تفسير القاسمي - ج ١

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ١

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

يستشفون بمواعظه من الأدواء العارضة لصدورهم من وساوس الشيطان وخطراته ، فيكفيهم ويغنيهم عن كل ما عداه من المواعظ ببيان آياته.

وقال الإمام أبو شامة : إن القرآن نزل أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ، ثم أبيح للعرب أن تقرأه بلغاتهم التي جزت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب. قال الطحاويّ : إنما كان ذلك رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد. لعدم علمهم بالكتابة والضبط ، وإتقان الحفظ ، ثم نسخ بزوال العذر وتيسير الكتابة والحفظ يعني بالنسخ ما أقره عثمان في المصاحف التي كتبها كما سيأتي :

معنى الأحرف في الحديث

قال الداني : الأحرف الأوجه. أي أن القرآن أنزل على سبعة أوجه من اللغات. لأن الأحرف جمع في القليل. كفلس وأفلس. والحرف قد يراد به الوجه بدليل قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ...) [الحج : ١١] الآية. فالمراد بالحرف الوجه. أي على النعمة والخير وإجابة السؤال والعافية. فإذا استقامت له هذه الأحوال اطمأنّ وعبد الله.

وإذا تغيرت عليه وامتحنه الله بالشدة والضر ترك العبادة وكفر. فهذا عبد الله على وجه واحد. فلهذا سمّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الأوجه المختلفة من القراءات والمتغايرة من اللغات ، أحرفا. على معنى أن كل شيء منها وجه. وذكر الإمام ابن جرير في قول ابن مسعود : من قرأ القرآن على حرف فلا يتحولن منه إلى غيره ـ أنه عنى ، رضى الله عنه ، أن من قرأ بحرفه ، وحرفه قراءته. قال : وكذلك تقول العرب لقراءة رجل : حرف فلان. وتقول للحرف من حروف الهجاء المقطعة : حرف. كما تقول لقصيدة من قصائد الشاعر : كلمة فلان.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في تحقيق أن المراد بالحرف الكلمة ، فيما نقله عنه الحافظ ابن الجزريّ ، في أواخر النشر ، ما مثاله : وأما تسمية الاسم وحده كلمة والفعل وحده كلمة ، والحرف وحده كلمة مثل : هل وبل ، فهذا اصطلاح محض لبعض النحاة. ليس هذا من لغة العرب أصلا. وإنما سمى العرب هذه المفردات حروفا. ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات. أما

__________________

(١) أخرجه الدارمي في فضائل القرآن ، باب فضل من قرأ القرآن.

١٨١

إني لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف» والذي عليه محققو العلماء أن المراد بالحرف الاسم وحده ، والفعل وحده ، وحرف المعنى وحده. لقوله : ألف حرف ، وهذا اسم. ولهذا ، لما سأل الخليل أصحابه عن النطق بالزاي من زيد فقالوا : زاي. فقال : نطقتم بالاسم. وإنما الحرف زه.

الرد على من توهم أن بعض الصحابة يجوّز التلاوة بالمعنى

قال ابن الجزريّ في النشر : أما من يقول بأن بعض الصحابة ، كابن مسعود ، كان يجيز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه. إنما قال : نظرت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرؤوا كما علمتم. نعم كانوا ربما يدخلون التفسير في القراءة إيضاحا وبيانا ، لأنهم محقّقون لما تلقّوه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرآنا. فهم آمنون من الالتباس. وربما كان بعضهم يكتبه معه. لكن ابن مسعود رضي الله عنه كان يكره ذلك ويمنع منه. رواه عنه مسروق. وروي عنه : جرّدوا القرآن ، ولا تلبسوا به ما ليس منه.

اقتصار عثمان رضي الله عنه

في جمعه ، على الحرف المتواتر

قال ابن الجزريّ في النشر : لما كان في حدود سنة ثلاثين من الهجرة ، في خلافة عثمان رضي الله عنه ، حضر حذيفة بن اليمان فتح إرمينية وأذربيجان ، فرأى الناس يختلفون في القرآن. ويقول أحدهم : قراءتي أصح من قراءتك. فأفزعه ذلك. وقدم على عثمان وأشار إليه بأن يتدارك هذا الأمر. فأمر بالصحف الموجودة أن تنسخ في المصاحف. وأشار أن يكتب بلسان قريش لأنه أنزل بلسانهم. فكتب منها عدة مصاحف. فوجه منها إلى مكة واليمن والبحرين والبصرة والكوفة والشام. وترك بالمدينة مصحفا. وأمسك لنفسه مصحفا (الذي يقال له الإمام) وأجمعت الأمة على ما تضمنته هذه المصاحف ، وترك ما خالفها من زيادة ونقص وإبدال كلمة بأخرى. مما كان مأذونا فيه ، توسعة عليهم ، ولم يثبت عندهم ثبوتا مستفيضا أنه من القرآن.

وقال ابن الحصار : ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي. كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ضعوا آية كذا في موضع كذا» وقد حصل اليقين من النقل المتواتر ، بهذا الترتيب ، من تلاوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف.

١٨٢

وقال الحارث المحاسبيّ : إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد ، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار ، لمّا خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراآت. فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن. فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق.

وقال ابن التين : اقتصر عثمان ، من سائر اللغات ، على لغة قريش. محتجا بأنه نزل بلغتهم. وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر. فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت. فاقتصر على لغة واحدة.

وقال القاضي أبو بكر ، في الانتصار : لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين ، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلغاء ما ليس كذلك. وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير ، ولا تأويل أثبت مع تنزيل ، ولا منسوخ تلاوته ، كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه ، خشية دخول الفساد والشبهة ، على ما يأتي بعد.

ينتج عن ذلك مسألة وهي : هل الأحرف السبعة موجودة في المصحف اليوم؟ جوابه ما قاله ابن جرير : إنا لم ندّع أن ذلك موجود اليوم. وإنما أخبرنا أن معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنزل القرآن على سبعة أحرف» على نحو ما جاءت به الأخبار التي تقدم ذكرها (يعني عن ابن مسعود وغيره).

ثم قال ابن جرير :

فإن قال : فما بال الأحرف الأخر الستة غير موجودة وقد أقرأهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، وأمر بالقراءة. بهن وأنزلهن الله من عنده على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنسخت فرفعت؟ فما الدلالة على نسخها ورفعها؟ أم نسيتهن الأمة؟ فذلك تضييع ما قد أمروا بحفظه. أم ما القصة في ذلك؟

قيل له : لم تنسخ فترفع ، ولا ضيعتها الأمة ، وهي مأمورة بحفظها ، ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن ، وخيّرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت. كما أمرت ، إذا هي حنثت في يمين وهي موسرة ، أن تكفّر بأي الكفارات الثلاث شاءت. إما بعتق أو إطعام ، أو كسوة. فلو أجمع جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث دون حظرها التكفير بأي الثلاث شاء المكفر ، كانت مصيبة حكم الله ، مؤدّية ، في ذلك ، الواجب عليها من حق الله. فكذلك الأمة. أمرت بحفظ

١٨٣

القرآن وقراءته. وخيرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت ، فرأت ، لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد ، قراءته بحرف واحد. ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية. ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه بما أذن له في قراءته به. يعني ممن كان في عهد النبوة متلقيا لذلك من الحضرة النبوية.

