موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٢

ولا يليق بالمؤمن ان يتوب من ذنب ، ويظل قائما على ارتكاب ذنب آخر ، واذا كان هناك من يقول بجواز التوبة من ذنب مع وجود سواه ، فان شأن المؤمن ان يبتعد عن كل الخطايا ، ويتوب منها كلها ، ولذلك كان سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في توبته مرشدا ومعلما : «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي ، واسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي جدي وهزلي ، وخطئي وعمدي ، وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت الهي ، لا اله الا أنت».

وقد تحدث الامام الغزالي عما ينبغي أن يبادر اليه التائب ان وقع منه ذنب بقصد ، أو بحكم الاتفاق ، فذكر انه يجب عليه أن يبادر بالتوبة والندم والتكفير عن الذنب بحسنة مضادة له ، فان لم تساعده نفسه على العزم على الترك ، لغلبة الشهوة ، فقد عجز عن أحد الواجبين ، فلا يليق به أن يترك الواجب الثاني ، وهو أن يدرأ بالحسنة السيئة

ليمحوها ، فيكون ممن خلط عملا صالحا وآخر سيئا. والحسنات المكفرة للسيئات تكون بالقلب أو باللسان أو بالجوارح ، فالتكفير بالقلب يكون بالتضرع الى الله تعالى في سؤال العفو والمغفرة ، وكذلك يضمر بقلبه الخير للمسلمين والعزم على الطاعات.

والتكفير باللسان يكون بالاعتراف بالخطأ والاستغفار فيقول : رب ، ظلمت نفسي وعملت سوءا ، فاغفر لي ذنوبي ، وكذلك يكثر من ألوان الاستغفار.

والتكفير بالجوارح يكون بعمل الطاعات ، واخراج الصدقات ، واداء أنواع العبادات.

٦١

ولقد جاء في بعض الآثار ما يدل على أن الذنب اذا أتبعه صاحبه بثمانية أعمال كان العفو عنه مرجوا ، وأربعة من هذه الثمانية تكون بالقلب ، وهي التوبة أو العزم على التوبة ، وحب الاقلاع عن الذنب ، والخوف من العقاب عليه ، ورجاء المغفرة له. والأربعة الباقية تكون بالجوارح ، وهي أن يصلي عقيب الذنب ركعتين ، ثم يستغفر الله بعدها سبعين مرة ، ويقول : «سبحان الله العظيم وبحمده» مائة مرة ، ثم يتصدق بصدقة ، ثم يصوم يوما.

* * *

والناس فيما يتعلق بموقفهم من التوبة طبقات ، فالطبقة العليا هي أن يتوب الانسان ، ويستقيم على التوبة الى آخر عمره ، فهذا هو السابق بالخيرات ، وهو صاحب التوبة النصوح ، وهو صاحب النفس المطمئنة التي ترجع الى ربها راضية مرضية ، والطبقة التي بعدها هي أن يتوب الانسان ، ويستقيم في عمل أمهات الطاعات ، ولكنه قد يقع في بعض الذنوب ، فيندم ويأسف ، ويلوم نفسه على ذلك ، وهذا هو صاحب النفس اللوامة ، والطبقة الثالثة هي أن يتوب الانسان ، ويستمر على الاستقامة مدة ، ثم يغلب عليه هواه ، فيدعوه الى بعض الذنوب من حين الى حين ، وان كان مؤديا للطاعات ، وهذا هو صاحب النفس السوّالة التي تسوّل لصاحبها عمل المعاصي ، والطبقة الرابعة هي أن يتوب الانسان مدة ، ثم يعود وينهمك في المعاصي ، وهذا هو صاحب النفس الأمارة بالسوء ، وهذه الطبقة هي شر الطبقات الأربع ، وقد توسع الغزالي في الحديث عن كل طبقة من هذه الطبقات.

والتوبة اذا تحققت على وجهها كان ثوابها عظيما جليلا ، وحسبنا أن نجد القرآن الكريم يقول في سورة القصص : (فَأَمَّا مَنْ تابَ

٦٢

وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) (١). ويقول في سورة النور : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢). ونحن نرى أن الآية قد علقت الفلاح على التوبة ، وقالت «لعلكم» للاشعار بأن المؤمنين اذا تابوا كانوا على رجاء الفلاح ، فلا يرجو الفلاح الا التائبون.

