تفسير القاسمي - ج ١

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ١

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ..) [النحل : ٩٠] إلى آخرها. وقوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الأنعام : ١٥١] إلى انقضاء تلك الخصال. وقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) [الأعراف : ٣٢] وقوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [الأعراف : ٣٣] إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى ، لكن أدرج فيها ما هو أولى ، من النهي عن الإشراك والتكذيب بأمور الآخرة ، وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم ، وأبطل لهم ما كانوا يعدونه كرما وأخلاقا حسنة ، وليس كذلك. أو فيه من المفاسد ما يربى على المصالح التي توهموها ، كما قال تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة : ٩٠] ثم بين ما فيها من المفاسد ، خصوصا في الخمر والميسر من إيقاع العداوة والبغضاء ، والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة. وهذا في الفساد أعظم مما ظنوه فيها صلاحا. لأن الخمر كانت عندهم تشجع الجبان ، وتبعث البخيل على البذل ، وتنشط الكسالى. والميسر كذلك كان عندهم محمودا لما كانوا يقصدون به من إطعام الفقراء والمساكين ، والعطف على المحتاجين ، وقد قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : ٢١٩].

والشريعة إنما هي تخلّق بمكارم الأخلاق ، ولهذا قال عليه‌السلام : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (١). إلا أن مكارم الأخلاق على ضربين :

أحدهما : ما كان مألوفا وقريبا من المعقول المقبول ، كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به ثم لما رسخوا فيه. تمم لهم ما بقي ، وهو :

الضرب الثاني : وكان منه ما لا يفعل معناه من أول وهلة فأخّر حتى كان من آخره تحريم الربا وما أشبه ذلك ، وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق. وهو الذي كان معهودا عندهم على الجملة. ألا ترى أنه كان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام. كما قالوا في القراض ، وتقدير الدية وضربها على العاقلة ، وإلحاق الولد بالقافة ، والوقوف بالمشعر الحرام ، والحكم في الخنثى ، وتوريث الولد ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، والقسامة ، وغير ذلك مما ذكره العلماء. ثم نقول : لم يكتف بذلك حتى خوطبوا بدلائل التوحيد فيما يعرفون من سماء وأرض وجبال وسحاب ونبات ،

__________________

(١) عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : بعثت لأتمم حسن الأخلاق.

٦١

وبدلائل الآخرة والنبوة كذلك ، ولما كان الباقي عندهم من شرائع الأنبياء شيء من شريعة إبراهيم عليه‌السلام ، أبيهم ، خوطبوا من تلك الجهة ودعوا إليها ، وأن ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي تلك بعينها كقوله تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) [الحج : ٧٨] وقوله : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا ..) [آل عمران : ٦٧] الآية ـ غير أنهم غيروا جملة منها وزادوا واختلفوا. فجاء تقويمها من جهة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخبروا بما أنعم الله عليهم مما هو لديهم وبين أيديهم ، وأخبروا عن نعيم الجنة وأصنافه بما هو معهود في تنعماتهم في الدنيا ، لكن مبرأ من الغوائل والآفات التي تلازم التنعيم الدنيويّ. كقوله : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِفِي سِدْرٍ مَخْضُودٍوَطَلْحٍ مَنْضُودٍوَظِلٍّ مَمْدُودٍ ....) [الواقعة : ٢٧ ـ ٣٠] إلى آخر الآيات ـ وبيّن من مأكولات الجنة ومشروباتها ما هو معلوم عندهم. كالماء واللبن والخمر والعسل والنخيل والأعناب وسائر ما هو عندهم مألوف ، دون الجوز واللوز والتفاح والكمثرى وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم. بل أجمل ذلك في لفظ الفاكهة. وقال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] فالقرآن كله حكمة ، وقد كانوا عارفين بالحكمة ، وكان فيهم حكماء ، فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله. وكان فيهم أهل وعظ وتذكير ، كقس بن ساعدة وغيره. ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل. ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب في هذه الأمور الثلاثة وجد الأمر سواء. إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة. وسرّ في جميع ملابسات العرب هذا السير تجد الأمر كما تقرر. وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أميّة لم تخرج عما ألفته العرب.

ثم قال الشاطبيّ :

«المسألة الرابعة»

ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها ، وهم العرب ، ينبني عليه قواعد : منها ـ أن كثيرا من الناس تجاوزوا ، على الدعوى في القرآن ، الحدّ. فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها. وهذا ، إذا عرضناه على ما تقدم ، لم يصح.

إلى هذا ، فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف

٦٢

بالقرآن وبعلومه ، وما أودع فيه ، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدّعى ، سوى ما تقدم ، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة وما يلي ذلك. ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة. إلا أن ذلك لم يكن. فدل على أنه غير موجود عندهم. وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا. نعم! تضمن علوما هي من جنس علوم العرب ، أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة ، دون الاهتداء بأعلامه ، والاستنارة بنوره.

أمّا أن فيه ما ليس من ذلك فلا ، وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] وقوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] ونحو ذلك ، وبفواتح السور ، وهي مما لم يعهد عند العرب ، وبما نقل عن الناس فيها. وربما حكي من ذلك عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أشياء.

فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد. أو المراد بالكتاب في قوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) اللوح المحفوظ ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية. وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا كعدد الجمل الذي تعرّفوه من أهل الكتاب ، حسبما ذكره أصحاب السير. أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى ، وغير ذلك. وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون ، ولم يدّعه أحد ممن تقدم ، فلا دليل فيها على ما ادعوه. وما ينقل عن عليّ أو غيره في هذا لا يثبت ، فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه ، كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه ، ويجب الاقتصار ، في الاستعانة على فهمه ، على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة. فيه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية ، فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه ، وتقول على الله ورسوله فيه ، والله أعلم وبه التوفيق.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

ومنها ـ أنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين ، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم. فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر ، فلا يصح العدول عنه

٦٣

في فهم الشريعة. وإن لم يكن ثمّ عرف ، فلا يصح أن يجري في فهمها ما لا تعرفه. وهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب. مثال ذلك : أن معهود العرب أن لا ترى الألفاظ تعبدا عند محافظتها على المعاني ، وإن كانت تراعيها أيضا ، فليس أحد الأمرين عندها بملتزم ، بل قد تبنى على أحدهما مرّة ، وعلى الآخر أخرى ، ولا يكون ذلك قادحا ؛ في صحة كلامها واستقامته. والدليل على ذلك أشياء :

أحدها : خروجها في كثير من كلامها على أحكام القوانين المطّردة ، والضوابط المستمرة ، وجريانها في كثير من منثورها على طريق منظومها ، وإن لم يكن بها حاجة ، وتركها لما هو أولى في مراميها. ولا يعد ذلك قليلا في كلامها ، ولا ضعيفا ، بل هو كثير قويّ ، وإن كان غيره أكثر منه.

والثاني : أن من شأنها الاستغناء ببعض الألفاظ عما يرادفها أو يقاربها ، ولا يعدّ ذلك اختلافا ولا اضطرابا إذا كان المعنى المقصود على استقامة. والكافي من ذلك نزول القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف. وفي هذا المعنى من الأحاديث وكلام السلف العارفين بالقرآن كثير. وقد استمر أهل القراآت على أن يعملوا بالروايات التي صحت عندهم ، مما وافق المصحف ، وأنهم في ذلك قارئون للقرآن من غير شك ولا إشكال ، وإن كانت بين القراءتين ما يعده الناظر ببادي الرأي اختلافا في المعنى ، لأن معنى الكلام من أوله إلى آخره على استقامة ، لا تفاوت فيه ، بحسب مقصود الخطاب : كمالك وملك ، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يخادعون إلا أنفسهم. لنبوئنهم من الجنة غرفا لنبوئنهم من الجنة غرفا. إلى كثير من هذا ، لأن جميع ذلك لا تفاوت فيه بحسب فهم ما أريد من الخطاب ، وهذا كان عادة العرب. ألا ترى ما حكى ابن جنّيّ عن عيسى بن عمر ، وحكى عن غيره أيضا ، قال : سمعت ذا الرمة ينشد :

وظاهر لها من يابس الشخت واستعن

عليها الصبا واجعل يديك لها سترا

فقلت : أنشدتني : من بائس ، فقال : يابس وبائس واحد. فأنت ترى ذا الرمة لم يعبأ بالاختلاف بين البؤس واليبس ، لمّا كان موضع البيت قائما على الوجهين ، وصوابا على كلتا الطريقتين. وقد قال في رواية أبي العباس الأحول : البؤس واليبس واحد. يعني بحسب قصد الكلام ، لا بحسب تفسير اللغة. وعن أحمد بن يحيى ، قال : أنشدني ابن الأعرابيّ :

وموضع زير لا أريد مبيته

كأني به من شدة الروع آنس

فقال له شيخ من أصحابه : ليس هكذا ، أنشدتنا «وموضع ضيق» فقال : سبحا

٦٤

الله! تصحبنا منذ كذا وكذا ، ولا تعلم أن الزير والضيق واحد. وقد جاءت أشعارهم على روايات مختلفة ، وبألفاظ متباينة ، يعلم من مجموعها أنهم ما كانوا يلتزمون لفظا واحدا على الخصوص ، بحيث يعد مرادفه أو مقاربه عيبا أو ضعفا. إلا في مواضع مخصوصة لا يكون ما سواها من المواضع محمولا عليها ، وإنما معهودها الغالب ما تقدم.

والثالث : أنها قد تهمل بعض أحكام اللفظ ، وإن كانت تعتبره على الجملة ، كما استقبحوا العطف على الضمير المرفوع المتصل مطلقا ولم يفرقوا بين ما له لفظ ، وما ليس له لفظ ، فقبح «قمت وزيد» ، كما قبح «قام وزيد» وجمعوا في الردف بين عمود ويعود ، من غير استكراه. وواو عمود أقوى في المد. وجمعوا بين سعيد وعمود مع اختلافهما ، وأشباه ذلك من الأحكام اللطيفة التي تقتضيها الألفاظ في قياسها النظريّ ، لكنها تهملها وتوليها جانب الإعراض ، وما ذاك إلا لعدم تعمقها في تنقيح لسانها.

والرابع : أن الممدوح من كلام العرب ، عند أرباب العربية ، ما كان بعيدا عن تكلف الاصطناع. ولذلك ، إذا اشتغل الشاعر العربيّ بالتنقيح اختلف في الأخذ عنه. فقد كان الأصمعيّ يعيب الحطيئة. واعتذر عن ذلك بأن قال : وجدت شعره كله جيدا ، فدلني على أنه كان يصنعه ، وليس هكذا الشاعر المطبوع. إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه ، جيده ورديه. وما قاله هو الباب المنتهج ، والطريق المهيع عند أهل اللسان. وعلى الجملة فالأدلة على هذا المعنى كثيرة ، ومن زاول كلام العرب وقف من هذا على علم. وإذا كان كذلك ، فلا يستقيم للمتكلم في كتاب الله أو سنة رسول الله أن يتكلف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب ، وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتني العرب به ، والوقوف عند ما حدث.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

ومنها ـ أنه إنما يصح في مسلك الأفهام والفهم ، ما يكون عاما لجميع العرب ، فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه ، بحسب الألفاظ والمعاني. فإن الناس في الفهم وتأتي التكليف فيه ، ليسوا على وزان واحد ولا متقارب. إلا أنهم يتقاربون في الأمور الجمهوريّة وما والاها. وعلى ذلك جرت مصالحهم في الدنيا. ولم يكونوا

