تفسير القاسمي - ج ١

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ١

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

فيقول : بعضها متواتر ، ولا خلاف بين الأمة فيه ، وفي تجويز القراءة بكل واحد منها. وبعضها من باب الآحاد ، وكون بعض القراءات من باب الآحاد لا يقتضي خروج القرآن بالكلية عن كونه قطعيا» انتهى.

ومنها : أنها لو كانت متواترة لكان ترك البسملة من أوائل السور ، عدا الحمد ، متواترا. لأنه من قراءة بعض السبعة ، فيلزم جواز تركها في الصلاة ، وهو باطل للأدلة الدالة على عدمه ، وقد بيّناها في المصابيح.

ومنها : ما ذكره العلامة الشيرازيّ ـ فيما حكى عنه ـ من : «إن الذين يستند إليهم القراء سبعة. والتواتر لا يحصل بسبعة فضلا فيما اختلفوا فيه ـ ثم قال ـ أجيب عنه أولا : بأنا لا نسلم أن التواتر لا يحصل بسبعة لأنه لا يتوقف على حصول عدد معيّن ، بل المعتبر فيه حصول اليقين. وثانيا : بأن التواتر ما حصل من هؤلاء السبعة لأن القارئين لكل واحدة من القراءات السبع كانوا بالغين حدّ التواتر ، إلّا أنهم استندوا ـ كل واحد منهم ـ إلى واحد منهم ، إما لتجرده بهذه القراءة ، أو لكثرة مباشرته بها ، ثم أسندوا الرواية عن كل واحد منهم إلى اثنين لتجردهما لروايتها» انتهى.

وفي جميع الوجوه المذكورة نظر.

والتحقيق أن يقال : إنه لم يظهر دليل قاطع على أحد الأقوال في المسألة. نعم يمكن استظهار القول الأول للإجماعات المحكية المعتضدة بالشهرة العظيمة بين الخاصة والعامة والمؤيدة بالمرويّ عن الخصال ـ كذا ـ المتقدم إليه الإشارة وغيره مما ذكره حجة عليه. ولا يعارضها خبر الفضيل وزرارة لقصور دلالتهما جدا. فإن المناقشة في حديث «نزل القرآن على سبعة أحرف» جار فيهما كما لا يخفى. ولا يقدح فيها ما ذكره السيد نعمة الله والرازيّ وغيرهما مما ذكر ، حجة على القول الثالث ، كما لا يخفى على المتدبر.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأول : قال العلامة الشيرازيّ فيما حكي عنه : «السبع متواترة بشرط صحة إسنادها إليهم ، واستقامة وجهها في العربية ، وموافقة لفظها خط المصحف المنسوب إلى صاحبها كذلك ـ كمالك بالألف ، وملك بغير الألف ـ المنسوب أولهما إلى الكسائي وعاصم بإسناد صحيح ، مع كونه مكتوبا بالألف في مصحفهما ، واستقامة وجهه في العربية». ثم قال : «وفيه نظر ، لأنّ المتواتر ما يفيد العلم ، فإذا حصل ثبت أنه قرآن ، والعربية ينبغي أن تكون متبعة بالقرآن دون العكس ، ثم إنه لا

٢٠١

مدخل لموافقة الخط وعدمها عند ثبوت التواتر.

الثاني : اعلم أنه إذا قلنا بأنّ القراءات السبع كلها متواترة يقينا ، فيتفرع عليه أمور : منها : جواز استفادة الأحكام الشرعية من كل منها ، ومنها : وجوب الاجتناب من كل منها أصالة إذا كان محدثا. ومنها : لزوم الجمع بين القراءات عند تعارضها ، كما يجب الجمع بين الآيات عند تعارضها. وإن قلنا بأنّ تواترها غير ثابت يقينا ، فيتفرع عليه أمور منها : عدم وجوب الاجتناب عن جميع القراءات أصالة إذا كان محدثا ، بل يجب من باب المقدمة على القول بأنّ المنهي عنه ـ إذا كان مشتبها بغيره وكان محصورا ـ وجب الاجتناب عن الجميع. وأمّا على القول بعدم وجوب ذلك فلا يجب الاجتناب ـ عمّا ذكر ـ لا أصالة ولا مقدّمة. ومنها : عدم جواز الاستدلال بشيء من القراءات ، ولزوم الجمع بينها عند التعارض. لكنّ هذا إنّما يصحّ إذا منعنا الظنّ بتواترها ، وأمّا إذا قلنا به ، فيجوز الاستدلال بكلّ منها ، ويجب الجمع بينها ، كما إذا علم به ، بناء على أنّ الأصل في كل ظن الحجية ، فإن منع منه ، ففي الأمرين نظر ...!» انتهى بحروفه ملخصا.

فصل

في ذكر ملخص وجوه التفسير ومراتبه

هذا الفصل ننقله عن مقدّمة التفسير الذي شرع فيه ، في هذا العهد ، الأستاذ النحرير الشيخ محمد عبده مفتي مصر. قال ـ حرسه الله وأيّده ورعاه ـ :

«التكلم في تفسير القرآن ليس بالأمر السهل ، وربما كان من أصعب الأمور وأهمّها ، وما كل صعب يترك. ولذلك لا ينبغي أن يمتنع الناس عن طلبه. ووجوه الصعوبة كثيرة ، أهمّها : أنّ القرآن كلام سماويّ تنزّل من حضرة الربوبية ، التي لا يكتنه كنهها ، على قلب أكمل الأنبياء ، وهو يشتمل على معارف عالية ، ومطالب سامية ، لا يشرف عليها إلا أصحاب النفوس الزاكية والعقول الصافية ، وأنّ الطالب له يجد أمامه من الهيبة والجلال ، الفائضين من حضرة الكمال ، ما يأخذ بتلبيبه ، ويكاد يحول دون مطلوبه. ولكن الله تعالى خفف علينا الأمر بأن أمرنا بالفهم والتعقّل لكلامه ، لأنه إنما أنزل الكتاب نورا وهدى مبينا للناس شرائعه وأحكامه ، ولا يكون كذلك إلا إذا كانوا يفهمونه. والتفسير الذي نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا ، وحياتهم الآخرة. فإنّ هذا هو

٢٠٢

المقصد الأعلى منه ، وما وراء هذا من المباحث تابع له ، أو وسيلة لتحصيله.

التفسير له وجوه شتّى :

أحدها : النظر في أساليب الكتاب ومعانيه وما اشتمل عليه من أنواع البلاغة ليعرف به علوّ الكتاب ، وامتيازه على غيره من القول. سلك هذا المسلك الزمخشريّ ، وقد ألمّ بشيء من المقاصد الأخرى ، ونحا نحوه آخرون.

ثانيها : الإعراب ، وقد اعتنى بهذا أقوام توسّعوا في بيان وجوهه ، وما تحتمله الألفاظ منها.

ثالثها : تتبّع القصص ، وقد سلك هذا المسلك أقوام زادوا في قصص القرآن ما شاؤوا من كتب التاريخ ، والإسرائيليات ، ولم يعتمدوا على التوراة والإنجيل والكتب المعتمدة عند أهل الكتاب وغيرهم ، بل أخذوا جميع ما سمعوه عنهم من غير تفريق بين غث وسمين ، ولا تنقيح لما يخالف الشرع ولا يطابق العقل.

