تفسير القاسمي - ج ١

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ١

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

وحاصل هذا الكلام أن المراد بالظاهر هو المفهوم العربيّ ، والباطن هو مراد الله تعالى من كلامه وخطابه ، فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة ما فسر ، فصحيح. ولا نزاع فيه. وإن أرادوا غير ذلك فهو إثبات أمر زائد على ما كان معلوما عند الصحابة ومن بعدهم ، فلا بد من دليل قطعيّ يثبت هذه الدعوى. لأنها أصل يحكم به على تفسير الكتاب.

فلا يكون ظنيا. وما استدل به إنما غايته ، إذا صح سنده ، أن ينتظم في سلك المراسيل وإذا تقرر هذا فليرجع إلى بيانهما على التفسير المذكور بحول الله. وله أمثلة تبين معناه بإطلاق. فعن ابن عباس : كان عمر يدخلني مع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال له عبد الرحمن بن عوف : أتدخله ولنا بنون مثله؟ فقال له عمر : إنه من حيث تعلم. فسألني عن هذه الآية : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) فقلت : إنما هو أجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلمه إياه. وقرأ السورة إلى آخرها. فقال عمر : والله ما أعلم منها إلا ما تعلم.

فظاهر هذه السورة أن الله أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسبح بحمد الله ويستغفره إذ نصره الله وفتح عليه. وباطنها أن الله نعى إليه نفسه.

ولما نزل قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...) [المائدة : ٣] فرح الصحابة ، وبكى عمر وقال : ما بعد الكمال إلا النقصان. مستشعرا نعيه عليه‌السلام. فما عاش بعدها إلا أحدا وثمانين يوما. وقال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ ..) [العنكبوت : ٤١] الآية. قال الكفار : ما بال العنكبوت والذباب يذكر في القرآن. ما هذا الكلام لإله فنزل (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) [البقرة : ٢٦] فأخذوا بمجرد الظاهر ، ولم ينظروا في المراد. فقال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ...) الآية.

ويشبه ما نحن فيه نظر الكفار للدنيا واعتدادهم منها بمجرد الظاهر الذي هو لهو ولعب ، وظل زائل. وترك ما هو المقصود منها ، وهو كونها مجازا ومعبرا لا محل سكنى. وهذا هو باطنها على ما تقدم من التفسير.

ولما قال تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٢٧ و ٣٠] نظر الكفار إلى ظاهر العدد. فقال أبو جهل ، فيما روي : لا يعجز كل عشر منكم أن يبطشوا برجل منهم. فبين الله تعالى باطن الأمر بقوله : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ...)

٤١

[المدثر : ٣١] ، إلى قوله : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً).

وقال : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقون : ٨] فنظروا إلى ظاهر الحياة الدنيا. وقال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ..).

وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ..) [لقمان : ٦] الآية. لما نزل القرآن ، الذي هو الهدى للناس ورحمة للمحسنين ناظره الكافر النضر بن الحارث بأخبار فارس والجاهلية ، أو بالغناء ، فهذا هو عدم الاعتبار لباطن ما أنزل الله.

وقال تعالى في المنافقين : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ..) [الحشر : ١٣] وهذا عدم فقه منهم. لأن من علم أن الله هو الذي بيده ملكوت كل شيء ، وأنه هو مصرف الأمور ، فهو الفقيه. ولذلك قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ).

وكذلك قوله تعالى : (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [التوبة : ١٢٧] ، لأنهم نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا.

فاعلم أن الله تعالى إذا نفى الفقه أو العلم عن قوم فذلك لوقوفهم مع ظاهر الأمر وعدم اعتبارهم للمراد منه. وإذا ثبت ذلك فهو لفهمهم مراد الله من خطابه ، وهو باطنه.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

فكل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها فهو داخل تحت الظاهر. فالمسائل البيانية ، والمنازع البلاغية لا معدل بها عن ظاهر القرآن ، فإذا فهم الفرق بين ضيّق في قوله تعالى : (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ...) [الأنعام : ١٢٥] وبين ضائق في قوله : (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ..) [هود : ١٢] والفرق بين النداء : «بيا أيها الذين آمنوا ، ويا أيها الذين كفروا» وبين النداء «بيا أيها الناس ، أو بيا بني آدم» والفرق بين ترك العطف في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ ...) [البقرة : ٦] والعطف في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ

٤٢

الْحَدِيثِ). [لقمان : ٦] وكلاهما قد تقدم عليه وصف المؤمنين. والفرق بين تركه أيضا في قوله : (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ..) [الشعراء : ١٥٤] وبين الآية الأخرى : (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [الشعراء : ١٨٦]. والفرق بين الرفع في قوله : (قالَ سَلامٌ) [هود : ٦٩] والنصب فيما قبله من قوله : (قالُوا سَلاماً) [هود : ٦٩]. والفرق بين الإتيان بالفعل في التذكر من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) [الأعراف : ٢٠١] وبين الإتيان باسم الفاعل في الإبصار من قوله : (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ..) أو فهم الفرق بين «إذا» «وإن» في قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ...) [الأعراف : ١٣١] وبين جاءتهم وتصبهم بالماضي مع إذا ، والمستقبل مع إن وكذلك قوله : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) [يونس : ٢١] مع إتيانه بقوله : «فرحوا» بعد «إذا» و «يقنطون» بعد «إن» وأشباه ذلك من الأمور المعتبرة عند متأخري أهل البيان ، فإذا حصل فهم ذلك كله على ترتيبه في اللسان العربي ، فقد حصل فهم ظاهر القرآن.

ومن هنا حصل إعجاز القرآن عند القائلين بأن إعجازه بالفصاحة. فقال الله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ..) [البقرة : ٢٣] الآية. وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) [هود : ١٣] وهو لائق أن يكون الإعجاز بالفصاحة لا بغيرها. إذ لم يؤتوا على هذا التقدير إلا من باب ما يستطيعون مثله في الجملة. ولأنهم دعوا وقلوبهم لاهية عن معناه الباطن الذي هو مراد الله من إنزاله. فإذا عرفوا عجزهم عنه عرفوا صدق الآتي به وحصل الإذعان ، وهو باب التوفيق والفهم لمراد الله تعالى. وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية والإقرار لله بالربوبية ، فذلك هو الباطن المراد والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله. ويتبين ذلك بالشواهد المذكورة آنفا.