٦٥

بحيث يتعمقون في كل مهم ، ولا في أعمالهم إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم. اللهم إلا أن يقصدوا أمرا خاصّا ، لأناس خاصة. فذاك كالكنايات الغامضة ، والرموز البعيدة التي تخفى عن الجمهور ، ولا تخفى عمن قصد بها. وإلا كان خارجا عن حكم معهودها. فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة بحيث تكون معانيه مشتركة لجميع العرب ، ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف ، واشتركت فيه اللغات ، حتى كانت قبائل العرب تفهمه. وأيضا فمقتضاه من التكليف لا يخرج عن هذا النمط. لأن الضعيف ليس كالقويّ ، ولا الصغير كالكبير ، ولا الأنثى كالذكر ، بل كل له حد ينتهي إليه في العبارة الجارية. فأخذوا بما يشترك الجمهور في القدرة عليه ، وألزموه ذلك من طريقهم بالحجة القائمة والموعظة الحسنة ، ونحو ذلك ، ولو شاء الله لألزمهم ما لا يطيقون ، ولكلفهم بغير قيام حجة ، ولا إتيان ببرهان ، ولا وعظ ولا تذكير ، ولطوّقهم فهم ما لا يفهم ، وعلم ما لا يعلم ، فلا حجر عليه في ذلك ، فإن حجة الملك قائمة (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [الأنعام : ١٤٩] لكن الله سبحانه خاطبهم من حيث عهدوا ، وكلفهم من حيث لهم القدرة على ما به كلفوا ، وغدوا في أثناء ذلك بما يستقيم به منآدهم ، ويقوى به ضعيفهم ، وتنتهض به عزائمهم ، من الوعد تارة ، والوعيد أخرى ، والموعظة الحسنة أخرى ، وبيان مجاري العادات فيمن سلف من الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، إلى غير ذلك مما في معناه. حتى يعلموا أنهم لم ينفردوا بهذا الأمر دون الخلق الماضين ، بل هم مشتركون في مقتضاه ، ولا يكونون مشتركين إلا فيما لهم منّة على تحمله. وزادهم تخفيفا دون الأولين ، وأجرى فوقهم فضلا من الله ونعمة ، والله عليم حكيم. وقد خرّج الترمذيّ ، وصححه عن أبيّ بن كعب ، قال : لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل فقال : يا جبريل! إني بعثت إلى أمة أميين ، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط ، قال : يا محمد! إن القرآن أنزل على سبعة أحرف. فالحاصل أن الواجب في هذا المقام إجراء الفهم في الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوريّ الذي يسع الأميين ، كما يسع غيرهم.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

ومنها ـ أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم ، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني ، وإنما أصلحت الألفاظ من

٦٦

أجلها. وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية ، فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد. والمعنى هو المقصود. ولا أيضا كل المعاني. فإن المعنى الإفراديّ قد لا يعبأ به إذا كان المعنى التركيبيّ مفهوما دونه. كما لم يعبأ ذو الرمة ببائس ولا يابس ، اتكالا منه على أن حاصل المعنى مفهوم. وأبين من هذا ما في جامع الإسماعيليّ المخرج على صحيح البخاريّ عن أنس بن مالك ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ «فاكهة وأبّا» (١) قال : ما الأبّ؟ ثم قال : ما كلفنا هذا. أو قال : ما أمرنا بهذا. وفيه أيضا عن أنس أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله : «فاكهة وأبّا» ما الأبّ؟ فقال عمر : نهينا عن التعمق والتكلف. ومن المشهور (٢) تأديبه لضبيع. حين كان يكثر السؤال عن المرسلات والعاصفات ونحوهما. وظاهر من هذا كله أنه إنما نهى عنه لأن المعنى التركيبيّ معلوم على الجملة ، ولا ينبني على فهم هذه الأشياء حكم تكليفيّ ، فرأى أن الاشتغال به عن غيره ، مما هو أهم منه ، تكلف. ولهذا أصل في الشريعة صحيح ، نبّه عليه قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ..) [البقرة : ١٧٧] إلى آخر الآية. فلو كان فهم اللفظ الإفراديّ يتوقف عليه فهم التركيبيّ لم يكن تكلفا ، بل هو مضطر إليه. كما روي عن عمر نفسه في قوله تعالى : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) [النحل : ٤٧] فإنه سأل عنه على المنبر. فقال له رجل من هذيل : التخوف عندنا التنقص. ثم أنشده :

تخوّف الرّحل منها تامكا قردا

كما تخوّف عود النّبعة السّفن

فقال عمر : أيها الناس! تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم. فإن فيه تفسير كتابكم.

__________________

(١) أورد ابن كثير في تفسيره ما يأتي : وقال أبو عبيد أيضا : عن حميد عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر (وفاكهة وأبّا) فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال : إن هذا لهو التكلف يا عمر. وقال محمد بن سعد : ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال : كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وفي ظهر قميصه أربع رقاع. فقرأ (وفاكهة وأبّا) فقال : فما الأبّ؟ ثم قال : هو التكلف ، فما عليك أن لا تدريه؟

(٢) أخرج الدارميّ في مسنده ، في المقدمة ، باب كراهية الفتيا ، ما يأتي : أخبرنا أبو النعمان ، ثنا حماد بن زيد ، ثنا يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن. فأرسل إليه عمر ، وقد أعدّ له عراجين النخل. فقال : من أنت؟ قال عبد الله صبيغ. فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه ، وقال : أنا عبد الله عمر. فجعل له ضربا حتى دمّى رأسه. فقال : يا أمير المؤمنين! حسبك. قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي.

٦٧

فليس بين الخبرين تعارض. لأن هذا توقف فهم معنى الآية عليه ، بخلاف الأول. فإذا كان الأمر هكذا فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب ، لأنه المقصود والمراد. وعليه ينبني الخطاب ابتداء. وكثيرا ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة ، فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي ، فتستبهم على الملتمس ، وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب ، فيكون عمله في غير معمل ، ومشيه على غير طريق. والله الواقي برحمته.

