تفسير القاسمي - ج ١

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ١

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

قط آية من كتاب الله. وإذا سئل عن ذلك لم يجب. (انظر الحكاية عنه في الكامل)

ثم قال الشاطبيّ : فالذي يستفاد من هذا الموضع أشياء. منها : التحفظ من القول في كتاب الله تعالى إلا على بينة. فإن الناس ، في العلم بالأدوات المحتاج إليها في التفسير ، ثلاث طبقات.

إحداها : من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة والتابعين ومن يليهم. وهؤلاء قالوا مع التوقي والتحفظ والهيبة والخوف من الهجوم. فنحن أولى بذلك منهم إن ظننّا بأنفسنا أنا في العلم والفهم مثلهم. وهيهات.

والثانية : من علم من نفسه أنه لم يبلغ مبالغهم ولا داناهم. فهذا طرف لا إشكال في تحريم ذلك عليه.

والثالثة : من شك في بلوغه مبلغ أهل الاجتهاد ، أو ظن ذلك في بعض علومه دون بعض. فهذا أيضا داخل تحت حكم المنع من القول فيه. لأن الأصل عدم العلم. فعند ما يبقى له شك أو تردد في الدخول مدخل العلماء الراسخين ، فانسحاب الحكم الأول عليه باق بلا إشكال. وكل أحد فقيه نفسه في هذا المجال. وربما تعدى بعض أصحاب هذه الطبقة طوره ، فحسّن ظنه بنفسه ، ودخل في الكلام فيه مع الراسخين. ومن هنا افترقت الفرق ، وتباينت النحل ، وظهر في تفسير القرآن الخلل.

ومنها : أن من ترك النظر في القرآن ، واعتمد في ذلك على من تقدمه ، ووكل إليه النظر فيه ، غير ملوم. وله في ذلك سعة. إلا فيما لا بد منه ، وعلى حكم الضرورة. فإن النظر فيه يشبه النظر في القياس. وما زال السلف الصالح يتحرجون من القياس فيما لا نص فيه. وكذلك وجدناهم في القول في القرآن. فإن المحظور فيهما واحد. وهو خوف التقوّل على الله. بل القول في القرآن أشد. فإن القياس يرجع إلى نظر الناظر. والقول في القرآن يرجع إلى أن الله أراد كذا أو عنى كذا ، بكلامه المنزل ، وهذا عظيم الخطر.

ومنها أن يكون على بال من الناظر ، والمفسر ، والمتكلم عليه ، أن ما يقوله تقصيد منه للمتكلم. والقرآن كلام الله. فهو يقول بلسان بيانه : هذا مراد الله من هذا الكلام. فليتثبت أن يسأله الله تعالى : من أين قلت عني هذا؟ فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد. وإلا ، فمجرد الاحتمال يكفي بأن يقول : يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا. بناء أيضا على صحة تلك الاحتمالات في صلب العلم. وإلّا ، فالاحتمالات

١٠١

التي لا ترجع إلى أصل غير معتبرة ، فعلى كل تقدير ، لا بد في كل قول ، يجزم به أو يحتمل ، من شاهد يشهد لأصله. وإلا كان باطلا. ودخل صاحبه تحت أهل الرأي المذموم ، والله أعلم.

فصل

في أن الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول

قال الشاطبيّ : الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول ، والدليل على ذلك من وجوه :

أحدها : أنها لو نافتها لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعيّ ولا غيره ، لكنها أدلة باتفاق العقلاء ، فدلّ أنها جارية على قضايا العقول. وبيان ذلك أن الأدلة إنما نصبت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين ، حتى يعملوا بمقتضاها من الدخول تحت أحكام التكليف ، ولو نافتها لم تتلقها ، فضلا أن تعمل بمقتضاها. وهذا معنى كونها خارجة عن حكم الأدلة. ويستوي ، في هذا ، الأدلة المنصوبة على الأحكام الإلهية وعلى الأحكام التكليفية.

والثاني : أنها لو نافتها لكان التكليف بمقتضاها تكليفا بما لا يطاق. وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل ، ولا يتصوره. بل يتصور خلافه ويصدقه. فإذا كان كذلك امتنع على العقل التصديق ، ضرورة. وقد فرضنا ورود التكليف المنافي التصديق ، وهو معنى تكليف ما لا يطاق. وهو باطل حسبما هو مذكور في الأصول.

والثالث : أن مورد التكليف هو العقل. وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام. حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسا. وعدّ فاقده كالبهيمة المهملة. وهذا واضح في اعتبار تصديق العقل بالأدلة في لزوم التكليف. فلو جاءت على خلاف ما يقتضيه لكان لزوم التكليف على العاقل أشد من لزومه على المعتوه والصبيّ والنائم. إذ لا عقل لهؤلاء يصدق أو لا يصدق. بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به. ولما كان التكليف ساقطا عن هؤلاء ، لزم أن يكون ساقطا عن العقلاء أيضا. وذلك مناف لوضع الشريعة. فكان ما يؤدي إليه باطلا.

والرابع : أنه لو كان كذلك لكان الكفار أولى من ردّ الشريعة به. لأنهم كانوا في غاية الحرص على ردّ ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. حتى كانوا يفترون عليه وعليها. فتارة يقولون ساحر. وتارة مجنون. وتارة يكذبونه. كما كانوا يقولون في القرآن : سحر ،

١٠٢

وشعر ، وافتراء ، وإنما يعلمه بشر ، وأساطير الأولين. بل كان أولى ما يقولون : إن هذا لا يعقل ، أو هو مخالف للعقول أو ما أشبه ذلك. فلما لم يكن من ذلك شيء ، دلّ على أنهم عقلوا ما فيه وعرفوا جريانه على مقتضى العقول. إلا أنهم أبوا من اتباعه لأمور أخر ، حتى كان من أمرهم ما كان ، ولم يعترضه أحد بهذا المدّعى. فكان قاطعا في نفيه عنه.