رابعها : غريب القرآن.

خامسها : الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات ، والاستنباط منها.

سادسها : الكلام في أصول العقائد ، ومقارعة الزائغين ، ومحاجّة المختلفين. وللإمام الرازيّ العناية الكبرى بهذا النوع.

سابعها : المواعظ والرقائق ، وقد مزجها ، الذين ولعوا بها ، بحكايات المتصوفة والعبّاد. وخرجوا ببعض ذلك عن حدود الفضائل والآداب التي وضعها القرآن.

ثامنها : ما يسمّونه بالإشارة ، وقد اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية بكلام الصوفية.

وقد عرفت أنّ الإكثار في مقصد خاص من هذه المقاصد يخرج بالكثيرين عن المقصود من الكتاب الإلهيّ ، ويذهب بهم في مذاهب تنسيهم معناه الحقيقيّ. لهذا كان الذي نعنى به من التفسير هو ما سبق ذكره ، ويتبعه بلا ريب بيان وجوه البلاغة بقدر ما يحتمله المعنى ، وتحقيق الإعراب على الوجه الذي يليق بفصاحة القرآن وبلاغته.

ويمكن أن يقول بعض أهل هذا العصر : لا حاجة إلى التفسير والنظر في القرآن ، لأن الأئمة السابقين نظروا في الكتاب والسنة ، واستنبطوا الأحكام منهما ، فما

٢٠٣

علينا إلّا أن ننظر في كتبهم ، ونستغني بها ..! هكذا زعم بعضهم!! ولو صحّ هذا الزعم ، لكان طلب التفسير عبثا يضيع به الوقت سدى ، وهو ـ على ما فيه من تعظيم شأن الفقه ـ مخالف لإجماع الأمة ، من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى آخر واحد من المؤمنين ...! ولا أدري كيف يخطر هذا على بال مسلم ...؟!

الأحكام العملية التي جرى الاصطلاح على تسميتها فقها هي أقلّ ما جاء في القرآن. وإن فيه من التهذيب ودعوة الأرواح إلى ما فيه سعادتها ، ورفعه من حضيض الجهالة إلى أوج المعرفة ، وإرشادها إلى طريقة الحياة الاجتماعية ، ما لا يستغني عنه من يؤمن بالله واليوم الآخر ، وما هو أجدر بالدخول في الفقه الحقيقيّ ، ولا يوجد هذا الإرشاد إلا في القرآن. وفيما أخذ منه ، كإحياء العلوم ، حظّ عظيم من علم التهذيب. ولكن سلطان القرآن على نفوس الذين يفهمونه ، وتأثيره في قلوب الذين يتلونه حقّ تلاوته لا يساهمه فيه كلام ، كما أنّ الكثير من حكمه ومعارفه لم يكشف عنها اللثام ، ولم يفصح عنها عالم ولا إمام.

ثمّ إنّ أئمة الدين قالوا : إن القرآن سيبقى حجّة على كل فرد من أفراد البشر إلى يوم القيامة لحديث : «والقرآن حجة لك أو عليك». (أول حديث في كتاب الطهارة من صحيح مسلم. عن أبي مالك الأشعريّ) ولا يعقل هذا إلّا بفهمه والإصابة من حكمته وحكمه.

خاطب الله بالقرآن من كان في زمن التنزيل ، ولم يوجه الخطاب إليهم لخصوصية في أشخاصهم ، بل لأنهم من أفراد النوع الإنسانيّ الذي أنزل القرآن لهدايته ، يقول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) [النساء : ١] ، فهل يعقل أنه يرضى منا بأن لا نفهم قوله هذا ونكتفي بالنظر في قول نظر ناظر فيه ، ولم يأتنا من الله وحي بوجوب اتباعه ، لا جملة ولا تفصيلا ...؟ كلا. إنه يجب على كل واحد من الناس أن يفهم آيات الكتاب بقدر طاقته ، لا فرق بين عالم وجاهل ، يكفي العاميّ من فهم قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ...) إلخ [المؤمنون : ١ ـ ٦] ، ما يعطيه الظاهر من الآيات ، وأن الذين جمعت أوصافهم في الآيات الكريمة لهم الفوز والفلاح عند الله تعالى ، ويكفي في معرفة الأوصاف أن يعرف معنى الخشوع ، والإعراض عن اللغو ، وما لا خير فيه ، والإقبال على ما فيه فائدة له دنيوية أو أخروية ، وبذل المال في الزكاة ، والوفاء بالعهد ، وصدق الوعد ، والعفة عن إتيان الفاحشة. وأنّ من فارق ، هذه الأوصاف إلى أضدادها فهو المتعدي حدود

٢٠٤

الله ، المتعرض لغضبه. وفهم هذه المعاني مما يسهل على المؤمن من أي طبقة كان ، ومن أهل أيّ لغة كان. ومن الممكن أن يتناول كلّ أحد من القرآن بقدر ما يجذب نفسه إلى الخير ، ويصرفها عن الشر ، فإنّ الله تعالى أنزله لهدايتنا ، وهو يعلم منّا كلّ أنواع الضعف الذي نحن عليه. وهناك مرتبة تعلو على هذه وهي من فروض الكفاية.

للتفسير مراتب : أدناها أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله تعالى وتنزيهه ، ويصرف النفس عن الشرّ ويجذبها إلى الخير ، وهذه هي التي قلنا إنها متيسرة لكلّ أحد (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ١٧] وأما المرتبة العليا فإنها لا تتم إلا بأمور.

أحدها : فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن ، بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة ، غير مكتف بقول فلان ، وفهم فلان ، فإن كثيرا من الألفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعان ، ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد ، من ذلك لفظ التأويل. اشتهر بمعنى التفسير مطلقا أو على وجه مخصوص. ولكنه جاء في القرآن بمعان أخرى ، كقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٥٣] فما هذا التأويل؟

يجب على من يريد الفهم الصحيح أن يتبع الاصطلاحات التي حدثت في الملة ليفرق بينها وبين ما ورد في الكتاب. فكثيرا ما يفسر المفسرون كلمات القرآن بالاصطلاحات التي حدثت في الملة بعد القرون الثلاثة الأولى. فعلى المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله. والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه. بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه ، وينظر فيه. فربما استعمل بمعان مختلفة. كلفظ «الهداية» ـ سيأتي تفسيره في الفاتحة ـ وغيره ، ويحقق كيف يتفق معناه مع جملة معنى الآية ، فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه ، وقد قالوا : إنّ القرآن يفسّر بعضه ببعض. وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ : موافقته لما سبق له من القول ، واتفاقه مع جملة المعنى ، وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته.

