موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٢

على ما لا يجوز فعله ، فاحذروا حسابه وعقابه ، ولا تعزموا على ارتكاب ما لا يليق فتقدموا في الخطأ ، واعلموا ان الله غفور لمن عزم ثم أحجم فلم يفعل خشية وخوفا من الله تعالى ، وهو سبحانه حليم لا يعاجل بالعقوبة.

وعاد القرآن الكريم الى الحديث عن الحذر والدعوة اليه ، فقال في سورة آل عمران : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ، وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ ، وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (١). أي لا تتعرضوا لسخط الله بمخالفة أحكامه ، أو موالاة اعدائه ، وهذا تهديد ـ كما يقول المفسر البيضاوي ـ مشعر بتناهي المنهي عنه في القبح ، وقد ذكر «النفس» للاشعار بأن المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى ، فلا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة. ويقول «تفسير المنار» في ايضاح ذلك : «ويحذركم الله نفسه ، فانه من ورائكم محيط ، وسنته ـ في تأثير الاعمال في النفوس ، وجعل آثار أعمالها مصدرا لجزائها ـ حاكمة عليكم ، أفلا يجب عليكم ـ والامر كذلك ـ أن تحذروه بما أوتيتم من القدرة على الخير ، والميل اليه ، بترجيحه على ما يعرض على الفطرة من تزيين عمل السوء ، والتوبة اليه سبحانه مما غلبتم عليه في الماضي»؟!.

واذا كان القرآن المجيد في الآية الماضية قد أورد ذكر الحذر بمناسبة النهي عن موالاة المؤمنين للكافرين ، فانه قد عاد بعد ذلك بقليل يدعو الى الحذر من ارتكاب السيئات ، ويخوف من عقاب الله تعالى ، فيقول في سورة آل عمران ايضا : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٢٨.

٨١

اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (١). وانما ذكرت الآية رأفة الله بعباده للاشارة الى أنه تعالى انما نهاهم وحذرهم رأفة بهم ، ومراعاة لصلاحهم ، أو انه لذو مغفرة وذو عقاب ، فترجى رحمته ويخشى عذابه ، واذا كان الانسان بطبيعته يرجو الخير والرحمة ، ويطمع في الفضل والثواب ، فان واجبه الديني يقتضيه ألا يغره الرجاء ، أو يخدعه الطمع عن التحلي بالحذر والخوف من عقاب الله ، لان القرآن يقول في سورة الاسراء : (ان عذاب ربك كان محذورا) (٢). أي حقيقا بأن يحذره كل أحد حتى الرسل والملائكة كما قال أهل التفسير.

ويؤكد القرآن الحكيم الامر بالحذر والدعوة اليه ، فيقول في سورة المائدة : (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ، فان توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) (٣) ونفهم من هذا النص الكريم ان الحذر يقتضي الطاعة. وأن الطاعة تعود صاحبها الحذر والبعد عن المخالفة ، فيحذر المطيع ان يصيب شيئا مما نهى عنه الله أو نهى عنه الرسول ، لان طاعة الرسول من طاعة الله : (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (٤) كما نفهم ايضا أن انعدام روح الحذر في نفس الانسان يؤدي به الى الاعراض عن سبيل الله ، والتولي بعيدا عن صراطه المستقيم ، ويا سوء من استخف بأمر ربه ، وأعرض عن طاعته ، فان له عذاب الجحيم وبئس المصير.

ويقول التنزيل المجيد في سورة النور : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (٥) أي يخالفون أمره

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٣٠.

(٢) سورة الاسراء ، الآية ٥٧.

(٣) سورة المائدة ، الآية ٩٢.

(٤) سورة النساء ، الآية ٨٠.

(٥) سورة النور ، الآية ٦٣.

٨٢

بترك مقتضاه ، ويسلكون طريقا غير طريقه ، أو يتبعون نهجا غير منهاجه ، وكأن كلمة «يخالفون» فيها معنى كلمة «يعرضون» ولذلك قال :

(يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي يعرضون عن أمره.

ولو أنهم أصروا على مخالفتهم ، واستمروا في غيهم ، فان الله تعالى يصيبهم بفتنة ، أي محنة في الدنيا ، أو يصيبهم عذاب اليم في الدار الآخرة.