والخامس : إن الاستقراء دل على جريانها على مقتضى العقول بحيث تصدقها العقول الراجحة ، وتنقاد لها طائعة أو كارهة. ولا كلام في عناد معاند ولا في تجاهل متعام. هو المعنى بكونها جارية على مقتضى العقول ، لا أن العقول حاكمة عليها ولا محسّنة فيها ولا مقبحة. وبسط هذا الوجه مذكور في كتاب المقاصد في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام. فإن قيل : هذه دعوى عريضة يصده عن القول بها غير ما وجه :

أحدها : أن في القرآن ما لا يعقل معناه أصلا. كفواتح السور. فإن الناس قالوا : إن في القرآن ما يعرفه الجمهور ، وفيه ما لا يعرفه إلا العرب ، وفيه ما لا يعرفه إلا العلماء بالشريعة وفيه ما لا يعرفه إلا الله. فأين جريان هذا القسم على مقتضى العقول؟

والثاني : أن في الشريعة متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس أو لا يعلمها إلا الله تعالى. كالمتشابهات الفروعية ، وكالمتشابهات الأصولية. ولا معنى لاشتباهها إلا أنها تتشابه على العقول فلا تفهمها أصلا. ولا يفهمها إلا القليل. والمعظم مصدودون عن فهمها. فكيف يطلق القول بجريانها على فهم العقول.

والثالث : أن فيها أشياء اختلفت على العقول حتى تفرّق الناس بها فرقا وتحزّبوا أحزابا. وصار (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم : ٣٢] فقالوا فيها أقوالا كلّ على مقدار عقله ودينه. فمنهم من غلب عليه هواه حتى أدّاه ذلك إلى الهلكة. كنصارى نجران حين اتبعوا ، في القول بالتثليث ، قول الله تعالى : فعلنا ، وقضينا ، وخلقنا. ثم بعدهم من أهل الانتماء إلى الإسلام الطاعنين على الشريعة بالتناقض والاختلاف. ثم يليهم سائر الفرق الذين أخبر بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكل ذلك ناشئ عن خطاب يزلّ به العقل. كما هو الواقع. فلو كانت الأدلة جارية على تعقلات العقول ، لما وقع في الاعتياد هذا الاختلاف. فلما وقع فهم أنه من جهة ما له خروج عن المعقول ، ولو بوجه ما.

فالجواب عن الأول : إن فواتح السور ، للناس في تفسيرها مقال. بناء على أنه

١٠٣

مما يعلمه العلماء. وإن قلنا : إنه مما لا يعلمه العلماء البتة ، فليس مما يتعلق به تكليف على حال. فإذا خرج عن ذلك ، خرج عن كونه دليلا على شيء من الأعمال ، فليس مما نحن فيه. وإن سلم ، فالقسم ، الذي لا يعلمه إلا الله تعالى في الشريعة ، نادر ، والنادر لا حكم له ، ولا تنخرم به الكلية المستدل عليها أيضا ، لأنه مما لا يهتدي العقل إلى فهمه ، وليس كلامنا فيه. إنما الكلام على ما يؤدي مفهوما ، لكن على خلاف المعقول. وفواتح السور خارجة عن ذلك ، لأنا نقطع أنها لو بينت لنا معانيها لم تكن إلا على مقتضى العقول ، وهو المطلوب.

وعن الثاني : إن المتشابهات ليست مما تعارض مقتضيات العقول وإن توهم بعض الناس فيها ذلك ، لأن من توهم فيها ذلك فبناء على اتباع هواه. كما نصت عليه الآية قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران : ٧] لا أنه بناء على أمر صحيح : فإنه إن كان كذلك فالتأويل فيه راجع إلى معقول موافق لا إلى مخالف. وإن فرض أنه مما لا يعلمها أحد إلا الله ، فالعقول عنها مصدودة لأمر خارجيّ ، لا لمخالفته لها. وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة ، فكذلك يأتي في الكلام المحتوي على جمل كثيرة وأخبار بمعان كثيرة ، ربما يتوهم القاصر النظر ، فيها الاختلاف. وكذلك الأعجمي الطبع الذي يظن بنفسه العلم بما ينظر فيه وهو جاهل به. ومن هنا كان احتجاج نصارى نجران في التثليث ، ودعوى الملحدين ، على القرآن والسنة ، التناقض والمخالفة للعقول. وضمّوا إلى ذلك جهلهم بحكم التشريع ، فخاضوا حين لم يؤذن لهم في الخوض ، وفيما لم يجز لهم الخوض فيه ، فتاهوا. فإن القرآن والسنة ، لمّا كانا عربيين ، لم يكن لينظر فيهما إلا عربيّ. كما أنّ من لم يعرف مقاصدهما ، لم يحلّ له أن يتكلم فيهما. إذ لا يصح له نظر حتى كون عالما بهما. فإنه إذا كان كذلك لم يختلف عليه شيء من الشريعة. ولذلك مثال يتبين به المقصود وهو : إن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس ، فقال له : إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ ، فقال : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] ، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات : ٢٧] ، (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢] ، (رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ..) [الأنعام : ٢٣] فقد كتموا في هذه الآية. وقال : (بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ..) إلى قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٢٧ ـ ٣٠] فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض. ثم قال : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ...) [فصلت : ٩] إلى أن قال : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [فصلت : ١١] الآية

١٠٤

فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء وقال : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦] ، (عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء : ١٥٨] ، (سَمِيعاً بَصِيراً ...) [النساء : ١٣٤] ، فكأنه كان ثم مضى؟

فقال ابن عباس : لا أنساب بينهم في النفخة الأولى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨]. فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون. ثم في النفخة الأخرى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ).

وأما قوله : (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ). (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً). فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم. فقال المشركون : تعالوا نقول ما كنا مشركين. فختم على أفواههم فتنطق أيديهم. فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا. وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض.

وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ، ثم دحا الأرض ، أي أخرج الماء والمرعى ، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين. فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام. وخلقت السموات في يومين.

وكان الله غفورا رحيما. سمى نفسه ذلك وذلك قوله : أي لم أزل كذلك فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد. فلا يختلف عليك القرآن ، فإن كلّا من عند الله.

هذا تمام ما قال في الجواب. وهو يبين أن جميع ذلك معقول إذا نزّل منزلته ، وأتي من بابه.

وهكذا سائر ما ذكر الطاعنون ، وما أشكل على الطالبين ، وما وقف فيه الراسخون ، (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].