ثم قال ابن جرير :

لما جمع إمام المسلمين وأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه على تلاوة القرآن بحرف واحد في مصحف واحد ، رأت الأمة أن فيما فعل الرّشد والهداية ، فتركت القراءة بالأحرف الستة حتى درست من الأمة معرفتها ، وتعفت آثارها. فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها ، لدثورها ، وعفوّ آثارها ، وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها ، من غير جحود منها صحتها وصحة شيء منها ، فلا قراءة اليوم للمسلمين إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح ، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية.

فإن قال بعض من ضعفت معرفته : كيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها الرسول صلوات الله عليه وأمرهم بقراءتها؟

قيل : إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض ، وإنما كان أمر إباحة ورخصة ، لأن القراءة بها ، لو كانت فرضا عليهم ، لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة ، عند من تقوم بنقله الحجة ، ويقطع خبره العذر ، ويزيل الشك من قراءة الأمة. وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين ، بعد أن يكون في نقلة القرآن من الأمة من تجيب بنقله الحجة ببعض تلك الأحرف السبعة.

وإذ كان ذلك كذلك ، لم يكن القوم بتركهم نقل جميع القراءات السبع ، تاركين ما كان عليهم نقله ، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما فعلوا إذ كان الذي فعلوا من ذلك ، كان كان هو النظر للإسلام وأهله. فكان القيام بفعل الواجب عليهم ، بهم أولى من فعل ما لو فعلوه كانوا إلى الجناية على الإسلام وأهله أقرب منهم إلى السلامة ، من ذلك. (أي من الجناية على الإسلام).

بيان أن اختلاف القراءة في

رفع حرف ونصبه ونحوه ليس من السبعة الأحرف

قال ابن جرير : وأما ما كان من اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ونصبه ،

١٨٤

وتسكين حرف وتحريكه ، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة ـ. فمن معنى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف» بمعزل. لأنه معلوم أنه لا حرف من حروف القرآن ـ مما اختلفت القراء في قراءته بهذا المعنى يوجب المراء به كفر الممارى به ، في قول أحد من علماء الأمة. وقد أوجب عليه الصلاة والسلم بالمراء فيه الكفر من الوجه الذي تنازع فيه المتنازعون إليه ، وتظاهرت عنه بذلك الرواية.

سبب الاقتصار على قراءات الأئمة المشهورين

لما جمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد ، وأمر بأن يرسل للآفاق مصاحف على ما جمعه ، كما تقدم ، وكانت كتابتها مجردة من الشكل والنقط ، فقرأ أهل كل مصر بما في مصحفهم ، وتلقوا ما فيه عن الصحابة الذين تلقوه من في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأول من نقط المصحف وشكله الحجاج ، بأمر عبد الملك بن مروان. وقيل أبو الأسود الدؤليّ. وقيل الحسن البصريّ ويحيى بن يعمر. ثم لما كثر الاختلاف فيما يحتمله الرسم ، وقرأ أهل البدع والأهواء بما لا يحل لأحد تلاوته وفاقا لبدعهم. كمن قال من المعتزلة : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] ، بنصب الهاء ـ رأى المسلمون أن يجمعوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا للاعتناء بشأن القرآن العظيم. فاختاروا من كل مصر ، وجّه إليه مصحف ، أئمة مشهورين بالثقة والأمانة بالنقل وحسن كمال الدين ، وكمال العلم. أفنوا عمرهم في القراءة والإقراء ، واشتهر أمرهم وأجمع أهل مصرهم على عدالتهم فيما نقلوا ، والثقة بهم فيما قرءوا ، ولم تخرج قراءاتهم عن خط مصحفهم. فمنهم بالمدينة أبو جعفر وشيبة ، ونافع. وبمكة عبد الله بن كثير وابن محيصن والأعرج. وبالكوفة يحيى بن وثاب وعاصم بن أبي النجود ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائيّ ، وبالشام عبد الله بن عامر ، وعطية بن قيس الكلابيّ ، ويحيى بن الحارث الزماريّ. وبالبصرة عبد الله بن أبي إسحاق ، وأبو عمرو ابن العلاء ، وعاصم الجحدريّ ، ويعقوب الحضرميّ.

ثم إن القراء بعد ذلك تفرقوا في البلاد وخلفهم أمم بعد أمم. إلا أنهم كان فيهم المتفق وغيره ، فلذا كثر الاختلاف وعسر الضبط ، وشق الائتلاف. وظهر التخليط ، وانتشر التفريط ، واشتبه متواتر القراءات بفاذّها ، ومشهورها بشاذها. فمن ثمّ وضع الأئمة لذلك ميزانا يرجع إليه ، ومعيارا يعول عليه ، وهو السند والرسم والعربية. فكل ما صح سنده واستقام وجهه في العربية ، وأوفق لفظه خط مصحف الإمام فهو من

١٨٥

السبعة المنصوصة ، فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات على سبعة ، كانوا لولاه سبعة آلاف ، ومتى سقط شرط من هذه الثلاثة فهو شاذ. هذا لفظ الكواشيّ في أول تفسيره.

إلا أن بعضهم لم يكتف بصحة السند فقط ، بل اشترط معها التواتر. ذاهبا إلى أن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن ، وقوّاه أبو القاسم النويريّ بأن عدم اشتراط التواتر قول حادث مخالف لإجماع الفقهاء والمحدثين وغيرهم ، لأن القرآن عند الجمهور من أئمة المذاهب هو ما نقل بين دفتي المصحف نقلا متواترا. وكل من قال بهذا الحد اشترط التواتر.

ثم قال النويريّ : ولم يخالف من المتأخرين إلا مكيّ ، وتبعه بعض المتأخرين : يعني في الاكتفاء بالمعيار الذي ذكره الكواشيّ.

قال القسطلاني في اللطائف : وها (يعني اشتراط التواتر) بالنظر لمجموع القرآن. وإلا فلو اشترطنا التواتر في كل فرد فرد من أحرف الخلاف انتفى كثير من القراءات الثابتة عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم. كذا في اللطائف للقسطلانيّ.

