موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٢

هذه الأنفاس ضائعة أو مصروفة الى ما يجلب الهلاك خسران عظيم هائل لا تسمح به نفس عاقل.

فاذا أصبح العبد ، وفرغ من فريضة الصبح ، ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة النفس ، كما أن التاجر عند تسليم البضاعة الى الشريك العامل يفرغ المجلس لمشارطته ، فيقول للنفس : مالي بضاعة الا العمر ، ومهما فني فقد فني رأس المال ، ووقع اليأس عن التجارة وطلب الربح.

وهذا اليوم الجديد قد امهلني الله فيه ، وأنسأ في أجلي ، وأنعم علي به ، ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني الى الدنيا يوما واحدا ، حتى أعمل فيه صالحا ، فاحسبي أنك قد توفيت ، ثم قد رددت ، فاياك ثم اياك أن تضيعي هذا اليوم ، فان كل نفس من الانفاس جوهرة لا قيمة لها».

* * *

وهناك في القرآن الكريم آية تشير الى مكانة النفس اللوامة التي تواظب على لوم نفسها حتى تظل على الصواب ، وتتباعد عن الخطأ ، ولذلك جمع الله تعالى في القسم بين هذه النفس اللوامة ويوم القيامة ، فقال عز من قائل : (لا أقسم بيوم القيامة ، ولا أقسم بالنفس اللوامة) (١).

وفي «الاحياء» ان النفس اللوامة هي التي تلوم صاحبها على ما يستهدف له من الاحوال الذميمة ، لا عن عزم وتصميم ، وهذا أغلب أحوال التائبين ، لان الشر معجون بطينة الآدمي ، قلما ينفك عنه ، وانما هو يسعى ليغلب خيره شره ، حتى يثقل ميزانه بالطيبات ، فترجح كفة

__________________

(١) سورة القيامة ، الآيتان ١ و ٢.

١٤١

الحسنات ، وتقل السيئات شيئا فشيئا ، وهذا وأمثاله هم الذين تفضل الله عليهم فوعدهم وعدا حسنا ، كما قال في سورة النجم : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) (١).

ولقد ذهب أسلافنا ـ رضي الله عنهم ـ مذاهب في تبيان المراد بالنفس اللوامة ، فذكر الاصفهاني أنها النفس التي اكتسبت بعض الفضيلة ، فتلوم صاحبها اذا ارتكب مكروها ، فهي دون النفس المطمئنة. وقيل : بل هي النفس التي قد اطمأنت في ذاتها ، وترشحت لتأديب غيرها ، فهي فوق النفس المطمئنة.

وذكر القرطبي أنها هي نفس المؤمن الذي تراه دائما يلوم نفسه على الشر : لم فعلته ، وعلى الخير لم لا تستكثر منه ، وذكر بعض المفسرين أنه ليس من نفس محسنة ولا مسيئة الا وهي تلوم نفسها ، فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد احسانا ، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارتدع عن اساءته.

ويأتي فخر الدين الرازي فينقل عن ابن عباس قوله ان كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة ، سواء كانت برة أو فاجرة ، أما البرة فلأجل أنها لم تزد على طاعتها ، وأما الفاجرة فلأجل أنها لم تشتغل بالتقوى ، ثم ذكر أن بعضهم طعن في هذا بأن من يستحق الثواب لا يجوز ان يلوم نفسه على ترك الزيادة ، لانه لو جاز منه لوم على ذلك ، لجاز من غيره أن يلومها عليه ، وبأن الانسان انما يلوم نفسه عند الضجر وضيق القلب ، وذلك لا يليق بأهل الجنة حال كونهم في الجنة ، ولأن المكلف يعلم أنه لا مقدار من الطاعة الا ويمكن الاتيان بما هو أزيد منه ، فلو كان ذلك موجبا للوم لامتنع الانفكاك عنه ، وما كان كذلك لا يمكن تحقيقه ، والله لا يكلف الا بالممكن المستطاع.

__________________

(١) سورة النجم ، الآية ٣٢.

١٤٢

وقد أجاب الرازي عن هذا الاعتراض بقوله : «والجواب عن الكل أن يحمل اللوم على تمني الزيادة ، وحينئذ تسقط هذه الاسئلة».

وجاء بعد ذلك أقوال في المراد بالنفس اللوامة ، منها :

١ ـ هي نفس آدم عليه‌السلام ، لم تزل تلوم نفسها على فعلها الذي خرجت به من الجنة.

٢ ـ هي نفس الانسان الشقي حين يشاهد احوال القيامة وأهوالها ، فانها حينئذ تلوم نفسها على ما ارتكبت من المعاصي.

٣ ـ هي نفس الانسان الملول الذي يطلب الشيء ، فاذا وجده ملّه وزهد فيه. فيلوم نفسه على أنه طلبه ، واجتهد للحصول عليه.

٤ ـ هي النفس الشريفة المحاسبة التي لا تزال تلوم نفسها ، وتشعر بالتقصير وان اجتهدت في الطاعة ، وتتمنى مزيدا من البعد عن السوء ، مع مزيد من مضاعفة الخير. وهذا أجدر الآراء بالقبول.

