موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٢

هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) (١)». أي اذا اؤتمنوا لم يخونوا الامانة ، بل أدوها الى أهلها مهما كانت ، كما أنهم يحفظون أمانتهم في دينهم واعتقادهم وقولهم وعملهم وسلوكهم مع الناس.

* * *

ولقد جاءت السنة النبوية المطهرة من وراء القرآن المجيد ، فعنيت بفضيلة الامانة ، ورفعت من شأنها ، وزكّت من حديثها ، فقال الرسول عليه الصلاة والسّلام : «الامانة غنى» أي هي سبب الغنى ، لأن الانسان اذا عرفه الناس بالامانة أقبلوا على معاملته ، وأحبوه ، فيصير ذلك سبب غناه.

وخاطب الرسول كل مسلم فقال له : «أربع اذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة في طعمة». فانظر كيف جعل فضيلة الامانة طليعة لتلك الفضائل الاربع.

وطالب النبي كل مسلم بأن يرعى الامانة ويستمسك بها مع الناس جميعا ، فقال : «أدّ الامانة الى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك».

وأرشدت السنة المطهرة الى أحوال ومواطن تحتاج الى الامانة لتصونها وتحصنها ، فقال الحديث : «المجالس بالأمانة» وفي هذا حث على صيانة ما يجري في المجلس من أحاديث أو أسرار ، فكأن ذلك أمانة عن من سمعه أو رآه. وجاء الحديث : «المستشار مؤتمن». أي أمين على المشورة أو النصيحة ، فان كان يعرف وجه الصواب فيما يستشار فيه ،

__________________

(١) سورة المؤمنون ، الآية ٨.

٢١

ذكره دون خداع أو تمويه ، وان كان لا يعرف أحاله على من يعرفه واعتذر ، ولو أنه عرف وجه الصواب في النصيحة وأخفاه وذكر سواه ، كان خائنا ، والله جل جلاله لا يحب الخائنين ـ ويؤكد هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه».

وجاء الحديث : «المؤذن مؤتمن» أي يثق به الناس ، ويتخذونه ضابطا لهم ، وحافظا عليهم ، في مواعيد صلاتهم وصيامهم ، فيجب عليه أن يضبط هذه المواعيد والمواقيت.

وتحذر السنة المطهرة المسلم تحذيرا بليغا رادعا أن يضيع الامانة ، أو يتنكر لها ، فيقول الحديث : «لا ايمان لمن لا أمانة له». ولقد مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رجل يبيع برّا (قمحا) ، فوضع النبي يده داخل القمح فوجد بللا. فقال : ما هذا يا صاحب الطعام؟. فأجابه : أصابته السماء يا رسول الله. فاستنكر النبي تصرفه ، وعابه عليه ، وقال له : «أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟. من غشنا فليس منا».

وجاء الحديث القائل : «اذا ضيّعت الامانة فانتظر الساعة». قيل : كيف اضاعتها يا رسول الله؟. قال : «اذا أسند الامر الى غير أهله فانتظر الساعة»!. وفي هذا تحذير وتخويف من ضياع الامانة ، واشعار بأنها حين تضيع تختل الامور ويفسد العالم ، ومن هنا روي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال :

حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثين ، رأيت أحدهما ، وأنا أنتظر الآخر ، حدثنا أن الامانة نزلت في جذر (أي أصل) قلوب الرجال ، ثم علموا من القرآن ، ثم علموا من السنة. وحدثنا عن رفعها قال : ينام الرجل النومة فتقبض الامانة من قلبه ، فظل أثرها مثل أثر

٢٢

الوكت (أي السواد الخفيف) ، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل (النفاخة في اليد) كجمر دحرجته على رجلك فنفط ، فتراه منتبرا (مرتفعا) وليس فيه شيء ، فيصبح الناس يتبايعون ، فلا يكاد أحد يؤدي الامانة ، فيقال : ان في بني فلان رجلا أمينا. ويقال للرجل : ما أعقله وما أظرفه وما أجلده ، وما في قلبه مثقال حبة خردل من ايمان. ولقد أتى عليّ زمان وما أبالي أيكم بايعت ، لئن كان مسلما ردّه علي الاسلام ، وان كان نصرانيا أو يهوديا رده علي ساعيه (أي وليه) فأما اليوم فما كنت أبايع الا فلانا وفلانا.