وقد ألّف الناس. في رفع التناقض والاختلاف عن القرآن والسنة ، كثيرا ، فمن تشوف إلى البسط ومدّ الباع وشفاء الغليل طلبه في مظانه.

فصل

في أن رتبة السنة التأخر عن الكتاب ، وأنها تفصيل مجمله وقاضية عليه

قال الشاطبيّ : رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار ، والدليل على ذلك أمور :

أحدها : أن الكتاب مقطوع به والسنة مظنونة. والقطع فيها إنما يصح في

١٠٥

الجملة لا في التفصيل. بخلاف الكتاب فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل. والمقطوع به مقدم على المظنون. فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة.

والثاني : أن السنة إما بيان للكتاب أو زيادة على ذلك. فإن كان بيانا فهو ثان على الوجه المبين في الاعتبار. إذ يلزم من سقوط المبيّن سقوط البيان ، ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين. وما شأنه هذا فهو أولى في التقدم. وإن لم يكن بيانا فلا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب. وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب.

والثالث : ما دل على ذلك من الأخبار والآثار. كحديث معاذ : «بم تحكم؟ قال : بكتاب الله. قال : فإن لم تجد؟ قال : بسنة رسول الله. قال : فإن لم تجد؟ قال : اجتهد رأيي» (١). الحديث. وعن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى شريح : «إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب الله. فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سنّ فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلخ» (٢). وفي رواية عنه : إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره. وقد بيّن معنى هذا في رواية أخرى أنه قال له : انظر ما تبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا. وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومثل هذا عن ابن مسعود : «من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب لله ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...» (٣) الحديث. وعن ابن عباس (٤) أنه كان إذا سئل عن شيء ، فإن كان في كتاب الله قال به وإن لم

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأقضية ، باب اجتهاد الرأي في القضاء ، حديث رقم ٣٥٩٢. عن أناس من أهل حمص ، من أصحاب معاذ بن جبل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال : «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء»؟ قال : «أقضي بكتاب الله». قال : «فإن لم تجد في كتاب الله»؟ قال : فبسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : «فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا في كتاب الله»؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدره ، وقال : «الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله».

(٢) أخرجه الدارمي في سننه ، في المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة.

(٣) أخرجه الدارمي في سننه ، في المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة : عن عبد الله بن مسعود قال : أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك. وإن الله قد قدّر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون. فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عزوجل. فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن جاءه ما ليس في كتاب الله ، ولم يقض به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليقض بما قضى به الصالحون. ولا يقل إني أخاف وإني أرى. فإن الحرام بيّن والحلال بيّن ، وبين ذلك أمور مشتبهة. فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك.

(٤) أخرجه الدارمي في سننه ، في المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة. عن عبد الله بن أبي يزيد قال : كان ابن عباس إذا سئل عن الأمر ، فكان في القرآن أخبر به. وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر به. فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر. فإن لم يكن قال فيه برأيه.

١٠٦

يكن في كتاب الله ، وكان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال به. وهو كثير في كلام السلف والعلماء.

مطلب في ملحظ تفرقة الحنفية بين الفرض والواجب

وما فرق به الحنفية بين الفرض والواجب راجع إلى تقدم اعتبار الكتاب على اعتبار السنة ، وأن اعتبار الكتاب أقوى من اعتبار السنة. وقد لا يخالف غيرهم في معنى تلك التفرقة. والمقطوع به في المسألة أن السنّة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار.

فإن قيل : هذا مخالف لما عليه المحققون. أما أولا : فإن السنة عند العلماء قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاض على السنة ، لأن الكتاب يكون محتملا لأمرين فأكثر ، فتأتي السنة بتعيين أحدهما فيرجع إلى السنة ويترك مقتضى الكتاب. وأيضا فقد يكون ظاهر الكتاب أمرا فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره. وهذا دليل على تقديم السنة. وحسبك أنها تقيّد مطلقه وتخصّ عمومه وتحمله على غير ظاهره حسبما هو مذكور في الأصول. فالقرآن آت بقطع كل سارق. فخصّت السنة من ذلك سارق النصاب المحرز. وأتى بأخذ الزكاة من جميع الأموال ظاهرا. فخصّته بأموال مخصوصة. وقال تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤] ، فأخرجت من ذلك نكاح المرأة على عمتها أو خالتها. فكل هذا ترك لظواهر الكتاب وتقديم للسنة عليه. ومثل ذلك لا يحصى كثرة. وأما ثانيا : فإن الكتاب والسنة إذا تعارضا ، فاختلف أهل الأصول : هل يقدم الكتاب على السنة ، أم بالعكس ، أم هما متعارضان؟ وقد تكلم الناس في حديث معاذ ورأوا أنه على خلاف الدليل. فإن كان ما في الكتاب لا يقدم على كل السنة فإن الأخبار المتواترة لا تضعف في الدلالة عن أدلة الكتاب. وأخبار الآحاد في محل الاجتهاد مع ظواهر الكتاب ، ولذلك وقع الخلاف وتأولوا التقديم في الحديث على معنى البداية بالأسهل الأقرب ، وهو الكتاب. فإذا كان الأمر على هذا فلا وجه لإطلاق القول بتقديم الكتاب ، بل المتبع الدليل.

فالجواب أن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب. بل إن ذلك المعبر في السنة هو المراد في الكتاب ، فكأنّ السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب ، ودل على ذلك قوله : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] فإذا حصل بيان قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا

١٠٧

أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] بأن القطع من الكوع ، وأن المسروق نصاب فأكثر من حرز مثله ، فذلك هو المعنى المراد من الآية. لا أن نقول : إن السنة أثبتت هذه الأحكام دون الكتاب. كما إذا بين لنا مالك أو غيره من المفسرين معنى آية أو حديث ، فعملنا بمقتضاه ، فلا يصح لنا أن نقول : إنا عملنا بقول المفسر الفلانيّ ، دون أن نقول : عملنا بقول الله أو قول رسوله عليه‌السلام ، وهكذا سائر ما بينته السنة من كتاب الله تعالى.

فمعنى كون السنة قاضية على الكتاب أنها مبيّنة له. فلا يوقف مع إجماله واحتماله.