* * *

ولقد أشار سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسّلام الى معنى لوم النفس حين قال : «المؤمن كالسنبلة ، يفيء أحيانا ، ويميل أحيانا». ومعنى هذا أنه اذا ألمّ بخطيئة لم يوطّن نفسه عليها بالاصرار ، بل يسارع فيفيء ويعتدل بلوم النفس والاستغفار ، ولعل هذا هو بعض ما نفهمه من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتق الله حيثما كنت ، واتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن».

ومن بعد هدي النبوة الطهور نجد أسلافنا يعنون بالدعوة الى فضيلة لوم النفس ومعاتبتها. ومن أمثلة ذلك ما جاء في كتاب «اللمع» حيث أوصى أبو سعيد الخراز بعض أصحابه فقال له : «احفظ وصيتي

١٤٣

أيها المريد ، وارغب في ثواب الله تعالى ، وانما هو أن ترجع الى نفسك الخبيثة فتذيبها بالطاعة ، وتفارقها وتميتها بالمخالفة ، وتذبحها باليأس فيما سوى الله ، وتقتلها بالحياء من الله عزوجل ، ويكون حسبك. وتسارع في جميع الخيرات ، وتعمل في جميع المقامات ، وقلبك وجل أن لا يقبل منك ، فهنا حقائق القبول والاخلاص والصدق ، حتى تتخلص وتصير الى الله تعالى ، والله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد».

وهؤلاء الاسلاف الاخيار الاطهار قد ضربوا نماذج رائعة في لوم النفس ، حتى رسم بعض شعراء الاسلام صورة لواحد من هؤلاء اللوامين ، فقال عنه :

نحيل الجسم مكتئب الفؤاد

تراه بقمة أو بطن وادي

ينوح على معاص سابقات

يكدر ثقلها صفو الرقاد

فان هاجت مخاوفه وزادت

فدعوته : أغثني يا عمادي

فأنت بما ألاقيه عليم

كثير الصفح عن زلل العباد

* * *

وينبغي ان نتذكر أن من ثمرات لوم النفس أن الوصول الى مكانة الرضا والطمأنينة يكون عن طريق هذه الفضيلة ـ فضيلة لوم النفس ـ ولذلك يقول حجة الاسلام : «اعلم أن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك ، وقد خلقت أمارة بالسوء ، ميالة الى الشر ، فرارة من الخير ، وأمرت بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل القهر الى عبادة ربها وخالقها ،

١٤٤

ومنعها عن شهواتها ، وفطامها عن لذاتها ، فان أهملتها جمحت وشردت ، ولم تظفر بها بعد ذلك.

وان لازمتها بالتوبيخ والمعاتبة والعذل والملامة ، كانت نفسك هي النفس اللوامة التي أقسم الله بها ، ورجوت أن تصير النفس المطمئنة المدعوة الى أن تدخل في زمرة عباد الله راضية مرضية (١) ، فلا تغفلن ساعة عن تذكيرها ومعاتبتها ، ولا تشتغلن بوعظ غيرك ما لم تشتغل أولا بوعظ نفسك ، فقد أوحى الله تعالى الى عيسى عليه‌السلام : يا ابن مريم ، عظ نفسك ، فان اتعظت فعظ الناس ، والا فاستح مني (٢).

وينبغي أن نعرف أيضا أن لوم النفس يدفع الى حسن العاقبة ، ويفضي الى جميل الخاتمة ، وهذا عبد الله بن قيس يحدثنا بأنه شهد احدى الغزوات ، وقد بدأ القتال ، فاذا رجل يخاطب نفسه فيقول لها : أي نفسي ، ألم أشهد مشهد كذا وكذا ، فقلت لي : أهلك وعيالك ، فأطعتك ورجعت؟

ألم أشهد كذا وكذا ، فقلت لي : أهلك وعيالك ، فأطعتك ورجعت؟.

والله لأعرضنك اليوم على الله ، أخذك أو تركك ...

وعزم عبد الله بن قيس على متابعته ومراقبته ليرى ما يصنع ، فحمل هذا الرجل على العدو ، فكان في الطليعة ، دون أن يبالي بهجمات الأعداء القاسية الشديدة ، وظل يقاتل وهو ثابت ، وما زال كذلك حتى ذاق نعمة الشهادة ، بعد أن أصر على موقف الوفاء والفداء ، وأصر على الجهاد حتى الاستشهاد ، وأقبل عبد الله بن قيس على جثمان ذلك المجاهد

__________________

(١) يقصد بذلك قول الله تعالى في سورة الفجر : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) الآيات ٢٧ ـ ٣٠.

(٢) انظر كتابي «أدب الاحاديث القدسية» ص ١٥٩ ـ ١٦٤ ففيه تفصيل الكلام عن هذا الحديث القدسي.