ومن ذلك أنه لما نزل : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً ..) [الحديد : ١١]. قال أبو الدحداح : إن الله كريم استقرض منا ما أعطانا. هذا معنى الحديث. وقالت اليهود : إن الله فقير ونحن أغنياء. ففهم أبو الدحداح هو الفقه وهو الباطن المراد.

وفي رواية قال أبو الدحداح : يستقرضنا وهو غنيّ. فقال عليه‌السلام : نعم

٤٣

ليدخلكم الجنة. وفي الحديث قصة (١).

وفهم اليهود لم يزد على مجرد القول العربيّ الظاهر ، ثم حمل استقراض الرب الغنيّ على استقراض العبد الفقير ، عافانا الله من ذلك.

من ذلك أن العبادات المأمور بها ، بل المأمورات والمنهيات كلها ، إنما طلب بها العبد شكرا لما أنعم الله به عليه ، ألا ترى قوله : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل : ٧٨] وفي الأخرى : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) [السجدة : ٩] والشكر ضد الكفر ، فالأيمان وفروعه هو الشكر ، فإذا دخل المكلف تحت أعباء التكليف بهذا القصد ، فهو الذي فهم المراد من الخطاب ، وحصل باطنه على التمام ، وإن هو فهم من ذلك مقتضى عصمة ماله ودمه فقط. فهذا خارج عن المقصود وواقف مع ظاهر الخطاب. فإن الله قال : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.) [التوبة : ٥] فالمنافق إنما فهم مجرد ظاهر الأمر من أن الدخول فيما دخل فيه المسلمون موجب لتخلية سبيلهم. فعملوا على الإحراز من عوادي الدنيا ، وتركوا المقصود من ذلك ، وهو الذي بينه القرآن من التعبد لله والوقوف على قدم الخدمة. فإذا كانت الصلاة تشعر بإلزام الشكر ، بالخضوع لله والتعظيم لأمره فيمن دخلها عرّيا من ذلك كيف يعد ممن فهم باطن القرآن؟ وكذلك إذا كان له مال حال عليه الحول فوجب عليه شكر النعمة ببذل اليسير من الكثير عودا عليه بالمزيد ، فوهبه عند رأس الحول فرارا من أدائها لا قصد له إلا ذلك ، كيف يكون شاكرا للنعمة؟ وكذلك من يضارّ الزوجة لتنفك له من المهر على غير طيب النفس لا يعدّ عاملا بقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا

__________________

(١) هذه قصة أبي الدحداح ذكرها الإمام الحافظ ابن كثير في تفسيره ونصها : قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة. حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) قال أبو الدحداح الأنصاريّ : يا رسول الله ، وإن الله ليريد منا القرض؟ قال نعم ، يا أبا الدحداح. قال : أرني يدك يا رسول الله ، قال فناوله يده. قال : فإني قد قرضت ربي حائطي. وله حائط فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها. قال فجاء أبو الدحداح فناداها : يا أم الدحداح! قالت : لبيك. قال : اخرجي فقد أقرضته ربي عزوجل ، وفي رواية أنها قالت له : ربح بيعك يا أبا الدحداح. ونقلت منه متاعها وصبيانها. وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «كم من عذق رداح ، في الجنة لأبي الدحداح» وفي لفظ «رب نخلة مدلاة ، عروقها در وياقوت ، لأبي الدحداح في الجنة».

٤٤

يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ...) [البقرة : ٢٢٩] حتى يجري على معنى قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٤].

ويجري هنا مسائل الحيل أمثلة لهذا المعنى. لأن من فهم باطن ما خوطب به لم يحتل على أحكام الله حتى ينال منها بالتبديل والتغيير ، ومن وقف مع مجرد الظاهر غير ملتفت إلى المعنى المقصود اقتحم هذه المتاهات البعيدة. وكذلك تجري مسائل المبتدعة أمثلة أيضا. وهم الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. كما قال الخوارج لعليّ : إنه حكّم الخلق في دين الله والله يقول : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [الأنعام : ٥٧]. وقالوا : إنه محا نفسه من إمارة المؤمنين فهو إذا أمير الكافرين. وقالوا لابن عباس : لا تناظروه فإنه ممن قال الله فيهم : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف : ٥٨]. وكما زعم أهل التشبيه في صفة الباري ، حين أخذوا بظاهر قوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٣ و ١٤] (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) [يس : ٧١] (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٦٧]. وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين فأسرفوا ما شاءوا. فلو نظر الخوارج أن الله تعالى قد حكم الخلق في دينه في قوله : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) [المائدة : ٩٥] وقوله : (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) [النساء : ٣٥] لعلموا أن قوله : إن الحكم إلا لله ، غير مناف لما فعله عليّ ، وأنه من جملة حكم الله. فإن تحكيم الرجال يرجع به الحكم لله وحده ، فكذلك ما كان مثله مما فعله عليّ. ولو نظروا إلى أن محو الاسم من أمر لا يقتضي إثباته لضده ، لما قالوا إنه أمير الكافرين. وهكذا المشبهة لو حققت معنى قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) في الآيات المذكورة ، لفهموا بواطنها ، وإن الرب منزه عن سمات المخلوقين. وعلى الجملة فكل من زاغ ومال عن الصراط المستقيم ، فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهما وعلما. وكل من أصاب الحق وصادف الصواب فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه.