وقد بينت المقصود منه لا أنها مقدمة عليه. وأما خلاف الأصوليين في التعارض ، فقد مر أن خبر الواحد إذا استند إلى قاعدة مقطوع بها فهو في العمل مقبول. وإلا فالتوقف. وكونه مستندا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآنيّ كلّي. فإذا عرضنا هذا الموضع على تلك القاعدة وجدنا المعارضة في الآية والخبر معارضة أصلين قرآنيّين. فيرجع إلى ذلك. وخرج عن معارضة كتاب مع سنة. وعند ذلك لا يصح وقوع هذا التعارض إلا من تعارض قطعيّين. وأما إن لم يستند الخبر إلى قاعدة قطعية فلا بد من تقديم القرآن على الخبر بإطلاق. وأيضا فإن ما ذكر من تواتر الأخبار إنما غالبه فرض أمر جائز. ولعلك لا تجد في الأخبار النبوية ما يقضي بتواتره إلى زمان الواقعة. فالبحث المذكور في المسألة بحث في غير واقع. أو في نادر الوقوع. ولا كبير جدوى فيه. والله أعلم.

ثم قال الشاطبيّ : السنة راجعة في معناها إلى الكتاب. فهي تفصيل مجمله وبيان مشكله وبسط مختصره. وذلك لأنها بيان له. وهو الذي دل عليه قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية. وأيضا فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها ، فهو دليل على ذلك. ولأن الله قال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤] وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه القرآن. واقتصرت في خلقه على ذلك. فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن ، لأن الخلق محصور في هذه الأشياء. ولأن الله جعل القرآن تبيانا لكل شيء. فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة. لأن الأمر والنهي أول ما في الكتاب. ومثله قوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] ، وقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)

١٠٨

[المائدة : ٣] وهو يريد بإنزال القرآن.

فالسنة إذا ، في حصول الأمر ، بيان لما فيه. وذلك معنى كونها راجعة إليه. وأيضا فالاستقراء التام دل على ذلك. حسبما يذكر بعد ، بحول الله. وقد تقدم في أول كتاب الأدلة أن السنة راجعة إلى الكتاب وإلا وجب التوقف عن قبولها. وهو أصل كاف في هذا المقام. فإن قيل هذا غير صحيح من أوجه : أحدها أن الله تعالى قال : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء : ٦٥] الآية. والآية نزلت في قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير بالسقي قبل الأنصاريّ من شراج الحرّة. الحديث (١) مذكور في الموطأ ، وذلك ليس في كتاب الله تعالى. ثم جاء في عدم الرضى به من الوعيد ما جاء. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النساء : ٥٩] والرد إلى الله هو الرد إلى الكتاب ، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته ، بعد موته. وقال : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) [المائدة : ٩٢] وسائر ما قرن فيه طاعة الرسول بطاعة الله ، فهو دال على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه. وطاعة الرسول ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن. إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله. وقال : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) [النور : ٦٣] الآية ، فقد اختص الرسول عليه‌السلام بشيء يطاع فيه ، وذلك السنة التي لم تأت في القرآن. وقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] ، وقال : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧]. وأدلة القرآن تدل على أن كل ما جاء به الرسول وكل ما أمر به ونهى فهو لاحق في الحكم بما جاء في القرآن ، فلا بد أن يكون زائدا عليه.

والثاني : الأحاديث الدالة على ذمّ ترك السنة واتباع الكتاب ، إذ لو كان ما في السنة موجودا في الكتاب ، لما كانت السنة متروكة على حال. كما روي أنه عليه

__________________

(١) أخرجه البخاري في الشرب والمساقاة ، باب سكر الأنهار. عن عروة عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه حدثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شراج الحرّة التي يسقون بها النخل. فقال الأنصاري : سرّح الماء يمرّ. فأبى عليه. فاختصما عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير : أسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري فقال : أن كان ابن عمتك؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر. فقال الزبير : والله! إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ).

١٠٩

السلام ، «يوشك بأحدكم أن يقول : هذا كتاب الله. ما كان فيه من حلال أحللناه ، وما كان فيه من حرام حرمناه. ألا من بلغه عني حديث فكذّب به فقد كذّب الله ، ورسوله ، والذي حدّثه» وعنه أنه قال (١) : «يوشك رجل منكم متكئا على أريكته يحدّث بحديث عني فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله. فما وجدنا فيه من حلال استحللناه. وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. ألا وإنّ ما حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل الذي حرم الله» وفي رواية (٢) «لا ألفينّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري بما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري. ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه».

وهذا دليل على أن في السنة ما ليس في الكتاب.

والثالث ـ إن الاستقراء دل على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة لم ينص عليها في القرآن. كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها (٣) ، وتحريم الحمر الأهلية (٤) ، وكل ذي ناب من السباع (٥) ، والعقل وفكاك الأسير (٦) وأن لا يقتل مسلم بكافر. وهو الذي نبه عليه حديث علي بن أبي طالب حيث قال فيه : ما عندنا إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، وما في هذه الصحيفة. وفي حديث آخر عن عليّ ، أنه خطب وعليه سيف فيه صحيفة معلقة فقال : والله ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة. فنشرها فإذا فيها : أسنان الإبل. وإذا فيها : المدينة حرم من عير إلى كذا. فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وإذا فيها : ذمة المسلمين واحدة يسعى بها

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في المقدمة ، باب تعظيم حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتغليظ على من عارضه ، حديث رقم ١٢.

(٢) أخرجه ابن ماجة في المقدمة ، باب تعظيم حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتغليظ على من عارضه ، حديث رقم ١٣ ، عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا ألفينّ أحدكم متكئا على أريكته ، يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري. فما وجدنا في كتاب الله اتبعناه».

(٣) أخرجه البخاري في النكاح ، باب لا تنكح المرأة على عمتها. عن أبي هريرة رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها».

(٤) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد ، باب لحوم الحمر الإنسية. عن ابن عمر رضي الله عنهما : «نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر.

(٥) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد ، باب أكل كلّ ذي ناب من السباع. عن أبي ثعلبة رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع.

(٦) أخرجه البخاري في العلم ، باب كتابة العلم.