فصل

في أن بيان الصحابة حجة إذا أجمعوا

قال الشاطبيّ في الموافقات : بيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيان صحيح لا إشكال في صحته. لأنه لذلك بعث. قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] ، ولا خلاف فيه. وأما بيان الصحابة ، فإن أجمعوا على ما بينوه ، فلا إشكال في صحته أيضا. كما أجمعوا على الغسل من التقاء الختانين المبيّن لقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) [المائدة : ٦] ، وإن لم يجمعوا عليه ، فهل يكون بيانهم حجة أم لا؟ هذا فيه نظر وتفصيل ، ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين :

أحدهما : معرفتهم باللسان العربيّ ، فإنهم عرب فصحاء ، لم تتغير ألسنتهم ، ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم ، فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم ، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان ، صح اعتماده من هذه الجهة.

والثاني : مباشرتهم للوقائع والنوازل ، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة ، فهم أقعد في فهم القرائن الحالية ، وأعرف بأسباب التنزيل ، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك. والشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات ، أو تخصيص بعض العمومات ، فالعمل عليه صواب.

هذا ، إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف في المسألة. فإن خالف بعضهم ، فالمسألة اجتهادية. مثاله قوله عليه‌السلام : لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر (١) ،

__________________

(١) أخرجه أبي داود ، في الصوم ، باب ما يستحب من تعجيل الفطر حديث رقم ٣٥٣ ، ونصه : عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يزال الدين ظاهرا ما عجّل الناس الفطر ، لأن اليهود والنصارى يؤخرونه».

٦٨

فهذا التعجيل يحتمل أن يقصد به إيقاعه قبل الصلاة ، ويحتمل أن لا. فكان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان يصليان المغرب قبل أن يفطرا. ثم يفطران بعد الصلاة ، بيانا أن هذا التعجيل لا يلزم أن يكون قبل الصلاة ، بل إذا كان بعد الصلاة فهو تعجيل أيضا ، وأن التأخير الذي يفعله أهل المشرق شيء آخر ، داخل في التعمق المنهيّ عنه ، وكذلك ذكر عن اليهود أنهم يؤخرون الإفطار فندب المسلمون إلى التعجيل. وكذلك قال عليه‌السلام : لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه (١) ، احتمل أن تكون الرؤية مقيدة بالأكثر ، وهو أن يرى بعد غروب الشمس. فبيّن عثمان أن ذلك غير لازم ، فرأى الهلال في خلافته قبل الغروب ، فلم يفطر حتى أمسى وغابت الشمس.

وتأمل. فعادة مالك بن أنس في موطئه وغيره الإتيان بالآثار عن الصحابة. مبينا بها السنن ، وما يعمل به منها ، وما لا يعمل به. وما يقيّد به مطلقاتها. وهو دأبه ومذهبه لما تقدم ذكره.

ومما بيّن كلامهم اللغة أيضا. كما نقل مالك في دلوك الشمس وغسق الليل كلام ابن عمر وابن عباس ، وفي معنى السعي عن عمر بن الخطاب أعني قوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة : ٩]. وفي معنى الأخوة أن السنة قضت أن الأخوة اثنان فصاعدا. كما تبين بكلامهم معنى الكتاب والسنة.

لا يقال : إن هذا المذهب راجع إلى تقليد الصحابيّ ، وقد عرفت ما فيه من النزاع والخلاف. لأنا نقول : نعم. هو تقليد ، ولكنه راجع إلى ما لا يمكن الاجتهاد فيه على وجهه ، إلّا لهم ، لما تقدم من أنهم عرب ، وفرق بين من هو عربيّ الأصل والنحلة وبين من تعرّب : (غلب التطبع شيمة المطبوع) وأنهم شاهدوا من أسباب التكاليف وقرائن أحوالها ما لم يشاهد من بعدهم. ونقل قرائن الأحوال على ما هو عليه كالمتعذر ، فلا بد من القول بأن فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم. فإذا جاء في القرآن أو في السنة من بيانهم ما هو موضوع موضع التفسير ، بحيث لو فرضنا عدمه ، لم يمكن تنزيل النص عليه على وجهه ، انحتم الحكم بإعمال ذلك البيان ، لما ذكر ، ولما جاء في السنة من اتباعهم والجريان على سننهم. كما جاء في قوله

__________________

(١) أخرجه البخاري ، في الصوم ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأيتم الهلال .. إلخ ، ونصه : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر رمضان فقال : «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه. فإن غم عليكم فاقدروا له».

٦٩

عليه‌السلام : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ (١) ، وغير ذلك من الأحاديث فإنها عاضدة بهذا المعنى في الجملة. أما إذا علم أن الموضع موضع اجتهاد لا يفتقر إلى ذينك الأمرين فهم ومن سواهم فيه شرع ، سواء. كمسألة العول والوضوء من النوم ، وكثير من مسائل الربا التي قال فيها عمر بن الخطاب : مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبين لنا آية الربا. فدعوا الربا والريبة. أو كما قال :

فمثل هذه المسائل موضع اجتهاد للجميع ، لا يختص به الصحابة دون غيرهم من المجتهدين. وفيه خلاف بين العلماء أيضا. فإن منهم من يجعل قول الصحابيّ ورأيه حجة يرجع إليها ويعمل عليها من غير نظر ، كالأحاديث والاجتهادات النبوية. وهو مذكور في كتب الأصول. فلا يحتاج إلى ذكره هاهنا.

فصل

في أن كل حكاية في القرآن لم يقع لها ردّ فهي صحيحة

قال الشاطبيّ : كل حكاية وقعت في القرآن ، فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها ، وهو الأكثر ، ردّ لها أو لا ، فإن وقع رد فلا إشكال في بطلان ذلك المحكيّ وكذبه. وإن لم يقع معها رد ، فذلك دليل على صحة المحكيّ وصدقه.