٨ ـ قاعدة في أن كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء

قال الشاطبيّ : كون الظاهر هو المفهوم العربيّ مجردا ، لا إشكال فيه. لأن

٤٥

المؤالف والمخالف اتفقوا على أنه منزل بلسان عربيّ مبين. وقال سبحانه : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) ثم رد الحكاية عليهم بقوله : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : ١٠٣]. وهذا الرد على شرط الجواب في الجدل. لأنه أجابهم بما يعرفون من القرآن الذي هو بلسانهم. والبشر ، هنا ، حبر. وكان نصرانيا. فأسلم. أو سلمان ، وقد كان فارسيا فأسلم. أو غيرهما ممن كان لسانه غير عربيّ باتفاق منهم. وقال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) [فصلت : ٤٤]. وقد علم أنهم لم يقولوا شيئا من ذلك. فدل على أنه عندهم عربيّ. وإذا ثبت هذا فقد كانوا فهموا معنى ألفاظه من حيث هو عربيّ فقط ، وإن لم يتفقوا على فهم المراد منه. فلا يشترط في ظاهره زيادة على الجريان على اللسان العربيّ. فإذا كل معنى مستنبط من القرآن ، غير جار على اللسان العربيّ ، فليس من علوم القرآن في شيء. لا مما يستفاد منه ولا مما يستفاد به. ومن ادعى فيه ذلك فهو في دعواه مبطل.

ومن أمثلة هذا الفصل ما ادعاه من لا خلاق له من أنه مسمّى في القرآن. كبيان ابن سمعان حيث زعم أنه المراد بقوله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ ..) [آل عمران : ١٣٨] الآية وهو من الترهات بمكان مكين ، والسكوت على الجهل كان أولى به من هذا الافتراء البارد. ولو جرى له على اللسان العربي لعده الحمقى من جملتهم ، ولكنه كشف عوار نفسه من كل وجه ، عافانا الله ، وحفظ علينا العقل والدين بمنه. وإذا كان (بيان) في الآية علما له فأي معنى لقوله : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) كما يقال هذا زيد للناس. ومثله في الفحش من تسمى بالكسف ثم زعم أنه المراد بقوله تعالى (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) [الطور : ٤٤] الآية. فأي معنى يكون للآية على زعمه الفاسد كما تقول : وإن يروا رجلا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وبيان بن سمعان : هذا هو الذي تنسب إليه البيانية من الفرق. وهو ، فيما زعم ابن قتيبة ، أول من قال بخلق القرآن. والكسف هو أبو منصور الذي تنسب إليه المنصورية.

وحكى بعض العلماء أن عبيد الله الشيعيّ المسمى بالمهديّ حين ملك أفريقية واستولى عليها ، كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره. وكان أحدهما يسمى بنصر الله ، والآخر بالفتح ، وكان يقول لهما : أنتما اللذان ذكر كما

٤٦

الله في كتابه. فقال : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [النصر : ١] قالوا : وقد كان عمل ذلك في آيات من كتاب الله تعالى ، فبدل قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). بقوله : كتامة خير أمة أخرجت للناس.

ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا لأن المتسمّيين بنصر الله والفتح المذكورين إنما وجدا بعد مائتين من السنين من وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيصير المعنى إذا مت يا محمد ، ثم خلق هذان ، (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ ..) الآية ، فأيّ تناقض وراء هذا الإفك الذي افتراه الشيعيّ. قاتله الله.

ومن أرباب الكلام من ادعى جواز نكاح الرجل من تسع نسوة حرائر. مستدلا على ذلك بقوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ..) [النساء : ٣] ولا يقول مثل هذا من فهم وضع العرب في مثنى وثلاث ورباع.

ومنهم من يرى شحم الخنزير وجلده حلالا لأن الله قال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) [المائدة : ٣] فلم يحرم شيئا غير لحمه. ولفظ اللحم يتناول الشحم وغيره بخلاف العكس.

ومنهم من فسر الكرسيّ في قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] ، بالعلم مستدلين ببيت لا يعرف وهو :

(ولا بكرسئ علم الله مخلوق) كأنه عندهم ولا بعلم علمه. وبكرسئ مهموز. والكرسيّ غير مهموز.

ومنهم من فسر غوى في قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١]. إنه تخم من أكل الشجرة. من قول العرب غوي الفصيل يغوى غوى إذا بشم من شرب اللبن. وهو فاسد لأن غوي الفصيل فعل ، والذي في القرآن على وزن فعل.

ومنهم من قال في قوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) [الأعراف : ١٧٩] أي ألقينا فيها. كأنه عندهم من قول الناس : ذرته الريح. وذرأ مهموز ، وذرا غير مهموز.

وفي قوله : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [النساء : ١٢٥] ، أي فقيرا إلى رحمته. من الخلة بفتح الخاء. محتجين على ذلك بقول زهير (وإن أتاه خليل يوم مسألة) قال ابن قتيبة : أيّ فضيلة لإبراهيم في هذا القول؟ أما يعلمون أن الناس فقراء إلى الله؟ وهل «إبراهيم» في لفظ «خليل الله» إلا كما قيل «موسى كليم الله» ،

٤٧

و «عيسى روح الله». ويشهد له الحديث (١) : «لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ، إن صاحبكم خليل الله» (٢).

وهؤلاء من أهل الكلام هم النابذون للمنقولات اتباعا للرأي. وقد أدّاهم ذلك إلى تحريف كلام الله بما لا يشهد للفظه عربيّ ، ولا لمعناه برهان ، كما رأيت.

وإنما أكثرت من الأمثلة ، وإن كانت من الخروج عن مقصود العربية والمعنى على ما علمت ، لتكون تنبيها على ما وراءها مما هو مثلها ، أو قريب منها.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضا مما تقدم في المسألة قبلها ، ولكن يشترط فيه شرطان : أحدهما : أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية. والثاني : أن يكون له شاهد نصّا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض.