١١٠

أدناهم ، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وإذا فيها : من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا.

وجاء في حديث معاذ : بم تحكم؟ قال : بكتاب الله. قال : فإن لم تجد؟ قال فبسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وما في معناه مما تقدم ذكره. وهو واضح في أن في السنة ما ليس في القرآن. وهو نحو قول من قال من العلماء : ترك الكتاب موضعا للسنة. وتركت السنة موضعا للقرآن.

والرابع ـ إن الاقتصار على الكتاب رأي قوم لا خلاق لهم ، خارجين عن السنة. إذ عوّلوا على ما بنيت عليه من أن الكتاب فيه بيان كل شيء. فاطّرحوا أحكام السنة. فأدّاهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة ، وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله. فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أخوف ما أخاف على أمتي اثنتان : القرآن واللبن. فأما القرآن فيتعلمه المنافقون ليجادلوا به المؤمنين. وأما اللبن فيتبعون الريف. يتبعون الشهوات ويتركون الصلوات» (١) وفي بعض الأخبار (٢) عن عمر بن الخطاب : سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنة أعلم بكتاب الله. وقال أبو الدرداء : إن مما أخشى عليكم زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن. وعن عمر (٣) : ثلاث يهد من الدين : زلة العالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون. وعن ابن مسعود (٤) : ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم. فعليكم بالعلم. وإياكم والتبدع. وإياكم والتنطع. وعليكم بالعتيق. وعن عمر : إنما أخاف عليكم رجلين : رجل يتأول القرآن على غير تأويله ، ورجل ينافس الملك

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده.

(٢) أخرجه الدارمي في المقدمة ، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.

(٣) أخرجه الدارمي في المقدمة ، باب في كراهية أخذ الرأي. عن زياد بن حدير قال : قال لي عمر : هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال قلت : لا. قال : يهدمه زلة العالم ، وجدال المنافق بالكتاب ، وحكم الأئمة المضلين.

(٤) أخرجه الدارمي في المقدمة ، باب كراهية الفتيا. عن أبي قلابة قال : قال ابن مسعود : عليكم بالعلم قبل أن يقبض. وقبضه أن يذهب بأصحابه. عليكم بالعلم ، فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه ، أو يفتقر إلى ما عنده. إنكم ستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله ، وقد نبذوه وراء ظهورهم. فعليكم بالعلم. وإياكم والتبدّع. وإياكم والتنطع. وإياكم والتعمق. وعليكم بالعتيق.

١١١

على أخيه. وهنا آثار في هذا المعنى حملها العلماء على تأويل القرآن بالرأي مع طرح السنن. وعليه حمل كثير من العلماء قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. حتى إذا لم يبق عالما ، اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا» (١) وما في معناه.

فإن كثيرا من أهل البدع هكذا فعلوا. اطرحوا الأحاديث وتأولوا كتاب الله على غير تأويله فضلوا وأضلوا. وربما ذكروا حديثا يعطي أن الحديث لا يلتفت إليه إلا إذا وافق كتاب الله تعالى. وذلك ما روي أنه عليه‌السلام قال : «ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله. فإن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا. وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله؟».

قال عبد الرحمن بن مهديّ : الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث. قالوا : وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه. وقد عارض هذا الحديث قوم فقالوا : نحن نعرضه على كتاب الله قبل كل شيء ونعتمد على ذلك. قالوا : فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفا لكتاب الله. لأنا لم نجد في كتاب الله أن لا نقبل من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا ما وافق كتاب الله ، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسّي به والأمر بطاعته ويحذر من المخالفة عن أمره ، جملة على كل حال. هذا مما يلزم القائل أن السنة راجعة إلى الكتاب.

ولقد ضلت بهذه الطريقة طوائف من المتأخرين كما كان ذلك فيمن تقدم. فالقول بها ، والميل إليها ميل عن الصراط المستقيم. أعاذنا الله من ذلك بمنه.

فالجواب إن هذه الوجوه المذكورة لا حجة فيها على خلاف ما تقدم.

أما الوجه الأول فلأنا إذا بنينا على أن السنة بيان للكتاب فلا بد أن تكون بيانا لما في الكتاب احتمال له ولغيره. فتبيّن السنة أحد الاحتمالين دون الآخر. فإذا عمل المكلف على وفق البيان أطاع الله فيما أراد بكلامه وأطاع رسوله في مقتضى بيانه. ولو عمل على مخالفة البيان عصى الله تعالى في عمله على مخالفة البيان. إذ صار

__________________

(١) أخرجه البخاري في العلم ، باب كيف يقبض العلم : عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد. ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا ، وأضلوا».

١١٢

عمله على خلاف ما أراد بكلامه. وعصى رسوله في مقتضى بيانه. فلم يلزم من إفراد الطاعتين تباين المطاع فيه بإطلاق ، وإذا لم يلزم ذلك لم يكن في الآيات دليل على أن ما في السنة ليس في الكتاب. بل قد يجتمعان في المعنى. ويقع العصيانان والطاعتان من جهتين. ولا محال فيه. ويبقى النظر في وجود ما حكم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن. يأتي على أثر هذا بحول الله تعالى.

وقوله في السؤال : فلا بد أن يكون زائدا عليه ، مسلّم. ولكن هذا الزائد هل هو زيادة الشرح على المشروح إذا كان للشرح بيان ليس في المشروح ، وإلا لم يكن شرحا. أم هو زيادة معنى آخر لا يوجد في الكتاب؟ هذا محل النزاع. وعلى هذا المعنى يتنزل الوجه الثاني.

وأيضا فإذا كان الحكم في القرآن إجماليّا ، وهو في السنة تفصيليّ فكأنه ليس إياه. فقوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) أجمل ما فيه معنى الصلاة وبيّنه عليه‌السلام. فظهر من البيان ما لم يظهر من المبيّن ، وإن كان معنى البيان هو معنى المبين ولكنهما في الحكم يختلفان. ألا ترى أن الوجه في المجمل قبل البيان ، التوقف ، وفي البيان العمل بمقتضاه؟ فلما اختلفا حكما صار كاختلافهما معنى. فاعتبرت السنة اعتبار المفرد عن الكتاب.