أما الأول فظاهر ولا يحتاج إلى برهان. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] فأعقب بقوله : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) [الأنعام : ٩١] الآية. وقال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ..) [الأنعام : ١٣٦] الآية ، فوقع التنكيت على افتراء ما زعموا بقوله : (بِزَعْمِهِمْ) وبقوله : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الأنعام : ١٣٦] وقالوا : (هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) [الأنعام : ١٣٨] إلى تمامه. وردّ بقوله : (سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا

__________________

(١) أخرجه أبو داود ، في السنة ، باب في لزوم السنة ، حديث رقم ٤٦٠٧. ونصه : عن العرباض : صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم. ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. فقال قائل : يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع ، فما ذا تعهد إلينا؟ فقال : «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا. فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين. تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة».

٧٠

يَفْتَرُونَ) [الأنعام : ١٣٨] ثم قال : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ ...) [الأنعام : ١٣٩] الآية ، فنبه على فساده بقوله : (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) [الأنعام : ١٣٩] ، زيادة على ذلك. وقال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [الفرقان : ٤] ، فرد عليهم بقوله : (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) [الفرقان : ٤] ، ثم قال : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ...) [الفرقان : ٥ ـ ٦] الآية. فرد بقوله : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ ...) [الفرقان : ٥ ـ ٦] ، الآية. ثم قال : (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [الفرقان : ٨] ، ثم قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا) [الفرقان : ٩] ، وقال تعالى : (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) إلى قوله : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) ثم رد عليهم بقوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) [ص : ٤ ـ ٨] ، إلى آخر ما هنالك. وقال : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] ، ثم ردّ عليهم بأوجه كثيرة ثبتت في أثناء القرآن كقوله : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] ، وقوله : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [يونس : ٦٨] وقوله : (سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ...) [يونس : ٦٨] الآية ، وقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) [يونس : ٦٨] ، إلى آخره وأشباه ذلك.

ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه عرف هذا بيسر.

وأما الثاني ـ فظاهر أيضا. ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها ، فإن القرآن سمي فرقانا وهدى وبرهانا وبيانا وتبيانا لكل شيء ، وهو حجة الله على الخلق ، على الجملة والتفصيل ، والإطلاق والعموم. وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق ، ثم لا ينبّه عليه.

وأيضا فإن جميع ما يحكى فيه من شرائع الأولين وأحكامهم ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه ، فهو حق يجعل عمدة ، عند طائفة ، في شريعتنا. ويمنعه قوم ، لا من جهة قدح فيه ، ولكن من جهة أمر خارج عن ذلك ، فقد اتفقوا على أنه حق وصدق كشريعتنا. ولا يفترق ما بينهما إلا بحكم النسخ فقط ، ولو نبه على أمر فيه لكان في حكم التنبيه على الأول ، كقوله تعالى : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) [البقرة : ٧٥] الآية ، وقوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ ...) [المائدة : ٤١] الآية ، وكذلك قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) [النساء : ٤٦] ،

٧١

فصار هذا من النمط الأول.

ومن أمثلة هذا القسم جميع ما حكي عن المتقدمين من الأمم السالفة مما كان حقّا. كحكايته عن الأنبياء والأولياء. ومنه قصة ذي القرنين ، وقصة الخضر مع موسى عليه‌السلام ، وقصة أصحاب الكهف. وأشباه ذلك.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

ولا طّراد هذا الأصل اعتمده النظار. فقد استدل جماعة من الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بالفروع بقوله تعالى : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ...) [المدثر : ٤٣ ـ ٤٤] الآية ، إذ لو كان قولهم باطلا لردّ عند حكايته. واستدل على أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم بأن الله تعالى لما حكى من قولهم إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم وإنهم خمسة سادسهم كلبهم ، أعقب ذلك بقوله (رَجْماً بِالْغَيْبِ) [الكهف : ٢٢] ، أي ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن. ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئا ، ولما حكى قولهم سبعة وثامنهم كلبهم لم يتبعه بإبطال ، بل قال : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) [الكهف : ٢٢] ، دلّ المساق على صحته دون القولين الأولين. وروي عن ابن عباس أنه كان يقول : أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم. ورأيت منقولا عن سهل بن عبد الله أنه سئل عن قول إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠] ، فقيل له : أكان شاكّا حين سأل ربه أن يريه آية؟ فقال : لا ، وإنما كان طلب زيادة إيمان إلى إيمان. ألا تراه قال : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) [البقرة : ٢٦٠] ، فلو علم منه شكا لأظهر ذلك ، فصح أن الطمانينة كانت على معنى الزيادة في الإيمان. بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب في قوله : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) [الحجرات : ١٤] فإن الله تعالى رد عليهم بقوله : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤].

ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن ، عرف مداخلها وما هو منها حق مما هو باطل. فقد قال تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون : ١] ، إلى آخرها ، فإن هذه الحكاية ممزوجة الحق بالباطل ، فظاهرها حق وباطنها كذب ، من حيث كان إخبارا عن المعتقد ، وهو غير مطابق ، فقال تعالى :

٧٢

(وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) [المنافقون : ١] تصحيحا لظاهر القول. وقال : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) إبطالا لما قصدوا فيه. وقال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٦٧] الآية ، وسبب نزولها ما خرجه الترمذيّ وصححه عن ابن عباس ، قال : مر يهوديّ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حدثنا يا يهودي! فقال : كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه والأرضين على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه (وأشار الراوي بخنصره أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام) فأنزل الله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).

