء شرائه تلك الملة ، وعدم التغيير في أمهات تلك المسائل ، سوى تخصيص العموم ، وزيادة التوقيعات والتحديدات ونحوها.

وأراد الله سبحانه وتعالى أن يزكي العرب بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويزكي سائر الأقاليم بالعرب. فلزم أن تكون مادة شريعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رسوم العرب وعاداتهم. وإذا نظرت إلى مجموع شرائع الملة الحنيفية ، ولاحظت رسوم العرب وعاداتهم ، وتأملت تشريعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بمنزلة الإصلاح والتسوية ـ تحققت لكل حكم سببا ، وعلمت لكل أمر

١٦٧

ونهي مصلحة. وتفصيل الكلام الطويل.

وبالجملة ، فقد كان وقع في العبادات من الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج فتور عظيم من التساهل في إقامتها ، واختلاف الناس فيها ، بسبب عدم التوقيت في أكثرها ، ودخول تحريفات أهل الجاهلية فيها ، فأسقط القرآن عدم النسق منها ، وسواها حتى استقام أمرها.

وأما تدبير المنزل فقد كان وقع فيها رسوم ضارة وأنواع تعدّ وعتوّ.

وكذلك أحكام السياسة المدنية كانت مختلة ، فضبط القرآن العظيم أصولها ، وحدودها ، ووقتها. وذكر من هذا الباب أنواع الكبائر ، وكثيرا من الصغائر ، وذكرت مسائل الصلاة بطريق الإجمال. وذكر فيها لفظ إقامة الصلاة. ففصّلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأذان وبناء المساجد والجماعة والأوقات وذكرت مسائل الزكاة أيضا بالاختصار ، ففصلها صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفصيلا. وذكر الصوم في سورة البقرة. والحج فيها وفي سورة الحج. والجهاد في سورة البقرة والأنفال ، وفي مواضع متفرقة. والحدود في المائدة والنور. والميراث والنكاح والطلاق في سورة البقرة والنساء والطلاق ، وغيرها.

وإذا عرفت القسم الذي تعم فائدته جميع الأمة ، فهنالك قسم آخر. وذلك مثل أنه كان يعرض عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سؤال فيجيب ، أو بذل النفس والأموال من أهل الإيمان في حادثة ، وإمساك المنافقين واتباعهم الهوى ـ فمدح الله سبحانه المؤمنين ، وذم المنافقين مع تهديدهم. أو وقعت حادثة من قبيل نصرة على الأعداء وكفّ ضررهم ـ فمنّ الله سبحانه وتعالى على المؤمنين ، وذكرهم بتلك النعمة. أو عرضت حاجة تحتاج إلى تنبيه وزجر أو تعريض أو إيماء أو أمر أو نهي ـ فأنزل الله سبحانه في ذلك الباب.

فما كان من هذا القبيل فلا بد للمفسر من ذكر تلك القصص بطريق الإجمال.

وقد جاءت تعريضات في قصة بدر في الأنفال. وبقصة أحد في آل عمران. وبالخندق في الأحزاب. وبالحديبية في الفتح. وبني النضير في الحشر. وجاء الحث على فتح مكة وغزوة تبوك في براءة. والإشارة إلى حجة الوداع في المائدة. والإشارة إلى قصة نكاح زينب في الأحزاب. وتحريم السريّة في سورة التحريم (١). وقصة

__________________

(١) أخرج مسلم في الطلاق حديث ١٤٧٤ ، عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا. قالت : فتواطيت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

١٦٨

الإفك في سورة النور.

واستماع الجن تلاوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سورة الجن والأحقاف. ومسجد الضرار في براءة. وأشير إلى قصة الإسراء في أول بني إسرائيل.

وهذا القسم أيضا في الحقيقة من باب التذكير بأيام الله. ولكن لما توقف حل التعريضات فيه على سماع القصة ـ ميّز من سائر الأقسام.

ذكر بديع أسلوب القرآن الكريم

قال الإمام الدهلويّ في كتابه المنوه به قبل :

ولنبين هذا البحث في فصول :

الفصل الأول

لم يجعل القرآن مبوبا مفصلا ليطلب كل مطلب منه في باب أو فصل ، بل كان كمجموع المكتوبات فرضا ، كما يكتب الملوك إلى رعاياهم ، بحسب اقتضاء الحال ، مثالا ، وبعد زمان يكتبون مثالا آخر ، وعلى هذا القياس. حتى تجتمع أمثلة كثيرة ، فيدونها شخص حتى يصير مجموعا مرتبا. كذلك نزل الملك على الإطلاق جل شأنه على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهداية عباده ، سورة بعد سورة بحسب اقتضاء الحال. وكان في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل سورة محفوظة ومضبوطة على حدة ، من غير تدوين السور ، ثم رتبت السور في مجلد بترتيب خاص في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وسمي هذا المجموع بالمصحف ، وقد كانت السور مقسومة عند الصحابة إلى أربعة أقسام : القسم الأول : السبع الطوال التي هي أطول السور ، والقسم الثاني : سور في كل منها مائة آية وتزيد شيئا قليلا ، والقسم الثالث. ما فيه أقل من المائة وهي المثاني ، والقسم الرابع : المفصّل.