١٤٥

الشهيد ، وانحنى عليه في اكبار واعجاب ، فوجد بجسمه وجسم جواده أكثر من ستين طعنة ، رضوان الله عليه.

*

والمؤسف في دنيا الناس أننا نجد الكثيرين منهم يلومون غيرهم ، ويقسون في الحكم على سواهم ويحصون على من عداهم كل صغيرة وكبيرة ، ولا يفعلون مثل هذا ولا شيئا منه مع أنفسهم ، ولقد ينزلون أشد العقاب على من يخطئون ، ممن يشرفون عليهم ، أو يتصرفون في أمورهم ، ثم هم لا يفكرون في أن يردعوا أنفسهم بعقاب أو عتاب.

فليت الواحد منهم يستمع الى تعريض الغزالي بمثله حين يقول له : «والعجب أنك تعاقب عبدك وأمتك وأهلك وولدك ، على ما يصدر منهم من سوء خلق ، وتقصير في أمر ، وتخاف أنك لو تجاوزت عنهم لخرج أمرهم عن الاختيار ، وبغوا عليك ، ثم تهمل نفسك ، وهي أعظم عدو لك ، وأشد طغيانا عليك ، وضررك من طغيانها أعظم من ضررك من طغيان أهلك ، فان غايتهم أن يشوشوا عليك معيشة الدنيا ، ولو عقلت لعلمت أن العيش عيش الآخرة ، وأن فيه النعيم المقيم الذي لا آخر له ، ونفسك هي التي تنغص عليك عيش الآخرة ، فهي بالمعاقبة أولى من غيرها».

نسأل الله جل جلاله أن يهبنا نعمة الانتصار على أهواء نفوسنا ، حتى نفوز برضى خالقنا ، وسعادتنا في الدنيا والآخرة.

١٤٦

الغزالي ولوم النفس

هذا نص أخلاقي أدبي رائع ، من كتاب «الاحياء» ، يعطينا فيه الامام الغزالي نموذجا مثيرا موسعا لمناجاة النفس باللوم والمعاتبة ، وقد رأيت أن أجعله ضميمة الى موضوع «لوم النفس» السابق وأعلق عليه ، لعل في ذلك عظة وعبرة لمن أراد الاقتداء والاحتذاء :

«يا نفس ...

ما أعظم جهلك. تدعين الحكمة والذكاء والفطنة ، وأنت أشد الناس غباوة وحمقا.

أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار ، وأنك صائرة الى احداهما على القرب (١)؟.

فما لك تفرحين وتضحكين ، وتشتغلين باللهو ، وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم؟. وعساك اليوم تختطفين أو غدا. فأراك ترين الموت بعيدا ، ويراه الله قريبا.

أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب ، وأن البعيد ما ليس بآت؟. أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ، ومن غير مواعدة ومواطأة ، وأنه لا يأتي في شيء دون شيء ، ولا في شتاء دون صيف ،

__________________

(١) يعني : عما قريب ، لان العمر مهما طال قصير.

١٤٧

ولا في صيف دون شتاء ، ولا في نهار دون ليل ، ولا في ليل دون نهار ، ولا يأتي في الصبا دون الشباب ، ولا في الشباب دون الصبا ، بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة ، فان لم يكن الموت فجأة فيكون المرض فجأة ، ثم يفضي الى الموت.

فمالك لا تستعدين للموت وهو أقرب اليك من كل قريب؟. أما تتدبرين قوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ، ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ»؟ ..)

ويحك يا نفس!. لو واجهك عبد من عبيدك ، بل أخ من اخوانك بما تكرهينه ، كيف كان غضبك عليه ، ومقتك له (١) ، فبأي جسارة تتعرضين لمقت الله وغضبه ، وشديد عقابه؟. أفتظنين أنك تطيقين عذابه؟ هيهات هيهات. جربي نفسك ان ألهاك البطر عن أليم عذابه ، فاحتبسي ساعة في الشمس ، أو في بيت الحمّام ، أو قربي اصبعك من النار ، ليتبين لك قدر طاقتك.

أم تغترين بكرم الله وفضله ، واستغنائه عن طاعتك وعبادتك ، فما لك لا تعوّلين على كرم الله تعالى في مهمات دنياك؟. فاذا قصدك عدو فلم تستنبطين الحيل في دفعه ، ولا تكلينه الى كرم الله تعالى ، واذا أرهقتك حاجة الى شهوة من شهوات الدنيا مما لا ينقضي (٢) الا بالدينار والدرهم ، فمالك تنزعين الروح في طلبها وتحصيلها من وجوه الحيل؟. فلم لا تعوّلين على كرم الله تعالى حتى يعثر بك على كنز ، أو يسخر عبدا من عبيده ، فيحمل اليك حاجتك من غير سعي منك ولا طلب؟.

__________________

(١) مقته : أبغضه أشد البغض وكرهه لأمر قبيح ركبه.

(٢) لا ينقضى : أي لا يتحقق ولا يدركه مريده.