فأما الأول : فظاهر من قاعدة كون القرآن عربيّا. فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربيا بإطلاق. ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن ، ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه. وما كان كذلك فلا يصح أن ينسب إليه أصلا إذ ليست نسبته إليه على أنه مدلوله أولى من نسبة ضده إليه ، ولا مرجح يدل على أحدهما. فإثبات أحدهما تحكّم وتقوّل على القرآن ظاهر. وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم. والأدلة المذكورة ، في أن القرآن عربيّ ، جارية هنا.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر» : عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر. ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر. ولكن أخوّة الإسلام ومودته. لا يبقينّ في المسجد باب إلا سدّ ، إلا باب أبي بكر».

(٢) أخرجه الترمذي في المناقب باب حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه. ما خلا أبا بكر. فإن له عندنا يدا يكافئه الله به يوم القيامة. وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر. ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ألا وإن صاحبكم خليل الله».

٤٨

وأما الثاني : فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر ، أو كان له معارض ، صار من جملة الدعاوى التي تدعى على القرآن. والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء. وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم إنه الباطن ، لأنهما موفران فيه ، بخلاف ما فسر به الباطنية ، فإنه ليس من علم الباطن ، كما أنه ليس من علم الظاهر ، فقد قالوا في قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [النمل : ١٦] أنه الإمام ورث النبيّ علمه ، وقالوا في الجنابة : إن معناها مبادرة المستجيب بإفشاء السر قبل أن ينال رتبة الاستحقاق. ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك. ومعنى الطهور هو التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام. والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد الداعي أو الإمام. والصيام الإمساك عن كشف السر.

والكعبة النبيّ. والباب عليّ. والصفا هو النبيّ. والمروة عليّ. والتلبية إجابة الداعي.

والطواف سبعا هو الطواف بمحمد عليه‌السلام إلى تمام الأئمة السبعة. والصلوات الخمس أدلة على الأصول الأربعة وعلى الإمام. ونار إبراهيم هو غضب نمروذ لا النار الحقيقية. وذبح إسحاق هو أخذ العهد عليه. وعصا موسى حجته التي تلقفت شبه السحرة. وانفلاق البحر افتراق علم موسى عليه‌السلام فيهم. والبحر هو العالم. وتظليل الغمام نصب موسى الإمام لإرشادهم. والمنّ علم نزل من السماء. والسلوى داع من الدعاة. والجراد والقمل والضفادع سؤالات موسى وإلزاماته التي تسلطت عليهم. وتسبيح الجبال رجال شداد في الدين. والجن الذين ملكهم سليمان باطنية ذلك الزمان. والشياطين هم الظاهرية الذين كلفوا الأعمال الشاقة. إلى سائر ما نقل من خباطهم الذي هو عين الخبال ، وضحكة السامع. نعوذ بالله من الخذلان.

قال القتبي : وكان بعض أهل الأدب يقول : ما أشبه تفسير الروافض للقرآن إلا بتأويل رجل من أهل مكة للشعر. فإنه قال ذات يوم : ما سمعت بأكذب من بني تميم. زعموا أن قول القائل :

بيت ، زرارة محتب بفنائه

ومجاشع وأبو الفوارس نهشل

أنه في رجل منهم. قيل له : فما تقول أنت فيه. قال : البيت بيت الله ، وزرارة الحج. قيل : فمجاشع؟ قال : زمزم جشعت بالماء. قيل : فأبو الفوارس؟ قال : أبو قبيس. قيل : فنهشل؟ قال : أشده. وصمت ساعة ثم قال : نعم نهشل مصباح الكعبة لأنه طويل أسود فذلك نهشل. انتهى ما حكاه.

٤٩

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

وقد وقعت في القرآن تفاسير مشكلة يمكن أن تكون من هذا القبيل أو من قبيل الباطن الصحيح. وهي منسوبة لأناس من أهل العلم ، وربما نسب منها إلى السلف الصالح. فمن ذلك فواتح السور نحو : ألم ، والمص ، وحم ، ونحوها. فسرت بأشياء. منها ما يظهر جريانه على مفهوم صحيح ومنها ما ليس كذلك. فينقلون عن ابن عباس أن «ألم» أن ألف الله. ولام جبريل. وميم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا ، إن صح في النقل ، فمشكل. لأن هذا النمط من التصرف لم يثبت في كلام العرب هكذا مطلقا. وإنما أتى مثله إذا دل عليه الدليل اللفظيّ أو الحاليّ كما قال : (قلت لها قفي فقالت قاف) وقال : (قالوا جميعا كلهم بلى فا) وقال : (لا أريد الشهر إلا أن تا) والقول في «الم» ليس هكذا. وأيضا فلا دليل من خارج يدل عليه. إذ لو كان له دليل لاقتضت العادة نقله ، لأنه من المسائل التي تتوفر الدواعي على نقلها لو صح أنه مما يفسر ويقصد تفهيم معناه. ولما لم يثبت شيء من ذلك دل على أنه من قبيل المتشابهات. فإن ثبت له دليل يدلّ عليه ، صير إليه. وقد ذهب فريق إلى أن المراد الإشارة إلى حروف الهجاء ، وأن القرآن منزل بجنس هذه الحروف وهي العربية. وهو أقرب من الأول. كما أنه نقل أن هذه الفواتح أسرار لا يعلم تأويلها إلا الله ، وهو أظهر الأقوال فهي من قبيل المشابهات. وأشار جماعة إلى أن المراد بها أعدادها. تنبيها على مدة هذه الملة. وفي السير ما يدل على هذا المعنى. وهو قول يفتقر إلى أن العرب كانت تعهد في استعمالها الحروف المقطعة أن تدل بها على أعدادها. وربما لا يوجد مثل هذا ، لها ، البتة ، وإنما كان أصله في اليهود حسبما ذكره أصحاب السير. فأنت ترى هذه ال أقوال مشكلة إذا سبرناها بالمسبار المتقدم. وكذلك سائر الأقوال المذكورة في الفواتح مثلها في الإشكال وأعظم. ومع إشكالها فقد اتخذها جمع من المنتسبين إلى العلم ، بل إلى الاطلاع والكشف على حقائق الأمور ، حججا في دعا وادعوها على القرآن. وربما نسبوا شيئا من ذلك إلى عليّ بن أبي طالب ، وزعموا أنها أصل العلوم ، ومنبع المكاشفات على أحوال الدنيا والآخرة. وينسبون ذلك إلى أنه مراد الله تعالى في خطابه العرب الأمية التي لا تعرف شيئا من ذلك. وهو ، إذا سلم أنه مراد في تلك الفواتح في الجملة ، فما الدليل على