وفي رواية أخرى : جاء يهودي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد! إن الله يمسك السموات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والجبال على إصبع ، والخلائق على إصبع ، ثم يقول : أنا الملك! فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت نواجذه. قال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ). وفي رواية فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعجبا وتصديقا. والحديث الأول كأنه مفسر لهذا ، وبمعناه يتبين معنى قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) فإن الآية بينت أن كلام اليهوديّ حق في الجملة ، وذلك قوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) وأشارت إلى أنه لم يتأدب مع الربوبية وذلك ـ والله أعلم ـ لأنه أشار إلى معنى الأصابع بأصابع نفسه ، وذلك مخالف للتنزيه للباري سبحانه ، فقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ). وقال تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) [التوبة : ٦١] أي يسمع الحق والباطل ، فرد الله عليهم فيما هو باطل وأحق الحق ، فقال : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) [التوبة : ٦١] الآية ، ولما قصدوا الأذيّة بذلك الكلام قال تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [التوبة : ٦١]. وقال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) [يس : ٤٧] فهذا منهم امتناع عن الإنفاق بحجة ، قصدهم فيها الاستهزاء ، فرد عليهم بقوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [يس : ٤٧] لأن ذلك حيد عن امتثال الأمر. وجواب «أنفقوا» أن يقال : «نعم أو لا» وهو الامتثال أو العصيان. فلما رجعوا إلى الاحتجاج على الامتناع بالمشيئة المطلقة التي لا تعارض ، انقلب عليهم من حيث لم يعرفوا. إذ حاصلهم أنهم اعترضوا على المشيئة المطلقة بالمشيئة المطلقة ، لأن الله شاء أن يكلفهم الإنفاق ، فكأنهم قالوا : كيف يشاء الطلب منا ، ولو شاء أن يطعمهم لأطعمهم ، وهذا عين الضلال في نفس الحجة. وقال تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) [الأنبياء : ٧٨] إلى قوله : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً

٧٣

وَعِلْماً) فقوله : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) [الأنبياء : ٧٩] تقرير لإصابته عليه‌السلام ـ في ذلك ، الحكم ـ ، وإيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه‌السلام ، لكن لما كان المجتهد معذورا مأجورا بعد بذله الوسع ، قال : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) [الأنبياء : ٧٩] وهذا من البيان الخفيّ فيما نحن فيه.

قال الحسن : والله! لو لا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين لرأيت أن القضاة قد هلكوا. فإنه أثنى على هذا بعلمه ، وعذر هذا باجتهاده. والنمط هنا يتسع ، ويكفي منه ما ذكر ، وبالله التوفيق.

ثم اعلم أن قصص القرآن الكريم لا يراد بها سرد تاريخ الأمم أو الأشخاص ، وإنما هي عبرة للناس. كما قال تعالى في سورة هود ، بعد ما ذكر موجزا من سيرة الأنبياء عليهم‌السلام مع أقوامهم : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ...) [هود : ١٢٠] إلخ ، ولذلك لا تذكر الوقائع والحوادث بالترتيب ، ولا تستقصى فيذكر منها الطمّ والرمّ ، ويؤتى فيها بالجرّة وأذن الجرة ، كما في بعض الكتب ، التي تسميها الملل الأخرى مقدسة. وللعبرة وجوه كثيرة. وفي تلك القصص فوائد عظيمة ، وأفضل الفوائد وأهم العبر فيها التنبيه على سنن الله تعالى في الاجتماع البشريّ ، وتأثير أعمال الخير والشر في الحياة الإنسانية. وقد نبه الله تعالى على ذلك في مواضع من كتابه كقوله : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) [الحجر : ١٣]. وقوله : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) [غافر : ٨٥]. يذكر أمثال هذا بعد بيان أحوال الأمم في غمط الحق والإعراض عنه ، والغرور بما أوتوا ، ونحو ذلك. فالآية الأولى جاءت في سياق الكلام عن المعرضين عن الحق لا يلوون عليه ولا ينظرون في أدلته لانهماكهم في ترفهم وسرفهم ، وجمودهم على عاداتهم وتقاليدهم. والآية الثانية : جاءت في سياق محاجّة الكافرين والتذكير بما كان من شأنهم مع الأنبياء. وبعد الأمر في السير في الأرض والنظر في عاقبة الأمم القوية ذات القوة والآثار في الأرض ، وكيف هلكوا بعد ما دعوا إلى الحق والتهذيب فلم يستجيبوا ، لما صرفهم من الغرور بما كانوا فيه ، ولم ينفعهم إيمانهم عند ما نزل بهم بأس الله وحلّ بهم عذاب التفريط والاسترسال في الكفر وآثاره السوءى. وليس المراد ، بنفي كون قصص القرآن تاريخا ، أنّ التاريخ شيء باطل ضارّ ينزه القرآن عنه. كلا. إن قصصه شذور من التاريخ تعلم الناس كيف ينتفعون بالتاريخ.

فمثل ما في القرآن من التاريخ البشري كمثل ما فيه من التاريخ الطبيعيّ من

٧٤

أحوال الحيوان والنبات والجماد ، ومثل ما فيه من الكلام في الفلك ، يراد بذلك كله التوجيه إلى العبرة والاستدلال على قدرة الصانع وحكمته ؛ لا تفصيل مسائل العلوم الطبيعية والفلكية التي مكن الله البشر من الوقوف عليها بالبحث والنظر والتجربة ، وهداهم إلى ذلك بالفطرة وبالوحي معا.

