موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٢

واعلمي يا نفس أنه ليس للدين عوض ، ولا للايمان بدل ، ولا للجد خلف ، ومن كانت مطيته الليل والنهار ، فانه يسار به وان لم يسر.

فاتعظي يا نفس بهذه الموعظة ، واقبلي هذه النصيحة ، فان من أعرض عن الموعظة فقد رضي بالنار ، وما أراك بها راضية ، ولا لهذه الموعظة واعية ، فان كانت القساوة تمنعك عن قبول الموعظة ، فاستعيني عليها بدوام التهجد والقيام ، فان لم تزل فبالمواظبة على الصيام ، فان لم تزل فبقلة المخالطة والكلام ، فان لم تزل فبصلة الأرحام واللطف بالأيتام ، فان لم تزل فاعلمي أن الله قد طبع على قلبك وأقفل عليه ، وأنه قد تراكمت ظلمة الذنوب على ظاهره وباطنه ، فوطني نفسك على النار ، فقد خلق الله الجنة وخلق لها أهلا ، وخلق النار وخلق لها أهلا ، فكل ميسر لما خلق له.

فان لم يبق فيك مجال للوعظ فاقنطي من نفسك ، والقنوط كبيرة من الكبائر ، نعوذ بالله من ذلك ، فلا سبيل لك الى القنوط ، ولا سبيل لك الى الرجاء ، مع انسداد طرق الخير عليك ، فان ذلك اغترار وليس برجاء ، فانظري الآن هل يأخذك حزن على هذه المصيبة التي ابتليت بها؟ وهل تسمح عينك بدمعة رحمة منك على نفسك؟

فان سمحت فمستقى الدمع من بحر الرحمة (١) ، فقد بقي فيك موضع للرجاء ، فواظبي على النياحة والبكاء ، واستغيثي بأرحم الراحمين ، واشتكي الى أكرم الأكرمين ، وأدمني الاستغاثة ، ولا تملي طول الشكاية ، لعله أن يرحم ضعفك ويغيثك ، فان مصيبتك قد عظمت ، وبليتك قد تفاقمت ، وتماديك قد طال ، وقد انقطعت منك الحيل ، وراحت عنك العلل ، فلا مذنب ولا مطلب ، ولا مستغاث ولا مهرب ، ولا ملجأ ولا منجى الا الى مولاك.

__________________

(١) أي ان جريان الدمع دليل على الرحمة.

١٦١

فافزعي اليه بالتضرع ، واخشعي في تضرعك على قدر عظم جهلك وكثرة ذنوبك ، لانه يرحم المتضرع الذليل ، ويغيث الطالب المتلهف ، ويجيب دعوة المضطر ، وقد أصبحت اليه اليوم مضطرة ، والى رحمته محتاجة ، وقد ضاقت بك السبل ، وانسدت عليك الطرق ، وانقطعت منك الحيل ، ولم تنجح فيك العظات ، ولم يكسرك التوبيخ ، فالمطلوب منه كريم ، والمسؤول جواد ، والمستغاث به بر رؤوف ، والرحمة واسعة ، والكرم فائض ، والعفو شامل.

وقولي : يا أرحم الراحمين ، يا رحمن يا رحيم ، يا حليم يا عظيم يا كريم ، أنا المذنب المصر ، أنا الجريء الذي لا أقلع ، أنا المتمادي الذي لا أستحي ، هذا مقام المقطوع المسكين ، والبائس الفقير ، والضعيف الحقير ، والهالك الغريق ، فعجل اغاثتي وفرجي ، وأرني آثار رحمتك ، وأذقني برد عفوك ومغفرتك ، وارزقني قوة عصمتك ، يا أرحم الراحمين» / ه.

١٦٢

القنوت

كلمة «القنوت» لها معنى لغوي ، ومعنى شرعي ، ومعنى روحي أخلاقي. فما القنوت في لغة العرب؟.

القنوت هو الطاعة ، يقال : قنتت الزوجة لزوجها ، أي أطاعته ولذلك تعرض المفسرون لقوله تعالى : (وقوموا لله قانتيتن) (١) فقالوا : ان المعنى قوموا لله مطيعين في كل شيء. وأورد شيخ المفسرين ابن جرير الطبري حديثا يقول : «كل حرف في القرآن فيه القنوت فانما هو الطاعة». وقال الضحاك : «القنوت الذي ذكره الله في القرآن انما يعني به الطاعة». ونص ابن زكريا في «معجم مقاييس اللغة» على أن الأصل في القنوت هو الطاعة ، ثم سميت كل استقامة في طريق الدين قنوتا.