وكذلك نرى من ثمرات التوبة تبديل السيئات الى حسنات ، والقرآن الكريم يقول في سورة الفرقان : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٣). ويروى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرح بنزول هذه الآية فرحا شديدا ، والآية تفيد أن الله يبدل قبائح أعمال التائبين الى محاسن ، فيبدلهم بالكذب صدقا ، وبالخيانة أمانة. وقال سعيد بن المسيب : «هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة. فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة».

وكذلك يحدثنا القرآن الكريم في سورة مريم بأن من ثمرات التوبة المقرونة بالعمل الصالح ، الفوز بدخول الجنة ، فيقول : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (٤).

أما بعد ، فما أجدر كل مؤمن بأن يردد الاستغفار الوارد ، والمسمى «سيد الاستغفار» الذي يقول «اللهم أنت ربي ، لا اله الا أنت ، خلقتني ، وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ، ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك عليّ ، وأبوء بذنبي ، فاغفر لي ، انه لا يغفر الذنوب الا أنت». اللهم آمين.

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٦٧.

(٢) سورة النور ، الآية ٣١.

(٣) سورة الفرقان ، الآية ٧٠.

(٤) سورة مريم ، الآية ٦٠.

٦٣

كظم الغيظ

«كظم الغيظ» خلق قرآني جعله الله تبارك وتعالى من صفات المتقين. فقال في سورة آل عمران (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ، وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ، وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

ومادة «الكظم» تدل في أصلها اللغوي على الامساك والجمع للشيء ، والكظم هو اجتراع الغيظ والامساك عن ابدائه ، وكأنه يجمعه الكاظم في جوفه. والكظم أيضا مخرج النفس ـ بفتح الفاء ـ ويقال : كظم البعير ، اذا ترك الاجترار ، ويقال : كظمه الغيظ ، اذا أخذ بنفسه ، فهو كظيم ومكظوم.

وقد جاء في سورة النحل قوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) الآية ٥٨. وفي سورة يوسف : (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) الآية ٨٤. وفي سورة غافر : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) الآية ١٨. وفي سورة الزخرف : (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) الآية ١٧. وفي سورة القلم : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) الآية ٤٨.

* * *

٦٤

و «الغيظ» صفة تدل على تغير في المخلوق عند احتداده يتحرك لها ، وفي الحديث جاءت كلمة : «غيظ جارتها» ، لأنها ترى من حسنها ما يغيظها ويهيج حسدها. ولقد قال الاستاذ الامام محمد عبده عن الغيظ : «الغيظ ألم يعرض للنفس اذا هضم حق من حقوقها المادية ، كالمال ، او المعنوية كالشرف ، فيزعجها الى التشفي والانتقام ، ومن أجاب داعي الغيظ الى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال ، ولا يكتفي بالحق ، بل يتجاوزه الى البغي ، فلذلك كان من التقوى كظمه».

وقد وردت مادة «الغيظ» في آيات من القرآن الكريم ، ففي سورة آل عمران : (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الآية ١١٩. وفي سورة التوبة : (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) الآية ١٥. وفيها أيضا : (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) الآية ١٢٠. وفي سورة الاحزاب : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) الآية ٢٥ ... الخ.

و «كظم الغيظ» هو تجرعه واحتمال سببه والصبر عليه ، وفي الحديث : «اذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع». اي فليحبسه ما أمكنه ، وقد قال المفسرون في قوله تعالى عن المتقين : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) (١) انهم الذين اذا ثار بهم الغيظ ـ وهو أشد الغضب ـ كظموه وكتموه ، ولم يستجيبوا لداعيه ، ولا يعملون غضبهم في الناس ، بل يكفون عنهم شرهم ، ويحتسبون ذلك عند الله عزوجل.

ولشيخ المفسرين الامام ابن جرير الطبري عبارة في التعليق على كلمة (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) ، يقول فيها ما نصه : «قوله : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) يعني والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه ، يقال منه :

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٣٤.

٦٥

كظم فلان غيظه اذا تجرعه ، فحفظ نفسه من ان تمضي ما هي قادرة على امضائه باستمكانها ممن غاظها ، وانتصارها ممن ظلمها.