وأما الثالث فسيأتي الجواب عنه في المسألة بعد هذا إن شاء الله.

وأما الرابع فإنما وقع الخروج عن السنة في أولئك لمكان إعمالهم الرأي واطراحهم السنن ، لا من جهة أخرى. وذلك أن السنة ، كما تبين ، توضح المجمل وتقيّد المطلق وتخصص العموم. فتخرج كثيرا من الصيغ القرآنية عن ظاهر مفهومها في أصل اللغة. وتعلم بذلك أن بيان السنة هو مراد الله تعالى من تلك الصيغ. فإذا طرحت واتبع ظاهر الصيغ بمجرد الهوى صار صاحب هذا النظر ضالا في نظره ، جاهلا بالكتاب ، خابطا في عمياء ، لا يهتدي إلى الصواب فيها. إذ ليس للعقول من إدراك المنافع والمضار في التصرفات الدنيوية إلا النزر اليسير. وهي في الأخروية أبعد على الجملة والتفصيل.

وأمّا ما احتجوا به من الحديث ، فإن لم يصح في النقل فلا حجة به لأحد من الفريقين. وإن صح أو جاء من طريق يقبل مثله فلا بد من النظر فيه. فإن الحديث إما وحي من الله صرف ، وإمّا اجتهاد من الرسول عليه‌السلام معتبر بوحي صحيح من كتاب أو سنة. وعلى كلا التقديرين لا يمكن فيه التناقض مع كتاب الله. لأنه عليه

١١٣

السلام ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وإذا فرع على القول بجواز الخطأ في حقه فلا يقره عليه البتة. فلا بد من الرجوع إلى الصواب. والتفريع على القول بنفي الخطأ أولى أن لا يحكم باجتهاده حكما يعارض كتاب الله تعالى ويخالفه. نعم. يجوز أن تأتي السنة بما ليس فيه مخالفة ولا موافقة. بل بما يكون مسكوتا عنه في القرآن إلا إذا قام البرهان على خلاف هذا الجائز. وهو الذي ترجم له في هذه المسألة. فحينئذ لا بد في كل حديث من الموافقة لكتاب الله. كما صرح به الحديث المذكور. فمعناه صحيح. صحّ سنده أو لا. وقد خرّج في معنى هذا الحديث الطحاويّ في كتابه في بيان مشكل الحديث عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاريّ ، عن أبي حميد وأبي أسيد ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب ، فأنا أولاكم به. وإذا سمعتم بحديث عني تنكره قلوبكم وتندّ منه أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكر فأنا أبعدكم منه». وروي أيضا عن عبد الملك المذكور عن عباس بن سهل أن أبيّ بن كعب كان في مجلس. فجعلوا يتحدثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمرخّص والمشدّد. وأبي بن كعب ساكت ، فلما فرغوا قال : أي هؤلاء! ما حديث بلغكم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرفه القلب ويلين له الجلد وترجون عنده ، فصدّقوا بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقول إلا الخير. وبيّن وجه ذلك الطحاويّ بأن الله تعالى قال في كتابه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال : ٢] الآية. وقال : (مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) [الزمر : ٢٣] الآية. وقال : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [المائدة : ٨٣] الآية. فأخبر عن أهل الإيمان بما هم عليه عند سماع كلامه. وكان ما يحدثون به عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جنس ذلك ، لأنه كله من عند الله. ففي كونهم عند الحديث على ما يكونون عليه عند سماع القرآن دليل على صدق ذلك الحديث. وإن كانوا بخلاف ذلك وجب التوقف لمخالفته ما سواه. وما قاله يلزم منه أن يكون الحديث موافقا لا مخالفا في المعنى. إذ لو خالف لما اقشعرت الجلود ولا لانت القلوب. لأن الضد لا يلائم الضد ولا يوافقه.

وخرّج الطحاويّ أيضا عن أبي هريرة عنه عليه‌السلام : إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به. قلته أو لم أقله. فإني أقول ما يعرف ولا ينكر. وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به. فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف. ووجه ذلك أن المرويّ إذا وافق كتاب الله وسنة نبيه ، لوجود معناه في ذلك ، وجب

١١٤

قبوله. لأنه إن لم يثبت أنه قاله بذلك اللفظ فقد قال معناه بغير ذلك من الألفاظ. إذ يصح تفسير كلامه عليه‌السلام للأعجميّ بكلامه. وإذا كان الحديث مخالفا يكذّبه القرآن والسنة وجب أن يدفع ويعلم أنه لم يقله. وهذا مثل ما تقدم أيضا.

والحاصل من الجميع صحة اعتبار الحديث بموافقة القرآن وعدم مخالفته وهو المطلوب على فرض صحة هذه المنقولات. وأمّا إن لم تصحّ فلا علينا إذ المعنى المقصود صحيح. وإذا ثبت هذا بقي النظر في الوجه الذي دل الكتاب به على السنة حتى صار متضمنا لكلّيتها في الجملة وإن كانت بيانا له في التفصيل ، وهي :

إن للناس في هذا المعنى مآخذ : منه ما هو عام جدا وكأنه جار مجرى أخذ الدليل من الكتاب على صحة العلم بالسنة ولزوم الاتباع لها. وهو في معنى أخذ الإجماع منه في نحو قوله : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١١٥] الآية. وممن أخذ به عبد الله بن مسعود. فروى أن امرأة من بني أسد أتته فقالت له : بلغني أنك لعنت ذيت وذيت والواشمة والمستوشمة. وإنني قد قرأت ما بين اللوحين فلم أجد الذي تقول ، فقال لها عبد الله : أما قرأت (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ) [الحشر : ٧]؟ قالت : بلى. قال : فهو ذاك. وفي رواية : قال عبد الله : لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله. قال ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد فقالت : يا أبا عبد الرحمن! بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت ، فقال : وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته فقال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه. قال الله عزوجل : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] الحديث.

فظاهر قوله لها : هو في كتاب الله ، ثم فسر ذلك بقوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) دون قوله : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) [النساء : ١١٩] أن تلك الآية تضمنت جميع ما جاء في الحديث النبويّ. ويشعر بذلك أيضا ما روي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه فنهاه فقال : ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي. فقرأ عليه : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) الآية.