والى جوار هذا ذكروا للقنوت معاني لا تبعد عن هذا الأصل ، فقالوا ان القنوت يفيد معنى القيام ، وذكروا في ذلك ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : أي الصلاة أفضل؟ فأجاب : طول القنوت. أي طول القيام. وتوسع الأصفهاني في مفهوم القنوت فذكر في «المفردات» أنه لزوم الطاعة مع الخضوع. ويذكر ابن قتيبة في كتابه «تأويل مشكل القرآن» أن القنوت قد يطلق على القيام ، أو الصلاة ، أو الدعاء ، أو

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٣٨.

١٦٣

الامساك عن الكلام ، أو الاقرار بالعبودية ، أو الطاعة ، ثم قال : «ولا أرى هذا الحرف (أي اللفظ) الا الطاعة ، لان جميع هذه الخلال من الصلاة والقيام فيها والدعاء وغير ذلك يكون عنها».

وقد أوصل العلماء معاني القنوت الى عشرة معان ، هي : الدعاء ، والخشوع ، والعبادة ، والطاعة ، واقامة الصلاة ، والاقرار بالعبودية ، والسكوت في الصلاة والقيام ، وطول القيام ، ودوام الطاعة ، ونظمها ابن العربي بقوله :

ولفظ القنوت اعدد معانيه تجد

مزيدا على عشر معان مرضية

دعاء ، خشوع ، والعبادة ، طاعة

اقامتها ، اقرارنا بالعبودية

سكوت صلاة ، والقيام ، وطوله

كذاك دوام الطاعة الرابح النية

*

والقنوت في الشريعة أو في الفقه الاسلامي هو كل كلام تضمن ثناء على الله تعالى ودعاء ، وهذا القنوت يكون في صلاة الوتر عند الحنفية ، وفي صلاة الصبح عند الشافعية ، أو في النازلة التي تنزل بالمسلمين ، وأحكام هذا القنوت مفصلة في كتب الفقه ، والصفة المتكاملة المأثورة للقنوت هي :

«اللهم انا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ، ونؤمن بك ، ونتوكل عليك ، ونثني عليك الخير كله ، نشكرك ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك ، اللهم اياك نعبد ، ولك نصلي ونسجد ، واليك نسعى ونحفد (١) ، نرجو رحمتك ونخشى عذابك ، ان عذابك الجد بالكفار ملحق.

اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا شر ما قضيت ، انك سبحانك تقضي ولا

__________________

(١) نسرع في العمل والعبادة.

١٦٤

يقضى عليك ، انه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، اللهم انا نعوذ برضاك من سخطك ، وبعفوك من عقوبتك ، وبك منك ، لا نحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك».

وأما القنوت في عرف الأخلاقيين فاننا نلمح فيه معنى التزام الخشوع والضراعة والخشية ، واستشعار الهيبة من الله عزوجل ، ولذلك ذكر «تفسير المنار» ان القنوت قد يكون عبارة عن الانصراف عن شؤون الدنيا الى مناجاة الله تعالى ، والتوجه اليه لدعائه وذكره ، ولما كان هذا التوجه يستلزم تفرغا وانقطاعا عن شواغل الحياة ، جاء النهي عن كلام الناس في الصلاة لأنها محل قنوت وخشوع لله عزوجل ، ولذلك جاء في حديث ابن مسعود المتفق عليه قال : كنا نسلم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا ، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه (وهو في الصلاة) فلم يرد علينا ، فقلنا (أي بعد الصلاة) : يا رسول الله ، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؟. فقال : ان في الصلاة شغلا.

وتحقيق القنوت ـ بمعنى الخشوع والانصراف الى الله ـ في الصلاة هو الذي يجعلها تحقق ثمرتها التي أشار اليها القرآن الكريم في قوله : (ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) (١) ، ويجعلها تبلغ بصاحبها درجة الفوز والفلاح ، كما يقول الكتاب العزيز : (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) (٢).

وقد لاحظ أسلافنا صلة القنوت بالفضائل الأخلاقية والصفات الزكية ، فقال مجاهد : من القنوت طول الركوع ، وغض البصر ، وخفض الجناح ، والخشوع من رهبة الله. ومن وراء التحلي بفضيلة القنوت كان صاحبها من السلف اذا دخل الصلاة يهاب الرحمن أن يلتفت ، أو أن

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية ٤٥.