وأصل ذلك من كظم القربة ، يقال منه : كظمت القربة اذا ملأتها ماء. وفلان كظيم ومكظوم اذا كان ممتلئا غما وحزنا ، ومنه قول الله عزوجل : (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) يعني ممتلىء من الحزن ، ومنه قيل لمجاري المياه : الكظائم ، لامتلائها بالماء ، ومنه قيل : أخذت بكظمه ، يعني بمجاري نفسه ، والغيظ مصدر من قول القائل : غاظني فلان فهو يغيظني غيظا ، وذلك اذا أحفظه وأغضبه. أه.

* * *

وكظم الغيظ يحتاج الى ارادة صلبة ، وعزيمة قوية ، وشخصية تتحكم في عواطفها ومشاعرها وانفعالاتها ، فلا يستبد بها الغضب ، ولا يسيطر عليها الهوى الجامح ، فيدفعها الى الانتقام والتشفي ، أو الى ارتكاب ما لا يحسن بالرجل الحكيم الوقور.

ولذلك قال سيد الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه : «ليس الشديد بالصّرعة : انما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب». وفي رواية انه قال : ما تعدون الصرعة فيكم؟. قالوا : الذي لا يصرعه الرجال. قال : ليس بذلك ، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب.

ولقد عنيت السنة المطهرة عناية واضحة بفضيلة كظم الغيظ ، فجاءت فيها مجموعة من الأحاديث الشريفة التي تنوه بمكانة هذا الخلق الاسلامي القرآني ، فجاء في الحديث : «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه ، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق ، حتى يخيّره من أي الحور العين شاء». وجاء فيه : «من كظم غيظا ـ ولو شاء أن يمضيه لامضاه ـ ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا».

٦٦

وتشير السنة الى ما تتطلبه فضيلة كظم الغيظ من جهد ومعاناة ، ومغالبة للهوى والنفس ، فيقول الحديث الشريف : «ما جرع عبد جرعة أعظم أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله تعالى».

فالتعبير بكلمة «جرع» تفيد معنى المعاناة والمعالجة وحمل النفس على الشيء المتعب الذي يعقب خيرا ، كما يتجرع المريض الدواء المر ليورثه الشفاء والعافية. وهذا هو الأصفهاني يقول في كتابه «مفردات القرآن» عن مادة جرع : جرع الماء يجرع ، وقيل جرع وتجرعه اذا تكلف جرعه ، قال عزوجل : «يتجرعه ولا يكاد يسيغه».

وكأن احتياج كظم الغيظ الى الجهد والمشقة والمقاومة ، هو بعض السر في أن الله تبارك وتعالى قد جعل هذه الفضيلة من أخلاق اهل التقوى ، كما جاء في التنزيل المجيد : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ).

ولعل هذا هو السبب في أن السيدة عائشة رضي الله عنها كظمت غيظها ، حينما غاظها بعض من يخدمها ، وقالت : «لله در التقوى ما تركت الذي غيظ شفاء».

* * *

[العامل المفسد لكظم الغيظ]

والغضب هو العامل المفسد لكظم الغيظ. فمن استجاب لداعي الغضب لم يستطع ان يكظم غيظه ، ولذلك يروى أن رجلا رحل الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له : علّمني شيئا ، ولا تكثر علي لعلي أعيه. فقال له : لا تغضب ، فكرر الرجل قوله مرارا ، وفي كل مرة يقول له النبي : لا تغضب.

وفي بعض الروايات أن هذا الرجل يسمى «جارية بن قدامة»

٦٧

وانه قال للنبي : أوصني ولا تكثر عليّ في الوصية لعلي أحفظها ، فقال : لا تغضب ، فأعاد الرجل السؤال فأعاد النبي الجواب.

وقد كرم الرسول صلوات الله وسلامه عليه أولئك الذين ينأون بأنفسهم عن الاستجابة للغضب الطائش الجامح ، فقال : أشدكم من ملك نفسه عند الغضب ، وأحلمكم من عفا عند القدرة. وقال : «من كفّ غضبه ستر الله عورته». وقال : «من ملك غضبه وقاه الله عذابه».