ويقول القرآن الكريم في سورة الزمر : (أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون انما يتذكر أولو الالباب) (١). وكأن الآية تشير ـ والله أعلم بمراده ـ الى أن فضيلة الحذر اذا تأصلت في نفس صاحبها جعلته حريصا على طاعة ربه والتعبد له ، وتوجيه الدعاء والرجاء اليه في أوقات الليل المختلفة ، وهو يحق له بعد ذلك ان يتطلع الى فضل الله ونعمته ، لأنه يؤمن بالله على علم ، ويعبده بفهم وحذر ، وهذه عبرة ينتفع بها أصحاب العقول والقلوب.

* * *

ونستطيع أن نفهم عن القرآن المجيد أن فضيلة الحذر تكون ثمرة للتفقه في الدين والتأثر بالانذار ، ولذلك يقول الله تعالى في سورة التوبة : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ، فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (٢).

وبعد أن يستوفي كتاب الله خطر الحديث عن حذر المؤمن من عقاب

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٩.

(٢) سورة التوبة ، الآية ١٢٢.

٨٣

ربه ، ينتقل الى الامر بالحذر من طوائف من الناس ، فالله تعالى يحذر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان يفتنه أهل الكتاب ، أو يتبع شيئا من أهوائهم ، لأن النبي هو المثل الاعلى في الخضوع لامر الله ، والبعد عن مخالفته في قليل أو كثير ، فيقول القرآن في سورة المائدة : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) (١).

ويأمر الله تعالى نبيه أن يحذر أولئك المنافقين الخادعين المضللين المتظاهرين بالاسلام المبطنين للكفران ، فيقول عنهم في سورة المنافقون : (واذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ، وان يقولوا تسمع لقولهم ، كأنّهم خشب مسندة ، يحسبون كل صيحة عليهم ، هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون) (٢). وما أجدر رسول الله عليه الصلاة والسّلام ـ ومن ورائه كل مسلم ـ أن يحذر هؤلاء المنافقين المخادعين الذين تقول عنهم السورة الكريمة : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ، اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ، فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٣).

* * *

ثم ينتقل القرآن المجيد من تحذير الرسول الى دعوة المؤمنين جميعا الى الحذر والخوف من العدو غير الظاهر ، أو ممن يظنهم الانسان سندا له وعونا ، فاذا هم أحيانا يكونون سببا في خساره أو بواره ، فيقول

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٤٩.

(٢) سورة المنافقون ، الآية ٤.

(٣) سورة المنافقون ، الآيتان ١ و ٢.

٨٤

القرآن في سورة التغابن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (١) فهم عدو يشغلكم عن طاعة الله تعالى ، أو يخاصمكم في امر الدين والدنيا ، والعدو هنا ليس عدوا لذاته ، لان الاصل في الزوجة والاولاد أن يكونوا محبين محبوبين بالنسبة الى الزوج والاب ، وانما هم عدو يشغلكم عن طاعة ربكم ، فاذا فعل الزوج أو الولد فعل العدو كان عدوا ، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد والطاعة.

ولقد روى أهل التفسير ان هذه الآية الكريمة نزلت في عوف بن مالك الاشجعي ، كان ذا أهل وولد ، وكان اذا أراد الغزو بكوا اليه ورققوه وقالوا : الى من تدعنا؟. فيرق لهم فيقيم معهم ويترك الغزو ، فنزلت الآية لتكون عظة وعبرة.

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ان الشيطان قعد لابن آدم في طريق الايمان ، فقال له : أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه فآمن ، ثم قعد له على طريق الهجرة ، فقال له : أتهاجر وتترك مالك وأهلك ، فخالفه فهاجر. ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له : أتجاهد فتقتل نفسك ، فتنكح نساؤك ، ويقسم مالك؟. فخالفه فجاهد ، فقتل فحق على الله ان يدخله الجنة.

وقعود الشيطان يكون بوجهين : أحدهما يكون بالوسوسة ، والثاني بأن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب ، ولذلك قال الله تعالى في سورة فصلت : (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم ، وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس انهم كانوا خاسرين) (٢).

__________________

(١) سورة التغابن ، الآية ١٤.

(٢) سورة فصلت ، الآية ٢٥.

٨٥

فاللبيب اذن هو من حاذر وخاف ، ولم يستسلم لأحد ، ولو كان من اولاده أو أقاربه ، فانهم قد يزينون له الاثم ، أو يحملونه بفتنتهم على ارتكاب المحظور أو كسب الحرام ، ولذلك قال مجاهد في الآية السابقة : «ما عادوهم في الدنيا ، ولكن حملتهم مودتهم على أن أخذوا لهم الحرام فأعطوه اياهم». والآية عامة في كل معصية يرتكبها الانسان بسبب الاهل والولد ، وخصوص سبب النزول لا يمنع عموم الحكم.