(٢) سورة المؤمنون ، الآيتان ١ و ٢.

١٦٥

يقلب الحصى ، أو يعبث بشيء ، أو يحدث نفسه بشيء من أمور الدنيا الا ناسيا.

وهذا هو الصوفي حاتم الأصم يسأله سائل عن صلاته ، فيقول : اذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء ، وأتيت المكان الذي أريد الصلاة فيه ، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي ، ثم أقوم الى صلاتي ، وأجعل الكعبة بين حاجبي ، والصراط تحت قدمي ، والجنة عن يميني ، والنار عن شمالي ، وملك الموت ورائي ، أظنها آخر صلاتي ، ثم أقوم بين الرجاء والخوف ، وأكبر تكبيرا بتحقيق ، وأقرأ قراءة بترتيل ، وأركع ركوعا بتواضع ، وأسجد سجودا بتخشع ، وأقعد على الورك الأيسر ، وأفرش ظهر قدمها ، وأنصب القدم اليمنى على الابهام ، وأتبعها الاخلاص ، ثم لا أدري أقبلت مني أم لا!.

*

ونعود الى حديث القنوت في القرآن الكريم ...

لعل من جلال شأن هذه الفضيلة الأخلاقية السامية التي لا يتخلق بها على وجهها القويم الا كل مخلص كريم ، أن نجد كتاب الله العلي الكبير يحلي بهذه الفضيلة جيد خليل الرحمن وابي الأنبياء ابراهيم عليه‌السلام ، فيقول عنه في سورة النحل : (ان ابراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا لم يك من المشتركين) (١). أي ان ابراهيم كان من كماله وسمو أخلاقه يجمع فضائل لا تكاد توجد الا متفرقة في أشخاص كثيرين ، وكان مطيعا لربه قائما بأوامره في اخلاص واحسان ودوام على الطاعة ، وكان موقنا بألوهية الله سبحانه دون سواه ، وكان خاضعا له خاشعا يواظب على عبادته والتقرب اليه ، ولا عجب فقد كان ـ كما يقول بعض

__________________

(١) سورة النحل ، الآية ١٢٠.

١٦٦

المفسرين ـ رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي جادل فرق المشركين ، وأبطل مذاهبهم الزائغة بالحجج الدامغة ، وكان حنيفا أي مستقيما على الحق مائلا عن الباطل.

ومن المثير للتأمل والتفكير أننا نجد القرآن الكريم يعنى بوصف طائفة من فضليات النساء بفضيلة القنوت ، وكأني أفهم أن المرأة أشد احتياجا الى القنوت من سواها ، لانها لب المجتمع ، ولانها أساس البيت ، ولانها المعلمة الاولى في الحياة وكأني أفهم أيضا أن المرأة بفطرتها وطبيعتها أقرب الى التحلي بفضيلة القنوت والخشوع والطاعة ، متى سلمت من آفات الحياة ، ووجدت عامل التوجيه والتذكير منذ بداية الطريق.

ان القرآن المجيد يخاطب فيما يخاطب نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول لهن : (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما) (١). أي ان من تخضع منكن للايمان بالله وطاعة رسوله ، وتلزم طاعتهما ، وتداوم على صلاحها وعبادتها ، وتعمل العمل الطيب الصالح ، يثيبها الله تبارك وتعالى مرتين ، يثيبها مرة على طاعتها ، ومرة على طلبها رضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بتحليها بالقناعة وحسن المعاشرة ومعاونة النبي في حياته ، وكذلك يجعل الله تعالى لها رزقا طيبا واسعا في الجنة زيادة على أجرها.

وحينما يأتي موقف عتاب من القرآن الكريم لنساء النبي يذكرهن بأن الله تعالى اذا اختار لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساء فانه يجعلهن متحليات بفضيلة القنوت مع بقية الفضائل ، فيقول في سورة التحريم : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ

__________________

(١) سورة الاحزاب ، الآية ٣١.

١٦٧

قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) (١)» ومعنى قانتات أنهن مواظبات على الطاعة ، ملازمات للعبادة ، مداومات للخشية والخشوع والخوف من الله عزوجل.