والعلماء يقولون ان الغضب هو فوران دم القلب لارادة الانتقام ، وهذا شيء كأن الانسان مجبول عليه ، ولا يستطيع التخلص منه بالكلية ، ولكن المأمول من الرجل صاحب الاخلاق الفاضلة أن يتجنب أولا أسباب الغضب ما استطاع الى ذلك سبيلا ، وأن لا يطيع الشيطان فيما يوسوس له من الاستجابة لداعي الغضب ، فلا يتهور ولا يتجبر ولا يندفع. وهذا خلق من أخلاق الأنبياء ، لأن الحلم شيمة من شيمهم الأساسية ، والحليم لا يرتضي لنفسه التهور أو الاندفاع عند ثوران الغضب ، ولقد قال الله تعالى عن نبيه يحيى : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) (١). وقال عكرمة في تفسير الحصور هنا : «انه السيد الذي لا يغلبه الغضب».

هذا وان كان المشهور عند جمهور المفسرين أن الحصور هو الذي لا يأتي النساء من العفة والاجتهاد في ازالة الشهوة. ولقد كان سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسّلام يعطي المثل الأعلى في كظم الغيظ ومقاومة الغضب. وكان يتحمل من أذى قومه ما يتحمل وهو كاظم غيظه ضابط نفسه ، ويقول في تواضع نبيل : «أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر».

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٣٩.

٦٨

ومن وراء سيدنا الرسول صلوات الله وسلامه عليه نجد أفرادا عرف الناس لهم كظم الغيظ ومقاومة الغضب وتحمل الأذى ، ومن هؤلاء : الأحنف بن قيس الذي كان يقول : «من لم يصبر على كلمة سمع كلمات ، وربّ غيظ قد تجرعته مخافة ما هو أشد منه».

ولقد كتب الامام علي رضي الله عنه الى الحارث الهمذاني فقال له فيما قال ، وهو يوصيه بمكارم الخصال ومحامد الفعال : «واكظم الغيظ ، وتجاوز عند المقدرة واحلم عند الغضب ، واصفح مع الدولة (أي السلطة والقدرة) تكن لك العاقبة».

وهذا النص يدلنا على أن كظم الغيظ انما يجمل ويحسن اذا كان من الأعلى بالنسبة الى الأدنى ، ومن القادر بالنسبة الى العاجز ، ومن القوي بالنسبة الى الضعيف ، ومن الحاكم بالنسبة الى المحكوم ، ومن الرئيس بالنسبة الى المرؤوس ، وهكذا.

ولذلك كان أحق الناس بالاتصاف بفضيلة كظم الغيظ : الحكام والرؤساء والقادة ، والمعلمون والكبار ومن على شاكلتهم ، وفي هذا المجال تتذكر ما روي ان مملوكا لموسى بن جعفر رضي الله عنه قدّم اليه صحفة فيها طعام حار ، فتعجل في تقديمه ، فوقع الطعام على موسى ، فغضب ، فقال له الغلام : والكاظمين الغيظ. فقال موسى : قد كظمت غيظي. فقال الغلام : والعافين عن الناس. فقال موسى : قد عفوت عنك. فقال الغلام : والله يحب المحسنين. فقال موسى : اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى.

* * *

ولقد تحدث حجة الاسلام الغزالي عن آثار الغضب عند العجز عن كظم الغيظ فقال : «ومن آثار هذا الغضب في الظاهر. تغير اللون ،

٦٩

وشدة الرعدة في الأطراف ، وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام ، واضطراب الحركة والكلام ، حتى يظهر الزبد على الاشداق ، وتحمر الأحداق ، وتنقلب المناخر ، وتستحيل الخلقة.

ولو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته ، لسكّن غضبه حياء من قبح صورته ، واستحالة خلقته ، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره ، فان الظاهر عنوان الباطن ، وانما قبحت صورة الباطن اولا ، ثم انتشر قبحها الى الظاهر ثانيا ، فتغير الظاهر ثمرة تغير الباطن ، فقس الثمرة بالمثمرة ، فهذا أثره في الجسد.

وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحي منه ذو العقل ، ويستحي منه قائله عند فتور الغضب ، وذلك مع تخبط النظم واضطراب اللفظ.