ثانيها : الأساليب : فينبغي أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة ، وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته ، مع التفطن لنكته ومحاسنه

٢٠٥

والعناية بالوقوف على مراد المتكلم منه. نعم ، إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كلّه على وجه الكمال والتمام ، ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة ، ويحتاج في هذا إلى علم الإعراب وعلم الأساليب ـ المعاني والبيان ـ ولكن مجرّد العلم بهذه الفنون ، وفهم مسائلها ، وحفظ أحكامها ، لا يفيد المطلوب. ترون في كتب العربيّة أنّ العرب كانوا مسدّدين في النطق يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع! أتحسبون أنّ ذلك كان طبيعيا لهم؟ كلا! وإنما هي ملكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة ، ولذلك صار أبناء العرب أشدّ عجمة من العجم عند ما اختلطوا بهم ، ولو كان طبيعيا ذاتيا لهم لما فقدوه في مدّة خمسين سنة من بعد الهجرة ...!

ثالثها : علم أحوال البشر : فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب وبيّن فيه ما لم يبيّنه في غيره. بيّن فيه كثيرا من أحوال الخلق وطبائعه ، والسنن الإلهية في البشر ، وقصّ علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسنته فيها ، فلا بدّ للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم ، وأدوارهم ، ومناشئ اختلاف أحوالهم من قوّة وضعف ، وعزّ وذلّ ، وعلم وجهل ، وإيمان وكفر ، ومن العلم بأحوال العالم الكبير علويّة وسفليّة ، ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة من أهمّها : التاريخ بأنواعه.

أجمل القرآن الكلام عن الأمم ، وعن السنن الإلهية ، وعن آياته في السموات والأرض وفي الآفاق والأنفس ، وهو إجمال صادر عمّن أحاط بكل شيء علما ، وأمرنا بالنظر والتفكّر والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا ...! ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره ، لكنّا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده ، لا بما حواه من علم وحكمة ...!

رابعها : العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن. فيجب على المفسّر القائم بهذا الفرض الكفائيّ أن يعلم بما كان عليه الناس في عصر النبوّة من العرب وغيرهم ، لأن القرآن ينادي بأنّ الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال ، وأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث لهدايتهم وإسعادهم ..! وكيف يفهم المفسّر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة ـ أو ما يقرب منها ـ إذا لم يكن عارفا بأحوالهم وما كانوا عليه. هل يكتفي من علماء القرآن ـ دعاة الدين والمناضلين عنه ـ بالتقليد بأن يقولوا ـ تقليدا لغيرهم ـ إنّ الناس كانوا على باطل ، وإن القرآن دحض أباطيلهم في الجملة؟ كلا ...!

خامسها : العلم بسيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وما كانوا عليه من علم وعمل ، وتصرّف في الشؤون دنيويّها وأخرويّها.

٢٠٦

فعلم ـ مما ذكرنا ـ أنّ التفسير قسمان :

أحدهما : جافّ مبعد عن الله وكتابه ، وهو ما يقصد به : حلّ الألفاظ ، وإعراب الجمل ، وبيان ما ترمي إليه تلك العبارات والإشارات من النكت الفنية. وهذا لا ينبغي أن يسمّى تفسيرا ، وإنما هو ضرب من التمرين في الفنون كالنحو والمعاني وغيرهما.

وثانيهما : (وهو التفسير الذي قلنا إنه يجب على الناس على أنه فرض كفاية) هو الذي يستجمع تلك الشروط لأجل أن تستعمل لغايتها ، وهو ذهاب المفسّر إلى فهم مراد القائل من القول وحكمة التشريع في العقائد والأخلاق والأحكام على الوجه الذي يجذب الأرواح ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة في الكلام ، ليتحقق فيه معنى قوله : (هُدىً وَرَحْمَةً) ونحوهما من الأوصاف.

فالمقصد الحقيقيّ وراء كل تلك الشروط والفنون ، وهو الاهتداء بالقرآن.

وهذا هو الغرض الأول الذي أرمي إليه في قراءة التفسير»

ثم تكلم عن التفسير والتأويل في اصطلاح العلماء ، وبيّن عظم شأن التفسير وفهمه بما مثاله :

«مثل الناطقين بالعربية الآن ـ من العراق إلى نهاية بلاد مرّاكش ـ بالنسبة إلى العرب في لغتهم ، كمثل قوم من الأعاجم ـ مخالطين للعرب ـ وجد في كلامهم ـ بسبب المخالطة ـ مفردات كثيرة من العربية. فهؤلاء الأقوام أشدّ حاجة إلى التفسير وفهم القرآن من المسلمين الأوّلين ، لا سيما من كانوا في القرن الثالث حيث بدئ بكتابة التفسير وأحسّ المسلمون بشدّة حاجتهم إليه. ولا شك أن من يأتي بعدنا يكون أحوج منّا إلى ذلك ، إذا بقينا على تقهقرنا ، ولكن إذا يسّر الله لنا نهضة لإحياء لغتنا وديننا فربما يكون من بعدنا أحسن حالا منا ...!

التفسير عند قومنا ـ اليوم ومن قبل اليوم بقرون ـ هو عبارة عن الاطلاع على ما قاله بعض العلماء في كتب التفسير ، على ما في كلامهم من اختلاف يتنزه عنه القرآن (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ، وليت أهل العناية بالاطلاع على كتب التفسير ـ يطلبون لأنفسهم معنى تستقر عليه أفهامهم في العلم بمعاني الكتاب ، ثم يبثونه في الناس ويحملونهم عليه ـ لم يطلبوا ذلك ، وإنما طلبوا صناعة يفاخرون بالتفنن فيها ، ويمارون فيها من يباريهم في طلبها ،

٢٠٧

ولا يخرجون ـ لإظهار البراعة في تحصيلها ـ عن حدّ الإكثار من القول ، واختراع الوجوه من التأويل ، والإغراب في الإبعاد عن مقاصد التنزيل. إن الله تعالى لا يسألنا يوم القيامة عن أقوال الناس ، وما فهموه ، وإنما يسألنا عن كتابه الذي أنزله لإرشادنا وهدايتنا ، وعن سنة نبيه الذي بيّن لنا ما نزل إلينا (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤]. يسألنا : هل بلغتكم الرسالة؟ هل تدبّرتم ما بلّغتم؟ هل عقلتم ما عنه نهيتم وما به أمرتم؟ وهل عملتم بإرشاد القرآن. واهتديتم بهدي النبيّ ، واتبعتم سنته؟

عجبا لنا! ننتظر هذا السؤال ، ونحن في هذا الإعراض عن القرآن وهديه ...! فيا للغفلة والغرور.