وقد أدخل في ترتيب المصحف سورتان أو ثلاث من عداد المثاني ، في المئين. لمناسبة سياقها بسياق المئين. وعلى هذا القياس ربما وقع في بعض الأقسام

__________________

ـ فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له. فقال : «بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له» فنزل : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [التحريم : ١].

١٦٩

أيضا تصرف. واستنسخ عثمان رضي الله عنه ، من ذلك المصحف ، مصاحف أرسل بها إلى الآفاق ليستفيدوا منها ، ولا يميلوا إلى ترتيب آخر. ولما كان بين أسلوب السور ، وأسلوب أمثلة الملوك مناسبة تامة ، روعي في الابتداء والانتهاء طريق المكاتيب ، كما يبتدئون في بعض المكاتيب بحمد الله عزوجل ، والبعض الآخر ببيان غرض الإملاء ، والبعض الآخر باسم المرسل والمرسل إليه. ومنها ما يكون رقعة وشقة بغير عنوان ، وبعضها يكون مطولا وبعضها يكون مختصرا كذلك سبحانه وتعالى صدّر بعض السور بالحمد والتسبيح ، وبعضها ببيان غرض الإملاء ، كما قال عزوجل : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] ، (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) [النور : ١] ، وهذا القسم يشبه ما يكتب «هذا ما صالح فلان وفلان» و «هذا ما أوصى به فلان». وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب في واقعة الحديبية : «هذا ما قاضى عليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١).

وبعضها يذكر المرسل والمرسل إليه كما قال : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الزمر : ١] ، (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود : ١] ، وهذا القسم يشبه ما يكتبون : «صدر الحكم من حضرة الخلافة» ، أو يكتبون : «هذا إعلام لسكنة البلدة الفلانية من حضرة الخلافة».

وقد كان كتب صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم».

وبعضها على أسلوب الرقاع والشقق بغير عنوان ، كما قال عزوجل : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) [المنافقون : ١] ، (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ (٢) الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) [المجادلة : ١] ، (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) [التحريم : ١].

ولما كانت للقصائد في فصاحة الكلام شهرة عند العرب ، وكان من عاداتهم في مبدأ القصائد التشبيب بذكر مواضع عجيبة ، ووقائع هائلة ـ اختار الله عزوجل هذا الأسلوب في بعض السور ، كما قال : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) [الصافات : ١ ـ ٢] ، (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً) [الذاريات : ١ ـ ٢] ، (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) [التكوير : ١ ـ ٢].

وكما كانوا يختمون المكاتيب بجوامع الكلم ، ونوادر الوصايا ، وتأكيد

__________________

(١) أخرجه البخاري في الشروط ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط ، الذي رواه المسور بن مخرمة ومروان عن غزوة الحديبية.

١٧٠

الأحكام السابقة ، وتهديد من يخالفها ـ كذلك الله سبحانه ختم أواخر السور بجوامع الكلم ومنابع الحكم ، والتأكيد البليغ ، والتهديد العظيم.

وقد يصدر في أثناء السور الكلام البليغ ، العظيم الفائدة ، البديع الأسلوب ، بنوع من الحمد والتسبيح ، أو بنوع من بيان النعم والامتنان. كما صدر بيان التباين بين مرتبة الخالق والمخلوق ب (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ، آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل : ٥٩] ، ثم بين هذا المدعى في خمس آيات بأبلغ وجه ، وأبدع أسلوب.

كما صدر مخاصمة بني إسرائيل في أثناء سورة البقرة ب (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا ...) ثم ختمها بهذه الكلمة أيضا.

وابتداء المخاصمة بهذا الكلام وانتهاؤه به محل عظيم في البلاغة.

وكذلك صدر مخاصمة أهل الكتابين في آل عمران بآية (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] ليتصور محل النزاع ويتوارد القيل والقال على ذلك المدعى ، والله أعلم بحقيقة الحال.