ولقد صور الرسول عليه الصلاة والسّلام ضياع الامانة معولا من معاول التقويض لهذه الحياة ، وعلامة على قرب قيام الساعة ، فجعل ضياع الامانة علامة من علامات القيامة ، فذكر بين اشراطها أن يتخذ الناس الامانة مغنما ، أي يضيعونها في سبيل شهواتهم وأهوائهم ، فيرى من في يده أمانة أن خيانتها غنيمة قد حصل عليها. ويقول حديث آخر : «لن تزال أمتي على الفطرة ما لم يتخذوا الامانة مغنما والزكاة مغرما». وكيف يبقى على الفطرة من يتنكر لفضيلة الامانة والرسول قد جعل الخيانة احدى صفات المنافق الأثيم فقال عنه : «اذا اؤتمن خان».

* * *

وهناك كثير من الناس اذا سمعوا كلمة «الأمانة» تصوروها مقصورة على «الوديعة» التي تودع عند الناس ، كالنقود والحلي وما شابه ذلك ، مع أن مدلول الامانة في المفاهيم الاسلامية يشمل ألوانا كثيرة ، فأمانة العبد مع ربه ، وتتحقق بحفظ ما أمر الله بحفظه ، وبأداء واجباته والابتعاد عن منهياته ، وأمانة العلم تتحقق بنشره وتفهيمه للناس.

٢٣

وأمانة الانسان مع الناس تتحقق برد ودائعهم اليهم ، وحفظ حقوقهم ، وصيانة أعراضهم ، وحفظ أسرارهم ، والبعد عن غشهم والاعتداء عليهم. وأمانة الحكام مع المحكومين تتحقق بالعدل بينهم ، والحرص على مصالحهم ، والسهر من أجلهم. وأمانة الانسان مع نفسه تتحقق باختياره الأصلح له في الدين والدنيا ، وأمانة الحياة الزوجية تتحقق بكتمان أسرارها ، وعدم الحديث عن دخائلها ، والحديث يقول : «ان شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة ، الرجل يفضي الى امرأته ، وتفضي اليه ، ثم ينشر سرها» والأمانة في التجارة تتحقق بما أشار اليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال : «ان أطيب الكسب كسب التجار الذين اذا حدثوا لم يكذبوا ، واذا اؤتمنوا لم يخونوا ، واذا وعدوا لم يخلفوا ، واذا اشتروا لم يذموا ، واذا باعوا لم يطروا ، واذا كان عليهم لم يمطلوا ، واذا كان لهم لم يعسّروا». والأمانة في الكيل والميزان تتحقق بالضبط والعدل والابتعاد عن الانقاص أو الزيادة ، وبذلك ينجو الانسان من تهديد القرآن الشديد حين يقول : (ويل للمطففين ، الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون ، واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ، يوم يقوم الناس لرب العالمين) (١). وأمانة حديث السر تتحقق بكتمانه وعدم ذكره لغير صاحبه ، والرسول عليه الصلاة والسّلام يقول : «اذا حدث رجل رجلا بحديث ثم التفت فهي أمانة». ويقول : «ان من الخيانة أن تحدّث بسر أخيك». والغزالي يقول : «افشاء السر خيانة ، وهو حرام ان كان فيه اضرار ، ولؤم ان لم يكن فيه اضرار».

* * *

__________________

(١) سورة المطففين ، الايات ١ ـ ٥.

٢٤

وللاستاذ الامام الشيخ محمد عبده كلمة قيمة في أمانة العلم والعلماء يقول فيها : «الامانة حق عند المكلف يتعلق به حق غيره ، ويودعه لأجل أن يوصله ذلك الغير ، كالمال والعلم ، سواء كان المودع عنده ذلك الحق قد تعاقد مع المودع على ذلك بعقد قولي خاص صرّح فيه بأنه يجب على المودع عنده ان يؤدي كذا الى فلان مثلا ، أم لم يكن كذلك ، فان ما جرى عليه التعامل بين الناس في الامور العامة هو بمثابة ما يتعاقد عليه الأفراد في الامور الخاصة ، فالذي يتعلم العلم قد أودع أمانة ، وأخذ عليه العهد ـ بالتعامل والعرف ـ بأن يؤدي هذه الامانة ، ويفيد الناس ويرشدهم بهذا العلم.