١٤٨

أفتحسبين أن الله كريم في الآخرة دون الدنيا ، وقد عرفت أن سنة الله لا تبديل لها ، وأن رب الآخرة والدنيا واحد ، وأن ليس للانسان الا ما سعى.

ويحك يا نفس!. ما أعجب نفاقك ودعاويك الباطلة ، فانك تدعين الايمان بلسانك ، وأثر النفاق ظاهر عليك. ألم يقل لك سيدك ومولاك : «وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها» ، وقال في أمر الآخرة : «وأن ليس للانسان الا ما سعى». فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاصة ، وصرفك عن السعي فيها ، فكذبته بأفعالك ، وأصبحت تتكالبين (١) على طلبها تكالب المدهوش المستهتر (٢) ، ووكل أمر الآخرة الى سعيك ، فأعرضت عنها اعراض المغرور المستحقر. ما هذا من علاقات الايمان. لو كان الايمان باللسان فلم كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؟

ويحك يا نفس!. كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب ، وتظنين أنك اذا مت انفلت وتخلصت. وهيهات (٣). أتحسبين أنك تتركين سدى (٤)؟. ألم تكوني نطفة من مني يمنى (٥) ، ثم كنت علقة فخلق فسوى ، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟.

__________________

(١) تتكالبين : الكلب ـ بفتح الكاف واللام ـ : الحرص ، ورجل كلب ـ بفتح الكاف وكسر اللام ـ : شديد الحرص. فمعنى تتكالبين : تشتدين في الحرص على طلب الدنيا.

(٢) المستهتر : المولع بالشيء لا يبالي في سبيله بأي جهد. والمدهوش : الذي ذهب عقله من الوله.

(٣) هيهات : كلمة تستعمل للاخبار ببعد الشيء وتفسره ، وهي اسم فعل ، وفي القرآن الكريم : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ).

(٤) سدى : مهمل ، يستوي فيه المفرد وغيره ، وفي القرآن : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي مهملا فلا يجازى.

(٥) يمنى : يقذف في الأرحام عند ثوران الشهوة.

١٤٩

فان كان هذا من اضمارك فما أكفرك وأجهلك. أما تتفكرين أنه ما ذا خلقك؟. من نطفة خلقك (١) فقدّرك ، ثم السبيل يسرك ، ثم أماتك فأقبرك. أفتكذبينه في قوله : ثم اذا شاء أنشرك؟.

فان لم تكوني مكذّبة فما لك لا تأخذين حذرك؟. ولو أن يهوديا أخبرك في ألذ أطعمتك بأنه يضرك في مرضك لصبرت عنه وتركته ، وجاهدت نفسك فيه. أفكان قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات وقول الله تعالى في كتبه المنزلة ، أقل عندك تأثيرا من قول يهودي يخبرك عن حدس (٢) وتخمين وظن ، مع نقصان عقل وقصور علم؟!.

والعجب أنه لو أخبرك طفل بأن في ثوبك عقربا لرميت ثوبك في الحال ، من غير مطالبة له بدليل أو برهان ، أفكان قول الأنبياء والعلماء والحكماء وكافة الأولياء أقل عندك من قول صبي من جملة الأغبياء؟. أم صار حر جهنم ، وأغلالها وأنكالها (٣) ، وزقومها ومقامعها ، وصديدها وسمومها ، وأفاعيها وعقاربها ، أحقر عندك من عقرب لا تحسين بألمها الا يوما أو أقل منه؟.

ما هذه أفعال العقلاء ، بل لو انكشف للبهائم حالك لضحكوا منك ، وسخروا من عقلك.

__________________

(١) النطفة : ماء التناسل من الرجل أو المرأة ، وفي العبارة اقتباس من قول القرآن : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ، ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ).

(٢) الحدس : الظن والتخمين والتوهم في معاني الكلام والأمور.

(٣) أنكالها : الأنكال جمع النكل ـ بكسر النون ـ وهو القيد الشديد من أي شيء كان. وفي القرآن : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً).

١٥٠

فان كنت يا نفس قد عرفت جميع ذلك ، وآمنت به ، فمالك تسوفين (١) العمل والموت لك بالمرصاد ، ولعله يختطفك من غير مهلة. فبماذا أمنت استعجال الأجل؟ وهبك أنت وعدت بالامهال مائة سنة ، أفتظنين أن من يطعم الدابة في حضيض العقبة (٢) يفلح ويقدر على قطع العقبة بها؟. ان ظننت ذلك فما أعظم جهلك.

أرأيت لو سافر رجل ليتفقه في الغربة فأقام فيها سنين متعطلا بطالا (٣) ، يعد نفسه بالتفقه في السنة الأخيرة عند رجوعه الى وطنه ، هل كنت تضحكين من عقله وظنه أن تفقيه النفس مما يطمع فيه بمدة قريبة ، أو حسبانه أن مناصب الفقهاء تنال من غير تفقه ، اعتمادا على كرم الله سبحانه وتعالى!.