ويتحدث القرآن عن مريم البتول الطاهرة العذراء ، ومن حديثه نفهم أن الله تعالى يطلب الى مريم أن تحرص على فضيلة القنوت التي تجعل المرأة على الدوام موصولة الأسباب بحمى رب الأرباب ، فلا يكون منها الا الطهر والعمل الصالح. يقول القرآن في سورة آل عمران : (واذ قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ، يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) (٢). أي اعبديه وأخلصي له في العبادة ، وأديمي له الطاعة ، وواظبي على التقرب اليه ، أو كما يقول القشيري في «لطائف الاشارات» : «لازمي بساط العبادة ، وداومي على الطاعة ، ولا تقصري في استدامة الخدمة ، فكما أفردك الحق بمقامك ، كوني في عبادته أوحد زمانك».

ولقد استجابت مريم لتوجيه ربها ، واعتصمت بفضيلة قنوتها ، وحمد القرآن الكريم لها ذلك ، وخلد في آياته ذكرها ، فقال عنها في سورة التحريم وهو يضربها مثلا للايمان : (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين) (٣). أي كانت من المواظبين على الطاعة ، ولم تقصر في طاعتها عن طاعة الرجال الكاملين ، ولذلك عدها القرآن من جملتهم.

ويتحدث القرآن عن النساء وموقفهن من الرجال ، فيذكر فيما يذكر أن الزوجة الصالحة هي التي تتحلى بفضيلة القنوت وصدق الطاعة

__________________

(١) سورة التحريم ، الآية ٥.

(٢) سورة آل عمران ، الآية ٤٢ و ٤٣.

(٣) سورة التحريم ، الآية ١٢.

١٦٨

والاخلاص ، فيقول في سورة النساء : (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله) (١). أي مطيعات لله ولرسوله ولأزواجهن ، قائمات بحقوق الزوجية أمينات عليها ، حافظات للعهد والميثاق.

والقرآن الكريم يطالبنا بأن نتحلى بصفة القنوت ، فيقول في سورة البقرة : (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) (٢). أي خاضعين مطيعين خاشعين ، واذا كان بعض المفسرين قد قال ان المراد بالقنوت هنا هو الصلاة أو طول القيام فيها ، فان المتدبر لا يستحسن هذا القول ، اذ ينبغي في هذه الآية الكريمة أن يكون القنوت غير الصلاة وغير القيام فيها ، والا وقع التكرار بلا موجب.

وأكاد أفهم أن القنوت بالمعنى الأخلاقي فيه معنى الطاعة الخاشعة الراجية الصامتة ، التي تتسم بسمة الدوام والاستمرار ، وقد يؤيد هذا ما قيل من أن أصل القنوت في اللغة هو الدوام على الشيء ، ولذلك قال الطبرسي في «مجمع البيان» ان الأصل في القنوت الدوام على أمر واحد ، فالمداوم على الطاعة قانت ، والمداوم على صلاته قانت ، والمداوم على الدعاء قانت. ومن أطال القيام أو القراءة أو السكوت قانت.

وقد تعرض بعض المفسرين لمعنى قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فذكر أن في القنوت معنى المداومة على الضراعة والخشوع ، أي قوموا ملتزمين لخشية الله تعالى ، واستشعار هيبته وعظمته ، ولا تكمل الصلاة وتكون حقيقية ينشأ عنها ما ذكر الله من فائدتها الا بهذا ،

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٣٤.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٢٣٨.

١٦٩

وهو يتوقف على التفرغ من كل فكر وعمل يشغل عن حضور القلب في الصلاة ، وخشوعه لما فيها من ذكر الله بقدر الطاقة.

والقرآن الكريم يتحدث عن المتقين الفائزين عند ربهم ، فيجعل القنوت ـ بمعنى الدوام على الطاعة والعبادة ، والقيام بالواجبات ـ صفة بارزة من صفاتهم ، وفضيلة كريمة من فضائلهم ، فيقول في سورة آل عمران : (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد ، الذين يقولون ربنا اننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ، الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار) (١).

وكأن القرآن يشير الى أن فضيلة القنوت تنشأ عن العلم السليم القويم ، لان من حصل العلم النقي الصافي ازداد لله خشية وتقوى ، فنجد القرآن يقول في سورة الزمر : (أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه ، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون انما يتذكر أولوا الالباب) (٢).

ويعود القرآن الكريم ليتحدث عن القنوت ـ بمعنى الخضوع والخشوع ـ فيذكر أنه صيغة عامة لخلق الله جل جلاله ، فكل من في السموات والأرض خاضع لجلال ربه ، ولذلك يقول في القرآن في سورة البقرة : (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والارض كل له قانتون) (٣). ويقول في سورة الروم : (وله من في السماوات والارض كل له قانتون) (٤). أي مقرون بعبوديتهم له ،

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآيات ١٥ و ١٧.