وقد أخذ الله العهد العام على الناس بهذا التعامل المتعارف بينهم شرعا وعرفا ، بنص قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) (٢). ولذلك عدّ علماء أهل الكتاب خائنين بكتمان صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيجب على العالم أن يؤدي أمانة العلم الى الناس ، كما يجب على من أودع المال أن يرده الى صاحبه ، ويتوقف أداء أمانة العلم على تعرف الطرق التي توصل الى ذلك ، فيجب أن تعرف هذه الطرق لأجل السير فيها.

واعراض العلماء عن معرفة الطرق التي تتأدى بها هذه الامانة بالفعل هو ابتعاد عن الواجب الذي أمروا به ، واخفاء الحق باخفاء وسائله هو عين الاضاعة للحق ، فاذا رأينا الجهل بالحق والخير فاشيا بين الناس ، واستبدلت به الشرور والبدع ، ورأينا أن العلماء لم يعلموهم ما يجب في ذلك ، فيمكننا أن نجزم بأن هؤلاء العلماء لم يؤدوا الامانة ، وهي

__________________

(٢) سورة آل عمران ، الآية ١٨٧.

٢٥

ما استحفظوا عليه من كتاب الله ، ولا عذر لهم في ترك استبانة الطريق الموصل الى ذلك بسهولة وقرب».

* * *

وقد تحدث الامام ابن تيمية طويلا عن الامانة عند الأئمة والحكام في كتابه «السياسة الشرعية في اصلاح الراعي والرعية» فذكر أولا أنه يجب على ولي الامر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين ، أصلح من يجده لذلك العمل ، لأن الحديث يقول : «من ولي من أمر المسلمين شيئا ، فولّى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله». ولأن عمر قال : «من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما ، فقد خان الله ورسوله والمسلمين» ويقرر ابن تيمية ان الامانة في هذا المجال واجبة على ولي الامر ، فيقول : «فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات ، من نوابه على الأمصار ، من الامراء الذين هم نواب ذي السلطان ، والقضاة ، ومن أمراء الاجناد ومقدمي العساكر الصغار والكبار ، وولاة الاموال من الوزراء والكتاب والشادين (أي الجامعين) والسعاة على الخراج والصدقات ، وغير ذلك من الاموال التي للمسلمين.

وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده ، وينتهي ذلك الى أئمة الصلاة والمؤذنين والمقرئين والمعلمين وأمير الحاج والبرد (جمع بريد ، وهم الذين ينقلون الرسائل) والعيون الذين هم القصاد ، وخزان الاموال ، وحراس الحصون ، والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن ، ونقباء العساكر الكبار والصغار. وعرفاء القبائل والأسواق ورؤساء القرى الذين هم الدهاقين».

٢٦

وبعد أن يبين خطر الخيانة يقول : «ثم ان المؤدي للامانة مع مخالفة هواه يثيبه الله ، فيحفظه في أهله وماله ، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده ، فيذل أهله ، ويذهب ماله».

* * *

واذا كان القرآن المجيد قد عني بتزكية الامانة والتنويه بفضلها كمكرمة من مكارم الاخلاق الاسلامية ، فقد حمل على نقيضها وهي الخيانة حملة صادقة ، ونفر منها تنفيرا بليغا ، فقال في سورة النساء : (ولا تكن للخائنين خصيما) (١) أي مخاصما مدافعا عنهم ثم قال : (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ان الله لا يحب من كان خوانا أثيما) (٢). ويقول في سورة الانفال : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) (٣) وقال في سورة الحج : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (٤). ويقول في سورة يوسف : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (٥).

ونستطيع أن نستخلص عبرة دقيقة عميقة حين نتذكر أنه بسبب الخيانة وفقدان الامانة قذف الله جل جلاله بامرأتين من نساء الأنبياء والمرسلين في النار ، فالله تعالى يقول في سورة التحريم : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ، كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ ، فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (٦).

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ١٠٥.