ورود القراءات عن أئمة

الأمصار على موافقة مصاحفهم العثمانية

ثبتت أحرف في بعض المصاحف العثمانية المرسلة إلى البلاد المتقدمة لم توجد في البقية. فاتبع أئمة كل مصر منها مصحفهم ، فمن ذلك قراءة ابن عمر (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] ، بغير واو ، في البقرة : (وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) [آل عمران : ١٨٤] ، بزيادة الباء في الاسمين. ونحو ذلك. فإن ذلك ثابت في المصحف الشاميّ. وكقراءة ابن كثير (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [الحديد : ٢٤] ، في الموضع الأخير من سورة براءة بزيادة (من) فإن ذلك ثابت في المصحف المكيّ. وكذلك إن (اللهُ الْغَنِيُ) [الحديد : ٢٤] ، في سورة الحديد بحذف (هو) ، وكذا (سارِعُوا) [آل عمران : ١٣٣] ، بحذف (الواو) وكذا (مِنْها مُنْقَلَباً) [الكهف : ٣٦] ، بالتثنية في الكهف. إلى غير ذلك في مواضع كثيرة في القرآن. اختلفت المصاحف فيها فوردت القراءة عن أئمة تلك الأمصار في موافقة مصحفهم. كذا في النشر.

١٨٦

موافقة القراءات لرسم

المصحف العثمانيّ تحقيقا أو تقديرا

قال ابن الجزريّ ، في النشر : موافقة الرسم قد تكون تحقيقا وهي الموافقة الصريحة ، وقد تكون تقديرا ، وهي الموافقة احتمالا. فإنه قد خولف صريح الرسم في مواضع إجماعا نحو (السَّماواتِ) ، و (الرِّبَوا) ونحو (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس : ١٤] ، (وَجِيءَ) [الزمر : ٦٩] ، حيث كتب بنون واحدة ، وبألف بعد الجيم في بعض المصاحف.

وقد توافق بعض القراءات الرسم تحقيقا ، وتوافق بعضها تقديرا نحو ملك يوم الدين [الفاتحة : ٤] ، فإنه كتب بغير ألف في جميع المصاحف. فقراءة الحذف تحتمله تحقيقا كما كتب (مَلِكِ النَّاسِ) [الناس : ٢] ، وقراءة الألف تحتمله تقديرا كما كتب (مالِكَ الْمُلْكِ) [آل عمران : ٢٦] ، فتكون الألف حذفت اختصارا. وكذلك (النَّشْأَةَ) [العنكبوت : ٢٠] ، حيث كتبت بالألف وافقت قراءة المد تحقيقا ووافقت قراءة القصر تقديرا ، إذ يحتمل أن تكون الألف صورة الهمزة على غير قياس. وقد يوافق اختلاف القراءات الرسم تحقيقا نحو (يَغْفِرْ لَكُمْ) [آل عمران : ٣١] ، و (تَعْمَلُونَ) ، و (هَيْتَ لَكَ) [يوسف : ٢٣]. مما يدل تجرده عن النقط والشكل وحذفه وإثباته ـ على فضل عظيم للصحابة رضي الله عنهم في علم الهجاء خاصة ، وفهم ثاقب في تحقيق كل علم.

وقال أيضا بعد أوراق : ثم إن الصحابة رضي الله عنهم لم يكن بينهم فيها إلا الخلاف اليسير المحفوظ بين القراء ، ثم إنهم لمّا كتبوا تلك المصاحف جردوها من النقط والشكل ليحتمله ما لم يكن في العرضة الأخيرة مما صح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإنما أخلوا المصاحف من النقط والشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوّين ـ شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين. فإن الصحابة ، رضوان الله عليهم ، تلقوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أمره الله تعالى بتبليغه إليهم من القرآن ، لفظه ومعناه جميعا ، ولم يكونوا ليسقطوا شيئا من القرآن الثابت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يمنعوا من القراءة به.

ما لا يعد مخالفا لصريح الرسم من القراءات الثابتة

قال في النشر بعد ما تقدم : على أن مخالف صريح الرسم في حرف مدغم أو مبدل أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك لا يعد مخالفا إذا ثبتت القراءة به ووردت

١٨٧

مشهورة مستفاضة. ألا ترى أنهم لم يعدوا إثبات ياءات الزوائد وحذف ياء (تَسْئَلْنِي) [الكهف : ٧٠] ، في الكهف : وقراءة (وأكون من الصالحين) والظاء من (بِضَنِينٍ) [التكوير : ٢٤] ونحو ذلك ، من مخالف الرسم المردود. فإن الخلاف في ذلك يغتفر ، إذ هو قريب يرجع إلى معنى واحد ، وتمشية صحة القراءة وشهرتها وتلقيتها بالقبول ـ وذلك بخلاف زيادة كلمة ونقصانها وتقديمها وتأخيرها حتى لو كانت حرفا من حروف المعاني ، فإن حكمه في حكم الكلمة لا يسوغ مخالفة الرسم فيه. وهذا هو الحد الفاصل في حقيقة اتباع الرسم ومخالفته.

مدار القراءات على صحة النقل لا على الأقيس ، عربية

قال الداني في جامع البيان : أئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية. بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل والرواية. إذا ثبتت عنهم لم يردها قياس عربية ولا فشوّ لغة. لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها.

ذكر من ذهب إلى أن مرجع القراءات ليس هو السماع بل الاجتهاد

يفهم من مواضع من الكشاف اعتماده أن مرجع القراءات اجتهاد الأئمة القارئين. ولذلك جاء في سورة الكهف عند آية (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) [الكهف : ٤٤] ما مثاله : وقرأ عمرو بن عبيد بالنصب على التأكيد كقولك : هذا عبد الله الحقّ لا الباطل. وهي قراءة سنة فصيحة ، وكان عمرو بن عبيد من أفصح الناس وأنصحهم. فكتب الناصر في الانتصاف يتعقبه ما مثاله : قد تقدم الإنكار عليه في مثل هذا القول ، فإنه يوهم أن القراءات موكولة إلى رأي الفصحاء واجتهاد البلغاء ، فتتفاوت في الفصاحة لتفاوتهم فيها ، وهذا منكر شنيع. والحق أنه لا يجوز لأحد أن يقرأ إلا بما سمعه فوعاه متصلا بفلق فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منزلا كذلك من السماء ، فلا وقع لفصاحة الفصيح. وإنما هو ناقل كغيره. ولكن الزمخشري لا يفوته الثناء على رأس البدعة ومعدن الفتنة. فإن عمرو بن عبيد أول مصمم على إنكار القدر وهلم جرّا إلى سائر البدع الاعتزالية. فمن ثم أثنى عليه. يعني بما تقدم له ، ما ذكره في سورة الأنعام في آية (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) [الأنعام : ١٣٧] ، وذلك أن الزمخشري قال هناك : وأما قراءة ابن عامر : قتل أولادهم شركائهم. برفع القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء على إضافة القتل إلى الشركاء

١٨٨

والفصل بينهما بغير الظرف ـ فشيء لو كان في مكان الضرورات ، وهو الشعر ، لكان سمجا مردودا كما سمج وردّ :

زجّ القلوص أبي مزادة

فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته؟ والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف (شُرَكائِهِمْ) مكتوبا بالياء.