الفصل الثاني

قد جرت سنة الله عزوجل في أكثر السور بتقسيمها إلى الآيات. كما كانوا يقسمون القصائد إلى الأبيات. غاية الأمر أن بين الآيات والأبيات فرقا. كل منهما ينشد لالتذاذ نفس المتكلم والسامع. إلا أن الأبيات مقيدة بالعروض والقافية التي دوّنها الخليل وحفظها الشعراء. وبناء الآيات على وزن وقافية إجماليين يشبهان أمرا طبيعيا ، لا على أفاعيل العروضيين وتفاعيلهم وقوافيهم المعينة التي هي أمر صناعيّ واصطلاحيّ ، وتنقيح ما وقع من الأمر المشترك بين الأبيات والآيات. وتطلق النشائد بإزاء ذلك الأمر العام. ثم ضبط أمور وقع في الآيات التزامها ، وذلك بمنزلة الفصل يحتاج إلى التفصيل. والله وليّ التوفيق.

تفصيل هذا الإجمال ، أن الفطرة السليمة تدرك في القصائد الموزونة المقفاة والأراجيز الرائقة وأمثالها ، لطفا وحلاوة بالذوق. وإذا تأملت سبب إدراك اللطف المذكور ، فليكن ورود كلام بعض أجزائه يوافق بعضا مفيدا للذة في نفس المخاطب مع انتظار مثله. حتى إذا وقع في نفسه بيت آخر بتوافق الأجزاء المعلوم ، وتحقق الأمر المنتظر ، تضاعفت اللذة عنده ، فحسب كأن البيتين بينهما اشتراك في القافية.

١٧١

فتضاعفت اللذة ثالثة. فالالتذاذ بالأبيات بهذا السر فطرة قديمة للناس. والأمزجة السليمة من أهل الأقاليم المعتدلة متفقة على ذلك.

ثم وقعت في توافق الأجزاء من كل بيت ، وفي شرط القافية المشتركة بين الأبيات ، مذاهب مختلفة ورسوم متباينة ، فاختار العرب قانونا وضعه الخليل وأوضحه إيضاحا.

والهنود يتبعون رسما يحكم به ذوقهم وقريحتهم ، وكذلك اختار أهل كل زمان وضعا وسلكوا طريقا. فإذا انتزعنا من هذه الرسوم والمذاهب المختلفة أمرا جامعا ، وتأملنا سرّا منتشرا ، وجدنا الموافقة أمرا تخمينيا لا غير.

مثلا ، يذكر العرب مقام مستفعلن مفاعلن ومفتعلن ، ويعدون مقام فاعلاتن فعلاتن وفاعلتن على القاعدة ، ويجعلون موافقة ضرب بيت بضرب بيت آخر ، وموافقة عروض بيت لعروض بيت آخر ـ من المهمات. ويجوّزون في الحشو كثيرا من الزحافات. بخلاف شعراء الفرس. فإن الزحافات عندهم مستهجنة. وكذلك تستحسن العرب إن كانت القافية في بيت «قبور» أن يكون في بيت آخر «مثير» بخلاف شعراء العجم. وكذلك شعراء العرب يعدون «حاصل» و «داخل» و «نازل» من قسم واحد بخلاف شعراء العجم. وكذلك وقوع كلمة في المصراعين ، بحيث يكون نصفها في مصراع ونصفها الآخر في مصراع آخر عند العرب لا عند العجم. وبالجملة فإن موافقة الأمر المشترك موافقة تخمينية ، لا موافقة حقيقية. ومبنى أوزان الأشعار عند الهند على عدد الحروف. بغير ملاحظة الحركات والسكنات ، وهو أيضا مما يتلذذ به. وقد سمعنا بعض أهل البدو ، ممن يتلذذ بتغريداته ، يختارون كلاما متوافقا بتوافق تخمينيّ ، برديف يكون تارة كلمة واحدة وأخرى يزيد عليها. وينشدون تغريداتهم مثل القصائد. فيتلذذون بها. ولكل قوم أسلوب خاص في نظمهم. وعلى هذا القياس وقع اتفاق الأمم على الالتذاذ بألحان ونغمات واختلافهم في رسوم التغريد والقواعد محقق.

وقد استنبط اليونانيون أوزانا سموها بالمقامات واستخرجوا منها شعبا دوّنوا لهم فنا شديد التفصيل. وأهل الهند تفطنوا لستّ نغمات وفرّعوا منها نغيمات. وقد رأينا أهل البدو تباعدوا عن هذين الاصطلاحين ، وتفطنوا بحسب سليقتهم للتأليف والإيقاع ، فهذبوا لهم أوزانا معدودة بغير ضبط الكليات وحصر الجزئيات. فإذا نظرنا بعد هذه الملاحظات إلى حكم الحدس لم نجد هاهنا أمرا مشتركا سوى الموافقة التخمينية. ولا يتعلق تخمين العقل إلا بذلك المنتزع الإجماليّ. لا بتفصيل القوافي

١٧٢

المردفة الموصلة ، ولا يحب الذوق السليم إلا تلك الحلاوة المحضة ، لا الطويل والمديد من البحور.