معرفتنا بالقرآن كمعرفتنا بالله تعالى. أول ما يلقّن الوليد عندنا من معرفة الله تعالى هو اسم «الله» تبارك وتعالى ، يتعلمه بالأيمان الكاذبة ، كقوله : والله لقد فعلت كذا وكذا ، والله ما فعلت كذا ... وكذلك القرآن! يسمع الصبيّ ممن يعيش معهم : أنه كلام الله تعالى ، ولا يعقل معنى ذلك ، ثم لا يعرف من تعظيم القرآن إلا ما يعظمه به سائر المسلمين الذين يتربّى بينهم ، وذلك بأمرين :

أحدهما : اعتقاد أنّ آية كذا إذا كتبت ومحيت بماء وشربه صاحب مرض كذا ، يشفى! وأنّ من حمل القرآن لا يقربه جنّ ولا شيطان! ويبارك له في كذا وكذا ... إلى غير ذلك مما هو مشهور ومعروف للعامة أكثر مما هو معروف للخاصة ...! ومع صرف النظر عن صحة هذا وعدم صحته ، نقول : إنّ فيه مبالغة في التعظيم عظيمة جدا ، ولكنها ـ ويا للأسف ...! ـ لا تزيد عن تعظيم التراب الذي يؤخذ من بعض الأضرحة ابتغاء هذه المنافع والفوائد نفسها ..! ونحو هذا ما يعلق على الأطفال من التعاويذ والتناجيس : كالخرق ، والعظام ، والتمائم المشتملة على الطلسمات والكلمات الأعجمية المنقولة عن بعض الأمم الوثنية ...!

هذا الضرب من تعظيم القرآن نسميه ـ إذا جرينا على سنة القرآن ـ عبادة للقرآن لا عبادة لله به!

ثانيهما : الهمزة ، والحركة المخصوصة ، والكلمات المعلومة .... التي تصدر ممن يسمعون القرآن إذا كان القارئ رخيم الصوت ، حسن الأداء ، عارفا بالتطريب على أصول النغم ..

والسبب في هذه اللذة والنشوة هي حسن الصوت والنغم ، بل أقوى سب

٢٠٨

لذلك هو بعد السامع عن فهم القرآن ...! وأعني بالفهم : ما يكون عن ذوق سليم تصيب أساليب القرآن بعجائبها ، وتملكه مواعظها ، فتشغله عمّا بين يديه مما سواه. لا أريد الفهم المأخوذ بالتسليم الأعمى من الكتب أخذا جافا ، لم يصحبه ذلك الذوق وما يتبعه من رقّة الشعور ولطف الوجدان اللذين هما مدار التعقل والتأثر والفهم والتدبر ...

لهذا كلّه ، يمكننا أن نقول : إن الجاهلية اليوم أشدّ من الجاهلية والضالين في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن من أولئك من قال الله تعالى فيهم : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] ، ومعرفة الحقّ أمرّ عظيم شريف ...! نعم ، ربما كان إثم صاحبها مع الجحود أشد ، ولكنه يكون دائما ملوما من نفسه على الإعراض عن الحقّ. وهذا اللوم يزلزل ما في نفسه من الإصرار على الباطل.

كان البدويّ راعي الغنم يسمع القرآن فيخرّ له ساجدا لما عنده من رقّة الإحساس ولطف الشعور ...! فهل يقاس هذا بأيّ متعلم اليوم؟ أرأيت أهل جزيرة العرب كيف انضووا إلى الإسلام بجاذبية القرآن لما كان لهم من دقّة الفهم التي كانت سبب الانجذاب إلى الحقّ ..!

ـ وأشار الأستاذ هنا إلى البنت الأعرابية التي فطنت لاشتمال الآية على أمرين ونهيين وبشارتين ـ ومجمل الخبر : أنّ الأصمعي قال : سمعت بنتا من الأعراب خماسية أو سداسية تنشد :

أستغفر الله لذنبي كلّه

قتلت إنسانا بغير حلّه

مثل غزال ناعم في دلّه

وانتصف الليل ولم أصلّه

فقلت لها : قاتلك الله ما أفصحك! فقالت : ويحك! أيعدّ هذا فصاحة مع قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ ، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي ، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٧] فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وبشارتين ...!

لما رأى علماء المسلمين في الصدر الأول تأثير القرآن في جذب قلوب الناس إلى الإسلام ، وأنّ الإسلام لا يحفظ إلّا به ، ولما كان العرب قد اختلطوا بالعجم ، وفهم من دخل في الإسلام من الأعاجم ما فهمه علماء العرب ، أجمع كلّ على وجوب حفظ اللغة العربية ، ودوّنوا لها الدواوين ، ووضعوا لها الفنون.

٢٠٩

نعم : إنّ الاشتغال بلغة الأمة وآدابها فضيلة في نفسه ، ومدّة من موادّ حياتها ، ولا حياة لأمة ماتت لغتها. ولكن لم يكن هذا وحده هو الحامل لسلف الأمة على حفظ اللغة بمفرداتها وأساليبها وآدابها ، وإنّما الحامل لهم على ذلك ما ذكرنا.

ألّف العلّامة الأسفراييني كتابا في الفرق ، ختمه بذكر أهل السنّة ومزاياهم ، وعدّ من فضائلهم ـ التي امتازوا بها على سائر الفرق ـ التبريز في اللغة وآدابها ، وبيّن ذلك بأجلى بيان. فزين هذه المزايا؟ وأين آثارها في فهم القرآن؟ بل وفهم ما دونه من الكلام البليغ ...؟

وقد بينّا وجه الحاجة في التفسير إلى تحصيل ملكة الذوق العربيّ ، وإلى غير ذلك من الأمور التي يتوقف عليها القرآن» انتهى.

فصل

في بيان دقائق المسائل

العلمية الفلكية الواردة في القرآن الكريم

قال بعض علماء الفلك ما مثاله : إنّ القرآن الكريم قد أتى في هذا الباب بمسائل علمية دقيقة لم تكن معروفة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذه المسائل تعتبر من معجزات القرآن العلمية الخالدة. وهاكها ملخصة :

المسألة الأولى ـ : الأرض كوكب كباقي الكواكب السيارة (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢] ، وهما من مادة واحدة (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء : ٣٠]. وهي تدور حول الشمس (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل : ٨٨].

المسألة الثانية : السيارات الأخرى مسكونة بالحيوانات (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) [الشورى : ٢٩] ، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) [الإسراء : ٤٤] (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرحمن : ٢٩] ، ومجموع هذه الآيات يدلّ على أنّ في السموات حيوانات عاقلة كالإنسان ، لا كما كان يزعم القدماء : أنّ الكواكب كلها أجرام فارغة خلقت ليتلذذ بمنظرها الإنسان ...!

المسألة الثالثة : ليس القمر خاصا بالأرض ، بل للسيارات الأخرى أقمار (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٦] فالألف واللام في (الْقَمَرَ) للجنس لا للعهد ، كما

٢١٠

في قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤].

المسألة الرابعة : ليست السيارات مضيئة بذاتها ، بل إن الشمس هي مصباحها جميعا (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [نوح : ١٦] أي لهن ، كما يدلّ عليه السياق ، فالنور الذي نشاهده فيها منعكس عليها من الشمس.

المسألة الخامسة : السماوات والسيارات السبع شيء ، والشمس والقمر شيء آخر ، فهما ليسا من السيارات كما كان يتوهم القدماء (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ...) [العنكبوت : ٦١] الآية وغيرها كثير.

المسألة السادسة : العوالم متعدّدة : ولذلك يقول القرآن في كثير من المواضع :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢] ، والعوالم هي منظومات من الكواكب المتجاذبة (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) [الذاريات : ٧]. لا كما كان يتوهم القدماء : أن العالم واحد وأنّ الإنسان أشرف الموجودات ...!