فكتب الناصر عليه ما ملخصه : إن الزمخشريّ ركب متن عمياء ، فإنه تخيل أن القرء ، أئمة الوجوه السبعة ، اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا ، لا نقلا وسماعا. فلذلك غلّط ابن عامر في قراءته هذه. وأخذ يبين أن وجه غلطه رؤيته الياء ثابتة في شركائهم ، فاستدل بذلك على أنه مجرور ، وتعين عنده نصب أولادهم بالقياس ، إذ لا يضاف المصدر إلى أمرين معا. فقرأه منصوبا ـ إلى أن قال ـ فهذا كله كما ترى ظنّ من الزمخشريّ أن ابن عامر قرأ قراءته هذه رأيا منه ، وكان الصواب خلافه ، والفصيح سواه. ولم يعلم الزمخشريّ أن هذه القراءة ، بنصب الأولاد ، والفصل بين المضاف والمضاف إليه ، بها يعلم ضرورة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها على جبريل كما أنزلها عليه كذلك ثم تلاها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عدد التواتر من الأئمة ، ولم يزل عدد التواتر يتناقلونها ويقرءون بها خلفا عن سلف. إلى أن انتهت إلى ابن عامر فقرأها أيضا كما سمعها. فهذا معتقد أهل الحق في جميع الوجوه السبعة أنها متواترة ، جملة وتفصيلا ، عن أفصح من نطق بالضاد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإذا علمت العقيدة الصحيحة فلا مبالاة بعدها بقول الزمخشريّ ولا بقول أمثاله ، ممن لحن ابن عامر ، وظن أن القراءة تثبت بالرأي ، غير موقوفة على النقل. والحامل هو التغالي في اعتقاد اطراد الأقيسة النحوية. فظنها قطعية حتى يرد ما خالفها. انتهى.

فتأمل. والأمر يحتاج إلى كلام من خالف بحروفه وتمحيص بالنظر في أطرافه وما برهنوا عليه.

ثم رأيت في «مفاتيح الأصول في علم الأصول» للسيد الطباطبائيّ بحثا مسهبا في بيان تواتر القراءات وعدمه. سأذكره بعد ورقات.

بحث أسانيد الأئمة السبعة هل هي متواترة أم آحاد

قال الزركشيّ ، في البرهان : القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان. فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للبيان والإعجاز. والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي

١٨٩

المذكور في الحروف وكيفيتها ، من تخفيف وتشديد وغيرهما. والقراءات السبع متواترة عند الجمهور ، وقيل بل هي مشهورة ، ثم قال الزركشيّ : والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة. أما تواترها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففيه نظر ، فإن إسنادهم بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات. وهي نقل الواحد عن الواحد. نقله في الإتقان.

ونقل السروجيّ الحنفيّ في «باب الصوم» من كتاب «الغاية شرح الهداية» : عن المعتزلة ، أن السبع آحاد. وعن جميع أهل السنة ، أنها متواترة. ومراده بالجميع المجموع. وإلا فقد اختار صاحب البدائع ، من متأخري الحنفية ، فيما نقله الكمال ابن أبي شريف ، أن السبع مشهورة. حكاه القسطانيّ في اللطائف. ثم قال :

(فإن قلت :) الأسانيد إلى الأئمة السبعة وأسانيدهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على ما في كتب القراءات ، آحاد. لا يبلغ عدد التواتر. فمن أين جاء التواتر؟

(أجيب) بأن انحصار الأسانيد المذكورة في طائفة لا يمنع مجيء القراءات عن غيرهم. وإنما نسبت القراءات إلى الأئمة. ومن ذكر في أسانيدهم ، والأسانيد إليهم ، لتصدّيهم لضبط الحروف وحفظ شيوخهم فيها. ومع كل منهم في طبقته ما يبلغها عدد التواتر. لأن القرآن قد تلقاه من أهل كل بلد ، بقراءة إمامهم ، الجمّ الغفير عن مثلهم. وكذلك دائما ، مع تلقي الأمة لقراءة كل منهم بالقبول.

وقال السخاويّ ولا يقدح في تواتر القراءات السبع إذا أسندت من طريق الآحاد كما لو قلت : أخبرني فلان عن فلان أنه رأى مدينة سمرقند ، (وقد علم وجودها بطريق التواتر) ـ لم يقدح ذلك فيما سبق من العلم بها. فقراءة السبع كلها متواترة.

رأي الإمام أبي شامة في تواتر ما أجمع عليه من غير نكير

نقل ابن الجزريّ في النشر : عن الإمام الكبير أبي شامة ، في مرشده ، أنه قال : قد شاع عن ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين ، أن القراءات السبع كلها متواترة. أي كل فرد فرد مما روى عن هؤلاء الأئمة السبعة ، قالوا : والقطع بأنها منزلة من عند الله واجب. ونحن بهذا نقول. ولكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق ، واتفقت عليه الفرق من غير نكير له. مع أنه شاع واشتهر واستفاض. فلا أقل من اشتراط ذلك إذ لم يتفق التواتر في بعضها.

١٩٠

رأي ابن الحاجب وغيره في تواتر ما ليس من قبل الأداء

قال ابن الحاجب : القراءات السبع متواترة فيما ليس من قبل الأداء. كالمد والإمالة وتحقيق الهمزة ونحوه. أي فإنه غير متواتر. (قالوا) : ليس المراد من قوله : كالمد ، أصل المد فإنه متواتر. بل مقدار المزيد فيه على أصله. هل يقتصر فيه على مقدار ألف ونصف ، كما قدّر به مدّ الكسائيّ؟ أو ثلاثة كما قدر به مد ورش وحمزة؟ وكل هذه الهيئات غير متواترة عند ابن الحاجب وأبي حنيفة. كما صرح به غير واحد من أئمة التحقيق (كذا في اللطائف).

وقال القاضي ابن خلدون في مقدمة تاريخه ، في بحث علوم القرآن من التفسير والقراءات ، ما مثاله :

القرآن كلام الله المنزل على نبيّه ، المكتوب بين دفتي المصحف ، وهو متواتر بين الأمة. إلا أن الصحابة رووه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طرق مختلفة في بعض ألفاظه ، وكيفيات الحروف في أدائها. وتنوقل ذلك واشتهر. إلى أن استقرت منها سبع طرق معينة. تواتر نقلها أيضا بأدائها. واختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجم الغفير. فصارت هذه القراءات السبع أصولا للقراءة ، وربما زيد بعد ذلك قراءات أخر لحقت بالسبع. إلا أنها عند أئمة القراءة لا تقوى قوتها في النقل.

وهذه القراءات السبع معروفة في كتبها. وقد خالف بعض الناس في تواتر طرقها لأنها عندهم كيفيات للأداء ، وهو غير منضبط. وليس ذلك عندهم بقادح في تواتر القرآن. وأباه الأكثر. وقالوا بتواترها. وقال آخرون بتواتر غير الأداء منها ، كالمدّ والتسهيل. لعدم الوقوف على كيفيته بالسمع. وهو الصحيح.