(٢) سورة النساء ، الآية ١٠٧.

(٣) سورة الانفال ، الاية ٥٨.

(٤) سورة الحج ، الآية ٣٨.

(٥) سورة يوسف ، الآية ٥٢.

(٦) سورة التحريم ، الآيتان ٩ و ١٠.

٢٧

وأصحاب الخلق الكريم والطبع السليم والشعور القويم هم الذين يحزنون حينما يحسون أنهم قد قصروا في شيء من حقوق الامانة ، ولو عن غير قصد ، وحينئذ تتمزق قلوبهم أسفا وحسرة على ما فرط منهم ، ومن أمثلة هؤلاء الصحابي الجليل ابو لبابة رضي الله عنه.

تحدثت عن شعوره بتبعة الامانة في كتابي «الفداء في الاسلام» فقلت :

«لقد حدث في اثناء غزوة الاحزاب ان غدر يهود بني قريظة بالرسول والمسلمين ، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي ، وانضموا الى المشركين في وقت شديد عصيب ، وشاءت عناية الله أن تحقق حملة الأحزاب ، وتوجه الرسول بعدها الى تأديب الغدرة الفجرة من بني قريظة ، وتمكن منهم بعد حصار طال وامتد ، وطلب هؤلاء من الرسول ان يبعث اليهم بالصحابي أبي لبابة ، وكان حليفا لهم في الجاهلية ، وكان له بينهم مال وعقار ، فحسبوا أنه سيكون سبب تخفيف عنهم ، ولما وصلهم أبو لبابة أخذوا يسألونه : أيسلمون وينزلون على حكم النبي؟. فقال لهم : نعم.

ثم بدرت منه بادرة غير مقصودة ، فأشار بيده الى حلقه اشارة يفهم منها أن مصيرهم هو القتل ، ولعله كان قد عرف ذلك من الرسول أو استنتجه ، وهو قصاص عادل من غير شك.

وما كاد أبو لبابة رضي الله عنه يأتي بهذه الاشارة حتى تنبه لنفسه في خوف وجزع ، وأحس وكأنه خان أمانة الله ورسوله ، في هذه الاشارة ، لأنه كشف شيئا كان يجب عليه ـ ولو في اعتقاده ـ أن يخفيه ، فعصره الألم والحزن ، وقال : «فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت اني خنت الله ورسوله».

٢٨

وظهر الندم على وجهه ، فقال له بعض اليهود : ما لك يا أبا لبابة؟

فأجاب : لقد خنت الله ورسوله. وعاد مسرعا الى المدينة ، والدموع تسيل من عينيه ، وما زال مسرعا في مشيته حتى دخل المسجد ، وربط نفسه في أحد أعمدته بسلسلة ثقيلة ، وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت ، أو يتوب الله عليّ مما صنعت. وأخذ على نفسه العهد الوثيق ألا يدخل أرض بني قريظة ما دام حيا ، مع أنه قد كان له فيها مال وعقار.

وبلغت القصة مسمع النبي صلوات الله وسلامه عليه ، فقال : أما لو جاءني لاستغفرت له ، وأما اذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه حتى يتوب الله عليه ، وجاء الوحي من عند الله ـ عزوجل ـ مؤدبا ومعلما ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١).

وظل أبو لبابة مربوطا في عمود المسجد عشرين يوما ، لا تفك قيوده الا لأداء الصلاة ، ثم يعود الى القيد من جديد ، حتى نزلت مغفرة الله تعالى له على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقبل جبريل يخبر الرسول بأن الله جل جلاله قد تاب على أبي لبابة بعد هذا الندم ، وبعد هذا التطهير ، وجاء قوله عز من قائل : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ، خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ، عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢).

وانتهت البشرى الى مسامع أبي لبابة ، فطار لها فرحا ، وسعد بها

__________________

(١) سورة الانفال ، الآية ٢٧.

(٢) سورة التوبة ، الآية ١٠٢.

٢٩

كثيرا ، ولكنه ظل في قيده كما هو ، وأراد بعض الصحابة أن يفكه من القيد فأبى ذلك ، وقال : والله لا يفكني من قيدي الا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكأنه كان يريد بذلك أن يوثق توبته ، وأن يكون فك الرسول لقيده تأكيدا لغفران الله له وعفوه عنه.