* * *

ويتحدث كتاب الله تعالى عن الحذر من العدو الباغي الطاغي ، فيقول جل جلاله في سورة النساء : (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) (١). و «ثبات» معناها جماعات متفرقة ، ومفردها «ثبة». والمعنى : استعدوا للاعداء بالحذر والانتباه واليقظة ، والا عصفوا بكم على حين غرة منكم : (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً). وفي «مفردات القرآن» أي معنى «خذوا حذركم» هو : خذوا ما فيه الحذر من السلاح وغيره ، أي استعدوا واعدوا ما يكون سببا لتحقيق فائدة الحذر ، وهو كل أنواع القوة : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) (٢).

وهذه الآية الكريمة خطاب من الله تعالى للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمر لهم بجهاد الكفر ، والخروج في سبيل الله ، وقد أمرهم ربهم الا يقتحموا على عدوهم على جهالة ، بل يجب أن يتحسسوا ما عند الاعداء ، ويعلموا كيف بواجهونهم ويردون على اعتدائهم ، فذلك أثبت لهم ، وهذا لا ينافي التوكل على الله ، بل

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٧١.

(٢) سورة الانفال ، الآية ٦٠.

٨٦

هو مقام عين التوكل ـ كما يذكر القرطبي ـ والحديث النبوي يقول : «اعقلها وتوكل».

فكونوا يا أهل الايمان متيقظين دائما ، وضعتم السلاح أم لم تضعوه ، ولا شك ان هذا يدل على تأكيد الوصية بالحذر والتأهب للعدو في كل الاحوال ، وترك الاستسلام والاغترار ، فان الجيش ما جاءه مصاب قط الا من تفريط في حذر.

ولقد عاد القرآن الكريم يقول في سورة النساء أيضا وهو يتحدث عن المصلين صلاة الحرب : (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) (١) ، فجعل الحذر سلاحا وآلة يتحصن بها الغازي ، ولذلك عطف الاسلحة على الحذر ، فقال : «وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم» ، وهذا الحذر مطلوب حتى في الصلاة ، لان الاعداء يتمنون أن ينالوا منكم غفلة فيشدون عليكم شدة واحدة : (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) (٢).

وهذه وصاة بالغة بالحذر وأخذ السلاح ، لئلا ينال العدو مأربه ويحقق مطلبه ، ولذلك جاء في كتب التفسير أن أكثر أهل العلم يستحبون للمصلي أن يأخذ سلاحه اذا صلى في الخوف. ولقد قال الحكماء : «لا تطمئن الى العدو وان أبدى لك المقاربة ، وان بسط لك وجهه ، وخفض لك جناحه ، فانه يتربص بك الدوائر ، ويضمر لك الغوائل ، ولا يرتجي صلاحا الا في فسادك ، ولا رفعة الا بسقوط جاهك».

وقالوا أيضا : «احذر الموتور ، ولا تطمئن اليه ، وكن أشد ما تكون حذرا منه ألطف ما يكون مداخلة لك ، فانما السلامة من العدو بتباعدك

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ١٠٢.

(٢) سورة النساء ، الآية ١٠٢.

٨٧

عنه ، وانقباضك منه ، وعند الانس اليه والثقة به تمكنه من مقاتلك». ورووا من كتب الهند : «الحازم يحذر عدوه على كل حال : يحذر المواثبة ان قرب ، والمغاورة ان بعد ، والكمين ان انكشف ، والاستطراد ان ولى ، والكرة ان فر».

* * *

هذا ولقد جاء ذكر الحذر في السنة المطهرة ، فروى أبو داود : «أحذركم زيغة الحكيم» أي ميله وجوره ، وكأن هذا من قبيل : لكل جواد كبوة ، وروى الترمذي : «ان الشيطان حساس لحاس فاحذروه على أنفسكم». والحساس : شديد الحس والادراك والاستماع ، واللحاس : كثير اللحس لما يصل اليه. وروى ابن ماجه واحمد : «ان الله لم يبعث نبيا الا حذر أمته الدجال» والدجال في الاصل الكثير الخداع. وهذا يذكرنا بالحديث القائل : «يكون في آخر الزمان دجالون» أي كذابون مموهون ، وقد روى مسلم وأحمد : «ان بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم».