٥٠

أنه مراد على كل حال من تركيبها على وجوه ، وضرب بعضها ببعض ، ونسبتها إلى الطبائع الأربع ، وإلى أنها الفاعلة في الوجود ، وأنها مجمل كل مفصل ، وعنصر كل موجود. ويرتبون في ذلك ترتيبا جميعه دعا ومحالة على الكشف والاطلاع. ودعوى الكشف ليس بدليل في الشريعة على حال ، كما أنه لا يعد دليلا في غيرها ، كما سيأتي بحول الله.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

ومن ذلك أنه نقل عن سهل بن عبد الله في فهم القرآن أشياء مما يعد من باطنه. فقد ذكر عنه أنه قال في قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [البقرة : ٢٢] أي أضدادا. قال : وأكبر الأنداد النفس الأمارة بالسوء ، الطواعة إلى حظوظها ومنهيها بغير هدى من الله. وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد ، حتى لو فصل لكن المعنى : فلا تجعلوا لله أندادا لا صنما ولا شيطانا ولا النفس ولا كذا. وهذا مشكل الظاهر جدا ، إذ كان مساق الآية ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد الأصنام أو غيرها مما كانوا يعبدون ، ولم يكونوا يعبدون أنفسهم ولا يتخذونها أربابا. ولكن له وجه جار على الصحة ، وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية ، ولكن أتى بما هو ندّ في الاعتبار الشرعيّ الذي شهد له القرآن من جهتين :

إحداهما : أن الناظر قد يأخذ من معنى الآية معنى من باب الاعتبار ، فيجريه له فيما لم تنزل فيه ، لأنه يجامعه في القصد أو يقاربه ، لأن حقيقة الندّ أنه المضاد لندّه ، الجاري على مناقضته. والنفس الأمارة هذا شأنها ، لأنها تأمر صاحبها بمراعاة حظوظها ، لاهية أو صادّة عن مراعاة حقوق خالقها. وهذا هو الذي يعني به الندّ في نده. لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه. وشاهد صحة هذا الاعتبار قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١] وهم لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم ائتمروا بأوامرهم ، وانتهوا عما نهوهم عنه كيف كان. فما حرموا عليهم حرموه ، وما أباحوا لهم حللوه ، فقال الله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) وهذا شأن المتبع لهوى نفسه.

والثانية : أن الآية : وإن نزلت في أهل الأصنام ، فإن لأهل الإسلام فيها نظرا بالنسبة إليهم. ألا ترى أن عمر بن الخطاب قال لبعض من توسع في الدنيا من أهل

٥١

الإيمان : أين تذهب بكم هذه الآية (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) [الأحقاف : ٢٠]؟ وكان هو يعتبر نفسه بها. وإنما أنزلت في الكفار لقوله : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ) الآية ، ولهذا المعنى تقرير في العموم والخصوص. فإذا كان كذلك ، صح النزيل بالنسبة إلى النفس الأمارة في قوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) والله أعلم.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

ومن المنقول عن سهل أيضا في قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) [البقرة : ٣٥] قال : لم يرد معنى الأكل في الحقيقة وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره ، أي لا تهتم بشيء هو غيري. قال : فآدم لم يعصم من الهمة والتدبير فلحقه ما لحقه. قال : وكذلك كل من ادعى ما ليس له ، وساكن قلبه ، ناظرا إلى هوى نفسه ، لحقه الترك من الله ، مع ما جبلت عليه نفسه فيه ، إلا أن يرحمه‌الله فيعصمه من تدبيره ، وينصره على عدوه وعليها.

قال : وآدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لما أدخل الجنة ، لأن البلاء في الفرع دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به نفسه ، فغلب الهوى والشهوة والعلم والعقل بسابق القدر ، إلى آخر ما تكلم به.

وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس من أن المراد النهي عن نفس الأكل ، لا عن سكون الهمة لغير الله ، وإن كان ذلك منهيّا عنه أيضا ، ولكن له وجه يجري عليه لمن تأول ، فإن النهي إنما وقع عن القرب لا غيره ، ولم يرد النهي عن الأول تصريحا ، فلا منافاة بين اللفظ وبين ما فسر به.

وأيضا فلا يصح حمل النهي على نفس القرب مجردا. إذ لا مناسبة فيه تظهر ، ولأنه لم يقل به أحد ، وإنما النهي عن معنى القرب. وهو إما التناول والأكل ، وإما غيره ، وهو شيء ينشأ الأكل عنه ، وذلك مساكنة الهمة ، فإنه الأصل في تحصيل الأكل. ولا شك في أن السكون لغير الطلب نفع أو دفع ، منهيّ عنه. فهذا التفسير له وجه ظاهر ، فكأنه يقول : لم يقع النهي عن مجرد الأكل من حيث هو أكل ، بل عما ينشأ عنه الأكل من السكون لغير الله ، إذ لو انتهى لكان ساكنا لله وحده. فلما لم يفعل ، وسكن إلى أمر في الشجرة غرّه به الشيطان ، وذلك الخلد المدعى ، أضاف

٥٢

الله إليه لفظ العصيان ، ثم تاب عليه إنه هو التواب الرحيم. ومن ذلك أنه قال في قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ...) [آل عمران : ٩٦] الآية ـ باطن البيت قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد ، واقتدى بهدايته. وهذا التفسير يحتاج إلى بيان. فإن هذا المعنى لا تعرفه العرب. ولا فيه من جهتها وضع مجازيّ مناسب ، ولا يلائمه مساق بحال ، فكيف هذا؟ والعذر عنه أنه لم يقع فيه ما يدل على أنه تفسير للقرآن. فزال الإشكال إذا. وبقي النظر في هذه الدعوى. ولا بد ، إن شاء الله ، من بيانها.