١٠ ـ قاعدة الترغيب والترهيب في التنزيل الكريم

قال الشاطبيّ : إذا ورد في القرآن الترغيب ، قارنه الترهيب في لواحقه أو سوابقه أو قرائنه. وبالعكس. وكذلك الترجية مع التخويف وما يرجع إلى هذا المعنى ، مثله. ومنه ذكر أهل الجنة يقارنه ذكر أهل النار وبالعكس. لأن في ذكر أهل الجنة بأعمالهم ترجية. وفي ذكر أهل النار بأعمالهم تخويفا. فهو راجع إلى الترجية والتخويف. ويدل على هذه الجملة عرض الآيات على النظر. فأنت ترى أن الله جعل الحمد فاتحة كتابه وقد وقع فيه (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٦] إلى آخرها. فجيء بذكر الفريقين. ثم بدئت سورة البقرة بذكرهما أيضا. فقيل : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ). ثم قال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) [البقرة : ٦] ثم ذكر بأثرهم المنافقون. وهم صنف من الكفار. فلما تم ذلك أعقب بالأمر بالتقوى ثم بالتخويف بالنار ، وبعده بالترجية. فقال : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) [البقرة : ٢٤] إلى قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ثم قال : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٢٦] الآية. ثم ذكر في قصة آدم مثل هذا. ولما ذكّر بنو إسرائيل بنعم الله عليهم ثم اعتدائهم وكفرهم ، قيل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) [البقرة : ٦٢] إلى قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ). ثم ذكر تفاصيل ذلك الاعتداء إلى أن ختم بقوله : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٠٢]. وهذا تخويف. ثم قال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ) [البقرة : ١٠٣] الآية وهو ترجية. ثم شرع في ذكر ما كان من شأن المخالفين في تحويل القبلة ثم قال : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [البقرة : ١١٢] الآية. ثم ذكر من شأنهم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [البقرة : ١٢١]. ثم ذكر قصة إبراهيم علية السلام وبنيه. وذكر في أثنائها التخويف والترجية. وختمها بمثل ذلك ، ولا يطول عليك زمان إنجاز الوعد في هذا الاقتران ، فقد يكون بينهما أشياء معترضة في أثناء المقصود ، والرجوع بعد إلى ما تقرر. وقال تعالى في سورة

٧٥

الأنعام ، وهي في المكيات نظير سورة البقرة في المدنيات : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلى قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١]. وذكر البراهين التامة ثم أعقبها بكفرهم وتخويفهم بسببه ، إلى أن قال : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) [الأنعام : ١٢] فأقسم بكتب الرحمة على إنفاذ الوعيد على من خالف. وذلك يعطي التخويف تصريحا ، والترجية ضمنا. ثم قال : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأنعام : ١٥] فهذا تخويف ، وقال : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) [الأنعام : ١٦] الآية. وهذا ترجية ، وكذا قوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) [الأنعام : ١٧] الآية. ثم مضى في ذكر التخويف حتى قال : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأنعام : ٣٢]. ثم قال : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) [الأنعام : ٣٦] ونظيره قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) [الأنعام : ٣٩] الآية. ثم ذكر ما يليق بالموطن إلى أن قال : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ) [الأنعام : ٤٨] الآية.

واجر في النظر على هذا الترتيب يلح لك وجه الأصل المنبه عليه. ولو لا الإطالة لبسط في ذلك كثير.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

وقد يغلب أحد الطرفين بحسب المواطن ومقتضيات الأحوال. فيرد التخويف ويتسع مجاله. لكنه لا يخلو من الترجية. كما في سورة الأنعام. فإنها جاءت مقررة للخلق ومنكرة على من كفر بالله واخترع من تلقاء نفسه ما لا سلطان له عليه ، وصدّ عن سبيله ، وأنكر ما لا ينكر ، ولدّ فيه وخاصم. وهذا المعنى يقتضي تأكيد التخويف من إطالة التأنيب والتعنيف. فكثرت مقدماته ولواحقه. ولم يخل ، مع ذلك ، من طرف الترجية. لأنهم بذلك مدعوون إلى الحق. وقد تقدم الدعاء. وإنما هو مزيد تكرار ، إعذارا وإنذارا. ومواطن الاغترار يطلب فيها التخويف أكثر من طلب الترجية. لأن درء المفاسد آكد. وترد الترجية أيضا ويتسع مجالها. وذلك في مواطن القنوط ومظنته. كما في قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣] الآية. فإن ناسا من أهل الشرك

٧٦

كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا. فأتوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، لو تخبرنا : أنّ لما عملنا كفارة. فنزلت. فهذا موطن خوف يخاف منه القنوط. فجيء فيه بالترجية غالبة. ومثل ذلك الآية الأخرى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤]. وانظر في سببها في الترمذيّ والنسائي وغيرهما.

ولما كان جانب الإخلال من العباد أغلب ، كان جانب التخويف أغلب. وذلك في مظانه الخاصة ، لا على الإطلاق. فإنه إذا لم يكن هنالك مظنة هذا ولا هذا أتى الأمر معتدلا. فإن قيل : هذا لا يطرد. فقد ينفرد أحد الأمرين فلا يؤتى معه بالآخر ، فيأتي التخويف من غير ترجية ، وبالعكس. ألا ترى قوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة : ١] ، إلى آخرها ، فإنها كلها تخويف. وقوله : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ـ ٧] ، إلى آخر السورة. وقوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) [الفيل : ١] ، إلى آخر السورة.

ومن الآيات قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) إلى قوله : (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [الأحزاب : ٥٧ ـ ٥٨]. وفي الطرف الآخر قوله تعالى : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) [الضحى : ١ ـ ٢] ، إلى آخرها. وقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] ، إلى آخرها.

ومن الآيات قوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى) [النور : ٢٢] الآية.

وروى أبو عبيد عن ابن عباس أنه التقى هو وعبد الله بن عمرو. فقال ابن عباس : أي آية أرجى في كتاب الله؟ فقال عبد الله : قوله : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] الآية. فقال ابن عباس : لكن قول الله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠].

قال ابن عباس : فرضي منه بقوله : بلى.

قال : فهذا لما يعترض في الصدور مما يوسوس به الشيطان.

وعن ابن مسعود قال : في القرآن آيتان ما قرأهما عبد مسلم عند ذنب إلا غفر الله له. وفسّر ذلك أبيّ بن كعب بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ) [آل عمران : ١٣٥] ، إلى آخر الآية. وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠].

٧٧

وعن ابن مسعود : إن في النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها. ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها : قوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [النساء : ٣١] الآية. وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠] الآية. وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨] الآية. وقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) [النساء : ٦٤] الآية. وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠].

وأشياء من هذا القبيل كثيرة إذا تتبعت وجدت. فالقاعدة لا تطرد وإنما الذي يقال : إن كل موطن له ما يناسبه ، ولكل مقام مقال ، وهو الذي يطرد في علم البيان.