ومحيت الهفوة من سجل أبي لبابة ، بفضل الله ورحمته ، وواصل حياته مجاهدا مستقيما على الطريق ، وفيا بعهده ، لا يخون ولا يهون» (١).

وهذه كلمة لموقظ الشرق السيد جمال الدين الافعاني يصور بها أهمية الأمانة وضرورتها للأمم ، يقول فيها :

«من المعلوم الجلي أن بقاء النوع الانساني قائم بالمعاملات والمفاوضات في منافع الأعمال ، وروح المعاملة والمعاوضة انما هي الامانة ، فان فسدت الامانة بين المتعاملين بطلت صلات المعاملة ، وانبترت حبال المعاوضة ، فاختل نظام المعيشة ، وأفضى ذلك بنوع الانسان الى الفناء العاجل.

ثم من البيّن ان الأمم في رفاهتها ، والشعوب في راحتها وانتظام أمر معيشتها ، محتاجة الى الحكومة بأي أنواعها : اما جمهورية أو ملكية مشروطة ، أو ملكية مقيدة ، والحكومة في أي صورها لا تقوم الا برجال يلون ضروبا من الأعمال ، فمنهم حراس على حدود المملكة يحمونها من عدوان الاجانب عليها ، ويدافعون الوالج في ثغورها ، وحفظة في داخل البلاد يأخذون على أيدي السفهاء ممن يهتك ستر الحياء ، ويميل الى الاعتداء من فتك أو سلب أو نحوهما ، ومنهم حملة الشرع وعرفاء القانون ، يجلسون على منصات الأحكام لفصل الخصومات ، والحكم في المنازعات.

__________________

(١) كتاب «الفداء في الاسلام» ، ص ٥٥ ـ الطبعة الاولى.

٣٠

ومنهم أهل جباية الأموال ، يحصلون من الرعايا ما فرضت عليهم الحكومة من خراج ، مع مراعاة قانونها في ذلك ، ثم يستحفظون ما يحصلون في خزائن المملكة ، وهي خزائن الرعايا في الحقيقة ، وان كانت مفاتيحها بأيدي خزنتها. ومنهم من يتولى صرف هذه الأموال في المنافع العامة للرعية ، مع مراعاة الاقتصاد والحكمة ، كانشاء المدارس والمكاتب ، وتمهيد الطرق وبناء القناطر واقامة الجسور واعداد المستشفيات ، ويؤدي أرزاق سائر العاملين في شؤون الحكومة ، من الحراس والحفظة وقضاة العدل وغيرهم ، حسبما عين لهم.

وهذه الطبقات من رجال الحكومة ، الوالين على أعمالها ، انما تؤدي كل طبقة منها عملها المنوط بها بحكم الأمانة ، فان خزيت أمانة أولئك الرجال ـ وهم أركان الدولة ـ سقط بناء السلطة ، وسلب الأمن ، وراحت الراحة من بين الرعايا كافة ، وضاعت حقوق المحكومين ، وفشا فيهم القتل والتناهب ، ووعرت طرق التجارة ، وتفتحت عليهم أبواب الفقر والفاقة ، وخوت خزائن الحكومة ، وعميت على الدولة سبل النجاح ، فان ضربها أمر سدت عليها نوافذ النجاة.

ولا ريب أن قوما يساسون بحكومة خائنة اما أن ينقرضوا بالفساد ، واما أن يأخذهم جبروت أمة أجنبية عنهم ، يسومونهم خسفا ، ويستبدون فيهم عسفا ، فيذوقون من مرارة العبودية ما هو أشد من مرارة الانقراض والزوال.

ومن الظاهر ان استعلاء قوم على آخرين ، انما يكون اتحاد آحاد العاملين ، والتئام بعضهم ببعض ، حتى يكون كل منهم لبنية قومه كالعضو للبدن ، ولن يكون هذا الاتحاد حتى تكون الأمانة قد ملكت قيادهم ، وعست بالحكم أفرادهم.

٣١

فقد كشف الحق أن الأمانة دعامة بقاء الانسان ، ومستقر أساس الحكومات ، وباسط ظلال الأمن والراحة ، ورافع أبنية العز والسلطان ، وروح العدالة وجسدها ، ولا يكون شيء من ذلك بدونها.