وأما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن من غير مبالاة ، فان هرب منه المغضوب عليه ، أو فاته بسبب ، وعجز عن التشفي ، رجع الغضب على صاحبه ، فمزق ثوب نفسه ، ولطم نفسه ، وقد يضرب بيده على الأرض ، ويعدو عدو الواله السكران والمدهوش المتحير ، وربما يسقط صريعا ، لا يطيق العدو والنهوض بسبب شدة الغضب ، ويعتريه مثل الغشية ، وربما يضرب الجمادات والحيوانات ، فيضرب القصعة مثلا على الأرض ، وقد يكسر المائدة اذا غضب عليها ، ويتعاطى أفعال المجانين ، فيشتم البهيمة والجمادات ويخاطبها» أه.

* * *

وقد أرشدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى وسائل تتقي بها عواقب الغضب السيئة ، وتؤدي بنا الى التحلي بحلية كظم الغيظ ،

٧٠

والوسيلة الأولى تتمثل في قول الرسول : «اذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فان ذهب عنه الغضب فليضطجع».

والوسيلة الثانية تتمثل في قوله : «ان الغضب من الشيطان» ، أي من أثر وسوسته ، وان الشيطان خلق من النار ، وانما تطفأ النار بالماء ، فاذا غضب فليتوضأ».

والوسيلة الثالثة تتمثل في الحديث الذي يقول ان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه رأى رجلا غاضبا ثائرا ، فقال : «اني لاعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».

وينبغي ان نتذكر ان الغضب قد يكون محمودا في بعض الاحيان ، وقد اشار الغزالي الى هذا حين قال : «وانما المحمود غضب ينتظر اشارة العقل والدين ، فينبعث حيث تجب الحميّة ، وينطفىء حيث يحسن العلم ، وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده ، وهو الوسط الذي وصفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : (خير الامور اوساطها).

فمن مال غضبه الى الفتور ، حتى احسّ من نفسه بضعف الغيرة وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله ، فينبغي ان يعالج نفسه حتى يقوى غضبه ، ومن مال غضبه الى الافراط حتى جرّه الى التهور واقتحام الفواحش ، فينبغي ان يعالج نفسه لينقص من سورة الغضب ، ويقف على الوسط الحق بين الطرفين فهو الصراط المستقيم».

نسأل الله تبارك وتعالى ان يجملنا بخلق الاستقامة على سواء السبيل.

٧١

الفتوة

كلمة «الفتوة» في الأصل تفيد معنى الشباب والحداثة ، والشاب الحديث السن يسمى «فتى». ولكن كلمة «الفتوة» كسبت في الاستعمال معاني أخلاقية كثيرة ، فجاء في القاموس أن الفتوة هي الكرم ، وأن الفتى هو السخي الكريم ، وجاء في «أساس البلاغة» أن الفتوة هي الحرية والكرم ، كما جاء في المعاجم غير هذه المعاني ، ونستطيع أن نقول ان كلمة «الفتوة» توحي في مدلولها العام بمعنى القوة الحسية والقوة النفسية.

وقد توسع بعض علماء الأخلاق في الاسلام ، في تصور المراد من فضيلة «الفتوة» ، فذكروا أنها هي التي يعبّر عنها بكلمة «مكارم الأخلاق» ، وجمعوا بينها وبين الحديث الشريف القائل : «ان الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق ، ومحاسن الافعال». ولعل هذا هو السر في أن الأخلاقيين قالوا في تعريف الفتوة انها استعمال الأخلاق الكريمة مع الناس ، وكف الأذى عنهم ، واحتمال الأذى منهم ، وقال الفضيل بن عياض : ان الفتوة هي الصفح عن عثرات الاخوان ، وقال الحارث المحاسبي : ان الفتوة أن تنصف غيرك ، ولا تنتصف من غيرك ، وقال الجنيد : الفتوة كف الأذى وبذل الندى ، وقال الهروي : نكتة الفتوة ألا تشهد لك فضلا ، ولا ترى لك حقا ، الى غير ذلك من التعريفات التي جالت بكلمة «الفتوة» في معان كثيرة من رياض المكارم والفضائل ،

٧٢

حيث ابانوا ان الفتوة تدعو الى نبل التصرف ، والترفع عن الصغائر ، والتصون من الدنايا ، والسماحة في المعاملة ، والتنزه عما يستحي منه الكريم ، حتى قال ابو حفص النيسابوري : «من يرى الفتيان ولا يستحي منهم في شمائله وأفعاله فهو فتى». ولا يراد بعدم الاستحياء هنا الجرأة او الوقاحة او قلة المبالاة بالذنب. وانما يراد به ان الانسان لا يرتكب أي شيء معيب يستحيي منه ، وعلى هذا الوجه فسر بعض العلماء حديث رسول الله عليه الصلاة والسّلام : «اذا لم تستح فاصنع ما شئت».