لما أراد حضرة الخلّاق أن يكلم الإنسان ، الذي هو قبضة من التراب ، نظر إلى ذلك الحسن الإجماليّ لا إلى قوالب مستحسنة عند قوم دون قوم ، ولما أراد مالك الملك أن يتكلم على منهج الآدميين ، ضبط ذلك الأصل البسيط ، لا هذه القوانين المتغيرة بتغير الأدوار والأطوار. ومنشأ التمسك بالقوانين المصطلح عليها هو العجز والجهل ، وتحصيل الحسن الإجماليّ ، بلا توسط تلك القواعد بحيث لا يفوت في الأغوار والأنجاد من البيان شيء ، ولا يضيع في كل سهل وجبل من الكلام معجز ومفحم.

وأنا أنتزع هنا من جريان الحق سبحانه وتعالى على ذلك السنن أصلا. وأنتقل إلى قاعدة. وتلك القاعدة أنه اعتبر في أكثر السور امتداد الصوت ، لا الطويل والمديد من البحور مثلا ، واعتبر في الفواصل انقطاع النفس بالمدة ، وما تعتمد عليه المدة ، لا قواعد فن القوافي ، وهذه الكلمة أيضا تقتضي بسطا. فاستمع لما أقول :

تردّد النّفس في قصبة العنق من جبلة الإنسان. وإن كان تطويل النفس وتقصيره من مقدور البشر. لكن إذا خلّي وطبعه فلا بد من امتداد محدود. فيحصل في أول خروج النفس نشاط ، ثم يضمحل ذلك النشاط تدريجا حتى ينقطع في آخر الأمر. فيحتاج إلى إعادة نفس جديد. وهذا الامتداد أمر محدود بحدّ مبهم. ومقدر بمقدار منتشر لا يتجاوز نقصانه كلمتين ، بل لا يتجاوز الثلث والربع ، والزيادة لا تتجاوز كلمتين ، بل لا تتجاوز الثلث والربع من ذلك الحد. ويسع ذلك اختلاف عدد الأوتاد والأسباب وتقدم بعض الأركان على بعض ، فجعل لامتداد النفس وزن معلوم. وقسم ذلك على ثلاثة أقسام : طويل ومتوسط وقصير.

أما الطويل فنحو سورة النساء ، وأما المتوسط فنحو سورة الأعراف والأنعام ، وأما القصير فنحو سورة الشعراء وسورة الدخان ..

وتمام النفس يعتمد على مدة معتمدة على حرف قافية متسعة يوافقها ذوق الطبع ، ويتلذذ من إعادتها مرة بعد أخرى ، وإن كانت المدة ، في موضع ، ألفا ، وفي موضع آخر ، واوا أو ياء. وسواء كان ذلك الحرف الأخير باء في موضع ، أو جيما. أو قافا في موضع آخر ، (فَيَعْلَمُونَ) و (مُؤْمِنِينَ) و (مُسْتَقِيمٍ) متوافقة. و (خُرُوجٍ) و (مَرِيجٍ) و (تَحِيدُ) و (تبار) و (فَواقٍ) و (عُجابٌ) كلها على قاعدة. وكذلك لحوق الألف في آخر الكلام قافية متسعة ، في إعادتها لذة. وإن كان حرف

١٧٣

الرويّ مختلفا فيقولون : في موضع (كَرِيماً) ، وفي موضع آخر ، (حَدِيثاً) ، وفي موضع ثالث (بَصِيراً) فإن التزم في هذه الصورة موافقة الرويّ ، كان من قبيل التزام ما لا يلزم. كما وقع في أوائل سورة مريم وسورة الفرقان.