قد يقول قائل : وما جدوى الحذر وهناك حديث يقول : «لن ينفع حذر من قدر»؟. وقد تعرض لهذه الشبهة «تفسير المنار» وذكر ما أورده الرازي من أحاديث فيها ، مثل : «المقدور كائن ، والهم فضل». ومثل : «الحذر لا يغني من القدر». وذكر تعليق الرازي الذي يقول : «ان صح هذا الكلام بطل القول بالشرائع ، فانه يقال : اذا كان الانسان من أهل السعادة في قضاء الله وقدره ، فلا حاجة الى الايمان ، وان كان من أهل الشقاوة لم ينفعه الايمان والطاعة ، فهذا يفضي الى سقوط التكاليف بالكلية ، والتحقيق في الجواب أنه لما كان الكل بقدر ، كان الامر بالحذر أيضا داخلا في القول ، فكان قول القائل : (أي فائدة في

٨٨

الحذر) كلاما متناقضا ، لانه لما كان الحذر مقدرا ، فأي فائدة في هذا السؤال الطاعن في الحذر»؟.

ثم ذكر تفسير المنار أن المسلمين أمسوا أقل الناس حذرا من الاعداء ، حتى ان أكثر بلادهم ذهبت من أيديهم ، وهم لا يتوبون ولا يذكرون ، ولا يتدبرون أمر الله في هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) وما في معناها ولا يمتثلون ، ويحتجون بالقدر.

ثم قال صاحب المنار عن الحديث : «المقدور كائن ، والهم فضل» انه لا يذكر أنه رآه في كتب المحدثين بهذا اللفظ ، ولكن البيهقي روى مرفوعا : «لا تكثر همك ، ما قدر يكن ، وما ترزق يأتك» وهو حديث ضعيف ، وأما الحديث الآخر : «الحذر لا يغني من القدر» فقد رواه الحاكم عن عائشة بلفظ : «لا يغني حذر من قدر» وصححه. ثم قال صاحب المنار : «وما أراه يصح ، وتساهل الحاكم في التصحيح معروف ، والرازي ليس من رجال الحديث ، ولكنه رأى بالعقل انه مخالف للآية ، أو مضعف من تأثير الامر فيها ، وكيف يقول الله : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) ، ويقول رسوله ان الحذر لا ينفع ، لأن العبرة بالقدر الذي لا يتغير؟.

واني على استبعادي لصحة الحديث ، وميلي الى انه من وضع المفسدين الذين أفسدوا بأس الامة بأمثال هذه الاحاديث ـ أقول انه لا يناقض الآية ، فان الله أمرنا بالحذر لندفع عنا شر الاعداء ، ونحفظ حقيقتنا ، لا لندفع القدر ونبطله ، والقدر عبارة عن جريان الامور بنظام تأتي فيه الاسباب على قدر المسببات ، والحذر من جملة الاسباب ، فهو عمل بمقتضى القدر لا بما يضاده».

والعرب لم يفتها الحديث عن الحذر والاشارة الى قيمته ، فكان من دعائهم قولهم : «وقاك الله كل مكروه محذور». وضربوا الامثال في

٨٩

الحذر ، فقالوا : فلان أحذر من غراب ، او فلان احذر من ذئب ، لانه يبلغ من شدة حذره ان يراوح بين عينيه اذا نام ، فيجعل احداهما مطبقة نائمة ، والاخرى مفتوحة حارسة ، بخلاف الارنب الذي ينام مفتوح العينين ، لا من حذر بل خلقة ، وقال حميد بن ثور في حذر الذئب :

ينام باحدى مقلتيه ، ويتقي

بأخرى المنايا ، فهو يقظان هاجع

وقالوا : «أحذر من ظليم» ـ والظليم الذكر من النعام ـ لانه يشم ريح القانص من مسافة بعيدة ، فيأخذ حذره. وقالوا في حكمهم : «الحذر قبل ارسال السهم». أي يجب ان يكون الحذر قبل فوات الاوان ، والا قيل : «سبق السيف العذل».

نسأل الله جل جلاله ان يجعلنا من المستجيبين لقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) انه ولي التوفيق.