ومنه قوله في تفسير قول الله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) [النساء : ٥١] قال : رأس الطواغيت كلها النفس الأمارة بالسوء إذا خلا العبد معها للمعصية. وهو أيضا من قبيل ما قبله. وإن فرض أنه تفسير فعلى ما مر في قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً).

وقال في قوله تعالى : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى ...) [النساء : ٣٦] الآية ـ أما باطنها فهو القلب ، والجار الجنب النفس الطبيعي ، والصاحب بالجنب العقل المقتدي بعمل الشرع ، وابن السبيل الجوارح المطيعة لله عزوجل ، وهو من المواضع المشكلة في كلامه.

ولغيره مثل ذلك أيضا. وذلك أن الجاري على مفهوم كلام العرب في هذا الخطاب ما هو الظاهر من أن المراد بالجار ذي القربى وما ذكر معه ما يفهم منه ابتداء. وغير ذلك لا يعرفه العرب. لا من آمن منهم ولا من كفر. والدليل على ذلك أنه لم ينقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسير للقرآن يماثله أو يقاربه ، ولو كان عندهم معروفا لنقل ، لأنهم كانوا أحرى بفهم ظاهر القرآن وباطنه باتفاق الأئمة ، ولا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها ، ولا هم أعرف بالشريعة منهم. ولا ، أيضا ، ثمّ دليل يدل على صحة التفسير لا من مساق الآية ، فإنه ينافيه ، ولا من خارج ، إذ لا دليل عليه كذلك. بل مثل هذا أقرب إلى ما ثبت رده ونفيه عن القرآن ، من كلام الباطنية ومن أشبههم.

وقال في قوله : (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) [النمل : ٤٤] الصرح نفس الطبع ، والممرد الهوى. إذا كان غالبا ستر أنوار الهدى بالترك من الله تعالى العصمة لعبده.

وفي قوله : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [النمل : ٥٢] أي قلوبهم عند

٥٣

إقامتهم على ما نهوا عنه ، وقد علموا أنهم مأمورون منهيون ، والبيوت القلوب ، فمنها عامرة بالذكر ، ومنها خراب بالغفلة عن الذكر.

وفي قوله تعالى : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الروم : ٥٠] قال : حياة القلوب بالذكر.

وقال في قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الروم : ٤١] الآية ـ مثل الله القلب بالبحر ، والجوارح بالبر. ومثله أيضا بالأرض التي تزهى بالنبات. هذا باطنه.

وقد حمل بعضهم قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة : ١١٤] على أن المساجد القلوب ، تمنع بالمعاصي من ذكر الله.

ونقل في قوله تعالى : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [طه : ١٢] أن باطن النعلين هو الكونان الدنيا والآخرة ، فذكر عن الشبليّ أن معنى : «اخلع نعليك» اخلع الكل منك تصل إلينا بالكلية.

وعن عطاء «اخلع نعليك» عن الكون ، فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب.

وقال : النعل النفس ، والواد المقدس دين المرء ، أي حان وقت خلوك من نفسك ، والقيام معنا بدينك ، وقيل غير ذلك مما يرجع إلى معنى لا يوجد في النقل عن السلف.

وهذا كله ، إن صح نقله ، خارج عما تفهمه العرب ، ودعوى ما لا دليل عليه في مراد الله بكلامه.

ولقد قال الصديق : «أيّ سماء تظلني ، وأيّ أرض تقلني ، إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم» وفي الخبر : من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ. وما أشبه ذلك من التحذيرات.

وإنما احتيج إلى هذا كله لجلالة من نقل عنهم ذلك من الفضلاء ، وربما ألمّ الغزاليّ بشيء منه في الإحياء وغيره. وهو مزلة قدم لمن لم يعرف مقاصد القوم. فإن الناس ، في أمثال هذه الأشياء ، بين قائلين : منهم من يصدق به ويأخذه على ظاهره ويعتقد أن ذلك هو مراد الله تعالى من كتابه ، وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير على خلافه ، فربما كذب به أو أشكل عليه. ومنهم من يكذب به على الإطلاق ويرى

٥٤

أنه تقوّل وبهتان ، مثل ما تقدم من تفسير الباطنية ومن حذا حذوهم. وكلا الطريقين فيه ميل عن الإنصاف. ولا بد قبل الخوض في رفع الإشكال من تقديم أصل مسلّم يتبين به ما جاء من هذا القبيل ، وهي :

المسألة العاشرة

فنقول : إن الاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الظاهرة للبصائر ، إذا صحت على كمال شروطها ، فهي على ضربين :

أحدهما : ما يكون أصل انفجاره من القرآن ، ويتبعه سائر الموجودات ، فإن الاعتبار الصحيح في الجملة هو الذي يخرق نور البصيرة فيه حجب الأكوان من غير توقف ، فإن توقف فهو غير صحيح أو غير كامل حسبما بينه أهل التحقق بالسلوك.

والثاني : يكون أصل انفجاره من الموجودات جزئيها أو كلّيها ، ويتبعه الاعتبار في القرآن.

فإن كان الأول ، فذلك الاعتبار صحيح ، وهو معتبر في فهم باطن القرآن من غير إشكال ، لأن فهم القرآن إنما يرد على القلوب على وفق ما نزل له القرآن ، وهو الهداية التامة ، على ما يليق بكل واحد من المكلفين ، وبحسب التكاليف وأحوالها ، لا بإطلاق. وإذا كانت كذلك فالمشي على طريقها مشي على الصراط المستقيم ، ولأن الاعتبار القرآنيّ قلما يجده إلا من كان من أهله عملا به على تقليد أو اجتهاد ، فلا يخرجون عند الاعتبار فيه عن حدوده ، كما لم يخرجوا في العمل به والتخلق بأخلاقه عن حدوده. بل تنفتح لهم أبواب الفهم فيه على توازي أحكامه. ويلزم من ذلك أن يكون معتدا به ، لجريانه على مجاريه.