المسألة السابعة ـ ليست جميع العوالم مخلوقة لأجل هذا الإنسان : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] ، أي الناس المعهودين على وجه الأرض. والإنسان الأرضيّ أفضل من بعض المخلوقات لا كلّها (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٧٠]. ولا ينافي ذلك قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [الجاثية : ١٣] ، إذ لا يلزم من هذا القول أنها غير مسخرة لغيرنا من الأحياء ، فالبحر مثلا ، قال الله تعالى فيه : (سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ) [الجاثية : ١٢] ، مع أنه مسخّر لغيرنا من الحيوانات البحرية تسخيرا أتمّ وأعمّ ، فمنه تأكل وتشرب وتتنفس ، وفيه تسكن وتحيى وتموت. فما هو مسخّر لبعض الحيوانات تسخيرا جزئيا قد يكون مسخرا لغيرها تسخيرا كلّيا. فكذلك النجوم مسخرة لنا ـ لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر ـ مع أنها لغيرنا شموس عليها قوام حياتهم ، كما إن شمسنا عليها قوام حياتنا وهي ـ بالنسبة لهم ـ نجم من نجوم الثوابت.

وبالجملة : فإن جميع العوالم ـ بما بينها من الارتباط العام والتجاذب الذي بينها ـ مسخرة بعضها لبعض بالنفع الكلّي أو الجزئيّ.

المسألة الثامنة ـ : كان القدماء يعتقدون أن جميع الثوابت مركوزة في كرة مجوّفة يسمونها كرة الثوابت ـ أو فلك الثوابت ـ وبحركة هذه الكرة تتحرك الكواكب كما تقدم. ومعنى ذلك : أن الكواكب لا حركة لها بذاتها ، وأن فلك

٢١١

جميع الثوابت واحد وأنه جسم صلب. والحقيقة خلاف ذلك. فإن لكل كوكب فلكا يجري فيه وحده ، وكل كوكب يتحرك بذاته لا بحركة غيره ، والكواكب جميعا سابحة في الفضاء ، أو بعبارة أصحّ في الأثير ـ مادّة العالم الأصلية ـ غير مركوزة في شيء مما يتوهمون. وبهذه الحقائق جاء الكتاب الحكيم والناس في الظلمات والأوهام يتخبطون ..! قال الله تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء : ٣٣] ، والتنوين في لفظ «كلّ» عوض عن الإضافة. والمعنى : كل واحد من الكواكب في فلك خاصّ به يسبح بذاته. وفي قوله (يَسْبَحُونَ) إشارة إلى مادة العالم الأصلية ـ الأثير ـ التي تسبح فيها الكواكب كما تسبح الأسماك في الماء. فليست الأفلاك أجساما صلبة تدور بالكواكب كما كانوا يزعمون .....!

المسألة التاسعة : نصّ الكتاب العزيز على جود الجذب العام للكواكب كافّة من جميع جهاتها ، فقال : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) [الذاريات : ٧] ، (أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧] ، (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [الملك : ٣] ، فالكون كله : كالجسم الواحد الكبير ، محكم البناء ، لا خلل فيه ، كما قال : (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) ويتخلّله الأثير كما يتخلل ذرات الجسم الصغير (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤].

المسألة العاشرة : كان الناس في سالف الأزمان لا يدرون من أين يأتى ماء المطر ، ولهم في السحاب أوهام عجيبة ، كما كانت لهم في كل شيء سخافات وخرافات ..! ولكن القرآن الشريف تنزّه عن الجهل والخطأ فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) ـ إلى قوله : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) [النور : ٤٣]. وقال : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٢١]. ومقتضى الآيتين : أنّ الماء العذب الذي نشربه ونسقي به الأرض ـ سواء كان من الينابيع أو من الأنهار ـ هو من الأمطار الناشئة من السحاب ، ومن أين يأتي السحاب؟ هو بخار من بحار هذه الأرض! أي : أنّ السحاب هو من الأرض ، وهو عين قوله تعالى : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) [النازعات : ٣١] ، أي : أن الماء جميعه أصله من الأرض وإن شوهد أنه ينزل من السحاب ...!

فهذه كلها آيات بيّنات ، ومعجزات باهرات ، دالّة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصحة القرآن». كلامه بحروفه.

وقال أيضا :

«من عجيب أمر هذا القرآن أن يذكر أمثال هذه الدقائق العلمية العالية ، التي

٢١٢

كانت جميع الأمم تجهلها ، بطريقة لا تقف عثرة في سبيل إيمان أحد به ، في أيّ زمن كان ، مهما كانت معلوماته. فالناس قديما فهموا أمثال هذه الآية بما يوافق علومهم ، حتى إذا كشف العلم الصحيح عن حقائق الأشياء ، علمنا أنهم كانوا واهمين ، وفهمنا معناها الصحيح. فكأنّ هذه الآيات جعلت في القرآن معجزات للمتأخرين ، تظهر لهم كلما تقدّمت علومهم ...! وأمّا المعاصرون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمعجزته لهم : إتيانه بأخبار الأوّلين ، وبالشرائع التي أتى بها ، وبالمغيّبات التي تحقّقت في زمنه ... وغير ذلك ، مع علمهم بصدقه وحاله ، وبعده عن العلم ، والتعلم بالمشاهدة والعيان. فآيات القرآن ـ بالنسبة لهم ـ بعضها معناه صريح لا يقبل التأويل ، وفيها بيان كلّ شيء مما يحتاجون إليه ، والبعض الآخر يقبل التأويل ، وتتشابه عليهم معانيه لنقص علومهم. وهذا القسم لا يهمهم كثيرا ، فإنه خاصّ بعلوم لم يكونوا وصلوا إليها ، وهو معجزات للمتأخرين يشاهدونها ، وتتجلّى لهم كلما تقدّموا في العلم الصحيح. قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧] ، أي : لها معان كثيرة يشبه بعضها بعضا ، وتتشابه عليهم في ذلك الزمن ، فلا يمكنهم الجزم بالصحيح منها : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) بتشكيك الناس في دينهم بسببه (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ، وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) في زمنهم لنقص علمهم (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥]. (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ...) إلخ ، فإذا جعل قوله تعالى (وَالرَّاسِخُونَ) معطوفا على لفظ الجلالة كان المعنى : أنّ تأويله لا يعلمه أحد في جميع الأزمنة إلا الله والراسخون في العلم يعلمونه ، وإذا كان لفظ (وَالرَّاسِخُونَ) مستأنفا كان المعنى : أنّ الراسخين في العلم في زمنهم لا يعلمون تأويله ـ كما قلنا ـ وإنما يؤمنون به لظهور الدلائل الأخرى لهم على صدق النبيّ ، ويفوّضون علم هذه الأشياء إلى المستقبل من الزمان ، كما نفوض الآن نحن ، مسألة رجم الشياطين بالشهب ، للمستقبل ونؤمن بالقرآن لثبوت صدقه بالدلائل الأخرى القطعية» بحروفه.