بحث القراءات الشاذة

قال الحافظ ابن الجزريّ في النشر : قال الإمام أبو محمد مكيّ : إن جميع ما روي في القرآن على ثلاثة أقسام : قسم يقرأ به اليوم. وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال. وهي أن ينقل عن الثقات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن سائغا ، ويكون موافقا لخط المصحف ـ فإذا اجتمعت فيه هذه الخلال الثالث قرئ به وقطع على مغيّبه وصحته وصدقه. لأنه أخذ عن إجماع من جهة موافقة خط المصحف. وكفر من جحده.

١٩١

القسم الثاني :

ما صح نقله عن الآحاد ، وصح وجهه في العربية ، وخالف لفظه خط المصحف. فهذا يقبل ولا يقرأ به. لعلتين : إحداهما : أنه لم يؤخذ بإجماع ، إنما أخذ بأخبار الآحاد. ولا يثبت قرآن ، يقرأ به ، بخبر الواحد. والعلة الثانية : أنه مخالف لما قد أجمع على مغيّبه وصحته. وما لم يقطع على صحته لا تجوز القراءة به ولا كفر من جحده. ولبئس ما صنع ، إذا جحده.

القسم الثالث :

هو ما نقله غير ثقة ، أو نقله ثقة ولا وجه له في العربية ، فهذا لا يقبل ، وإن وافق خط المصحف.

قال ابن الجزريّ : مثال القسم الأول : مالك ، وملك. يخدعون ، ويخادعون. وأوصى ، ووصى. وتطوع ، ويطوع. ونحو ذلك من القراءات المشهورة. ومثال القسم الثاني : قراءة عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء (والذكر والأنثى) في (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) وقراءة ابن عباس : (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) ، (وأما الغلام فكان كافرا) ونحو ذلك مما ثبت برواية الثقات.

واختلف العلماء في جواز القراءة بذلك في الصلاة. فأجازها بعضهم. لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة. وهذا أحد القولين لأصحاب الشافعيّ وأبي حنيفة. وإحدى الروايتين عن مالك وأحمد. وأكثر العلماء على عدم الجواز. لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإن ثبتت بالنقل ، فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة ، أو بإجماع الصحابة على المصحف العثمانيّ. أو أنها لم تنقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن. أو أنها لم تكن من الأحرف السبعة.

ومقال القسم الثالث ، مما نقله غير ثقة : كثير مما في كتب الشواذ مما غالبه إسناده ضعيف. كقراءة ابن السّميفع وأبي السمال وغيرهما في (نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) ننحيك بالحاء المهملة. وكالقراءة المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه التي جمعها أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعيّ ونقلها عنه أبو القاسم الهذليّ وغيره فإنها لا أصل لها. ومنها (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) برفع الهاء ونصب الهمزة. وقد راج ذلك على أكثر المفسرين ونسبها إليه وتكلف توجيهها.

قال ابن الجزريّ : وإن أبا حنيفة لبريء منها.

ومثال ما نقله ثقة ولا وجه له في العربية ، ولا يصدر مثله إلا على وجه السهو

١٩٢

والغلط ، وعدم الضبط. يعرفه الأئمة المحققون ، والحفاظ الضابطون ، وهو قليل جدا ، بل لا يكاد يوجد ، وقد جعل بعضهم منه رواية خارجة عن نافع (ومعائش) ـ بالهمزة ـ وما رواه ابن بكار عن أيوب عن يحيى عن ابن عامر من فتح ياء (أَدْرِي أَقَرِيبٌ) ، مع إثبات الهمزة ، وهي رواية زيد وأبي حاتم عن يعقوب ، وما رواه أبو عليّ العطار عن العباس عن أبي عمرو ساحران تظاهرا بتشديد الظاء ، والنظر في ذلك لا يخفى.

ثم قال ابن الجزريّ :

وبقي قسم مردود أيضا ، وهو ما وافق العربية والرسم ، ولم ينقل البتة ، فهذا رده أحق ، ومنعه أشد. وقد ذكر جواز ذلك عن أبي بكر محمد بن الحسن بن مقسم البغداديّ المقري النحويّ ، وكان بعد الثلاثمائة. قال الإمام أبو طاهر بن أبي هاشم في كتابه «البيان» وقد نبغ نابغ في عصرنا فزعم أن كل من صح عنده وجه في العربية بحرف من القرآن يوافق المصحف ، فقراءته جائزة في الصلاة وغيرها. فابتدع بدعة ضل بها عن قصد السبيل.

(قلت) وقد عقد له بسبب ذلك مجلس ببغداد ، حضره الفقهاء والقراء ، وأجمعوا على منعه ، وأوقف للضرب فتاب ورجع ، وكتب عليه بذلك محضر ، كما ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد.

قلت : ونقله القاضي أبو بكر في الانتصار ، ورده. وعبارته : وقال قوم من المتكلمين : إنه يسوغ إعمال الرأي والاجتهاد في إثبات قراءة وأوجه وأحرف ، إذا كانت تلك الأوجه صوابا في العربية وإن لم يثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بها. قال : وأبى ذلك أهل الحق وأنكروه وخطؤوا من قال به.

قال ابن الجزريّ : ومن ثمّ امتنعت القراءة بالقياس المطلق ، وهو الذي ليس له أصل في القراءة يرجع إليه ، ولا ركن وثيق في الأداء يعتمد عليه ، كما روينا عن عمر ابن الخطاب وزيد بن ثابت وكثير من التابعين أنهم قالوا : القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول ، فاقرأوا كما علمتوه.

ثم قال ابن الجزريّ :

أما إذا كان القياس على إجماع انعقد ، أو عن أصل يعتمد ، فيصار إليه عند عدم النص ، وغموض وجه الأداء ، فإنه مما يسوغ قبوله ، ولا ينبغي رده ، لا سيما فيما

١٩٣

تدعو إليه الضرورة ، وتمس الحاجة ، كمثل ما اختير في تخفيف بعض الهمزات لأهل الأداء ، وفي إثبات البسملة وعدمها لبعض القراء ، ونقل «كتابيه أني» وإدغام «ماليه هلك» قياسا عليه ، وكذلك قياس «قال رجلان ، وقال رجل» على «قال رب» في الإدغام» ، كما ذكره الداني وغيره. ونحو ذلك مما لا يخالف نصا ، ولا يرد إجماعا ولا أصلا ، مع أنه قليل جدا وإلى ذلك أشار مكيّ بن أبي طالب رحمه‌الله في كتابه «التبصرة» حيث قال : فجميع ما ذكرنا في هذا الكتاب ينقسم ثلاثة أقسام : قسم قرأت به ونقلته وهو منصوص في الكتب موجود ، وقسم قرأت به وأخذته لفظا أو سماعا وهو غير موجود في الكتب ، وقسم لم أقرأ به ولا وجدته في الكتب ، ولكن قسته على ما قرأت به ، إذ لا يمكن فيه إلا ذلك عند عدم الرؤية في النقل والنص ، وهو الأقل.