واليك الاختيار في فرض أمة عطلت نفوسها من حلية هذه الخلة الجليلة ، فلا تجد فيها الا آفات جائحة ، ورزايا قاتلة ، وبلايا مهلكة ، وفقرا معوزا ، وذلا معجزا ، ثم لا تلبث بعد هذا كله أن تبتلعها بلاليع العدم ، وتلتهمها أمهات اللهم».

يا مصدر التوفيق ، يا خير رفيق ، يا رب العباد ، هبنا فضيلة الأمانة ، وجنّبنا رذيلة الخيانة ، فانك الرؤوف الرحيم.

٣٢

المحبة

المحبة كما يقول الأئمة هي ارادة ما تراه أو تظنه خيرا ، واللغة تقول : حببت فلانا ، بمعنى أصبت حبة قلبه ، وتقول : أحببت فلانا ، بمعنى جعلت قلبي معرضا لحبه ، وللمحبة أنواع بين الناس ، فهناك محبة اللذة ، كمحبة الرجل للمرأة ، ومحبة الانسان للطعام ، ومن ذلك قول القرآن الكريم : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (١). وهناك محبة للنفع ، كمحبة الانسان للشيء الذي ينتفع به ، ومن ذلك قول الله تعالى : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها ، نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) (٢). وهناك محبة للفضل ، كمحبة اهل الايمان بعضهم لبعض.

وقد تفسّر المحبة بالارادة في نحو قوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (٣). فكلمة «يحبون» هنا معناها يريدون ، ولكن بعض المحققين يرى أن المحبة أبلغ من الارادة ، فكل محبة ارادة ، وليس كل ارادة محبة.

وعند ما تتردد كلمة «المحبة» بين الناس يفهم منها أكثرهم معنى

__________________

(١) سورة الانسان ، الآية ٨.

(٢) سورة الصف ، الآية ١٣.

(٣) سورة التوبة ، الآية ١٠٨.

٣٣

التجاذب الحسي أو الميل الجنسي الذي يقع بين الرجل والمرأة ، وهذا المعنى ليس هو المراد الأساسي في مجالنا هذا ، وان كان المعنى اللغوي العام لكلمة «المحبة» يشمله ، ولكن المراد بالمحبة هنا هو تلك الصفة النبيلة ، والفضيلة الجليلة ، التي تدفع صاحبها على الدوام الى محبة كلّ جميل ، والميل الى كل كريم وقويم من الأشياء والأحياء ، والقرآن الكريم يشير الى هذا الميل الطهور السامي عند أهل المحبة حينما يقول مثلا : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا). ويقول : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) (١). ويقول : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

ومن الواضح أن عامة الناس لا يحبون على هذا الوجه الجميل الرائع من المحبة ، وهناك كثيرون لا يبلغون هذا المستوى الرفيع من صفات الخير ، بل يظلون هناك في الدرك الأسفل من منازل الحب ، وفي أمثال هؤلاء يقول القرآن الكريم : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) (٢). ويقول : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (٣). ويقول : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٤). ويقول : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٥).

__________________

(١) سورة الحشر ، الآية ٩.

(٢) سورة الانسان الآية ٢٧.

(٣) سورة البقرة ، الآية ١٦٥.

(٤) سورة ابراهيم ، الآية ٣.

(٥) سورة فصلت ، الآية ١٧.

٣٤

وهناك أشياء يحبها الناس ، ولا يعاب عليهم أن يتناولوها في اعتدال واستقامة ، وبطريق سليم شريف ، ولكن منهم من ينحرف في حبها ، فلا يسلم من المؤاخذة والحساب ، والى هذه الأشياء يشير القرآن الكريم في قوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (١).

و «المحبة» التي تعد خلقا من أخلاق القرآن المجيد هي تلك الصفة الكريمة التي تجعل صاحبها متفتح القلب والعقل لتمجيد ما يستحق التمجيد ، وتأييد ما يستحق التأييد ، وفي قمة درجات هذه الصفة تأتي محبة الله تعالى ، ثم محبة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم محبة المؤمنين المستقيمين من عباده ، ثم محبة كل ما هو جميل طهور ، ولذلك يقول الحديث الشريف : «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الايمان : أن يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه الا الله ، وأن يكره أن يعود الى الكفر كما يكره أن يقذف في النار».