وروي أن طاوسا كان يصلي ركعتين بعد العصر. فقال له ابن عباس : اتركهما. فقال : إنما نهى عنهما أن تتّخذا سنة. فقال ابن عباس : قد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن

١١٥

صلاة بعد العصر. فلا أدري أتعذّب عليها أم تؤجر ، لأن الله قال : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب : ٣٦].

وروي عن الحكم بن أبان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد؟ فقال : هن أحرار. قلت : بأي شيء؟ قال : بالقرآن. قلت : بأي شيء في القرآن؟ قال : قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩]. وكان عمر من أولي الأمر. قال : عتقت ولو بسقط. وهذا المأخذ يشبه الاستدلال على إعمال السنة أو هو هو. ولكنه أدخل مدخل المعاني التفصيلية التي يدل عليها الكتاب من السنة.

السنة تفصل ما أجمله الكتاب

ومنها الوجه المشهور عند العلماء. كالأحاديث الآتية في بيان ما أجمل ذكره من الأحكام. إما بحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو موانعه أو لواحقه أو ما أشبه ذلك. كبيانها للصلوات على اختلافها : في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها. وبيانها للزكاة : في مقاديرها وأوقاتها ونصب الأموال المزكاة وتعيين ما يزكى مما لا يزكى. وبيان أحكام الصوم وما فيه مما لم يقع النص عليه في الكتاب. وكذلك الطهارة الحدثية والخبثية. والحج والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل. والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان والبيوع وأحكامها. والجنايات من القصاص وغيره. كل ذلك بيان لما وقع مجملا في القرآن. وهو الذي يظهر دخوله تحت الآية الكريمة (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤].

وقد روي عن عمران بن حصين أنه قال لرجل : إنك امرؤ أحمق. أتجد في كتاب الله الظهر أربعا ، لا يجهر فيها بالقراءة؟ ثم عدّد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا. ثم قال : أتجد هذا في كتاب الله مفسرا؟ إن كتاب الله أبهم هذا. وإن السنة تفسر ذلك. وقيل لمطرف بن عبد الله بن الشّخّير : لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال له مطرف : والله ما نريد بالقرآن بدلا. ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا.

وروى الأوزاعيّ عن حسان بن عطية قال : كان الوحي ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحضره جبريل بالسنّة التي تفسر ذلك. قال الأوزاعيّ : الكتاب أحوج إلى السنة من

١١٦

السنة إلى الكتاب. قال ابن عبد البرّ : يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه.

وسئل أحمد بن حنبل عن الحديث الذي روى أن السنة قاضية على الكتاب. فقال : ما أجسر على هذا أن أقوله. ولكني أقول : إن السنة تفسر الكتاب وتبيّنه.

فهذا الوجه في التفصيل أقرب إلى المقصود وأشهر في استعمال العلماء في هذا المعنى.

ومنها النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة وأنه موجود في السنة على الكمال ، زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح. وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبا لها والتعريف بمفاسدهما دفعا لها. وقد مرّ أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام : وهي الضروريات ويلحق بها مكملاتها. والحاجيات ويضاف مكملاتها. والتحسينيات ويليها مكملاتها. ولا زائد على هذه الثلاثة. وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقدير هذه الأمور. فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها. والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها. فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام. فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب تفصلت في السنة.

فإن حفظ الدين حاصله في ثلاثة معان : وهي الإسلام والإيمان والإحسان. فأصلها في الكتاب وبيانها في السنة. ومكمله ثلاثة أشياء : وهي الدعاء إليه بالترغيب والترهيب ، وجهاد من عانده أو رام إفساده ، وتلافي النقصان الطارئ في أصله. وأصل هذه في الكتاب وبيانها في السنة على الكمال.

وحفظ النفس حاصله في ثلاثة معان : وهي إقامة أصله بشرعية التناسل. وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود من جهة المأكل والمشرب. وذلك ما يحفظه من داخل. والملبس والمسكن. وذلك ما يحفظه من خارج. وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة. ومكمله ثلاثة أشياء : وذلك حفظه عن وضعه في حرام كالزنى ، وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح. ويلحق به كل ما هو من متعلقاته كالطلاق والخلع واللعان وغيرها. وحفظ ما يتغذى به أن يكون مما لا يضر أو يقتل أو يفسد. وإقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به من الذبائح والصيد وشرعية الحدّ والقصاص ومراعاة العوارض اللاحقة وأشباه ذلك. وقد دخل حفظ النسل في هذا القسم. وأصوله في القرآن. والسنة بينتها. وحفظ المال راجع إلى مراعاة دخوله في الأملاك. وكتنميته أن لا يفي ومكمله دفع العوارض وتلافي الأصل

١١٧

بالزجر والحد والضمان. وهو في القرآن والسنة. وحفظ العقل يتناول ما لا يفسده. وهو في القرآن. ومكمله شرعية الحدّ أو الزجر. وليس في القرآن له أصل على الخصوص. فلم يكن له في السنة حكم على الخصوص أيضا. فبقي الحكم فيه إلى اجتهاد الأمة. وإن ألحق بالضروريات حفظ العرض فله في الكتاب أصل شرحته السنة في اللعان والقذف.

هذا وجه في الاعتبار في الضروريات.

وإذا نظرت إلى الحاجيات اطرد النظر أيضا فيها على ذلك الترتيب أو نحوه. فإن الحاجيات دائرة على الضروريات. وكذلك التحسينيات. وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن وفي السنة. فلم يتخلف عنهما شيء. والاستقراء يبيّن ذلك ويسهل على من هو عالم بالكتاب والسنة. ولما كان السلف الصالح كذلك ، قالوا به ونصّوا عليه. حسبما تقدم عن بعضهم فيه. ومن تشوف إلى مزيد فإن دوران الحاجيات على التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق. فبالنسبة إلى الدين يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة كالتيمم ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها ، وفي الصلاة بالقصر ورفع القضاء في الإغماء والجمع والصلاة قاعدا وعلى جنب. وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض. وكذلك سائر العبادات. فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل كالتيمم والقصر والفطر فذاك. وإلا فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية. وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها. والسنة أول قائم بذلك. وبالنسبة إلى النفس أيضا فظهر في مواضع منها مواضع الرخص كالميتة للمضطر ، وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها ، وإباحة الصيد ، وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتى بالذكاة الأصلية ، وفي التناسل من العقد على البضع من غير تسمية صداق وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على ترك المشاحّة ، كما في البيوع. وجعل الطلاق ثلاثا دون ما هو أكثر. وإباحة الطلاق من أصله والخلع وأشباه ذلك. وبالنسبة إلى المال أيضا في الترخيص في الغرر اليسير والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب ورخصة السلم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها. ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك ما هو فوق الحاجة منها. والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد. من غير إسراف ولا إقتار. وبالنسبة إلى العقل في رفع الحرج عن المكره وعن المضطر ، على قول من قال به ، في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك. كل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج لأن أكثره اجتهاديّ.