والشاهد على ذلك ما نقل من فهم السلف الصالح فيه ، فإنه كله جار على ما تقضي به العربية ، وما تدل عليه الأدلة الشرعية حسبما تبين قبل.

وإن كان الثاني فالتوقف عن اعتباره في فهم باطن القرآن لازم ، وأخذه على إطلاقه فيه ممتنع ، لأنه بخلاف الأول ، فلا يصح إطلاق القول باعتباره في فهم القرآن ، فنقول : إن تلك الأنظار الباطنة في الآيات المذكورة إذا لم يظهر جريانها على مقتضى الشروط المتقدمة فهي راجعة إلى الاعتبار غير القرآنيّ ، وهو الوجوديّ. ويصح تنزيله على معاني القرآن ، لأنه وجوديّ أيضا ، فهو مشترك من تلك الجهة ، غير خاص فلا

٥٥

يطالب فيه المعتبر بشاهد موافق إلا ما يطالبه المربي ، وهو أمر خاص ، وعلم منفرد بنفسه ، لا يختص بهذا الموضع ، فلذلك يوقف على محله. فكون القلب جارا ذا قربى ، والجار الجنب هو النفس الطبيعيّ ، إلى سائر ما ذكر ، يصح تنزيله اعتباريا مطلقا. فإن مقابلة الوجود بعضه ببعض في هذا النمط ، صحيح وسهل جدا عند أربابه غير أنه مغرّر بمن ليس براسخ أو داخل تحت إيالة راسخ ، وأيضا ، فإن من ذكر عنه مثل ذلك من المعتبرين لم يصرح بأنه المعنى المقصود المخاطب به الخلق ، بل أجراه مجراه ، وسكت عن كونه هو المراد. وإن جاء شيء من ذلك وصرح صاحبه أنه هو المراد فهو من أرباب الأحوال الذين لا يفرقون بين الاعتبار القرآنيّ والوجوديّ. وأكثر ما يطرأ هذا لمن هو ، بعد ، في السلوك سائر على الطريق ، لم يتحقق بمطلوبه. ولا اعتبار بقول من لم يثبت اعتبار قوله من الباطنية وغيرهم. وللغزالي في مشكاة الأنوار ، وفي كتاب الشكر من الإحياء ، وفي كتاب جواهر القرآن في الاعتبار القرآني وغيره ، ما يتبين به لهذا الموضع أمثلة. فتأملها هناك والله الموفق.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

وللسنة في هذا النمط مدخل. فإن كل واحد منهما قابل لذلك الاعتبار المتقدم الصحيح الشواهد ، وقابل أيضا للاعتبار الوجوديّ ، فقد فرضوا نحوه في قوله عليه‌السلام «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة» (١) إلى غير ذلك من الأحاديث. ولا فائدة في التكرار إذا وضح طريق الوصول إلى الحق والصواب.

٩ ـ قاعدة في أن الشريعة أمية ، وأنه لا بد في فهمها من اتباع معهود الأميين ، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم

قال الشاطبيّ في الموافقات : هذه الشريعة المباركة أمية ، لأن أهلها كذلك ، فهو أجرى على اعتبار المصالح. ويدل على ذلك أمور.

أحدها : النصوص المتواترة اللفظ والمعنى كقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة : ٢]. وقوله : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ

__________________

(١) أخرجه البخاري ، في بدء الخلق ، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء ، عن أبي طلحة. ونصه : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة تماثيل».

٥٦

الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) [الأعراف : ١٥٨]. وفي الحديث : «بعثت إلى أمة أمية» (١) ، لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين. والأمي منسوب إلى الأم وهو الباقي على أصل ولادة الأم ، لم يتعلم كتابا ولا غيره. فهو على أصل خلقته التي ولد عليها ، وفي الحديث : «نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب. الشهر هكذا وهكذا وهكذا» (٢). وقد فسر معنى الأمية في الحديث : أي ليس لنا علم بالحساب ، ولا الكتاب ، ونحوه قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨]. وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنّة ، الدالة على أن الشريعة موضوعة على وصف الأمية. لأن أهلها كذلك.

والثاني : أن الشريعة التي بعث بها النبي الأميّ إلى العرب خصوصا ، وإلى من سواهم عموما ، إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية ، أو لا. فإن كانت كذلك ، فهو معنى كونها أمية أي منسوبة إلى الأميين ، وإن لم تكن كذلك ، لزم أن تكون على غير ما عهدوا. فلم تكن لتنتزل من أنفسهم منزلة ما تعهد ، وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها. فلا بد أن تكون على ما يعهدون. والعرب لم تعهد إلا ما وصفه الله به من الأمية ، فالشريعة إذا أمية.

والثالث : أنه لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزا ، ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم : هذا على غير ما عهدنا. إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام ، من حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا ، وهذا ليس بمفهوم ولا معروف. فلم تقم الحجة عليهم به. ولذلك قال سبحانه : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ، ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ..) [فصلت : ٤٤] فجعل لهم الحجة على فرض كون القرآن أعجميا ، ولما قالوا : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣]. ردّ الله عليهم بقوله : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)

__________________

(١) أخرجه الترمذي ، في أبواب القراءات ، باب ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف. عن أبيّ بن كعب قال : لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل فقال : يا جبريل! إني بعثت إلى أمة أميين ، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط. قال : يا محمد! إن القرآن أنزل على سبعة أحرف.

(٢) صحيح البخاريّ في الصوم باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا نكتب ولا نحسب. عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا» يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.

٥٧

[النحل : ١٠٣]. لكنهم أذعنوا لظهور الحجة. فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدهم بمثله مع العجز عن مما ثلته. وأدلة هذا المعنى كثيرة.