٩٠

الاعراض عن اللغو

لمادة «اللغو» معنيان أصليان : أحدهما يدل على الشيء الذي لا يعتد به ، والآخر على اللهج بالشيء واللجاج فيه ، واللغو من الكلام ما لا يعتد به ، وهو الذي يورده قائله من غير روية أو فكر ، فيجري مجرى اللغا ، وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور ، وقد يسمى كل قبيح من الكلام لغوا. ويقال : لغا الانسان يلغو ويلغى ، اذا تكلم بالمطروح من القول وما لا يعني ، ولغى الانسان بكذا : أي لهج به كلهج العصفور بلغاه ، أي بصوته ، وسميت اللغة لغة ، لانها الكلام الذي يلهج به أهلوه ، أي يرددونه.

والالغاء هو الابطال ، وقد تستعمل كلمة «لاغية» بمعنى ملغاة ، ومن ذلك الحديث القائل : «والحمولة المائرة لهم لاغية» أي ملغاة لا تعد عليهم ، ولا تلزمهم لها صدقة ، والمائرة هي الابل التي تحمل الميرة.

والاعراض عن اللغو هو تركه وعدم اتيانه ، والابتعاد عمن يأتونه ، وعدم الاقبال عليهم ، لان اللغو من صفات أهل الباطل والضلال ، ولقد جاء في سورة «فصلت» قوله تعالى : (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) (١) : أي لا تسمعوه وعارضوه باللغو ، وهو الكلام الخالي عن الفائدة ، وكان الكفار يوصي بعضهم

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية ٢٦.

٩١

بعضا فيقولون : اذا سمعتم القرآن من محمد وأصحابه فارفعوا أصواتكم بكلامكم حتى تلبسوا عليهم قولهم. وقيل : ان المعنى الغوا فيه بالصفير والتخليط من القول عليهم اذا قرأوا :

والاعراض عن اللغو فضيلة من فضائل القرآن الكريم ، طالب الله بها عباده المؤمنين ، فقال في طليعة سورة المؤمنون : (قد أفلح المؤمنون ، الذين هم في صلاتهم خاشعون ، والذين هم عن اللغو معرضون) (١). وقد ذكر المفسرون أن المراد باللغو هنا هو الشرك ، أو الباطل ، أو المعاصي ، أو الكذب ، أو السب ، والشتم ، والانسب أن يقال ان الجد فيما أمرهم الله به يشغلهم عن اللغو ، وهو كل لعب ولهو وباطل. يقول جار الله الزمخشري عند هذه الآية : «اللغو ما لا يعنيك من قول أو فعل ، كاللعب والهزل ، وما توجب المروءة القاءه واطراحه. يعني أن بهم من الجد ما يشغلهم عن الهزل ، ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالاعراض عن اللغو ، ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الانفس ، اللذين هما قاعدتا بناء التكليف».

وحينما يتحدث القرآن الكريم عن عباد الرحمن في موطن آخر يجعل الاعراض عن اللغو سمة بارزة من سماتهم ، فيقول في سورة الفرقان عنهم : (والذين لا يشهدون الزور واذا مرو باللغو مرو كراما) (٢) أي لم يلتفتوا اليه ، ولم يتوقفوا عنده ، ولم يشاركوا أهله فيه ، بل صانوا أنفسهم واكرموها عن أن يلحق بها شيء من غبار هذا الدنس ، ولذلك يقول الزمخشري هنا : «المعنى : واذا مروا بأهل اللغو المشتغلين به ، مروا معرضين عنهم ، مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم والخوض معهم ، كقوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ،

__________________

(١) سورة المؤمنون ، الآيات ١ ـ ٣.

(٢) سورة الفرقان ، الآية ٧٢.

٩٢

وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (١)».

واذا كان المفسرون قد ذهبوا في تفسير اللغو في الآيتين السابقتين مذاهب ، فقالوا انه المعاصي ، أو الباطل ، أو أسماء العورات ، أو الاذى ، أو السب ، فان شيخ المفسرين ابن جرير الطبري يقول : «وأولى الاقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال : ان الله أخبر عن هؤلاء المؤمنين الذين مدحهم بأنهم اذا مروا باللغو مروا كراما. واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل ، لا حقيقة له ولا أصل ، أو ما يستقبح ، فسب الانسان الانسان بالباطل الذي لا حقيقة له ، من اللغو ، وذكر النكاح بصريح اسمه مما يستقبح في بعض الاماكن ، فهو من اللغو ، وكذلك تعظيم المشركين آلهتهم من الباطل الذي لا حقيقة لما عظموه على نحو ما عظموه ، وسماع الغناء مما هو مستقبح في أهل الدين ، فكل ذلك يدخل في معنى اللغو ، فلا وجه ـ اذا كان كل ذلك يلزمه اسم اللغو ـ ان يقال : عنى به بعض ذلك دون بعض ، اذ لم يكن لخصوص ذلك دلالة من خبر أو عقل».