بيان

أن الصواب في آيات الصفات هو مذهب السلف

قد بسط الكلام في أنّ مذهب السلف هو الحق غير واحد من الأئمة الأعلام. وهو ، وإن كان غنيا في نفسه عن إقامة البرهان ، فقد رأينا أن نورد شذرة مما يؤيد

٢١٣

ذلك ، تنبيها للغبيّ ، وتأييدا للألمعيّ. فنقول : قال حجّة الإسلام الغزاليّ قدّس الله روحه في كتابه «إلجام العوام عن علم الكلام».

الباب الثاني في إقامة البرهان على أن الحق مذهب السلف ، وعليه برهانان عقليّ وسمعيّ :

«أمّا العقليّ فاثنان : كلّي وتفصيليّ. أما البرهان الكليّ على أنّ الحق مذهب السلف ، فينكشف بتسليم أربعة أصول هي مسلّمة عند كل عاقل :

الأول : أنّ أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد ، بالإضافة إلى حسن المعاد هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ما ينتفع به في الآخرة ـ أو يضر ، ـ لا سبيل إلى معرفته بالتجربة ـ كما عرف الطبيب ـ إذ لا مجال للعلوم التجريبية إلا بما يشاهد على سبيل التكرر ، ومن الذي رجع من ذلك العالم فأدرك بالمشاهدة ما نفع وضرّ ، وأخبر عنه؟ ولا يدرك بقياس العقل ، فإن العقول قاصرة عن ذلك ، والعقلاء بأجمعهم معترفون بأنّ العقل لا يهتدي إلى ما بعد الموت ، ولا يرشد إلى وجه ضرر المعاصي ونفع الطاعات ، لا سيما على سبيل التفصيل والتحديد ـ كما وردت به الشرائع ـ بل أقرّوا بجملتهم : أن ذلك لا يدرك إلا بنور النبوّة ، وهي قوة وراء قوة العقل ، يدرك بها من أمر الغيب في الماضي والمستقبل أمور لا على طريق التعريف بالأسباب العقلية. وهذا مما اتفق عليه الأوائل من الحكماء ، فضلا عن الأولياء والعلماء الراسخين ، القاصرين نظرهم على الاقتباس من حضرة النبوّة ، المقرّين بقصور كل قوّة سوى هذه القوة.

الأصل الثاني : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفاض إلى الخلق ما أوحي إليه من صلاح العباد في معادهم ومعاشهم ، وأنه ما كتم شيئا من الوحي وأخفاه وطواه عن الخلق ، فإنه لم يبعث إلا لذلك ، ولذلك كان رحمة للعالمين ، فلم يكن متهما فيه ، وعرف ذلك علما ضروريا من قرائن أحواله في حرصه على إصلاح الخلق ، وشغفه بإرشادهم إلى صلاح معاشهم ومعادهم ، فما ترك شيئا مما يقرب الخلق إلى الجنة ورضاء الخالق إلّا دلّهم عليه ، وأمرهم به ، وحثّهم عليه ، ولا شيئا مما يقرّبهم إلى النار وإلى سخط الله إلا حذّرهم منه ونهاهم عنه ، وذلك في العلم والعمل جميعا.

الأصل الثالث : أن أعرف الناس بمعاني كلامه ، وأحراهم بالوقوف على كنهه ودرك أسراره ، الذين شاهدوا الوحي والتنزيل ، وعاصروه ، وصاحبوه ، بل لازموه آناء الليل والنهار ، متشمّرين لفهم معاني كلامه وتلقيه بالقبول : للعلم به أولا ، وللنقل إلى من بعدهم ثانيا ، وللتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بسماعه وفهمه وحفظه ونشره.

٢١٤

وهم الذين حثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السماع والفهم والحفظ والأداء فقال :

«نضر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها ...» (١) الحديث. فليت شعري أيتّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإخفائه وكتمانه عنهم؟! حاشا منصب النبوة عن ذلك ..! أو يتهم أولئك الأكابر في فهم كلامه وإدراك مقاصده ..؟ أو يتهمون في إخفائه وإسراره بعد الفهم؟ أو يتهمون في معاندته من حيث العمل ومخالفته على سبيل المكابرة ، مع الاعتراف بتفهيمه وتكليفه؟ فهذه أمور لا يتسع لتقديرها عقل عاقل ..!

الأصل الرابع : أنهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى البحث والتفتيش والتفسير والتأويل والتعرّض لمثل هذه الأمور. بل بالغوا في زجر من خاض فيه ، وسأل عنه ، وتكلّم به على ما سنحكيه عنهم ، فلو كان ذلك من الدين أو كان من مدارك الأحكام وعلم الدين لأقبلوا عليه ليلا ونهارا ، ودعوا إليه أولادهم وأهليهم ، وتشمّروا عن ساق الجدّ في تأسيس أصوله ، وشرح قوانينه تشمرا أبلغ من تشمّرهم في تمهيد قواعد الفرائض والمواريث. فنعلم ـ بالقطع من هذه الأصول ـ أنّ الحقّ ما قالوه ، والصواب ما رأوه. ، وقد أثنى عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثمّ الذين يلونهم» (٢) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ستفترق أمتي نيّفاً وسبعين فرقة ، الناجية منهم واحدة» (٣) فقيل : من هم؟ فقال : «ما أنا عليه الآن وأصحابي».

البرهان الثاني ، وهو التفصيليّ : فنقول :

__________________

(١) أخرج ابن ماجة في المقدمة ، باب من بلّغ علما ، حديث ٢٣١ ، عن جبير بن مطعم قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخيف من منى ، فقال : «نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها. فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».

(٢) أخرج البخاري في الشهادات ، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد : عن عبد الله رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته».

(٣) أخرج الترمذي في الإيمان ، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل. حتى إن كان منهم من أتى أمّه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة. كلهم في النار إلا أمة واحدة». قالوا : ومن هي؟ يا رسول الله. قال : «ما أنا عليه وأصحابي».

٢١٥

ادعينا أنّ الحق هو مذهب السلف ، وأنّ مذهب السلف هو : توظيف الوظائف السبع على عوامّ الخلق في ظواهر الأخبار المتشابهة. وقد ذكرنا برهان كلّ وظيفة معها فهو برهان كونه حقا ، فمن يخالف ـ ليت شعري! ـ أيخالف في قولنا الأول : إنه يجب على العاميّ التقديس للحقّ عن التشبيه ومشابهة الأجسام. أو في قولنا الثاني : إنه يجب عليه التصديق والإيمان بما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام بالمعنى الذي أراده. أو في قولنا الثالث : إنه يجب عليه الاعتراف بالعجز عن درك حقيقة تلك المعاني. أو في قولنا الرابع : إنه يجب عليه السكوت عن السؤال والخوض فيما هو وراء طاقته. أو في قولنا الخامس : إنه يجب عليه إمساك اللسان عن تغيير الظواهر بالزيادة والنقصان والجمع والتفريق. أو في قولنا السادس : إنه يجب عليه كف القلب عن التذكر فيه والفكر مع عجزه عنه ، وقد قيل لهم : تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق. أو في قولنا السابع : إنه يجب عليه التسليم لأهل المعرفة من الأنبياء والأولياء والعلماء الراسخين. فهذه أمور بيانها برهانها ، ولا يقدر أحد على جحدها وإنكارها ، إن كان من أهل التمييز ، فضلا عن العلماء والعقلاء. فهذه هي البراهين العقلية!