ثم هبي أن الجهد في آخر العمر نافع ، وأنه موصل الى الدرجات العلى ، فلعل اليوم آخر عمرك ، فلم لا تشتغلين فيه بذلك ، فان أوحي اليك بالامهال ، فما المانع من المبادرة ، وما الباعث لك على التسويف؟.

هل لك سبب الا عجزك عن مخالفة شهواتك لما فيها من التعب والمشقة؟.

أفتنظرين يوما يأتيك لا تعسر فيه مخالفة الشهوات؟. هذا يوم لم يخلقه الله قط ، ولا يخلقه ، فلا تكون الجنة قط الا محفوفة بالمكاره ، ولا تكون المكاره قط خفيفة على النفوس ، وهذا محال وجوده.

أما تتأملين مذ كم تعدين نفسك وتقولين : غدا غدا؟. فقد جاء العد

__________________

(١) تسوفين : تؤجلين وتماطلين ، وفي المثل : «فلان يقتات السوف ، أي يعيش بالأماني».

(٢) العقبة : الطريق الوعر في الجبل.

(٣) متعطلا بطالا : المتعطل الذي لا عمل له ، والبطال صاحب الباطل.

١٥١

وصار يوما ، فكيف وجدته؟. أما علمت أن الغد الذي جاء وصار يوما كان له حكم الأمس ، لا بل تعجزين عنه اليوم ، فأنت غدا عنه اعجز وأعجز ، لان الشهوة كالشجرة الراسخة التي تعبّد العبد (١) بقلعها ، فاذا عجز العبد عن قلعها للضعف وأخرها ، كان كمن عجز عن قلع شجرة وهو شاب قوي ، فأخرها الى سنة أخرى ، مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوة ورسوخا ، ويزيد القاطع ضعفا ووهنا ، فما لا يقدر عليه في الشباب لا يقدر عليه قط في المشيب ، بل من العناء رياضة الهرم ، ومن التعذيب تهذيب الذيب ، والقضيب الرطب يقبل الانحناء ، فاذا جف وطال عليه الزمان لم يقبل ذلك.

فاذا كنت أيتها النفس لا تفهمين هذه الأمور الجلية ، وتركنين الى التسويف ، فما بالك تدعين الحكمة ، وأية حماقة تزيد على هذه الحماقة؟. ولعلك تقولين : ما يمنعني من الاستقامة الا حرصي على لذة الشهوات ، وقلة صبري على الآلام والمشقات ، فما أشد غباوتك ، وأقبح اعتذارك.

ان كنت صادقة في ذلك فاطلبي التنعم بالشهوات الصافية من الكدورات الدائمة أبد الآباد (٢) ، ولا مطمع في ذلك الا في الجنة ، فان كنت ناظرة لشهوتك فالنظر لها في مخالفتها ، فرب أكلة تمنع أكلات.

وما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء البارد ثلاثة أيام ، ليصح ويهنأ بشربه طول عمره ، وأخبره أنه ان شرب ذلك مرض مرضا مزمنا ، وامتنع عليه شربه طوال العمر ، فما مقتضى العقل في قضاء حق الشهوة : أيصبر ثلاثة ايام ليتنعم طول العمر ، أم يقضي شهوته في

__________________

(١) تعبد العبد بقلعها : أي طلب الله من عبده أن يعبده ويتقرب اليه باقتلاعها.

(٢) أبد الآباد : دهر الدهور ، وهذا يفيد الاستمرار الدائم طول الدهور.

١٥٢

الحال خوفا من ألم المخالفة ثلاثة أيام ، حتى يلزمه ألم المخالفة ثلاثمائة يوم وثلاثة آلاف يوم؟.

وجميع عمرك بالاضافة الى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار ، أقل من ثلاثة أيام بالاضافة الى جميع العمر وان طالت مدته.

وليت شعري : ألم الصبر عن الشهوات أعظم شدة وأطول مده ، أو ألم النار في دركات (١) جهنم؟. فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة كيف يطيق ألم عذاب الله؟

ما أراك تتوانين عن النظر لنفسك ، الا لكفر خفي ، أو لحمق جلي. أما الكفر الخفي فهو ضعف ايمانك بيوم الحساب ، وقلة معرفتك بعظم قدر الثواب والعقاب ، وأما الحمق الجلي فاعتمادك على كرم الله تعالى وعفوه ، من غير التفات الى مكره واستدراجه ، واستغنائه عن عبادتك ، مع انك لا تعتمدين على كرمه في لقمة من الخبز ، أو حبة من المال ، أو كلمة واحدة تسمعينها من الخلق بل تتوصلين الى غرضك في جميع ذلك بجميع الحيل.

وبهذا الجهل تستحقين لقب الحماقة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «الكيس (٢) من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني».

ويحك يا نفس!

لا ينبغي أن تغرك الحياة الدنيا ، ولا يغرنك بالله الغرور ، فانظري

__________________

(١) دركات : جمع دركة بمعنى الدرجة الى أسفل.

(٢) الكيس : العاقل. ودان نفسه : اتهمها.