كما ان عدم الاستحياء ههنا لا يعني ضعفا او هوانا ، لان من اعلام الاخلاقيين من اخبرنا بشعره ان الفتوة ثبات واطمئنان ، وقوة عزيمة ، فقال :

ان الفتوة ما ينفك صاحبها

مقدما عند رب الناس والناس

ان الفتى من له الايثار تحلية

فحيث كان فمحمول على الراس

ما ان تزلزله الاهواء بقوتها

لكونه ثابتا كالراسخ الراسي

لا حزن يحكمه ، لا خوف يشغله

عن المكارم حال الحرب والباس

* * *

واذا كان العلماء قد فرقوا بين «الفتوة» و «المروءة» بان المروءة أعم من الفتوة ، وان الفتوة نوع خاص من المروءة تعد مروءة ، ولا تعد كل مروءة فتوة ، فان صاحب فضيلة الفتوة لا يصدق في تحليه بها الا

٧٣

اذا عبر اليها ميدان المروءة الواسع ، وهذا هو ابن القيم يقرر ان المروءة هي استعمال كل خلق حسن ، واجتناب كل خلق قبيح ، وحقيقتها تجنب الرذائل والدنايا من الاقوال والاخلاق والاعمال ، فمروءة اللسان حلاوته وطيبه ولينه واجتناء الثمار منه بسهولة ويسر ، ومروءة المال الاصابة يبذله في مواقعه المحمودة عقلا وعرفا وشرعا ، ومروءة الجاه أن يخدم به المحتاج اليه ، ومروءة الاحسان تعجيله وتيسيره.

واما مروءة الترك فترك الخصام والمماراة ، مع تغافل عن عثرات الناس ، والتوقير للكبير ، وحفظ حرمة النظير ، ورعاية حق الصغير.

ويرى ابن القيم أيضا ان المروءة لها ثلاث درجات ، فمروءة الانسان مع نفسه ان يحملها على ما يزين ، ويفصلها عما يشين ، في سره وجهره ، ومروءته مع الناس ان يحسن معاملتهم ، ويتجنب معهم ما لا يحب ان يعاملوه به ، ومروءته مع الله تعالى ان يستحيي من نظره اليه ومراقبته له. وفي ضوء هذا البيان يسهل علينا ان نعرف لماذا يقرر أهل التصوف أن الفتوة نتيجة وثمرة لحسن الخلق.

* * *

وهناك طائفة من الصوفية يتجه أهلها بالفتوة الى معنى محاربة النفس ومخاصمتها ، في سبيل ارضاء الله عزوجل ، ولعل هذا هو معنى قول محمد بن علي الترمذي : «الفتوة ان تكون خصما لربك على نفسك». حتى عبر بعضهم عن هذه النفس الامارة بالسوء بكلمة «الصنم» ، فقال ان الفتوة هي أن تكسر الصنم الذي بينك وبين ربك ، وهو نفسك ، ويذكر هذا البعض ان ابراهيم عليه‌السلام كان خليل الرحمن حين كسر الاصنام وجعلها جذاذا كما يقص القرآن الكريم ، وكأن

٧٤

هذا هو ما عناه بعضهم حين قال : ان الفتوة فضيلة تأتيها ، ولا ترى نفسك فيها.

* * *

ولقد ذكر القرآن الكريم مادة الفتوة في جملة مواطن. ولعل أقرب هذه المواطن الى خلق «الفتوة» هو ما ذكره الله تبارك وتعالى في سورة الكهف عن أهل الكهف ، حيث قال سبحانه : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً ، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً ، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (١).