النمط الثاني : البرهان السمعيّ على ذلك. وطريقه أن نقول :

الدليل على أن الحق مذهب السلف أن نقيضه بدعة ـ والبدعة مذمومة وضلالة ـ والخوض من جهة العوام في التأويل ، والخوض فيه من جهة العلماء بدعة مذمومة ، وكان نقيضه ـ وهو الكف عن ذلك ـ سنة محمودة. فهاهنا ثلاثة أصول :

أحدها : إن البحث والتفتيش والسؤال عن هذه الأمور بدعة.

والثاني : أن كلّ بدعة فهي مذمومة.

والثالث : أن البدعة إذا كانت مذمومة كان نقيضها ، وهي السنة القديمة ، محمودة.

ولا يمكن النزاع في شيء من هذه الأصول ، فإذا سلم ذلك ، ينتج : أن الحق مذهب السلف. ثم أطال ـ قدس‌سره ـ في إيضاح هذه الأصول وأطاب ، فارجع إليه إن شئت.

والقول الشامل في هذا الباب ما قاله الإمام أحمد رضي الله عنه :

«لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله ، لا يتجاوز القرآن والحديث. ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حقّ ليس فيه لغز ولا أحاجي ، بل

٢١٦

معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه. وهو سبحانه ، مع ذلك ، ليس كمثله شيء في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ، ولا في أفعاله. فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة ، وله أفعال حقيقة ، فكذلك له صفات حقيقة ، وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا فإن الله منزّه عنه حقيقة ، وأنه سبحانه مستحق الكمال الذي لا غاية فوقه ، وممتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه ، واستلزام الحدوث سابقة العدم. ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل. فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه ، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه ، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله ، فيعطلون أسماءه الحسنى وصفاته العليا ، ويحرفون الكلم عن مواضعه ، ويلحدون في أسماء الله وآياته».

روى البيهقي في كتاب «الأسماء والصفات» بإسناد صحيح عن الأوزاعيّ ، قال :

«كنّا ـ والتابعون متوافرون ـ نقول : إنّ الله ، تعالى ذكره ، فوق عرشه ، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته. فقد حكى الأوزاعيّ ـ وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين الذين هم : مالك إمام أهل الحجاز ، والأوزاعيّ إمام أهل الشام ، والليث إمام أهل مصر ، والثوريّ إمام أهل العراق ـ حكى شهرة هذا القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله فوق العرش ، وبصفاته السمعية ، وإنما قال الأوزاعيّ هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله فوق عرشه ، والنافي لصفاته ، ليعرف الناس أن مذهب السلف كان بخلاف هذا.

وروى أبو بكر الخلال في كتاب «السنّة» عن الأوزاعيّ ، قال :

«سئل مكحول والزهريّ عن تفسير الأحاديث فقالا : أمرّوها كما جاءت».

وروي أيضا عن الوليد بن مسلم قال :

«سألت مالك بن أنس ، وسفيان الثوريّ ، والليث بن سعد ، والأوزاعيّ عن الأخبار التي جاءت في الصفات ، فقالوا : أمرّوها كما جاءت». وفي رواية ، فقالوا : «أمرّوها كما جاءت بلا كيف». فقولهم رضي الله عنهم «أمرّوها كما جاءت» ردّ على المعطلة ، وقولهم «بلا كيف» ردّ على الممثّلة. والزهريّ ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم. والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين ـ أفاده شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه.

وقال تلميذه الإمام شمس الدين بن القيّم الدمشقيّ في كتابه «طريق الهجرتين»

٢١٧

في شرح حديث «فرح الله بتوبة عبده» ما صورته ، بعد جمل :

«وتحت هذا سر عظيم يختص الله بفهمه من يشاء ، فإن كنت ممن غلظ حجابه وكثفت نفسه وطباعه فعليك بوادي الخفا ، وهو وادي المحرفين للكلم عن مواضعه ، الواضعين له على غير المراد منه ، فهو واد قد سلكه خلق ، وتفرّقوا في شعابه وطرقه ومتاهاته ، ولم يستقر لهم فيه قدم ، ولا لجئوا منه إلى ركن وثيق ، بل هم كحاطب الليل ، وحاطم السيل. وإن نجاك الله من هذا الوادي ، فتأمّل هذه الألفاظ النبوية المعصومة التي مقصود المتكلم بها غاية البيان ، مع مصدرها عن كمال العلم بالله ، وكمال النصيحة للأمة ، ومع هذه المقامات الثلاث ـ أعني كمال بيان المتكلم وفصاحته وحسن تعبيره عن المعاني ، وكمال معرفته وعلمه بما يعبر عنه ، وكمال نصحه وإرادته لهداية الخلائق ـ يستحيل عليه أن يخاطبهم بشيء ، وهو لا يريد منهم ما يدل عليه خطابه ، بل يريد منهم أمرا بعيدا عن ذلك الخطاب ، إنما يدل عليه ـ كدلالة الألغاز والأحاجي ـ مع قدرته على التعبير عن ذلك المعنى بأحسن عبارة وأوجزها ، فكيف يليق به أن يعدل عن مقتضى البيان الرافع للإشكال المزيل للإجمال ، ويوقع الأمة في أودية التأويلات وشعاب الاحتمالات والتجويزات. سبحانك هذا بهتان عظيم. وهل قدر الرسول حق قدره ، أو مرسله حقّ قدره من نسب كلامه سبحانه ، أو كلام رسوله إلى مثل ذلك؟ ففصاحة الرسول وبيانه وعلمه ومعرفته ونصحه وشفقته يحيل عليه أن يكون مراده من كلامه ما يحمله عليه المحرفون للكلم عن مواضعه ، المتأوّلون له غير تأويله ، وأن يكون كلامه من جنس الألغاز والأحاجي. والحمد لله رب العالمين.