١٥٣

لنفسك. فما أمرك بمهم لغيرك. ولا تضيعي أوقاتك ، فالأنفاس معدودة ، فاذا مضى منك نفس فقد ذهب بعضك. فاغتنمي الصحة قبل السقم ، والفراغ قبل الشغل ، والغنى قبل الفقر. والشباب قبل الهرم. والحياة قبل الموت. واستعدي للآخرة على قدر بقائك فيها.

يا نفس. أما تستعدين للشتاء بقدر طول مدته ، فتجمعين له القوت والكسوة والحطب وجميع الأسباب. ولا تتكلين في ذلك على فضل الله وكرمه. حتى يدفع عنك البرد من غير جبة ولبد وحطب وغير ذلك. فانه قادر على ذلك.

أفتظنين أيتها النفس أن زمهرير (١) جهنم أخف بردا وأقصر مدة من زمهرير الشتاء؟ أم تظنين أن ذلك دون هذا؟ كلا أن يكون هذا كذلك. أو يكون هذا كذلك ، أو يكون بينهما مناسبة في الشدة والبرودة.

أفتظنين أن العبد ينجو منها بغير سعي؟. هيهات. كما لا يدفع برد الشتاء الا بالجبة والنار وسائر الأسباب ، فلا يندفع حر النار وبردها الا بحصن التوحيد وخندق الطاعات ، وانما كرم الله تعالى في أن عرّفك طريق التحصن. ويسّر لك أسبابه ، لا في أن يدفع عنك العذاب دون حصنه.

كما أن كرم الله تعالى في دفع برد الشتاء أن خلق النار. وهداك لطريق استخراجها من بين حديدة وحجر ، حتى تدفعي بها برد الشتاء عن نفسك. وكما أن شراء الحطب والجبة مما يستغني عنه خالقك ومولاك وانما تشترينه لنفسك ، اذ خلقه سببا لاستراحتك ، فطاعاتك ومجاهداتك أيضا هو مستغن عنها ، وانما هي طريقك الى نجاتك ، فمن أحسن فلنفسه ، ومن أساء فعليها ، والله غني عن العالمين.

__________________

(١) الزمهرير : شدة البرد.

١٥٤

ويحك يا نفس!.

انزعي عن جهلك ، وقيسي آخرتك بدنياك ، فما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة ، وكما بدأنا أول خلق نعيده ، وكما بدأكم تعودون. وسنة الله تعالى لا تجدين لها تبديلا ولا تحويلا.

ويحك يا نفس!

ما أراك الا ألفت الدنيا ، وأنست بها ، فعسر عليك مفارقتها وأنت مقبلة على مقاربتها ، وتؤكدين في نفسك مودتها ، فاحسبي أنك غافلة عن عقاب الله وثوابه ، وعن أهوال القيامة وأحوالها ، أفما أنت مؤمنة بالموت المفرق بينك وبين محابك؟.

أفترين أن من يدخل دار ملك ليخرج من الجانب الآخر ، فمد بصره الى وجه مليح يعلم أنه يستغرق ذلك قلبه ، ثم يضطر لا محالة الى مفارقته ، أهو معدود من العقلاء أم من الحمقى؟. أما تعلمين أن الدنيا دار لملك الملوك ، وما لك فيها الا مجاز (١) ، وكل ما فيها لا يصحب المجتازين بها بعد الموت ، ولذلك قال سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ان روح القدس (٢) نفث في روعي : أحبب من أحببت فانك مفارقه ، وأعمل ما شئت فانك مجزي به ، وعش ما شئت فانك ميت».

ويحك يا نفس!.

أتعلمين أن كل من يلتفت الى ملاد الدنيا ، ويأنس بها مع أن الموت من ورائه ، فانما يستكثر من الحسرة عند المفارقة ، وانما يتزود من السم المهلك وهو لا يدري؟.

__________________

(١) مجاز : معبر وطريق. ويقال : جاز فلان الطريق يجوزه جوزا : سلكه وقطعه.

(٢) روح القدس : جبريل عليه‌السلام. ونفث في روعي : القى وأوحى في نفسي وخلدي.

١٥٥

أو ما تنظرين الى الدين مضوا : كيف بنوا وعلوا ، ثم ذهبوا وخلوا ، وكيف أورث الله أرضهم وديارهم أعداءهم؟. أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون ، ويبنون ما لا يسكنون ، ويؤملون ما لا يدركون؟.

يبني كل واحد قصرا مرفوعا الى جهة السماء ، ومقره قبر محفور تحت الأرض ، فهل في الدنيا حمق وانتكاس (١) أعظم من هذا؟ يعمر الواحد دنياه وهو مرتحل عنها يقينا ، ويخرب آخرته وهو صائر اليها قطعا. أما تستحين يا نفس من مساعدة هؤلاء الحمقى على حماقتهم؟.

واحسبي أنك لست ذات بصيرة تهتدي الى هذه الأمور ، وانما تميلين بالطبع الى التشبه والاقتداء ، فقيسي عقل الأنبياء والعلماء والحكماء ، بعقل هؤلاء المكبين (٢) على الدنيا ، واقتدي من الفريقين بمن هو أعقل عندك ، ان كنت تعتقدين في نفسك العقل والذكاء.