وقال ابن الجزريّ :

وقد زلّ بسبب ذلك قوم وأطلقوا قياس ما لا يروى على ما روي ، وما له وجه ضعيف على الوجه القويّ ، كأخذ بعض الأغبياء بإظهار الميم المقلوبة من النون والتنوين.

بيان أن كل قراءة صحت

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجب قبولها والإيمان بها

قال الحافظ ابن الجزريّ في النشر : كل ما صح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القراءات ، فقد وجب قبوله ، ولم يسع أحدا من الأمة رده ، ولزم الإيمان به ، وأنّ كله منزل من عند الله ، إذ كل قراءة منها مع الأخرى بمنزلة الآية مع الآية ، يجب الإيمان بها كلها ، واتباع ما تضمنته من المعنى علما وعملا ، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن ذلك تعارض ، وإلى ذلك أشار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله : «لا تختلفوا في القرآن ولا تتنازعوا فيه ، فإنه لا يختلف ولا يتساقط ، ألا ترون أن شريعة الإسلام فيه واحدة حدودها وقراءتها وأمر الله فيها واحد ، ولو كان من الحرفين حرف يأمر بشيء ينهى عنه الآخر ، كان ذلك الاختلاف. ولكنه جامع ذلك كله ، ومن قرأ على قراءة فلا يدعها رغبة عنها ، فإنه من كفر بحرف منه كفر به كله».

قال ابن الجزريّ : قلت : وإلى ذلك أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال لأحد المختلفين «أحسنت» وفي الحديث الآخر «أصبت» وفي الآخر «هكذا أنزلت» فصوّب النبيّ

١٩٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم قراءة كل من المختلفين وقطع بأنها كذلك أنزلت من عند الله.

افتراق اختلاف القراء من اختلاف الفقهاء

قال ابن الجزريّ ، بعد ما تقدم : وبهذا افترق اختلاف القراء من اختلاف الفقهاء ، فإن اختلاف القراء كله حق وصواب نزل من عند الله وهو كلامه لا شك فيه. واختلاف الفقهاء اختلاف اجتهاديّ ، والحق في نفس الأمر واحد ، فكل مذهب بالنسبة إلى الآخر صواب يحتمل الخطأ ، وكل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب في نفس الأمر ، نقطع بذلك ونؤمن به.

معنى إضافة القراءة إلى من قرأ بها

ثم قال ابن الجزريّ ، بعد ما تقدم : ونعتقد أن معنى إضافة كل حرف من حروف الاختلاف إلى من أضيف إليه من الصحابة وغيرهم إنما هو من حيث إنه كان أضبط له وأكثر قراءة وإقراء به وملازمة له وميلا إليه ، لا غير ذلك. وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة ورواتهم. المراد بها أن ذلك القارئ ، وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة حسبما قرأ به. فآثره على غيره وداوم عليه ولزمه حتى اشتهر وعرف به ، وقصد فيه وأخذ عنه ، فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء ، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم ، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد.

ثمرة اختلاف القراءات وتنوّعها

قال في النشر : «وأما فائدة اختلاف القراءات وتنوعها فإن في ذلك فوائد غير ما قدمنا من سبب التهوين والتسهيل والتخفيف على الأمة. فمنها : ما في ذلك من نهاية البلاغة وكمال الإعجاز ، وغاية الاختصار وجمال الإيجاز ، لأنّ كلّ قراءة بمنزلة الآية ، إذ كان تنوع اللفظ بكلمة تقوم مقام آيات. ومنها : ما في ذلك من عظيم البرهان وواضح الدلالة ، إذ هو مع كثرة هذا الاختلاف وتنوعه لم يتطرق إليه تضادّ ولا تناقض ولا تخالف ، بل كله يصدق بعضه بعضا ، ويبيّن بعضه بعضا ، ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد وأسلوب واحد ، وما ذلك إلا آية بالغة وبرهان قاطع على صدق من جاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومنها : سهولة حفظه ، وتيسير نقله على هذه الأمة ، إذ هو على هذه الصفة من البلاغة والوجازة. فإنه من يحفظ كلمة ذات أوجه أسهل عليه وأقرب إلى فهمه ، وأدعى لقبوله من حفظه جملا من الكلام تؤدّي معاني تلك القراءات المختلفات ، لا سيما في ما كان خطه واحدا ، فإن ذلك أسهل حفظا ، وأيسر لفظا.

١٩٥

ومنها : إعظام أجور هذه الأمة ـ من حيث إنهم يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم ـ في تتبع معاني ذلك ، واستنباط الحكم والأحكام : من دلالة كلّ لفظ ، واستخراج كمين أسراره ، وخفيّ إشاراته بقدر ما يبلغ غاية علمهم ، ويصل إليه نهاية فهمهم ، والأجر على قدر المشقّة. ومنها : بيان فضل هذه الأمة وشرفه على سائر الأمم من حيث تلقّيهم كتاب ربهم هذا التلقّي ، وإقبالهم عليه هذا الإقبال ، والبحث عن لفظة لفظة ، والكشف عن صيغة صيغة ، وتحرير تصحيحه ، وإتقان تجويده ، حتى حموه من خلل التحريف ، وحفظوه من الطغيان والتطفيف ، فلم يهملوا تحريكا ولا تسكينا ولا تفخيما ولا ترقيقا ، حتى ضبطوا مقادير المدات ، وتفاوت الإمالات ، وميّزوا بين الحروف بالصفات ، مما لم يهتد إليه فكر أمّة من الأمم ، ولا يوصل إليه إلا بإلهام بارئ النسم. ومنها : ما ذخره الله تعالى من المنقبة العظيمة ، والنعمة الجليلة الجسيمة لهذه الأمة ، من إسنادها كتاب ربها واتصال هذا السبب الإلهيّ بسببها ، فكلّ قارئ يوصل حرفه بالنقل إلى أصله ، ويرفع ارتياب الملحد قطعا بوصله. ومنها : ظهور سر الله تعالى في تولّيه حفظ كتابه العزيز ، وصيانة كلامه المنزل بأوفى البيان والتمييز ، فإنه تعالى لم يخل عصرا من الأعصار ، ولو في قطر من الأقطار ، من إمام حجة قائم بنقل كتاب الله تعالى وإتقان حروفه ورواياته ، وتصحيح وجوهه وقراءاته ، يكون وجوده سببا لوجود هذا السبب القويم على ممر الدهور ، وبقاؤه دليلا على بقاء القرآن العظيم في المصحف والصدور» انتهى.