وانما تستقيم هذه المحبة اذا كانت بغير غرض أو مرض ، وكانت خالصة لوجه الله عزوجل ، لأن ما كان لله دام واتصل ، وما كان لغير الله انقطع وانفصل ، ومن هنا نفهم قول الرسول : «من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله ، فقد استكمل الايمان». وقوله : «أفضل الأعمال الحب في الله ، والبغض في الله». أي يجعل حبّه للشيء متفقا مع رضا الله تعالى عن ذلك الشيء ، ويبغض الشيء الذي يبغضه الله سبحانه ولا يحبه.

* * *

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٤.

٣٥

والتحلي الكامل بصفة «المحبة» الصادقة على الوجه الذي تقدم لا يتحقق للانسان الا بتوفيق من الله وعون ، ولقد سئل معروف الكرخي عن المحبة ، فقال : «المحبة ليست من تعليم الخلق ، انما هي من مواهب الحق وفضله» ، ولعلنا نزداد ايمانا بهذا حين نتذكر الحديث القائل : «الأرواح جنود مجنّدة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف». كما أن نيل المرء محبة الناس على وجهها السليم يحتاج الى مثل هذا العون ، فان الله تعالى يقول لموسى عليه‌السلام : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ، وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (١). فالله هو الذي ألقى المحبة على موسى عليه‌السلام.

ومحبة الله تعالى لعباده هي كنز الكنوز ، والقرآن يشير الى هذه المحبة في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ، يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ، ذلِكَ فَضْلُ اللهِ ، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢).

ومحبة الله تعالى لعبده هي رضاه عنه ، وانعامه عليه ، ومحبة العبد لله هي طلب الزلفى اليه ، وقصر العبادة عليه ، مع دوام حمده وشكره وتمجيده.

ولقد عرض علينا كتاب الله صفات أولئك الذين يحبهم ربهم ، فاذا هم يتحلون بمكارم الأخلاق ومحامد الصفات ، من الاحسان ، والتوبة ، والتطهر ، والتقوى ، والصبر ، والتوكل ، والعدل ، والجهاد ، ولذلك جاءت في كتاب ربنا جل جلاله هذه الآيات : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ،

__________________

(١) سورة طه ، الآية ٣٩.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٥٤.

٣٦

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ، (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ، (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ).

* * *

ولقد توسع الصوفية في الحديث عن فضيلة «المحبة». وقالوا فيها كثيرا من الكلمات النوابغ ، وعنوا عناية خاصة بمحبة الانسان لربه ، فهذا ذو النون يسأله سائل عن المحبة ، فيقول : «المحبة أن تحب ما أحب الله ، وتبغض ما أبغض الله ، وتفعل الخير كله ، وترفض كل ما يشغل عن الله ، وأ لا تخاف في الله لومة لائم ، مع العطف للمؤمنين ، والغلظة على الكافرين ، واتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدين». ويقول محمد بن علي الترمذي : «حقيقة حب الله دوام الانس بذكره». ويقول رويم البغدادي : «المحبة هي الموافقة في جميع الأحوال» ، وأنشد :

ولو قلت لي : مت ، متّ سمعا وطاعة

وقلت لداعي الموت : أهلا ومرحبا

ويقول حاتم الأصم : «من ادعى حب الله من غير ورع عن محارمه فهو كذاب». ولقد يتوسع بعض اقطاب الصوفية في تصوير حبهم لله ، وانشغالهم به ، وفنائهم في رحابه ، ويصوّرون ذلك نثرا وشعرا ، ومن المنسوب الى الامام الدسوقي قوله :