ولو تدبرنا لفهمنا ان اللغو يشمل كل باطل من قول او عمل ، كما يشمل كل ما لا يليق أن يتعلق به أو يحرص عليه المؤمن صاحب الهمة والعزيمة والجد ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضا في الباطل». ويقول : «من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

ولله در عطاء بن أبي رباح حين قال : «ان من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام ، وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله تعالى ، وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أمرا بمعروف ، أو تهيا عن منكر ، أو أن تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها.

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٥٥.

٩٣

أتنكرون ان عليكم حافظين ، كراما كاتبين ، عن اليمين وعن الشمال قعيد ، ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد؟ أما يستحي أحدكم اذا نشرت صحيفته التي أملاها صدر نهاره ، كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه»؟.

ولقد حث الرسول الكريم ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ على الاعراض عن اللغو ، حتى فيما يحسبه الانسان قليلا خفيفا ، أو يظنه موصولا بخير ، كالكلام في أثناء خطبة الجمعة مهما كان قليلا ، ولو بنصيحة ، فقد جاء في الحديث : «من قال لصاحبه والامام يخطب : صه ، فقد لغا». وفي رواية : «اذا قلت لصاحبك والامام يخطب يوم الجمعة : أنصت ، فقد لغوت». كما جاء في الحديث ايضا : «من مس الحصا فقد لغا» أي تكلم ، وقيل : أي عدل عن الصواب أو خاب ، والمقصود هنا هو مس الحصى عند خطبة الجمعة.

بل حذر الدين أيضا من اللغو حتى في الوقت ، فقد جاء في حديث سلمان رضي الله عنه : «اياكم وملغاة أول الليل». والملغاة مفعلة من اللغو والباطل ، والمراد هنا السهر أول الليل فيما لا يفيد ، لانه يمنع من قيام الليل.

* * *

ولكي يشعرنا القرآن المجيد بعلو المكانة لفضيلة الاعراض عن اللغو ، حدثنا بأن من الوان النعيم الالهي في الجنة أنه لا لغو فيها. فقال في سورة مريم : (لا يسمعون فيها لغوا الا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ، تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) (١).

__________________

(١) سورة مريم ، الآيتان ٦٢ و ٦٣.

٩٤

قال المفسرون ان اللغو هنا هو التخالف عند شرب الخمر ، أو ما يلغى من الكلام ويؤثم فيه ، لان اللغو في العربية هو الفاسد المطروح. وقال : (إِلَّا سَلاماً) والسّلام ليس من اللغو ، فاستثنى السّلام من غير جنسه ، وفي هذا توكيد للمعنى المقصود ، فكأنه قد قال : اذا لم يسمعوا من الكلام الا السّلام ، فهم لن يسمعوا فيها لغوا ألبتة.

وكذلك قال القرآن المجيد في سورة الواقعة : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً ، إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (١). أي لا يسمعون فيها ما لا يعتد به من الكلام ، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر ، ولا يسمعون نسبة الى الاثم ، أي لا يقال لهم : أثمتم ، ولكن يقول بعضهم لبعض : سلاما سلاما ، أي نسلم سلاما بعد سلام.

ويقول الله تبارك وتعالى في سورة الطور عن الجنة وأهلها : (يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم) (٢). أي يتعاطون ويتبادلون أو يتجاذبون في الجنة كأسا تجاذب المداعبة لشدة سرورهم ، وهذه الكأس لا لغو مع شربها ، ولأنها ليست ككأس الدنيا ، فهم لا يتكلمون في اثناء الشرب بلغو الحديث ولا بسقط الكلام ، ولا يفعلون ما ينسب الى الاثم ، وانما يتكلمون بالحكمة وحسن الكلام ، ويفعلون ما يفعله الكرام. أي أن الكأس لا تذهب بعقولهم فيلغوا أو يرفثوا فيأثموا ، كما كان ذلك في خمر الدنيا.

وكذلك يقول القرآن المجيد في سورة النبأ عن الجنة وأصحابها : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) (٣) أي لا يسمعون فيها كلاما قبيحا ، ولا تكذيبا. أو لا يسمعون فيها باطلا ، وذلك ان اهل الجنة ـ كما

__________________

(١) سورة الواقعة ، الآيتان ٢٥ و ٢٦.