(٢) سورة الزمر ، الآية ٩.

(٣) سورة البقرة ، الآية ١١٦.

(٤) سورة الروم ، الآية ٢٦.

١٧٠

بلسان الحال أو لسان المقال ، وهم منقادون لفعله فيهم لا يمتنعون عليه ، خاضعون لارادته ، مقرون بألوهيته ، شاهدون عليها بألسنة أحوالهم وان لم تنطق بها ألسنة مقالهم.

ويقول القرطبي : كل موجود في السموات والأرض ملك لله بالايجاد والاختراع ، وكلهم مطيعون خاضعون ، فالمخلوقات كلها تقنت لله ، أي تخضع وتطيع ، والجمادات قنوتها في ظهور الصنعة عليها وفيها ، وكل مخلوق من المخلوقات قائم بالشهادة أنه عبد لله ، فالخلق قانتون قائمون بالعبودية.

ويقول الطبري : ان أولى معاني القنوت في قوله تعالى : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) هو الطاعة والاقرار لله عزوجل بالعبودية ، بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة ، والدلالة على وحدانيته عزوجل ، وأن الله ـ تعالى ذكره ـ بارئها وخالقها ، وذلك أن الله جل ثناؤه أبطل زعم الذين زعموا أن لله ولدا بقوله : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وخلقا ، ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرة بدلالتها على ربها وخالقها ، وأن الله تعالى بارئها وصانعها ، وان جحد ذلك بعضهم فألسنتهم مذعنة له بالطاعة ، بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها ذلك.

وهنا يقف الانسان المفكر المتدبر متعقلا ومتأملا : اذا كان كل من في الكون ، وكل ما في الكون ، من مخلوقات ، مسخرا لأمر الله ، خاضعا لجلاله ، خاشعا بالقهر والتسخير لسلطانه ، فايهما أجدر بالانسان العاقل وأليق؟ أن يساق على الرغم منه بالقهر والقوة الى ساحة الخضوع والخشوع ، أم يشكر نعمة الله وتكريمه ، ويستشعر هيبته وجلاله ، فيتحلى بفضيلة القنوت الذي هو خضوع وخشوع عن طريق الاقتناع والايمان ، فيقنت لربه في الليل والنهار ، مقرا بربوبيته ، مقبلا على طاعته ، متدثرا بثوب الاحسان والاتقان والاستقامة على التقرب اليه؟

١٧١

أيهما أفضل للانسان العاقل : أن يساق الى الخضوع سوق العبيد أم يستجيب للخشوع استجابة العابدين؟. يستطيع أن يحسن الاجابة على هذا من يحسن تدبر قوله تعالى : (ولقد كرمنا بني آدم ، وحملناهم في البر والبحر ، ورزقناهم من الطيبات ، وفضلناهم من الطيبات ، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) (١).

__________________

(١) سورة الاسراء ، الآية ٧٠.

١٧٢

الاخلاص

كلمة «الاخلاص» تدل على الصفاء والنقاء ، والتنزه من الأخلاط والأوشاب ، والشيء الخالص هو الصافي الذي ليس به شائبة مادية أو معنوية ، وذلك كما في قوله تعالى : (وان لكم في الانعام لعبرة نسقيكم ما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين) (١). والخلاص ـ بكسر الخاء ـ ما أخلصته النار من الذهب وغيره ، وكذلك الخلاصة بضم الخاء.

وفي الاخلاص أيضا معنى السلامة والنجاة ، لانه يقال : خلص فلان من كذا اذا سلم منه ونجا. وفيه أيضا معنى الصدق والطهارة ، يقال : أخلص فلان لفلان في وده ، اذا كان صادقا فيه طاهرا.

وأما معنى الاخلاص الديني الأخلاقي فهو تجريد قصد التقرب الى الله تبارك وتعالى عن جميع الشوائب والعلل ، والتبري من كل ما دون الله سبحانه ، ولذلك قيل عن سورة : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) انها سورة الاخلاص لانها خالصة لصفة الله تعالى خاصة ، أو لان الناطق بها المؤمن بمعناها قد أخلص التوحيد لله عزوجل. ولقد صور الغزالي حقيقة الاخلاص بقوله :

«اعلم أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره ، فاذا صفا عن شوبه

__________________

(١) سورة النحل ، الآية ٦٦.