وكذلك توافق الآيات بحرف قبل الميم في سورة القتال : (سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) والنون في سورة الرحمن يفيد لذة كما لا يخفى. وكذلك إعادة جملة بعد طائفة تفيد لذة. كما وقع في سورة الشعراء وسورة القمر وسورة الرحمن وسورة المرسلات ، وقد تخالف فواصل آخر السورة أولها لتطريب ذهن السامع وللإشعار بلطافة ذلك الكلام مثل (إِدًّا) و (هَدًّا) في آخر سورة مريم ، ومثل (سَلاماً) و (كِراماً) في آخر سورة الفرقان ، و (طِينٍ) و (ساجِدِينَ) و (الْمُنْظَرِينَ) في آخر سورة ص. مع أن أوائل هذه السور مبنية على فاصلة أخرى كما لا يخفى. فجعل الوزن والقافية المذكوران في أكثر السور من المهمات. إن كان اللفظ الأخير من الآية صالحا للقافية فيها. وإلّا وصل بجملة فيها وبين آلاء الله أو تنبيه للمخاطب. كما يقول (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) ، (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) ، و (كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، (إن في ذلك لآيات لأولي الألباب) ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). وقد أطنب في مثل هذه المواضع أحيانا مثل (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) ، ويستعمل التقديم والتأخير مرة ، والقلب والزيادة أخرى. مثل (إِلْ ياسِينَ) في إلياس ، و (طُورِ سِينِينَ) في سيناء. وليعلم هاهنا أن انسجام الكلام وسهولته على اللسان لكونه مثلا سائرا ، أو لتكرر ذكره في الآية ـ ربما يجعل الكلام الطويل موزونا مع الكلام القصير. وقد تكون الفقر الأول أقصر من الفقر التالية ، وهو يفيد عذوبة في الكلام. (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة : ٣٠ ـ ٣٢] ، كأن المتكلم يقدر في مثل هذا الكلام أن الفقرة الأولى والثانية ، من حيث المجموع ، في كفّة ، والثالثة ، وحدها ، في كفة.

وربما تكون الآية ذات قوائم ثلاث نحو : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) [آل عمران : ١٠٦] ، الآية. (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ...) [آل عمران : ١٠٧] الآية. والعامة يصلون الأول بالثاني فيحسبون الآية طويلة. وقد تجيء في آية فاصلتان كما يكون في البيت أيضا مثل :

كالزهر في ترف ، والبدر في شرف

والبحر في كرم ، والدهر في همم

وقد تكون الآية من سائر الآيات. والسر هاهنا إذا جعل حسن الكلام الناشئ من

١٧٤

تقارب الوزن ووجد أن الأمر المنتظر وهو القافية في كفة ، وجعل حسن الكلام الناشئ من سهولة الأداء وموافقة طبع الكلام وعدم لحوق التغيير فيه في كفة أخرى ـ ترجح الفطرة السليمة جانب المعنى ، فيترك أحد الانتظارين مهملا ، ويوفى الحق في الانتظار الثاني.

وإنما قلنا في صدر البحث : قد جرت سنة الله عزوجل على هذا في أكثر السور ، لأنه ما ظهرت في بعض السور رعاية هذا القسم من الوزن والقافية. فوقعت طائفة من الكلام على نهج خطب الخطباء وأمثال أهل النكت. ألم تسمع (١) مسامرة النساء المروية عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها فانظر في قوافيها. وفي بعض السور وقع الكلام على منهج كتب العرب بلا رعاية شيء. كمحاورة بعض الناس لبعض. إلا أنه يختم كل كلام بشيء يكون مبنيا على الاختتام. والسر هاهنا أن الأصل في لغة العرب الوقف في موضع ينتهي فيه النفس ويفنى نشاط الكلام. والمستحسن في محل الوقف انتهاء النفس على المدة ، هذا هو الوجه في ظهور صورة الآيات. هذا ما فتح الله على الفقير والله أعلم.

إن سألوا. لما تكررت مطالب الفنون الخمسة (أعني علم الأحكام ، وعلم الرد على الفرق الضالة ، وعلم التذكير بآلاء الله من نحو بيان خلق السموات ، وعلم التذكير بأيام الله كالوقائع التي أوجدها من جنس تنعيم المطيعين وتعذيب المجرمين ، وعلم التذكير بالموت وما بعده) في القرآن العظيم ، ولم لم يكتف بموضع واحد؟ قلنا : الذي نريد إفادته للسامع ينقسم إلى قسمين :

الأول : أن يكون المقصود هناك مجرد تعليم ما لا يعلم ، فالمخاطب لم يكن عالما بالحكم ، وما كان ذهنه مدركا له ، فيعلم ذلك المجهول باستماع الكلام ويصير المجهول معلوما.

والثاني : أن يكون المقصود استحضار صورة ذلك العلم في المدركة ليتلذذ به لذة تامة وتفنى القوى القلبية والإدراكية في ذلك العلم ، ويغلب القوى كلها حتى تنصبغ بذلك العلم ، كما نكرر أحيانا معنى شعر علمناه ، وندرك منه لذة في كل مرة ، ونحب التكرار لتلك اللذة ، والقرآن العظيم أراد من قسمي الإفادة بالنسبة إلى كل واحد من مطالب الفنون الخمسة ـ تعليم ما لا يعلم بالنسبة إلى الجاهل ، وصبغ النفوس بتلك العلوم من التكرار بالنسبة إلى العالم. إلا أن أكثر مباحث الأحكام لم يحصل تكرارها. لأن الإفادة الثانية غير مطلوبة فيها. ولذا أمر بتكرار التلاوة في

__________________

(١) أخرجه البخاري في النكاح ، باب حسن المعاشرة مع الأهل.