(٢) سورة الطور ، الآية ٢٣.

(٣) سورة النبأ ، الآية ٣٥.

٩٥

حدثنا القرآن ـ اذا شربوا من خمر الجنة لم تتغير عقولهم ، ولم يتكلموا بلغو ، بخلاف أهل الدنيا ، ولا يكذب بعضهم بعضا ، ولا يسمعون كذبا.

وكذلك يقول في سورة الغاشية : (لا تسمع فيها لاغية) (١) أي لغوا ، فجعل اسم الفاعل وصفا للكلام ، واللاغية هنا يراد بها الكلام الساقط غير المرضي ، فلا يسمعون فيها كذبا ولا اثما ولا شتما ولا معصية ولا حلفا بيمين برة أو فاجرة ، لأن أهل الجنة لا يتكلمون الا بالحكمة ، وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم.

ويقول الامام محمد عبده في تفسير هذه الآية : «وانما عجل بهذا الوصف الشريف عقب ذكر الجنة قبل ذكر بقية أنواع النعيم ، لدفع ما يسبق الى الاذهان عند ذكر الجنة ونعيمها ، من أحوال أهل الترف والمولعين بالشهوات ، من تمضية الاوقات في اللهو ، والقول اللغو ، واطلاق الالسن عن قيد الادب ، فيجعلون من متممات النعيم قذائف الهجر والفحش.

فقد سارع الى تنزيه نعيم أهل الجنة عما هو من لوازم نعيم غيرهم في الدنيا ، وفي ذلك تنبيه للمؤمنين الى أنه لا يليق بهم أن يكونوا من أهل اللغو ، مهما فاض عليهم النعيم ، واتسعت لهم النعمة ، بل ذلك مما ينزهون عنه حتى اذا رفعت عنهم التكاليف ، ووصلوا الى فضاء الرحمة الذي لا سخط فيه ولا نقمة ، فنعيمهم ينبغي أن يكون نعيم أهل الفضل والجد ، لا نعيم أهل الجهل والحمق.

فاعتبر بهذه الحكمة ، ثم انظر كيف قدم من الاوصاف للجنة وضروب نعيمها ما هو روحاني ، يليق بأرباب النفوس العالية ، والمقامات الرفيعة

__________________

(١) سورة الغاشية ، الآية ١١.

٩٦

في العرفان وكمال الوجدان ، فذكر الرضا بالسعي (١) ، ولذته فوق اللذائذ ، فانه لا لذة تفوق عند العامل لذة سروره بعمله ، ثم أتبعه بالتنزه عن اللغو وما لا فائدة فيه ، وهو أسمى ما يطلب الكامل أن يحيا به».

* * *

وهناك لون من «اللغو» أخبرنا القرآن الكريم ان الانسان لا يؤاخذ عليه ، وان كان البعد عنه أولى ، وذلك هو لغو الأيمان ـ جمع يمين ـ واللغو هنا هو ما لا يعتد به من الأيمان ، وما لا عقد عليه ، وذلك هو ما يجري وصلا الكلام بضرب من العادة ، وقد ذكر القرآن الكريم هذا في سورة البقرة فقال : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (٢).

قيل ان اليمين التي هي لغو هي قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة : لا والله ، وبلى والله ، دون قصد اليمين ، وغير معتقد لليمين ولا مريدها ، وعن عائشة رضي الله عنها أن أيمان اللغو هي ما كانت في المراء والجدل والمزاح والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب. ولذلك يقول الشاعر :

ولست بمأخوذ بقول تقوله

اذا لم تعمد عاقدات العزائم

وقيل : هو ما يحلف به على الظن فيكون بخلاف ظنه ، وليس فيه كفارة ، وروي ان قوما تراجعوا القول عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يرمون بحضرته ، فحلف أحدهم : لقد أصبت ، وأخطأت يا فلان فاذا الامر بخلاف ذلك ، فقال الرجل : حنث يا رسول الله. فقال

__________________

(١) يقصد قوله تعالى في السورة : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ).

(٢) سورة البقرة ، الآية ٢٢٥.

٩٧

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيمان الرماة لغو ، لا حنث فيها ولا كفارة».

وقيل : اللغو هنا هو الايمان التي يحلفها الانسان ساهيا أو ناسيا ، وقيل هي اليمين في المعصية أو الغضب ، وقيل : اللغو هو سقوط الاثم عن الحالف اذا كفر عن يمينه.