١٧٣

وخلص منه سمي خالصا ، ويسمى الفعل المصفي المخلص اخلاصا ، قال الله تعالى : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ). فانما خلوص اللبن أن لا يكون فيه شوب من الدم والفرث ، ومن كل ما يمكن أن يمتزج به. والاخلاص يضاده الاشراك ، فمن ليس مخلصا فهو مشرك ، الا أن الشرك درجات ، فالاخلاص في التوحيد يضاده التشريك في الالهية ، والشرك منه خفي ، ومنه جلي ، وكذا الاخلاص ، والاخلاص وضده يتواردان على القلب ، فمحله القلب».

*

ولقد ذكر القرآن الكريم «اخلاص الدين لله» في مواطن كثيرة ، كقوله في سورة البينة : (وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) (١). الدين الخالص هو الدين السليم الطاهر ، الذي لا تشوبه شائبة من شرك أو رياء ، ويقال : أخلص الانسان دينه لله ، أي جعله كله ابتغاء وجه الله ، ووقفه عليه محضا خالصا من كل عيب أو دنس.

ويقول القرآن في سورة النساء : (ان المنافقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ، الا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فاولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما) (٢). ويذكر تفسير المنار أن اخلاص الدين لله هو أن يتوجه الانسان بدينه الى ربه وحده ، لا يدعو من دونه أحدا ، ولا يدعو معه أحدا ، لا لكشف ضر ، ولا لجلب نفع ، ولا يتخذ من دونه أولياء يجعلهم وسطاء عنده ، بل يكون كل ما يتعلق بالدين والعبادة خالصا له وحده ،

__________________

(١) سورة البينة ، الآية ٥.

(٢) سورة النساء ، الآيتان ١٤٥ و ١٤٦.

١٧٤

لا تتوجه فيه النفس الى غيره ، ولا يسأل اللسان سواه. ولا يستعان ـ فيما وراء الأسباب العامة ـ بمن عداه.

ويتعرض ابن جرير الطبري للآية فيقول فيما يقول : «وأخلصوا طاعتهم وأعمالهم التي يعملونها لله ، فأرادوه بها ، ولم يعملوها رئاء الناس ، ولا على شك منهم في دينهم ، وامتراء منهم في أن الله محص عليهم ما عملوا ، فيجازي المحسن باحسانه ، والمسيء باساءته ، ولكنهم عملوها على يقين منهم في ثواب المحسن على احسانه ، وجزاء المسيء على اساءته ، أو يتفضل عليهم ربهم فيعفو ، متقربين بها الى الله ، مريدين بها وجهه ، فذلك معنى اخلاصهم لله دينهم.

ثم قال جل ثناؤه : (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ). يقول : فهؤلاء الذين وصف صفتهم من المنافقين ، بعد توبتهم واصلاحهم ، واعتصامهم بالله ، واخلاصهم له ، مع المؤمنين في الجنة ، لا مع المنافقين الذين ماتوا على نفاقهم ، الذين أوعدهم الله الدرك الأسفل من النار. ثم قال : (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) يقول : وسوف يعطي الله هؤلاء الذين هذه صفتهم على توبتهم واصلاحهم ، واعتصامهم بالله ، واخلاصهم دينهم له ، على ايمانهم ثوابا عظيما ، وذلك درجات في الجنة».

*

ويقول القرآن المجيد في سورة الأعراف : (قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون) (١) ويعلق تفسير المنار على هذا النص الكريم بقوله : «والمعنى : أعطوا توجهكم الى الله تعالى عند كل مسجد تعبدونه فيه

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية ٢٩.

١٧٥

حقه من صحة النية وحضور القلب وصرف الشواغل ، سواء كانت العبادة طوافا أو صلاة أو ذكرا أو فكرا ، وادعوه وحده مخلصين له الدين ، بأن لا تشوبوا دعاءكم ولا غيره من عبادتكم له بأدنى شائبة من الشرك الأكبر ، وهو التوجه الى غيره من عباده المكرمين ، كالملائكة والرسل والصالحين ، ولا الى ما وضع للتذكير بهم ، من الأصنام والقبور وغيرها ، ولا من الشرك الأصغر ، وهو الرياء وحب اطلاع الناس على عبادتكم ، والثناء عليكم ، والتنويه بذكركم فيها ، وكانوا يتوجهون الى غيره زاعمين أن المذنب لا يليق به أن يقبل على الله وحده ويقيم وجهه له حنيفا ، بل لا بد له أن يتوسل اليه بأحد من عباده الطاهرين المكرمين ، ليشفع لهم عنده ، ويقربهم اليه زلفى ، وهذا من وسواس الشيطان».