إجمال المباحث المتقدمة في تواتر القراءات وعدمها

قال السيد محمد الطباطبائيّ ـ أحد أعلام الإمامية ـ في كتابه «مفاتيح الأصول» في : باب أدلّة الأحكام في القول في الكتاب الكريم. ما مثاله :

اختلفوا في أنّ القراءات السبع المشهورة ، هل هي متواترة ، أو لا؟ على أقوال :

الأول : إنها متواترة مطلقا ، وإن الكلّ مما نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين. هو للعلامة ابن المطهر ، وابن فهد ، والمحقق الثاني في المعالم ، والشهيد الثاني في المقاصد العلية ، والمحدث الحر العامليّ ، والمحكيّ عن الفاضل الجواد ، وفي شرح الوافية للسيد صدر الدين ، معظم المجتهدين من أصحابنا حكموا بتواتر القراءات السبع. وفي التفسير الكبير للرازيّ : ذهب إليه الأكثرون.

الثاني : إن القراءات السبع منها ما هو من قبيل الهيئة كالمدة واللين وتخفيف

١٩٦

الهمزة والإمالة ونحوها ، وذلك لا يجب تواتره وغير متواتر. ومنها : ما هو من جوهر اللفظ كملك ومالك وهذا متواتر. وهذا للفاضل البهائيّ ، وابن الحاجب في مختصره ، والعضديّ في شرحه.

الثالث : إنها ليست بمتواترة مطلقا لو كانت من جوهر اللفظ ، وهو للشيخ في «التبيان» ونجم الأئمة في «شرح الكافية» ، وجمال الدين الخونساريّ ، والسيد نعمة الله الجزائريّ ، والشيخ يوسف البحرانيّ ، والسيد صدر الدين ، والمحكيّ عن ابن طاوس في كتاب «سعد السعود» ، والرازيّ ، والزمخشريّ ، وإليه يميل كلام الحرفوشيّ.

للقول الأول وجوه :

منها : تضمن جملة من العبارات الإجماع على تواتر السبع : وقد يناقش فيه :

أولا : بأنّ غاية ما يستفاد ـ مما ذكر ـ الظن بتواتر السبعة ، ومحل الكلام حصول العلم به. وثانيا : باحتمال أن يريدوا ما ذكره الشهيد الثاني في «المقاصد العلية» وولد الشيخ البهائي فقالا : «ليس المراد أن كل ما ورد من هذه القراءات متواتر ، بل المراد انحصار المتواتر الآن فيما نقل من هذه القراءات ، فإن بعض ما نقل عن السبعة شاذّ فضلا عن غيرهم» انتهى.

وباحتمال أن يريدوا جواز القراءة بالسبعة. وفي هذين الاحتمالين نظر لبعدهما عن ظاهر العبارة فتأمل! وثالثا : بالمعارضة بما ذكره الشيخ في «التبيان» من أن المعروف من مذهب الإمامية ، والتطلّع في أخبارهم ورواياتهم ، أن القرآن نزل بحرف واحد على نبيّ واحد. فتأمل!.

ومنها : ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف واف» فإن المراد من الأحرف القراءات. وقد يناقش فيه :

أولا : بضعف السند. سلمنا الصحة. ولكنه خبر واحد ، فلا يفيد العلم بالمدّعى.

وثانيا : بضعف الدلالة ، لعدم الدليل على إرادة القراءات من الأحرف. وقد اختلفوا في تفسيرها.

ومنها : أن القراءات السبع لو لم تكن متواترة ، ومن القرآن المنزل ، لوجب أن يتواتر ذلك ، ويعلم عدم كونها منه ، والتالي باطل فالمقدّم مثله. أما الملازمة فلأن العادة قاضية بأنه يجب أن يكون ما ليس بقرآن معلوما أنه ليس بقرآن لتوفر الدواعي

١٩٧

على تمييز القرآن عن غيره ، وهو مستلزم لذلك. وفيه نظر.

ومنها : ما تمسك به العلامة في «نهاية الأصول» ، والحاجبيّ في «مختصره» ، والعضديّ في «شرحه» من أن القراءات السبع «لو لم تكن متواترة لخرج بعض القرآن عن كونه متواترا ـ كما لك وملك وأشباههما ـ والتالي باطل فالمقدم مثله. بيان الشرطية أنهما وردا عن القراء السبعة ، وليس تواتر أحدهما أولى من تواتر الآخر ، فإمّا أن يكونا متواترين وهو المطلوب ، أو لا يكون شيء منهما بمتواتر وهو باطل ، وإلّا يخرج عن كونه قرآنا ، وهذا خلف». وأورد عليه جمال الدين الخونساريّ فقال : «لا يخفى أن دليل وجوب تواتر القرآن ـ وهو توفر الدواعي على نقله ـ لو تم إنّما يدل على وجوب تواتره إلى زمان الجمع. وأمّا بعده ، فالظاهر أنهم اكتفوا فيه بتكثير نسخ هذا الكتاب الذي جمع ، بحيث يصير متواترا في كل زمان ، واستغنوا به عن جعل أصل القرآن المنزل متواترا بالحفظ من خارج ، كيف وقد عرفت أن الظاهر أنه لم يقع التواتر في كثير من أبعاض القرآن إلّا بهذا الوجه ، وهو وجوده في هذا الكتاب المتواتر ، على هذا ، فالاستدلال على تواتر القراءات السبع بما ذكره العضديّ ضعيف جدا ، إذ بتواتر ذلك الكتاب ـ على الوجه المذكور ـ لا يعلم إلّا تواتر إحدى القراءات لا بعينها. لا خصوص بعضها ولا جميعها. فالظاهر أنه لا بد ـ في إثبات تواترها ـ من التفحص والتفتيش في نقلتها ورواتها ، فإن ظهر بلوغهم إلى حد التواتر فهو متواتر وإلّا فلا. والذي ظهر لنا من خارج ، شهرة القراءات السبع دون ما عداها ، وأما بلوغ الجميع أو بعضها حد التواتر فكأنه لا يظهر في هذه الأعصار.