١٧٥

الشريعة ، ولم يكتف بمجرد الفهم ولكن الفرق أنهم اختاروا في أكثر الأحوال تكرار تلك المسائل بعبارة جديدة وأسلوب غريب ليكون أوقع في النفس وألذّ في الأذهان دون التكرار بلفظ واحد. والذهن يخوض في صورة اختلاف التعبيرات وتغاير الأسلوب ، ويتعمق الخاطر بأسره.

إن سألوا : لم نشر هذه المطالب في سورة القرآن ، ولم يراع الترتيب فيذكر آلاء الله أولا ، ويستوفي حقها ، ثم يذكر أيام الله ، ثم مخاصمة الكفار؟ قلنا : وإن كانت القدرة الإلهية شاملة للممكنات كلها ، ولكن الحاكم في هذه الأبواب الحكمة. والحكمة موافقة المبعوث إليهم في اللسان ، وأسلوب البيان ، وأشير إلى هذا المعنى في آية : (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ، ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ...) [فصلت : ٤٤] ، وما كان في العرب في وقت نزول القرآن كتاب ، لا من الكتب الإلهية ، ولا من مؤلف البشر. وما كان العرب يعلمون ما اخترع المصنفون الآن من الترتيب. فإن كنت في شك من هذا فتأمل قصائد الشعراء المخضرمين ، وأقرا رسائل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومكاتيب عمر الفاروق رضي الله عنه ليتضح هذا المعنى. فلو قيل بخلاف طورهم ، لبقوا في حيرة حين يصل إلى سمعهم شيء غير معهود ، فيشوش فهمهم. وأيضا ليس المقصود مجرد الإفادة ، بل الإفادة مع الاستحضار والتكرار ، وهذا المعنى ، في غير المرتب ، أقوى وأتم.

إن سألوا لمَ لم يختر وزنا وقافية. يعتبران عند الشعراء ، فإنهما ألذّ من هذا الوزن والقافية؟ قلنا : كونهما ألذّ ، يختلف باختلاف الأقوام والأذهان. وعلى التسليم ، فإبداع طور من الوزن والقيافة على لسان حضرة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أميّ ، آية ظاهرة على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولو نزل القرآن على وزن الشعراء وقافيتهم لحسب الكفار أنه هو الشعر المشهور المعروف في العرب ، ولم يأخذوا من ذلك الحسبان فائدة ، كما إذا أراد البلغاء من أهل النظم والنثر أن يثبتوا مزيتهم ورجحانهم على المعاصرين على رؤوس الأشهاد ، استنبطوا صناعة غريبة ، وقالوا : هل يستطيع أحد أن يقول شعرا أو غزلا على هذا الطور؟ أو يكتب كتابا على هذا النمط؟ ولو كان إنشاؤهم على الطور القديم لما ظهرت براعتهم إلا عند المحققين.

إن سألوا عن إعجاز القرآن : من أي وجه هو :؟ قلنا : المحقق عندنا أنه لوجوه كثيرة :

منها الأسلوب البديع. لأن العرب كانت لهم ميادين معلومة يركضون فيها

١٧٦

جواد البلاغة ويحرزون قصبات السبق في مسابقة الأقران بالقصائد والخطب ، والرسائل والمحاورات. وما كانوا يعرفون أسلوبا غير هذه الأوضاع الأربعة ، ولا يتمكنون من إبداعه. فإبداع أسلوب غير أساليبهم على لسان حضرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أمّيّ ، عين الإعجاز.

ومنها الإخبار بالقصص والأحكام والملل السابقة ، بحيث كان مصدقا للكتب السابقة.

ومنها الإخبار بأحوال مستقبلة ، فكلما وجد شيء على طبق ذلك الإخبار ظهر إعجاز جديد.

ومنها الدرجة العليا في البلاغة مما ليس مقدورا للبشر. ونحن لما جئنا بعد العرب الأول ، ما كنا لنصل إلى كنه ذلك ، ولكن القدر الذي علمناه أن استعمال الكلمات والتركيبات العذبة الجزلة مع اللطافة وعدم التكلف في القرآن العظيم ـ أكثر منه في قصائد المتقدمين والمتأخرين. فإنا لا نجد من ذلك فيها قدر ما نجده في القرآن ، وهذا أمر ذوقي يتمكن من معرفته المهرة من الشعراء ، وليس للعامة من الناس ذائقة في هذا الأمر. وأيضا نعلم من الغرابة فيه إنه يلبس المعاني من أنواع التذكير والمخاصمة في كل موضع لباسا يناسب أسلوب السورة ، وتقصر يد المتطاول عن نيله ، وإن كان أحد لا يفهم هذا الكلام فليتأمل إيراد قصص الأنبياء ، في سورة الأعراف ، وهود والشعراء ، ثم لينظر تلك القصص في الصافات ، ثم في الذاريات ليظهر له الفرق. وكذلك تعذيب العصاة وتنعيم المطيعين فإنه يذكر في كل مقام بأسلوب جديد. ويذكر مخاصمة أهل النار في كل مقام بصورة على حدة. والكلام في هذا يطول.