ثم قال الشاطبيّ :

فصل

واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس ، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق ، واتصاف بمحاسن شيم ، فصحّحت الشريعة منها ما هو صحيح ، وزادت عليه. وأبطلت ما هو باطل. وبينت منافع ما ينفع من ذلك ، ومضار ما يضر منه ، فمن علومها علم النجوم وما يختص بها من الاهتداء في البر والبحر واختلاف الأزمان باختلاف سيرها ، وتعرّف منازل سير النيرين وما يتعلق بهذا المعنى. وهو معنى مقرر في أثناء القرآن في مواضع كثيرة. كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٩٧]. وقوله : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [النحل : ١٦]. وقوله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ..) [يس : ٣٩ ـ ٤٠] الآية. وقوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٥]. وقوله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ..) [الإسراء : ١٢] الآية. وقوله : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : ٥]. وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ، قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ...) [البقرة : ١٨٩] وما أشبه ذلك.

ومنها علوم الأنواء ، وأوقات نزول الأمطار وإنشاء السحاب ، وهبوب الرياح المثيرة لها ، فبيّن الشرع حقها من باطلها ، فقال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ...) [الرعد : ١٢ ـ ١٣] الآية. قال : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَأَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) [الواقعة : ٦٨ ـ ٦٩]. وقال : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) [النبأ : ١٤]. وقال : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢]. خرّج الترمذيّ (١) : قال

__________________

(١) أخرجه الترمذي في التفسير سورة الواقعة حدثنا أحمد بن منيع عن عليّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ، قال ، شكركم. تقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ونجم كذا وكذا».

٥٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ، قال : شكركم. تقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا. وفي الحديث (١) : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ... الحديث في الأنواء.

وفي الموطأ مما انفرد به : إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة (٢). وقال عمر بن الخطاب للعباس ، وهو على المنبر ، والناس تحته : كم بقي من نوء الثريا؟ فقال له العباس : بقي من نوئها كذا وكذا.

فمثل هذا مبيّن للحق من الباطل في أمر الأنواء والأمطار. قال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ ...) [الحجر : ٢٢] الآية. وقال : (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [فاطر : ٩]. إلى كثير من هذا.

ومنها علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية. وفي القرآن من ذلك ما هو كثير. وكذلك في السنّة. ولكن القرآن احتفل في ذلك. وأكثره من الإخبار بالغيوب التي لم يكن للعرب بها علم ، لكنها من جنس ما كانوا ينتحلون. قال تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران : ٤٤] الآية. وقال تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا ..) [هود : ٤٩] وفي الحديث (٣) قصة أبيهم إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام في بناء البيت. وغير ذلك مما جرى.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في الأذان باب يستقبل الإمام الناس إذا سلّم. عن زيد بن خالد الجهنيّ أنه قال : صلى لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت في الليلة. فلما انصرف أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا : الله ورسوله أعلم. قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب. وأما من قال : بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب.

(٢) الموطأ في الاستسقاء باب الاستمطار بالنجوم عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : إذا أنشأت بحريّة ، ثم تشاءمت ، فتلك عين غديقة.

(٣) أخرجه البخاري ، في الأنبياء ، باب يزفون ، النسلان في المشي ، عن ابن عباس في حديث طويل جدا ... قال ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله : إني مطلع تركتي. فجاء فوافق إسماعيل وراء زمزم يصلح نبلا له. فقال : يا إسماعيل إن ربك أمرني أن أبني له بيتا. قال أطع ربك. قال : إنه أمرني أن تعينني عليه. قال إذن أفعل ، أو كما قال. قال : فقاما فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. قال حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ على نقل الحجارة ، فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.

٥٩

ومنها ما كان أكثره باطلا أو جميعه : علم العيافة والزجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطيرة ، فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل ، ونهت عنه. كالكهانة والزجر وخط الرمل. وأقرت الفأل. لا من جهة تطلب الغيب. فإن الكهانة والزجر كذلك. وأكثر هذه الأمور تخرّص على علم الغيب من غير دليل. فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض وهو الوحي والإلهام. وأبقى للناس من ذلك ، بعد موته عليه‌السلام ، جزءا من النبوءة وهو الرؤيا الصالحة ، وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة.

ومنها علم الطب : فقد كان في العرب منه شيء ، لا على ما عند الأوائل ، بل مأخوذ من تجاريب الأميين ، غير مبنيّ على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون. وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة ، ولكن على وجه جامع شاف قليل ، يطلع منه على كثير. فقال تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ...) [الأعراف : ٣١]. وجاء في الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء ، وأبطل من ذلك ما هو باطل : كالتداوي بالخمر والرقي التي اشتملت على ما لا يجوز شرعا.

ومنها التفنن في علم فنون البلاغة ، والخوض في وجوه الفصاحة ، والتصرف في أساليب الكلام ، وهو أعظم منتحلاتهم ، فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم. قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨].

ومنها ضرب الأمثال : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) [الروم : ٥٨] إلا ضربا واحدا ، وهو الشعر ، فإن الله نفاه وبرّأ الشريعة منه. قال تعالى في حكايته عن الكفار : وقالوا (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ٣٦ ـ ٣٧] ، أي لم يأت بشعر ، فإنه ليس بحق ، ولذلك قال : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ ...) [يس : ٦٩] الآية. وبيّن معنى ذلك في قوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) [الشعراء : ٢٢٤ ـ ٢٢٦] فظهر أن الشعر ليس مبنيّا على أصل ، ولكنه هيمان على غير تحصيل ، وقول لا يصدقه فعل ، وهذا مضاد لما جاءت به الشريعة إلا ما استثنى الله تعالى. فهذا أنموذج ينبهك على ما نحن بسبيله بالنسبة إلى علوم العرب الأمية. وأما ما يرجع إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق ، وما ينضاف إليها ، فهو أول ما خوطبوا به ، وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية من حيث كان آنس لهم ، وأجرى على ما يتمدح به عندهم ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ

٦٠