وفي هذه الكلمات الالهية ذكر القرآن المجيد لهذه المجموعة الكريمة طائفة من الصفات ، فهم جماعة من الشبان آمنوا بالله عزوجل ، وقرنوا هذا الايمان بالعمل المتواصل ، فزادهم الله هداية وتوفيقا ، وثبتت قلوبهم على الحق ، فكأنها مربوطة به ، لا تفارقه ولا تخالفه ، وهم قد قاموا بالدعوة الى الصراط المستقيم ، عن طريق جهرهم بكلمة التوحيد وعقيدة الالوهية لرب السموات والارض ، مع عدم الاشراك به.

وقد أخبر القرآن الكريم قبل هذه الكلمات الالهية بأن هذه المجموعة قد هاجرت في سبيل عقيدتها ودينها ، وضحت بالمقام في دارها وبين أهلها ، وآثروا الحق على الباطل ، ورجوا من الله الرشاد والهداية ،

__________________

(١) سورة الكهف ، الآيتان ١٣ و ١٤.

٧٥

فقال : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) (١).

* * *

وقد يقال ان حديث القرآن المجيد عن مادة الفتوة لا يظهر فيه التصريح بمعنى المدح ، الا في سورة الكهف ، في الآيات السابقة ، ولكن هذا لا يمنع القول بأن المواطن التي جاء فيها ذكر مادة «الفتوة» في القرآن الكريم ، توحي بطريق الرمز أو الاشارة بأن الفتوة القويمة من شأنها ان تكون محمودة ، وفوق هذا لم يذكر القرآن مادة الفتوة في أي موطن يعيب. لقد جاء ذكر ابراهيم موصوفا بأنه فتى في قوله تعالى : (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) (٢). وابراهيم هو أبو الانبياء ، وخليل الرحمن عليه‌السلام.

وجاء في القرآن الكريم الترغيب في زواج الفتيات الموصوفات بأنهن مؤمنات ، فقال : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) (٣). والزواج سنة الاسلام ، والايمان عماد الدين.

وجاء في القرآن وصف يوشع بن نون تلميذ موسى أو خادمه بأنه فتى ، وذلك في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) ، وطلب العلم على يد الرسول شرف ، وكذلك العمل في خدمة الرسول شرف.

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية ١٠.

(٢) سورة الأنبياء ، الآية ٦٠.

(٣) سورة النساء ، الآية ٢٥.

٧٦

وجاء في القرآن ذكر النساء اللواتي يردن التحصن بأنهن «فتيات» ، في قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ، لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١). والتحصن ضد الرذيلة من مكارم الاخلاق وفضائل الخصال.

* * *

هذا ويقول علماء الاخلاق ان كمال الفتوة لا يكون الا للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستدلوا على ذلك بأن كل انسان يقول يوم القيامة : نفسي نفسي ، ولكن النبي وحده صلوات الله وسلامه عليه يقول : «أمتي ، أمتي».

ولم ير هؤلاء بأسا في أن يطلق على خاتم النبيين لقب «سيد الفتيان» بعد ان استأنسوا لذلك بأن ابراهيم قد ورد وصفه في القرآن الكريم بلقب «فتى».

ومن أروع الوصايا التي يؤدي التزامها الى التحلي بفضيلة «الفتوة» ما جاء منسوبا الى رسول الله عليه الصلاة والسّلام ، وفيه قوله : «أوصاني ربي بتسع أوصيكم بها : اوصاني بالاخلاص في السر والعلانية ، والعدل في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وان أعطي من حرمني ، وأصل من قطعني ، وأعفو عمن ظلمني ، وان يكون نطقي ذكرا ، وصمتي فكرا ، ونظري عبرا».

والكثير من أعلام الصوفية قد وصفتهم سيرهم بأنهم من أهل

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٣٣.

٧٧

الفتوة ، وكثير منهم قد تحدثوا عن معاني الفتوة ومقوماتها : وممن أكثروا الكلام في هذا الباب هؤلاء الاعلام : جعفر بن محمد ، والفضيل ابن عياض ، واحمد بن حنبل ، وسهل بن عبد الله التستري ، والجنيد ، وحاتم الاصم ، وغيرهم.

وخير الفتيان هو من يفقه الفتوة ، فيحسن تصويرها والتعبير عنها ، ثم يحسن التزامها والعمل بما يوائمها ، فهذا هو الامام جعفر بن محمد الصادق ، يسأله سائل عن الفتوة ، فيقول للسائل : ما تقول أنت؟. قال : ان اعطيت شكرت وان منعت صبرت ، فقال الامام : الكلاب عندنا كذلك ، فقال السائل ، يا بن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما الفتوة عندكم؟

قال : ان أعطينا آثرنا ، وان منعنا شكرنا.