وجاء في سورة المائدة قوله تبارك وتعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) (١). قيل : ان قوما حلفوا بأن يحرموا على أنفسهم الطيبات ، فنزل قوله تعالى : (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) (٢). فقالوا : ما ذا نصنع بأيماننا؟. فنزل قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) أي اذا أتيتم باليمين ثم ألغيتموها ـ أي أسقطتم حكمها بالتكفير ـ فان الله لا يؤاخذكم بعد ذلك ، وانما يؤاخذكم بما أقمتم عليه فلم تلغوه بالتكفير عنه.

وقيل ان لغو اليمين هو تحريم الحلال ، كأن يقول : مالي علي حرام ان فعلت كذا. وقيل : هو دعاء الرجل على نفسه بالويل والخسران ونحوه ، وقيل : هو قول أحد المتبايعين : والله لا أبيعك بكذا ، وقول الآخر : والله لا أشتريه بكذا ...

ومهما يكن من الاقوال ، فان الاساس في لغو اليمين هو ما لم يتعمد الشخص أن يجعله يمينا. ولا شك ان تجنب الأيمان ـ مهما كانت الحال ـ أفضل وأجمل.

جنبني الله واياك اللغو في القول والعمل ، وجعلنا ممن قال فيهم : (والذين لا يشهدون الزور ، واذا مروا باللغو مروا كراما) (٣).

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٨٩.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٨٧.

(٣) سورة الفرقان ، الآية ٧٢.

٩٨

التوسط

تدل مادة «الوسط» في لغة العرب على العدل ، والنصف ، وأوسط الشيء ووسطه أعدله ، ووسط الشيء ما له طرفان متساويان في القدر ، ويقال : فلان من أوسط قومه ، أي من خيارهم ، والرجل الوسيط هو الحسيب بين جماعته. والوسط يفيد معنى البعد عن الافراط والتفريط ، والزيادة على المطلوب في الامر افراط ، والنقص عنه تفريط ، وكل من الافراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة ، فهو شر ومذموم ، والخيار هو الوسط بين طرفي الامر ، اي المتوسط بينهما ، ولذلك يقول القرطبي : «لما كان الوسط مجانبا للغلو والتقصير كان محمودا». ولما كانت الوسطية تفيد معنى الخيرية والعدالة قال الشاعر زهير يمدح قوما :

هم وسط يرضى الانام بحكمهم

اذا نزلت احدى الليالي بمعظم

وهناك كلمات تقرب في معناها من كلمة «الوسط» ، ومن هذه الكلمات : السواء ، والنصفة ، والعدل ....

وقد وردت مادة «وسط» في القرآن الكريم عدة مرات ، ولم تذكر الا في موطن المدح والتقدير ، ونفهم من حديث القرآن عن المادة أن التوسط فضيلة من فضائل الاسلام ، وخلق من أخلاق القرآن ،

٩٩

انه الصفة الاساسية الجليلة التي ارادها الحق تبارك وتعالى للامة لمؤمنة ، ولذلك يقول عز من قائل في سورة البقرة : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ، لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (١).

أي جعلناكم اخيارا عدولا ، وجعلناكم دون الانبياء وفوق الامم ، ما دمتم مهتدين بهدي الله ، عاملين بدينه ، وأحمد الاشياء أوسطها أعدلها ، وقد فسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلمة «وسطا» في الآية بكلمة «عدلا». وقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) اي شهدوا في المحشر للانبياء على اممهم ان الانبياء بلغوا الرسالة ، أدوا الامانة. وقوله : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) اي يشهد بكم بانه بلغكم ، وأنكم أهل الايمان.

وقد ورد في هذا حديث رواه البخاري عن ابي سعيد الخدري جاء فيه : «يدعى نوح عليه‌السلام يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب». فيقول : هل بلغت؟ فيقول : نعم. فيقال لامته : هل بلغكم فيقولون : ما اتانا من نذير. فيقول : من شهد لك؟ فيقول : محمد وامته. فيشهدون انه قد بلغ. (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) فذلك قول الله عزوجل : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ، لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

* * *

وقد صوّر «تفسير المنار» كيف أقبلت الامة الاسلامية ، فجعلها لله تبارك وتعالى وسطا بدينها ، وعملها به ، وتمسكها بأخلاقه ، حرصها على تعاليمه ، بعد ان سبقها صنفان من الناس ، احدهما

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٤٣.

١٠٠