أما هذا التخصيص فلا. فالجواب : أن ما اعترض به غير صادّ عن سبيل ما تقدم. وعنه جوابان : إجماليّ وتفصيليّ. فالإجماليّ : أن يقال : إن الأمر العام والقانون الشائع هو ما تقدم فلا تنقضه الأفراد الجزئية الأقلية. لأن الكلية إذا كانت أكثرية في الوضعيات انعقدت كلية ، واعتمدت في الحكم بها. وعليها شاءت الأمور الهادية الجارية في الوجود. ولا شك أن ما اعترض به من ذلك قليل. يدل عليه الاستقراء. فليس بقادح فيما تأصّل. وأما التفصيليّ ، فإن قوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قضية عين في رجل معيّن من الكفار ، بسبب أمر معيّن من همزه النبيّ عليه‌السلام وعيبه إياه. فهو إخبار عن جزائه على ذلك العمل القبيح. لا أنه أجري مجرى التخويف. فليس مما نحن فيه. وهذا الوجه جار في قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى).

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [التوبة : ٦١] الآيتين ، جار على ما ذكر. وكذلك سورة والضحى [الضحى : ١ ـ ١١].

وقوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] ، غير ما نحن فيه. بل هو أمر من الله للنبيّ عليه‌السلام بالشكر لأجل ما أعطاه من المنح.

وقوله (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) [النور : ٢٢] ، قضية عين لأبي بكر الصديق ، نفس بها من كربه فيما أصابه بسبب الإفك المتقوّل على بنته عائشة. فجاء هذا الكلام كالتأنيس له والحضّ على إتمام مكارم الأخلاق ، وإدامتها ، بالإنفاق على قريبه المتصف بالمسكنة والهجرة. ولم يكن ذلك واجبا على أبي بكر. ولكن أحبّ الله له معالي الأخلاق.

وقوله : (لا تَقْنَطُوا) [الزمر : ٥٣] ، وما ذكر معها في المذاكرة المتقدمة ،

٧٨

ليس مقصودهم ، بذكر ذلك ، النقض على ما نحن فيه ، بل النظر في معاني آيات على استقلالها : ألا ترى أن قوله : (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) ، أعقب بقوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) [الزمر : ٥٤] الآية. وفي هذا تخويف عظيم مهيج للفرار من وقوعه. وما تقدم من السبب في نزول الآية يبين المراد ، وأن قوله : لا تقنطوا ، ورافع لما تخوفوه من عدم الغفران لما سلف.

وقوله : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠] نظر في معنى آية في الجملة ، وما يستنبط منها. وإلا فقوله : أو لم تؤمن ، تقرير فيه إشارة إلى التخويف أو لا يكون مؤمنا. فلما قال : بلى. حصل المقصود.

وقوله : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) [آل عمران : ١٣٥] ، كقوله : (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣].

وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [النساء : ١١٠] داخل تحت أصلنا. لأنه جاء بعد قوله : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) [النساء : ١٠٥]. (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) إلى قوله : (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) [النساء : ١٠٧ ـ ١٠٩].

وقوله (إِنْ تَجْتَنِبُوا) [النساء : ٣١] آت بعد الوعيد على الكبائر في أول السورة إلى هنالك. كأكل مال اليتيم والحيف في الوصية وغيرهما. فذلك مما يرجى به تقدم التخويف.

وأما قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠] ، فقد أعقب بقوله (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا) الآية. وتقدم قبلها قوله : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) ، إلى قوله : (عَذاباً مُهِيناً). بل قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) ، جمع التخويف مع الترجية.

وكذلك قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ...) [النساء : ٦٤] الآية. تقدم قبلها وأتى بعدها تخويف عظيم. فهو مما نحن فيه.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ...) [النساء : ٤٨] الآية. جامع للتخويف والترجية من حيث قيد غفران ما سوى الشرك بالمشيئة. ولم يرد ابن مسعود بقوله : ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها ، أنها آيات ترجية خاصة. بل مراده ، والله أعلم ، أنها كليات في الشريعة محكمات. قد احتوت على علم كثير ، وأحاطت بقواعد عظيمة في الدين. ولذلك قال : ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها.

٧٩

وإذا ثبت هذا ، فجميع ما تقدم جار على أن لكل موطن ما يناسبه إنزال القرآن ، إجراؤه على البشارة والنذارة. وهو مقصوده الأصليّ ، لأنّه أنزل لأحد الطرفين دون الآخر وهو المطلوب. وبالله التوفيق.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

ومن هنا يتصور للعباد أن يكونوا دائرين بين الخوف والرجاء. لأن حقيقة الإيمان دائرة بينهما. وقد دل على ذلك الكتاب العزيز على الخصوص. فقال : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) إلى قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) [المؤمنون : ٥٧ ـ ٦٠]. وقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) [البقرة : ٢١٨]. وقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) [الإسراء : ٥٧]. وهذا على الجملة. فإن غلب عليه طرف الانحلال والمخالفة ، فجانب الخوف عليه أقرب. وإن غلب عليه طرف التشديد والاحتياط فجانب الرجاء إليه أقرب. وبهذا كان عليه‌السلام يؤدب أصحابه.

ولما غلب على قوم جانب الخوف قيل لهم : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ...) [الزمر : ٥٣] الآية. وغلب على قوم جانب الإهمال في بعض الأمور فخوّفوا وعوقبوا. كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ...) [الأحزاب : ٥٧] الآية.

فإذا ثبت هذا من ترتيب القرآن ومعاني آياته ، فعلى المكلف العمل على وفق ذلك التأديب.

فصل

في أن الأحكام في التنزيل أكثرها كلية

ولذا احتيج في الاستنباط منه إلى السنة

قال الشاطبيّ : تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلّي لا جزئيّ. وحيث جاء جزئيّا فمأخذه على الكلية ، إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل إلا ما خصه الدليل. مثل خصائص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويدل على هذا المعنى ، بعد الاستقراء المعتبر ، أنه محتاج

٨٠