وكذلك أقبل «عنوان البصري» على الامام جعفر الصادق ، وسأله مرة بعد مرة أن يوصيه فأوصاه بوصية تتضمن المثل الاعلى لاهل الفتوة ، قال : «أوصيك بتسعة اشياء ، فانها وصيتي لمن يريد الطريق الى الله تعالى ، والله أسأل ان يوفقك : ثلاثة في رياضة النفس ، وثلاثة في الحلم ، وثلاثة في العلم ، فأما اللواتي في الرياضة فاياك ان تأكل ما لا تشتهيه ، فانه يورث الحماقة والبله ، ولا تأكل الا عند الجوع ، واذا أكلت فكل حلالا ، فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه ، فان كان ولا بد فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه».

وأما اللواتي هن في الحلم ، فمن قال لك : ان قلت واحدة سمعت عشرا ، فقل له : ان قلت عشرا لم تسمع واحدة ، ومن شتمك فقل : ان كنت صادقا فاسأل الله أن يغفر لي ، وان كنت كاذبا فاسأل الله أن يغفر لك ، ومن توعدك فعده بالنصيحة والدعاء.

٧٨

واما اللواتي في العلم ، فاسأل العلماء ما جهلت ، واياك ان تسألهم تعنتا وتجربة ، واياك ان تعمل برأيك ، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد اليه سبيلا ، واهرب من الفتيا هربك من الاسد ، ولا تجعل رقبتك في الناس جسرا».

وكذلك قال الامام : «الفتى المؤمن اذا غضب لم يخرجه غضبه عن حق ، واذا رضي لم يدخله رضاه في باطل».

ولم يكتف الامام بالقول عن الفتوة وآدابها ، بل ضرب أمثلة في الفتوة تعز على طلاب المكارم ، فقد روى التاريخ أن رجلا كان على سفر ، وكان معه ألف دينار ، فأدركه النوم فنام ، فلما استيقظ لم يجد النقود معه ، ففزع ، ورأى على مقربة منه جعفر رضي الله عنه ، فتعلق به واتهمه بسرقة النقود ، فأخذه الامام الى داره ، وأعطاه الف دينار ، وبعد حين وجد الرجل نقوده ، فذهب الى جعفر معتذرا ، وقدم اليه ماله ، فرفض جعفر ان يأخذ المال وقال : «شيء أخرجته من يدي لا أسترده ابدا» ، وقد نوه بهذا الموقف الامام ابن القيم واثنى عليه.

٧٩

الحذر

أصل مادة «الحذر» يدل على التيقظ والتحرز والانتباه ، والرجل الحذور هو المتيقظ المتحرز ، وحذرون أي خائفون ، ولذلك قيل ان الحذر احتراز عن مخيف ، والانسان الذي يتحلى بفضيلة الحذر يكون صاحب خشية ، فهو يقدر لرجله قبل الخطو موضعها ، وهو لا يتكلم الا عن تفكير وبصيرة ، ولا يتصرف الا عن تدبر وحكمة ، وهو يحسب لكل أمر حسابه ، ويعد لكل نازلة عدتها ، فلا يؤخذ على غرة ، ولا يخدعه غيره بسهولة ، لان الرسول عليه الصلاة والسّلام يقول : «المؤمن كيس فطن». ويقول : «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» ، وهو يحذر أن يقف موقف المؤاخذة أو المعاقبة او المحاسبة ، ولذلك لا يرتكب ما يعتذر عنه ، ولا يقترب مما يعيبه أو يؤخذ عليه ، وهو يحصن نفسه وحسه وعقله وقلبه ، بما يجعله بعيدا عن الخطأ والخطر والعقاب.

ولقد تحدث كتاب الله المجيد عن فضيلة الحذر في جملة مواضع ، واذا كان للحذر ألوان وأنواع ، فان الحذر من عقاب الله ومؤاخذته أولى ألوان الحذر باهتمام المؤمن وعنايته ، والله جل جلاله يقول في سورة البقرة : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١). أي أن الله تعالى يعلم ما في انفسكم من العزم

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٣٥.

٨٠