وأيضا نعلم إنه لا يتصور رعاية مقتضى المقام ، الذي تفصيله في فن المعاني ، والاستعارات ، والكنايات ، التي تكفل بها فن البيان مع رعاية حال المخاطبين الأميين الذين لا يعرفون هذه الصناعات ـ أحسن مما يوجد في القرآن العظيم. فإن المطلوب هاهنا أن يذكر في المخاطبات المعروفة التي يعرفها كل من الناس نكتة رائقة للعامة ، مرضية عند الخاصة ، وهذا المعنى كالجمع بين النقيضين.

يزيدك وجه حسنا

إذا ما زدته نظرا

ومن جملة وجوه الإعجاز ما لا يتيسر فهمه لغير المتدبرين في أسرار الشرائع. وذلك أن العلوم الخمسة نفسها. تدل على أن القرآن نازل من عند الله لهداية بني

١٧٧

آدم ، كما أن عالم الطب إذا نظر في القانون ولا حظ تحقيقه وتدقيقه في بيان أسباب الأمراض وعلاماتها ، ووصف الأدوية ـ لا يشك أن المؤلف كامل في صناعة الطب. كذلك إذا علم عالم أسرار الشرائع ما ينبغي إلقاؤه على أفراد الناس في تهذيب النفوس ، ثم يتأمل في الفنون الخمسة ـ يتحقق أن هذه الفنون قد وقعت موقعها بوجه لا يتصور أحسن منه. والنور يدل نفسه على نفسه. انتهى المنقول من الفوز الكبير.

الرخصة بقراءة القرآن على سبعة أحرف في العهد النبويّ

ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من رواية جمع من الصحابة أنافوا على العشرين ـ كما في الإتقان ـ وعدّ أبو عبيد الحديث المرويّ فيه متواترا : (١) أن القرآن أنزل على سبعة أحرف.

ومما خرجه رواة الصحاح من طرقه : ما وقع لعمر بن الخطاب رضي الله عنه (٢) وتلبيبه هشام بن حكيم برادئه ، وانطلاقه به يقوده إلى رسول الله صلوات الله عليه وقوله : يا رسول الله سمعت هشاما يقرأ على حرف لم تقرئنيه. فاستقرأه عليه‌السلام فقرأ عليه. فقال : «كذلك أنزلت». ثم استقرأ عمر فقرأ. فقال له عليه‌السلام : «كذلك أنزلت». ثم قال صلوات الله عليه : «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه.» زيد في رواية : «كلها شاف كاف» (٣) ، وفي رواية أم أيوب

__________________

(١) أخرجه البخاري في الخصومات ، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض.

(٢) أخرج البخاري في فضائل القرآن ، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف : عن عمر بن الخطاب : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان ، في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستمعت لقراءته. فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فكدت أساوره في الصلاة ، فتصبّرت حتى سلّم. فلبّبته بردائه. فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقلت : كذبت. فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقلت : إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرسله. اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذلك أنزلت» ثم قال : «اقرأ يا عمر». فقرأت القراءة التي أقرأني. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذلك أنزلت. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف. فاقرؤوا ما تيسر منه» ..

(٣) أخرج أبو داود في الوتر ، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف حديث ١٤٧٧ : عن أبي بن كعب قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبي! إني أقرئت القرآن فقيل لي : على حرف أو حرفين؟ فقال الملك الذي معي : قل : على حرفين. فقيل لي : على حرفين أو ثلاثة؟ فقال الملك الذي معي : قل : على ثلاثة. قلت : على ثلاثة. حتى بلغ سبعة أحرف. ثم قال : ليس منها إلا شاف كاف إن قلت سميعا عليما ، عزيزا حكيما. ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب».

١٧٨

رضي الله عنها : «أيها قرأت أصبت» (١) وصح من رواية أبيّ بن كعب ، أن النبيّ عليه‌السلام استزاد جبريل لما قرأه على حرف حتى بلغ سبعة أحرف ، وفي رواية لأبيّ قال : قال النبيّ لجبريل عليهما‌السلام : «إني بعثت إلى أمة أميين. منهم الغلام والخادم والشيخ الفاني والعجوز» (٢) فقال جبريل : فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف. زاد في رواية : فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا.