يا نفس! ما أعجب أمرك ، وأشد جهلك ، وأظهر طغيانك! عجبا لك ، كيف تعمين عن هذه الأمور الواضحة الجلية؟.

ولعلك يا نفس أسكرك حب الجاه ، وأدهشك عن فهمها ، أو ما تتفكرين أن الجاه لا معنى له الا ميل القلوب من بعض الناس اليك ، فاحسبي أن كل من على وجه الأرض سجد لك وأطاعك ، أفما تعرفين أنه بعد خمسين سنة لا تبقين أنت ولا أحد ممن على وجه الأرض ممن عبدك وسجد لك ، وسيأتي زمان لا يبقى ذكرك ولا ذكر من ذكرك ، كما أتى على الملوك الذين من قبلك : «هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا (٣)»؟.

__________________

(١) انتكاس : انقلاب على الرأس. وانتكس الرجل في أمره : خاب وخسر.

(٢) أكب الرجل على الشيء اذا لزمه ولم يفارقه.

(٣) ركزا : الركز الصوت الخفي.

١٥٦

فكيف تبيعين يا نفس ما يبقى أبد الآباد بما لا يبقى أكثر من خمسين سنة ان بقي؟. هذا ان كنت ملكا من ملوك الأرض ، سلم لك الشرق والغرب ، حتى اذعنت لك الرقاب ، وانتظمت لك الأسباب. كيف ويأبى ادبارك وشقاوتك أن يسلم لك أمر محلتك (١) ، بل أمر دارك ، فضلا عن محلتك؟.

فان كنت يا نفس لا تتركين الدنيا رغبة في الآخرة لجهلك وعمى بصيرتك ، فما لك لا تتركينها ترفعا عن خسة شركائها ، وتنزها عن كثرة عنائها ، وتوقيا من سرعة فنائها؟. أم ما لك لا تزهدين في قليلها بعد أن زهد فيك كثيرها؟. وما لك تفرحين بدنيا ان ساعدتك فلا تخلو بلدك من جماعة من اليهود والمجوس يسبقونك بها ، ويزيدون عليك في نعيمها وزينتها؟ فأفّ لدنيا يسبقك بها هؤلاء الأخساء!.

فما أجهلك ، وأخس همتك ، وأسقط رأيك ، اذ رغبت عن أن تكوني في زمرة المقربين من النبيين والصديقين ، في جوار رب العالمين أبد الآبدين ، لتكوني في صف النعال من جملة الحمقى الجاهلين أياما قلائل ، فيا حسرة عليك أن خسرت الدنيا والدين!.

فبادري ويحك يا نفس ، فقد أشرفت على الهلاك ، واقترب الموت ، وورد النذير ، فمن ذا يصلي عنك بعد الموت؟ ومن ذا يصوم عنك بعد الموت؟ ومن ذا يرضي عنك ربك بعد الموت؟.

ويحك يا نفس ، ما لك الا أيام معدودة هي بضاعتك ، ان اتجرت فيها وقد ضيعت أكثرها ، فلو بكيت بقية عمرك على ما ضيعت منها لكنت مقصرة في حق نفسك فكيف اذا ضيعت البقية ، وأصررت على عادتك؟.

أما تعلمين يا نفس أن الموت موعدك ، والقبر بيتك ، والتراب

__________________

(١) المحلة : المنزل.

١٥٧

فراشك ، والدود أنيسك ، والفزع الأكبر (١) بين يديك؟. أما علمت يا نفس أن عسكر الموتى عندك على باب البلد ينتظرونك ، وقد آلوا على أنفسهم (٢) كلهم بالأيمان المغلظة انهم لا يبرخون من مكانهم ما لم يأخذوك معهم؟. أما تعلمين يا نفس أنهم يتمنون الرجعة الى الدنيا يوما ليشتغلوا بتدارك ما فرط منهم ، وأنت في أمنيتهم ، ويوم من عمرك لو بيع منهم بالدنيا بحذافيرها لاشتروه لو قدروا عليه ، وأنت تضيعين أيامك في الغفلة والبطالة؟.

ويحك يا نفس!.

أما تستحيين؟ تزينين ظاهرك للخلق ، وتبارزين (٣) الله في السر بالعظائم؟ أفتستحيين من الخلق ولا تستحيين من الخالق؟. ويحك. أهو أهون الناظرين عليك؟. أتأمرين الناس بالخير وأنت متلطخة بالرذائل؟ تدعين الى الله وأنت عنه فارّة ، وتذكرين بالله وأنت له ناسية؟. أما تعلمين يا نفس أن المذنب أنتن من العذرة (٤) وأن العذرة لا تطهر غيرها؟ فلم تطمعين في تطهير غيرك ، وأنت غير طيبة في نفسك؟.

ويحك يا نفس. لو عرفت نفسك حق المعرفة لظننت أن الناس ما يصيبهم بلاء الا بشؤمك.