وللقول الثاني : على تواتر ما هو من جوهر اللفظ ، الوجه الأخير الذي تمسّك به الجماعة المتقدم إليهم الإشارة لإثبات تواتر السبع ، وعلى عدم تواتر ما هو من قبيل الهيأة ـ كالمدّ واللين والإمالة وغيرها ـ ما ذكره بعض من أنّ القرآن هو الكلام ، وصفات الألفاظ ـ أعني الهيأة ـ ليست كلاما. وأورد عليه الباغنويّ فقال : «هاهنا بحث ، وهو أنه لا شك أن القرآن هاهنا عبارة عن اللفظ. وكما أنّ الجوهر جزء ماديّ له ، كذلك الهيأة جزء صوريّ له. فإذا ثبت أن القرآن لا بد أن يكون متواترا ثبت أن الهيأة لا بدّ أن تكون متواترة أيضا. ولو سلم أنّ الهيأة ليست جزءا للفظ فلا شك أنها من لوازمه. ولا يمكن نقله بدون نقلها ، فإذا تواتر نقله تواتر نقلها. فإن قلت : نقله لا يستلزم نقلها بخصوصها بل إنما يستلزم نقل إحداهما لا بعينها ، فاللازم تواتر القدر المشترك بين الهيئات ، والظاهر أنّ الهيئات المخصوصة لا يوجب تواترها ، فلا منافاة. قلت : ما ذكر من توفر الدواعي على نقل القرآن لا يجري في الجواهر المخصوصة

١٩٨

أيضا ، إذ كما أن اختلاف بعض الهيئات لا يؤثر في صلاحية كون القرآن متحدى به ، وفي كونه من أصول الأحكام ، كذلك اختلاف بعض الجواهر لا يؤثر في ذلك ، فلم يلزم أن كلّ ما هو من قبيل الجوهر لا بدّ أن يكون متواترا ، فليتأمّل ...!» انتهى.

واعترض عليه جمال الدين الخونساري فقال ـ بعد الإشارة إليه ـ : «لا يخفى أن ما ذكر من دليل وجوب تواتر القرآن ـ وهو توفّر الدواعي على نقله للتحدي به ولكونه أصل سائر الأحكام ـ لا يدل إلا على وجوب تواتر مادته وهيأته التي يختلف باختلافها المعنى والفصاحة والبلاغة. وأمّا ما يكون من قبيل الأداء بالمعنى الذي ذكر ، فلا يدلّ على وجوب تواتره ، إذ لا مدخل له فيما هو مناط توفّر الدوعي. أمّا استنباط الأحكام فظاهر. وأمّا التحدي والإعجاز فلأنهما لا يوجبان إلا نقل أصل الكلام الذي وقعا به من مادّته وصورته التي لهما مدخل فيهما. وأمّا الهيأة التي لا مدخل لها في ذلك ـ كالمدّ واللين مثلا ـ فلا حاجة إلى تواترهما. بل يكفي فيهما الحوالة إلى ما هو دأب العرب في كلامهم في المد في مواضعه ، واللين في مواقعه ، وكذا في أمثالهما».

ثمّ قال : «لا يخفى أنه إذا جوز تغيير بعض الجواهر ، مما يكون من هذا القبيل ، فقد يؤدي خطأ إلى تغيير ما يختلف ويختل به المعنى والفصاحة والبلاغة ، فلا بد من سد ذلك الباب بالكلية ، حذرا من أن ينتهي إلى ذلك ، وأما تحريف النقلة في المد واللين وأمثالهما فلا يخل بشيء ، إذ يكفي فيهما الرجوع إلى قوانين العرب فيهما. فإذا نقل إلينا متواترا جوهر الكلام وهيأته التي لها دخل في المعنى والفصاحة والبلاغة ، فلنرجع في المد واللين وأمثالهما إلى قوانين العرب ، ولا حاجة إلى أن يتواتر عندنا أنّه في أيّ موضع مدّ ، وفي أيّ موضع قصر ، وهو ظاهر».

وللقول الثالث وجوه :

منها : خبر الفضيل بن يسار قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ الناس يقولون : نزل القرآن على سبعة أحرف ، فقال : بل نزل على حرف واحد من عند واحد».

ويؤيّده خبر زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ القرآن واحد نزل من عند الواحد» ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة.

ومنها : ما ذكره السيد نعمة الله من أنّ كتب القراءة والتفسير مشحونة من قولهم : قرأ حفص وعاصم كذا ، وفي قراءة عليّ بن أبي طالب وأهل البيت عليهم

١٩٩

السلام كذا ، بل ربما قالوا : وفي قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا ، يظهر من الاختلاف المذكور في قراءة غير المغضوب عليهم ولا الضالين. والحاصل أنهم يجعلون قراءة القراء قسيمة لقراءة المعصومين. فكيف تكون القراءات السبع متواترة عن الشارع تواترا يكون حجة على الناس؟

ومنها : ما ذكره السيد المذكور أيضا من أن قراءات السبع استندوا بالقراءات بآرائهم ، وإن أسندوا بعض قراءاتهم الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يجوز أن يدعي تواتر قراءاتهم. وذلك لأن المصحف الذي وقع إليهم خال من الإعراب والنقط. كما هو الآن موجود في المصاحف التي هي بخط مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وأولاده. وقد شاهدنا عدة منها في خزانة الرضا عليه‌السلام. نعم ذكر جمال الدين السيوطيّ في كتابه الموسوم ب «المطالع السعيدة» : أن أبا الأسود الدؤلي أعرب مصحفا واحدا في خلافة معاوية. وبالجملة : لما وقعت إليهم المصاحف على ذلك الحال تصرفوا في إعرابها ونقطها وإدغامها وإمالتها ونحو ذلك من القوانين المختلفة بينهم على ما يوافق مذهبهم في اللغة والعربية ، كما تصرفوا في النحو ، وصاروا إلى ما دوّنوه من القواعد المختلفة.

قال محمد بن بحر الرهنيّ : «إن كل واحد من القراء قبل أن يتجدد القارئ الذي بعده كانوا لا يجيزون إلا قراءته ، ثم لما جاء القارئ الثاني انتقلوا عن ذلك المنع إلى جواز قراءة الثاني ، وكذلك في القراءات السبع ، فاشتمل كلّ واحد على إنكار قراءته ، ثم عادوا إلى خلاف ما أنكروه ، ثم اقتصروا على هؤلاء السبعة ، مع أنه قد حصل في علماء المسلمين والعالمين بالقرآن أرجح منهم ، مع أنّ في زمان الصحابة ما كان هؤلاء السبعة ... إلخ». ومنها : ما ذكره الرازيّ في تفسيره الكبير فإنّه قال : «اتفق الأكثرون على أن القراءات المشهورة منقولة بالتواتر ، وفيه إشكال ، وذلك لأنا نقول هذه القراءات ، إمّا أن تكون منقولة بالنقل المتواتر ، أو لا تكون ، فإن كان الأول فحينئذ قد ثبت بالنقل المتواتر أنّ الله قد خيّر المكلفين بين هذه القراءات وسوّى بينها بالجواز ، وإذا كان كذلك كان ترجيح بعضها على بعض واقعا ، على خلاف الحكم الثالث بالتواتر ، فيجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض على البعض مستوجبين للفسق إن لم يلزمهم الكفر ، كما ترى أنّ كلّ واحد من هؤلاء القراء يختصّ بنوع معين من القراءة ، ويحمل الناس عليه ويمنعهم عن غيره. وأمّا إن قلنا : إنّ هذه القراءات ما ثبتت بالتواتر ، بل بطريق الآحاد فحينئذ يخرج القرآن عن كونه مفيدا للجزم والقطع وذلك باطل بالإجماع». ثمّ قال : «ولقائل أن يجيب عنه

٢٠٠