ويقول الله تعالى في سورة الزمر : (انا أنزلنا اليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ، الا لله الدين الخالص) (١). ويتحدث الفخر الرازي عن هذا النص الكريم ، فيقول ضمن ما يقول : «انه تعالى لما بيّن في قوله (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق والصواب ، أردف هنا بعض ما فيه من الصدق ، وهو أن يشتغل الانسان بعبادة الله تعالى على سبيل الاخلاص ، فهو المراد من قوله تعالى : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً) وأما براءته من عبادة غير الله تعالى فهو المراد بقوله : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) لان قوله : ألا لله ، يفيد الحصر ، ومعنى الحصر أن يثبت الحكم في المذكور ، وينتفي عن غير المذكور». ثم أضاف : «أما العبادة فهي فعل أو قول ، أو ترك فعل أو ترك قول يؤتى به لمجرد اعتقاد أن الأمر به عظيم يجب قبوله.

وأما الاخلاص فهو أن يكون الداعي له الى الاتيان بذلك الفعل أو الترك مجرد هذا الانقياد والامتثال ، فان حصل منه داع آخر فاما

__________________

(١) سورة الزمر ، الآيتان ٢ و ٣.

١٧٦

أن يكون جانب الداعي الى الطاعة راجحا على الجانب الآخر ، أو معادلا له ، أو مرجوحا. وأجمعوا على أن المعادل والمرجوح ساقط. وأما اذا كان الداعي الى طاعة الله راجحا على الجانب الآخر ، فقد اختلفوا في أنه : هل يفيد أم لا. وقد ذكرنا هذه المسألة مرارا ، ولفظ القرآن يدل على وجوب الاتيان به على سبيل الخلوص ، لان قوله (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً) صريح في أنه يجب الاتيان بالعبادة على سبيل الخلوص ، وتأكد هذا بقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).

وأما بيان الوجوه المنافية للاخلاص فهي الوجوه الداعية للشريك ، وهي أقسام : أحدها أن يكون للرياء والسمعة فيه مدخل. وثانيها أن يكون مقصوده من الاتيان بالطاعة الفوز بالجنة والخلاص من النار. وثالثها أن يأتي بها ويعتقد أن لها تأثيرا في ايجاب الثواب أو دفع العقاب. ورابعها وهو أن يخلص تلك الطاعات عن الكبائر حتى تصير مقبولة ، وهذا انما يعتبر على قول المعتزلة».

ويعود الذكر الحكيم ليؤكد الحث على فضيلة الاخلاص لله والدعوة اليها ، فيقول : (قل اني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ، وأمرت لان أكون أول المسلين ، قل اني أخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم ، قل الله أعبد مخلصا له ديني ، فاعبدوا ما شئتم من دونه) (١). ونلاحظ هنا أن السورة قد بدأت بالأمر باخلاص الدين ، ثم جاءت هذه الآيات تأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن ورائه أتباعه ـ أن يعبد الله مخلصا له الدين ، وأن يقول : الله أعبد مخلصا له ديني ، وقد يظن ظان أن هذا تكرار لا مسوغ له ، ولكن الرازي ينفي هذا الظن بأنه لا تكرار ، لان الأول اخبار بأنه مأمور من جهة الله تعالى بالاتيان بالعبادة ، والثاني اخبار بأنه أمر بأن لا يعبد أحدا غير الله ، وذلك لان قوله :

__________________

(١) سورة الزمر ، الآيات ١١ و ١٥.

١٧٧

(أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) لا يفيد الحصر ، وقوله تعالى : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ) يفيد الحصر ، يعني : الله أعبد ولا أعبد أحدا سواه.

*

ومن عظيم شأن الاخلاص أننا نجد القرآن المجيد ينسبه الى أنبياء الله ورسله ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فيقول في سورة مريم : (واذكر في الكتاب موسى انه كان مخلصا وكان رسولا نبيا) (١). وكلمة «مخلصا» فيها قراءتان ، الأولى بفتح اللام عند حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، ومعناه : أخلصه الله وجعله مختارا خالصا من الدنس. والقراءة الثانية بكسر اللام ، عند ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر والمفضل عن عاصم ، ومعناه : الذي وحد الله ، وجعل نفسه خالصة في طاعة الله غير دنسة.