ويحك يا نفس ، قد جعلت نفسك حمارا لابليس ، يقودك الى حيث يريد ، ويسخر بك ، ومع هذا تعجبين بعملك ، وفيه من الآفات ما لو

__________________

(١) الفزع الأكبر : نفخة البعث.

(٢) الألوة والألية : الحلف. يقال آلى يؤلي أي أقسم.

(٣) تحاربين الله بارتكاب الكبائر من الذنوب.

(٤) العذرة : ما يخرج من دبر الانسان من البراز.

١٥٨

نجوت منه رأسا برأس (١) لكان الربح في يدك. وكيف تعجبين بعملك مع كثرة خطاياك وزللك ، وقد لعن الله ابليس بخطيئة واحدة ، بعد أن عبده مائتي الف سنة ، وأخرج آدم من الجنة بخطيئة واحدة ، مع كونه نبيه وصفيه.

ويحك يا نفس ، ما أغدرك. ويحك يا نفس ، ما أوقحك ، ويحك يا نفس ما أجهلك وما أجرأك على المعاصي!. ويحك كم تقصدين فتنقضين (٢) ، ويحك ، كم تعهدين فتغدرين. ويحك يا نفس ، أتشتغلين مع هذه الخطايا بعمارة دنياك كأنك غير مرتحلة عنها ، أما تنظرين الى أهل القبور كيف كانوا : جمعوا كثيرا ، وبنوا مشيدا (٣) ، وأملوا بعيدا ، فأصبح جمعهم بورا ، وبنيانهم قبورا ، وأملهم غرورا.

ويحك يا نفس ، أمالك بهم عبرة؟ أمالك اليهم نظرة؟ أتظنين أنهم دعوا الى الآخرة وأنت من المخلدين؟. هيهات هيهات ، ساء ما تتوهمين. ما أنت الا في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك ، فابني على وجه الأرض قصرك ، فان بطنها عن قليل يكون قبرك.

أما تخافين اذا بلغت النفس منك التراقي (٤) أن تبدو رسل ربك منحدرة اليك بسواد الألوان وكلح الوجوه ، وبشرى بالعذاب؟. فهل ينفعك حينئذ الندم ، أو يقبل منك الحزن ، أو يرحم منك البكاء؟.

والعجب كل العجب منك يا نفس أنك مع هذا تدعين البصيرة

__________________

(١) أي لا عليك ولا لك.

(٢) أي تؤكدين العهد ثم تخونين فيه.

(٣) البناء المشيد : المطلي بالجص ، أو المرفوع المطول.

(٤) التراقي : جمع ترقوة ، وهي العظم المكتف ثغر النحر عن يمين وشمال. وفي القرآن : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) أي بلغت الروح أعالي الصدر وحشرجت.

١٥٩

والفطنة ، ومن فطنتك أنك تفرحين كل يوم بزيادة مالك ، ولا تحزنين بنقصان عمرك ، وما نفع مال يزيد وعمر ينقص؟.

ويحك يا نفس! تعرضين عن الآخرة وهي مقبلة عليك ، وتقبلين على الدنيا وهي معرضة عنك ، فكم من مستقبل يوما لا يستكمله ، وكم من مؤمل لغد لا يبلغه ، فأنت تشاهدين ذلك في اخوانك وأقاربك وجيرانك ، فترين تحسرهم عند الموت ، ثم لا ترجعين عند جهالتك.

فاحذري أيتها النفس المسكينة يوما آلى الله فيه على نفسه أن لا يترك عبدا أمره في الدنيا ونهاه ، حتى يسأله عن عمله : دقيقه وجليله ، سره وعلانيته. فانظري يا نفس بأي بدن تقفين امام الله ، وبأي لسان تجيبين. وأعدي للسؤال جوابا ، وللجواب صوابا ، واعملي بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال ، وفي دار زوال لدار مقامة ، وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود.

اعملي قبل ان لا تعملي ، اخرجي من الدنيا اختيارا خروج الأحرار ، قبل أن تخرجي منها على الاضطرار ، ولا تفرحي بما يساعدك من زهرات الدنيا ، فرب مسرور مغبون ، ورب مغبون لا يشعر. فويل لمن له الويل ثم لا يشعر ، يضحك ويفرح ، ويلهو ويمرح ، ويأكل ويشرب ، وقد حق له (١) في كتاب الله أنه من وفود النار.

فليكن نظرك يا نفس الى الدنيا اعتبارا (١) ، وسعيك لها اضطرارا ، ورفضك لها اختيارا ، وطلبك للآخرة ابتدارا ، ولا تكوني ممن يعجز عن شكر ما أوتي ، ويبتغي الزيادة فيما بقي ، وينهى الناس ولا ينتهي.

__________________

(١) اعتبارا : للتفكر وأخذ العبرة. واضطرارا : أي بقدر الضرورة.

واختيارا : بارادتك واختيارك ، وابتدارا : أي مسارعة ومسابقة.

١٦٠