أخرج ابن جرير عن الأعمش قال : قرأ أنس هذه الآية : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) فقال له بعض القوم : يا أبا حمزة! إنما هي أقوم. فقال : أقوم وأصوب وأهنأ واحد.

وعن شقيق قال : قال عبد الله بن مسعود : إني قد سمعت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرؤوا كما علمتم. وإياكم والتنطع. فإنما هو كقول أحدكم : هلمّ وتعال.

وقال ابن سيرين : لا تختلف السبع في حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي : هو كقولك : تعال وهلمّ وأقبل. كذا في ابن جرير.

قال الإمام ابن قتيبة في كتاب المشكل : كان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقرئ كل أمة بلغتهم وما جرى عليه عادتهم ، فالهذلي يقرأ : (عتى حين) يريد حتى كذا يلفظ بها ويستعملها ، والنميميّ يهمز. والقرشيّ لا يهمز. والآخر يقرأ : (قيل وغيض) بإشمام الضم مع الكسر ، (بِضاعَتُنا رُدَّتْ) بإشمام الكسر مع الضم.

ولو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا ـ لاشتد ذلك عليه وعظمت المحنة فيه ، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة ، وتذليل للسان وقطع للعادة. فأراد الله ، برحمته ولطفه ، أن يجعل لهم متّسعا في اللغات ومتصرّفا في الحركات ، كتيسيره عليهم في الدين.

قال أبو شامة : معنى قول كثير من الصحابة والتابعين : القراءة سنة يأخذها

__________________

(١) أخرج الإمام أحمد في مسنده ، ٦ / ٤٣٣ و ٤٦٢ ، عن أم أيوب قالت : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نزل القرآن على سبعة أحرف أيها قرأت أجزأك».

(٢) أخرج الترمذي في القراءات ، باب ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف : عن أبيّ بن كعب قال : لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل. فقال : «يا جبريل. إنّي بعثت إلى أمة أميين. منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط» فقال : يا محمد. إن القرآن أنزل على سبعة أحرف.

١٧٩

الآخر عن الأول ، فاقرؤوا كما علمتم. هو أن السنة المشار إليها ما ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأه ، أو أذن فيه على ما صح عنه «أن القرآن أنزل على سبعة أحرف» فلأجل ذلك كثر الاختلاف في القراءة في زمانه وبعده. إلى أن كان ما كان في عهد عثمان وجمعهم على حرف واحد ـ كما سيأتي بيانه مفصّلا.

معنى السبع في حديث «أنزل على سبعة أحرف»

ليس المراد بالسبع حقيقة العدد المعلوم. بل كثرة الأوجه التي تقرأ بها الكلمة ، على سبيل التيسير والتسهيل والسعة. ولفظ السبعة يطلق على الكثرة في الآحاد ، كما يطلق السبعون في العشرات ، والسبعمائة في المئين ، ولا يراد العدد المعين. كذا في الإتقان.

وحمل بعضهم العدد على ألسن سبعة. وحمل ابن قتيبة وغيره العدد المذكور في الحديث على الوجوه التي يقع بها التغاير. كتغير الحركة مع بقاء المعنى والصورة. وتغير الفعل ماضيا أو أمرا. وتغير بإعجام حرف أو إهماله. وتغير بإبدال حرف قريب من مخرج حرف آخر. وتغير بالتقديم والتأخير ، وتغير بزيادة كلمة أو نقصانها ، وتغير بإبدال كلمة بكلمة ترادفها.

والأظهر ما ذكرنا من إرادة الكثرة من السبعة ، لا التحديد. فيشمل ما ذكره ابن قتيبة وغيره من تغير بإدغام أو إظهار أو تفخيم أو إشمام أو غيرها.

وقال ابن جرير : فإن قال لنا قائل : فهل لك من علم بالألسن السبعة التي نزل بها القرآن؟ وأي الألسن هي من ألسن العرب؟ قلنا : أما الألسن التي قد نزلت القراءة بها فلا حاجة بنا إلى معرفتها. لأنا لو عرفناها لم نقرأ اليوم بها مع الأسباب المتقدمة ـ يعني في كلامه من سبب الاقتصار على حرف واحد كما ستراه قريبا ـ وقد قيل إن خمسة منها لعجز هوازن واثنين منها لقريش وخزاعة. وروي ذلك عن ابن عباس. وليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله.

قال ابن جرير : العجز من هوازن سعد بن بكر وجشم بن بكر ونصر بن معاوية وثقيف. ثم قال ابن جرير :

أما معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا ذكر نزول القرآن على سبعة أحرف «إن كلها شاف كاف» فإنه كما قال جل ثناؤه في وصفه القرآن : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس : ٥٧] ، شفاء

١٨٠