فإن قلت : فهل من مسلك غير هذا الوادي الذي ذممته فنسلك فيه ، أو من طريق يستقيم عليه السالك؟ قلت : نعم. بحمد الله ، الطريق واضحة المنار ، بيّنة الأعلام ، مضيئة للسالكين ، وأولها : أن تحذف خصائص المخلوقين عن إضافتها إلى صفات ربّ العالمين ، فإنّ هذه العقدة هي أصل بلاء الناس. من حلها ، فما بعدها أيسر منها. ومن هلك بها ، فما بعدها أشدّ منها. وهل نفى أحد ما نفى من صفات الرب ونعوت جلاله إلّا لسبق نظره الضعيف إليها ، واحتجابه بها عن أصل الصفة ، وتجرّدها عن خصائص المحدث؟ فإن الصفة يلزمها لوازم باختلاف محلها ، فيظنّ القاصر ، إذا رأى ذلك اللازم في المحل المحدث ، أنه لزم لتلك الصفة مطلقا ، فهو يفرّ من إثباتها للخالق سبحانه ، حيث لم يتجرّد في ظنه عن ذلك اللازم. وهذا كما فعل من نفى عنه سبحانه الفرح والمحبّة والرضى والغضب والكراهة والمقت والبغض ، وردّها كلّها إلى الإرادة. فإنه فهم فرحا مستلزما لخصائص المخلوق من انبساط دم

٢١٨

القلب ، وحصول ما ينفعه ، وكذلك فهم غضبا هو غليان دم القلب طلبا للانتقام ، وكذلك فهم محبة ورضى وكراهة ورحمة مقرونة بخصائص المخلوقين ، فإن ذلك هو السابق إلى فهمه. وهو المشهود في علمه الذي لم تصل معرفته إلى سواه ، ولم يحط علمه بغيره ، ولما كان هو السابق إلى فهمه لم يجد بدّا من نفيه عن الخالق والصفة لم تتجرد في عقله عن هذا اللازم ، فلم يجد بدّا من نفيها.

ثم لأصحاب هذا الطريق مسلكان :

أحدهما : مسلك التناقض البيّن وهو إثبات كثير من الصفات. ولا يلتفت فيها إلى هذا الخيال ، بل يثبتها مجردة عن خصائص المخلوق ـ كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغيرها ـ فإن كان إثبات تلك الصفات التي نفاها يستلزم المحذور الذي فرّ منه ، فكيف لم يستلزمه إثبات ما أثبته؟ وإن كان إثبات لا يستلزم محذورا ، فكيف يستلزمه إثبات ما نفاه؟ وهل في التناقض أعجب من هذا ..؟

المسلك الثاني : مسلك النفي العام والتعطيل المحض هربا من التناقض ، والتزاما لأعظم الباطل وأمحل المحال ، فإذا ، الحق المحض في الإثبات المحض الذي أثبته الله لنفسه في كلامه ، وعلى لسانه رسوله ، من غير تشبيه ولا تمثيل ، ومن غير تحريف ولا تبديل ، ومنشأ غلط المحرفين إنما هو ظنهم أن ما يلزم الصفة في المحلّ المعين يلزمها لذاتها ، فينفون ذلك اللازم عن الله ، فيضطرون ، في نفيه ، إلى نفي الصفة. ولا ريب أنّ الأمور ثلاثة : أمر يلزم الصفة لذاتها من حيث هي ، فهذا لا يجب بل لا يجوز نفيه كما يلزم العلم والسمع والبصر من تعلقها بمعلوم ومسموع ومبصر ، فلا يجوز نفي هذه التعلقات عن هذه الصفات إذ لا تحقق لها بدونها. وكذلك الإرادة ، مثلا ، تستلزم العلم لذاتها فلا يجوز نفي لازمها عنها. وكذلك السمع والبصر والعلم يستلزم الحياة فلا يجوز نفي لوازمها. وكذلك كون المرئيّ مرئياَّ حقيقة له لوازم لا ينفكّ عنها. ولا سبيل إلى نفي تلك اللوازم إلّا بنفي الرؤية. وكذلك الفعل الاختياري له لوازم لا بدّ منها ، فمن نفى لوازمه نفى الفعل الاختياريّ ولا بدّ.

من هنا كان أهل الكلام أكثر الناس تناقضا واضطرابا ، فإنهم ينفون الشيء ، ويثبتون ملزومه ، ويثبتون الشيء ، وينفون لازمه ، فتناقض أقوالهم وأدلّتهم ، ويقع السالك خلفهم في الحيرة والشك. ولهذا يكون نهاية أمر أكثرهم الشك والحيرة ، حاشا من هو في خفارة بلادته منهم ، أو من قد خرق تلك الخيالات وقطع تلك

٢١٩

الشبهات وحكم الفطرة والشرعة والعقل المؤيد بنور الوحي عليها فنقدها نقد الصيارف ، فنفى زغلها ، وعلم أن الصحيح منها : إمّا أن يكون قد تولت النصوص بيانه ، وإمّا أن يكون فيها غنية عنه ، بما هو خير منه ، وأقرب طريقا ، وأسهل تناولا لا يستفيد المؤمن البصير ، بما جاء به الرسول العارف به ، من المتكلمين سوى مناقضة بعضهم بعضا ، ومعارضته وإبداء بعضهم عوار بعض ومحاربة بعضهم بعضا ، فيتولى بعضهم محاربة بعض ، ويسلم ما جاء به الرسول.

فإذا رأى المؤمن العالم الناصح لله ولرسوله أحدهم قد تعدى إلى ما جاء به الرسول ، يناقضه أو يعارضه. فليعلم أنهم لا طريق لهم إلى ذلك أبدا ، ولا يقع ردّهم إلّا على آراء أمثالهم وأشباههم. وأمّا ما جاء به الرسول فمحفوظ محروس مصون من تطرّق المعارضة والمناقضة إليه. فإن وجدت شيئا من ذلك في كلامهم ، فبدار بدار إلى إبداء فضائحهم ، وكشف تلبيسهم ومحالهم وتناقضهم وتبيّن كذبهم على العقل والوحي فإنهم لا يردون شيئا مما جاء به الرسول إلّا بزخرف من القول يغترّ به ضعيف العقل والإيمان. فاكشفه ولا تهنه تجده (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) [النور : ٣٩].

ولو لا أن كلّ مسائل القوم وشبههم ، التي خالفوا فيها النصوص ، بهذه المثابة لذكرنا من أمثلة ذلك ما تقرّ به عيون أهل الإيمان السائرين إلى الله على طريق الرسول وأصحابه. وإن وفّق الله سبحانه جرّدنا لذلك كتابا مفردا. وقد كفانا شيخ الإسلام ابن تيميّة هذا المقصد في عامة كتبه ، لا سيما كتابه الذي وسمه ببيان «موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح» ، فمزّق فيه شملهم كلّ ممزّق ، وكشف أسرارهم ، وهتك أستارهم ، فجزاه الله عن الإسلام وأهله من أفضل الجزاء.

واعلم أنه لا ترد شبهة صحيحة على ما جاء به الرسول ، بل الشبهة التي توردها أهل البدع والضلال على أهل السنة لا تخلو من قسمين :

إمّا أن يكون القول الذي أوردت عليه ليس من أقوال الرسول ، بل يكون نسبته إليه غلطا ، وهذا لا يكون متفقا عليه بين أهل السنة أبدا. بل يكون قد قاله بعضهم ، وغلط فيه ، فإنّ العصمة إنما هي لمجموع الأمة ، لا لطائفة معينة منها.

وإما أن يكون القول الذي أوردت عليه قولا صحيحا ، لكن لا ترد تلك الشبهة عليه ، وحينئذ فلا بد لها من أحد أمرين : إما أن تكون لازمة ، وإما أن لا تكون لازمة ، فإن كانت لازمة لما جاء به الرسول ، فهي حق لا شبهة ، إذ لازم الحق حق ، ولا ينبغي

٢٢٠