اذا لم يكن معنى جلالك لي يروى

فلا مهجتي تشفى ، ولا كبدي تروى

٣٧

نظرت فلم أنظر سواك أحبه

ولولاك ما طاب الهوى للذي يهوى

ولما حلا لي الذكر في خلوة الرضا

وغيبت ، قال الناس : ضلت بك الأهوا

لعمرك ما ضل المحب وما غوى

ولكنهم لما عموا أخطأوا الفتوى

خلعت عذاري في هواك ، ومن يكن

خليع عذار في الهوى : سرّه نجوى

ومزقت أثواب الوقار تولها

عليك ، وطابت في محبتك الدعوى

فما في الهوى شكوى ، ولو فرق الحشا

وعار على العشاق في حبك الشكوى

وما علموا للحب داء سوى الهوى

وعندي أسباب الهوى كلها أدوا

وقد كنت من خوف الهوى أتقي الهوى

ولكن اذا اشتد الهوى كانت التقوى

ومحبة العبد لربه تعالى تستوجب رضا العبد بكل ما يأتيه عن الله جل جلاله ، ولو كان ابتلاء او اختبارا او تمحيصا ، لأنه القائل : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (١). ولذلك يقول عمر بن عثمان المكي : «اعلم أن المحبة

__________________

(١) سورة البقرة ، الآيات ١٥٥ و ١٥٦ و ١٥٧.

٣٨

داخلة في الرضا ، ولا محبة الا بالرضا ، ولا رضا الا بمحبة ، لأنك لا نحب الا ما رضيت وارتضيت ، ولا ترضى الا ما أحببت».

واذا أحبّ الله عبدا من عباده اتاه من ثمرات هذه المحبة ما يعظم شأنه ، ويجل قدره ، والحديث الصحيح الذي رواه مسلم يقول : «انّ الله اذا أحب عبدا دعا جبريل فقال : اني أحب فلانا فأحبّه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي في السماء ، فيقول : ان الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ، واذا أبغض الله عبدا ، دعا جبريل فيقول : اني أبغض فلانا فأبغضه ، فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : ان الله يبغض فلانا فأبغضوه ، فيبغضونه ، ثم توضع له البغضاء في الأرض».

* * *

ومحبة الانسان لربه ـ وهي أسمى ألوان المحبة من الانسان ـ تهيىء كذلك لمحبة الناس هذا الانسان المحب لله ، ولذلك يقول يحيى ابن معاذ : «على قدر حبك لله تعالى يحبك الخلق».

وبعد محبة الانسان لربه تعالى تأتي محبته لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والقرآن يشير الى ذلك في قوله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١). ومن وراء محبة الله ورسوله تتسلسل ألوان من المحبة الدينية السامية ، كمحبة ما عند الله في الآخرة ، وكمحبة التقوى ، والاستعداد بالزاد للقاء الله عزوجل ، وكأن سهل بن عبد الله كان يشير الى مثل هذا حين قال : «علامة حب الله حب القرآن ، وعلامة حب القرآن حب النبي

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٣١.

٣٩

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلامة حب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حب السنة ، وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي وحب السنة حب الآخرة ، وعلامة حب الآخرة أن يحب نفسه ، وعلامة حب نفسه أن يبغض الدنيا ، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها الا الزاد والبلغة». أي ما يتبلغ به ويتوصل به الى الشيء المطلوب. ولقد روى أبو الدرداء عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ، قال : «على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس» ، رواه الترمذي.

وبعد محبة الانسان لربه وكتابه ورسوله ولقائه وطاعته ، تأتي محبته لأولياء الله الصالحين المصلحين ، الذين قال فيهم رب العالمين : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١). والصدق في محبة اولياء الله العالمين العاملين ، الصالحين المصلحين ، ينهض دليلا على محبة الله تعالى ، ولذلك قال شاه الكرماني : «محبة اولياء الله تعالى دليل على محبة الله عزوجل». والحديث القدسي يقول : «من آذى لي وليا فقد استحل محاربتي ، وما تقرب اليّ عبدي بمثل اداء الفرائض ، وما يزال عبدي يتقرب اليّ بالنوافل حتى أحبه ، فاذا أحببته كنت عينه التي يبصر بها ، وأذنه التي يسمع بها ، ورجله التي يمشي بها ، وفؤاده الذي يعقل به ، ولسانه الذي يتكلم به ، ان سألني أعطيته ، وان دعاني أجبته ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن وفاته ، لأنه يكره الموت وأنا أكره مساءته». رواه أحمد.

__________________

(١) سورة يونس ، الآيات ٦٢ و ٦٣ و ٦٤.

٤٠