وقال الله تعالى في سورة يوسف عن يوسف : (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين) (٢). وفي كلمة «المخلصين» قراءتان أيضا.

وفي سورة ص : (واذكر عبادنا ابراهيم واسحاق ويعقوب أولي الايدي والابصار ، انا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ، وانهم عندنا لمن المصطفين الاخبار) (٣). وأخلصناهم : أي اخترناهم واصطفيناهم ، والخالصة هي الخلة والصفة ، أي اصطفيناهم بسبب خلة خاصة فيهم ، هي تذكيرهم بالدار الآخرة ، وذلك شأن الأنبياء.

ولجلال فضيلة الاخلاص لا يستطيع الشيطان أن يسيطر على

__________________

(١) سورة مريم ، الآية ٥١.

(٢) سورة يوسف ، الآية ٢٤.

(٣) سورة ص ، الآيات ٤٥ ـ ٤٧.

١٧٨

المخلصين من عباد الله تبارك وتعالى ، ولذلك يقول القرآن الكريم في سورة الحجر عن الشيطان : (قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين ، الا عبادك منهم المخلصين) (١). ثم قال الله تعالى بعد قليل يخاطب ابليس : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ). وفي سورة (ص) يقول القرآن عن الشيطان : (قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين ، الا عبادك منهم المخلصين) (٢).

ولقد تكرر قول الله تعالى في سورة الصافات عدة مرات ، وفي هذه المرات استثنى الله هؤلاء المخلصين ، ليكونوا بمنجاة من مواقف الاثم ومواطن السوء ، وليفوزوا بالخير والنعيم في الدنيا والآخرة.

يقول الله تعالى في سورة الصافات : (انكم لذائقو العذاب الاليم ، وما تجزون الا ما كنتم تعملون ، الا عباد الله المخلصين ، أولئك لهم رزق معلوم ، فواكه وهم مكرمون ، في جنات النعيم على سرر متقابلين ، يطاف عليهم بكأس من معين ، بيضاء لذة للشاربين ، لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ، وعندهم قاصرات الطرف عين ، كأنهن بيض مكنون) (٣). ويا له من ثواب جليل ونعيم عظيم.

ويقول في السورة نفسها : (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ، الا عباد الله المخلصين) (٤). ثم يقول فيها أيضا : (فكذبوه فانهم لمحضرون الا عباد الله المخلصين) (٥). ثم يقول كذلك : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ،

__________________

(١) سورة الحجر ، الآيتان ٣٩ و ٤٠.

(٢) سورة ص ، الآية ٨٣.

(٣) سورة الصافات ، الآيات ٣٨ ـ ٤٩.

(٤) سورة الصافات ، الآيتان ٧٣ و ٧٤.

(٥) سورة الصافات ، الآيتان ١٢٧ و ١٢٨.

١٧٩

إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١)». ثم يقول أخيرا : (وان كانوا ليقولون : لو أن عندنا ذكرا من الاولين ، لكنا عباد الله المخلصين) (٢).

*

والطريق الى الاخلاص هو محاربة أهواء النفس ، ومقاومة الطمع في الدنيا ، والتجرد للاقبال على الآخرة ، واحياء خشية الله في القلب ، وهذا الاخلاص اذا صدق استلزم صواب العمل وطهارته ، ولقد سمع الفضيل بن عياض قول الله تبارك وتعالى : () (٣) فقال : أحسن العمل هو أخلصه وأصوبه. فقالوا له : ما أخلصه وأصوبه؟. فأجاب : ان العمل اذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل ، واذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل ، حتى يكون خالصا وصوابا ، والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنّة. ثم تلا قول الله تبارك وتعالى : (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) (٤).

وللاخلاص ثمرات كثيرة جليلة منها ما يلي :

أولا : محبة الله تعالى لمن أخلص له ، فقد جاء في الأثر أن الله تبارك وتعالى يعطي الاخلاص لمن يحبه كما يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه ابن ماجد «من فارق الدنيا على الاخلاص لله وحده لا شريك له ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، فارقها والله عنه راض».

ثانيا : قبول الله تعالى من المخلص ، لان الحديث يقول : «ان الله لا يقبل من العمل الا ما كان خالصا وابتغي به وجهه».

__________________

(١) سورة الصافات ، الآيتان ١٥٩ و ١٦٠.

(٢) سورة الصافات ، الآيات ١٦٧ ـ ١٦٩.

(٣) سورة الملك ، الآية ٢.

(٤) سورة الكهف ، الآية ١١٠.

١٨٠