١١٨

وبينت السنة منه ما يحتذي حذوه فرجع إلى تفسير ما أجمل من الكتاب. وما فسّر من ذلك في الكتاب ، فالسنة لا تعدوه ولا تخرج عنه. وقسم التحسينيات جار أيضا كجريان الحاجيات. فإنها راجعة إلى العمل بمكارم الأخلاق. وما يحسن في مجاري العادات كالطهارات بالنسبة إلى الصلوات ، على رأي من رأى أنها من هذا القسم ، وأخذ الزينة من اللباس ومحاسن الهيئات والطّيب وما أشبه ذلك. وانتخاب الأطيب والأعلى في الزكوات والإنفاقات وآداب الرفق في الصيام. وبالنسبة إلى النفوس كالرفق والإحسان. وآداب الأكل والشرب ونحو ذلك. وبالنسبة إلى النسل كالإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان من عدم التضييق على الزوجة وبسط الرفق في المعاشرة وما أشبه ذلك. وبالنسبة إلى المال كأخذه من غير إشراف نفس ، والتورّع في كسبه واستعماله والبذل منه على المحتاج وبالنسبة إلى العقل كمباعدة الخمر ومجانبتها ، وإن لم يقصد استعمالها ، بناء على أن قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة : ٩٠] ، يراد به المجانبة بإطلاق.

فجميع هذا له أصل في القرآن بيّنه الكتاب على إجمال أو تفصيل أو على الوجهين معا. وجاءت السنة قاضية على ذلك كله بما هو أوضح في الفهم وأشفى في الشرح.

وإنما المقصود هنا التنبيه. والعاقل يتهدى منه لما لم يذكر مما أشير إليه وبالله التوفيق.

ومنها النظر إلى مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين الواضحين. ومجال القياس الدائر بين الأصول والفروع وهو المبين في دليل القياس.

ولنبدأ بالأول : وذلك أنه يقع في الكتاب النص على طرفين مبينين فيه أو في السنة. كما تقدم في المأخذ الثاني. وتبقى الواسطة على اجتهاد. والتباين لمجاذبة الطرفين إياها ، فربما كان وجه النظر فيها قريب المأخذ فيترك إلى أنظار المجتهدين. وربما يعد على الناظر أو كان محل تعبّد لا يجري على مسلك المناسبة. فيأتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه البيان ، وأنه لاحق بأحد الطرفين. أو آخذ من كل واحد منهما بوجه احتياطيّ أو غيره. وهذا هو المقصود هنا.

ويتضح ذلك بأمثلة : أحدها أن الله تعالى أحل الطيبات وحرّم الخبائث. وبقي بين هذين الأصلين أشياء يمكن لحاقها بأحدهما. فبين عليه‌السلام في ذلك ما

١١٩

اتضح به الأمر. فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية وقال : إنها رجس. وسئل ابن عمر عن القنفذ فقال : كل. وتلا : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) [الأنعام : ١٤٥] الآية. فقال له إنسان : إن أبا هريرة يرويه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقول : «هو خبيثة من الخبائث» (١). فقال ابن عمر : إن قاله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كما قال. وخرّج أبو داود (٢) : نهى عليه‌السلام عن أكل الجلالة وألبانها. وذلك لما في لحمها ولبنها من أثر الجلة وهي العنهدة (كذا. ولم أدر ما معناها).

فهذا كله راجع إلى معنى الإلحاق بأصل الخبائث. كما ألحق عليه‌السلام الضب والحباري والأرنب وأشباهها بأصل الطيبات.

والثاني : أن الله تعالى أحل من المشروبات ما ليس بمسكر كالماء واللبن والعسل وأشباهها. وحرّم الخمر من المشروبات لما فيها من إزالة العقل الموقع للعداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة. فوقع فيما بين الأصلين ما ليس بمسكر حقيقة ولكنه يوشك أن يسكر. وهو نبيذ الدبّاء والمزفّت والنّقير وغيرها. فنهى (٣) عنها إلحاقا لها بالمسكرات تحقيقا. سدّا للذريعة. ثم رجع إلى تحقيق الأمر في أن الأصل الإباحة كالماء والعسل فقال عليه‌السلام (٤) «كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا. وكل مسكر حرام». وبقي في قليل المسكر على الأصل من

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده : عن عيسى بن نميلة الفزاري عن أبيه قال : كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ فتلا هذه الآية : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) إلى آخر الآية. فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول : ذكر عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : خبيث من الخبائث. فقال ابن عمر : إن كان قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كما قال.

(٢) أخرجه أبو داود في الأطعمة ، باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها ، حديث ٣٧٨٥.

(٣) أخرجه البخاري في الأدب ، باب قول الرجل مرحبا : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما قدم وفد عبد القيس على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مرحبا بالوفد الذي جاءوا غير خزايا ولا ندامى» فقالوا : يا رسول الله! إنا حيّ من ربيعة. وبيننا وبينك مضر. وإنا لا نصل إليك إلا في الشهر الحرام ، فمرنا بأمر فصل ندخل به الجنة وندعو به من وراءنا. فقال : «أربع وأربع : أقيموا الصلاة ، وءاتوا الزكاة ، وصوم رمضان ، وأعطوا خمس ما غنمتم. ولا تشربوا في الدبّاء والحنتم والنقير والمزفت».

(٤) أخرجه مسلم في الجنائز ، حديث ١٠٦. عن ابن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم. ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء ، فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا».

١٢٠