موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٢

ثالثا : انقطاع الوسواس عن الانسان ، ولذلك يقول أبو سليمان الداراني الصوفي : «اذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوسواس والرياء».

رابعا : صرف السوء والفحشاء عن الشخص المخلص ، ولعل هذا بعض ما نفهمه من قول الله تعالى عن يوسف عليه‌السلام : (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين) (١).

خامسا : تفجر الحكمة من المخلص ، فقد قال مكحول : «ما أخلص عبد قط أربعين يوما الا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه».

سادسا : نصر الله للمخلص ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه النسائي : «انما نصر الله هذه الأمة بضعفائها ودعوتهم واخلاصهم».

سابعا : زيادة مضاعفة الحسنات ، فاذا كان الله تبارك وتعالى قد وعد ـ وهو الكريم وصاحب الفضل العظيم ـ بان يثيب الحسنات بأضعافها ، وقال : (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (٢) ، ووعد بأكثر من العشرة الى سبعمائة ضعف ، بل الى ما فوق السبعمائة ، فان هذه الزيادة في الأضعاف تنمو بحسب تمكن الاخلاص من نفس المؤمن ، فكلما زادت مكانته في الاخلاص علوا ، زادت مثوبته على الحسنات أضعافا مضاعفة ، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.

ولهذا قال معاذ بن جبل : «لما بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى اليمن قلت له : يا رسول الله ، أوصني. فقال : «أخلص

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ٢٤.

(٢) سورة الانعام ، الآية ١٦٠.

١٨١

دينك يكفك القليل من العمل». أي اجعل ايمانك خالصا مما يشوبه من شهوات النفس ، واجعل طاعتك كلها لوجه الله ، يصبح القليل من عملك كثيرا مباركا.

ولقد عني الحديث القدسي بأمر الاخلاص والتحذير من ضده ، فجاء فيه : «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك به ، وأنا منه بريء (١)». ويقول الله تعالى في الحديث القدسي أيضا : «الاخلاص سر من سري ، استودعته قلب من أحببت من عبادي».

وعني الحديث النبوي كذلك بأمر الاخلاص ، فجاء فيه : «ثلاث لا يغلّ عليهن قلب مسلم : اخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين ، فان دعوتهم تحيط من ورائهم». ومعنى : «لا يغل عليهن» هو كما قال ابن القيم : لا يبقى في قلب المؤمن غل مع وجود هذه الأمور الثلاثة. وروى مسلم قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ان الله لا ينظر الى أجسامكم ، ولا الى صوركم ، ولكن ينظر الى قلوبكم».

*

وللاخلاص ارتباط وثيق بالنية ، ولو قلنا ان الاخلاص هو تطهير النية وتجريدها لله عند العمل والسعي ، لما بعدنا عن الحقيقة ، ولذلك جاء في الحديث المتفق عليه : «انما الاعمال بالنيات» (٢). وكتب عمر الى ابي موسى الاشعري يقول له : «من خلصت نيته كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس».

__________________

(١) انظر كتابي «أدب الاحاديث القدسية» ص ٥١ و ٢٢٣.

(٢) انظر كتابي «من أدب النبوة» ص ٩ ـ ١٣.

١٨٢

وأعدى أعداء الاخلاص هو الرياء ، فلو ان الانسان راءى بعمله ، ولم يقصد به وجه الله اطلاقا فسد عمله ، ولعل هذا هو المراد من الحديث القائل : «أول من يسأل يوم القيامة ثلاثة : رجل آتاه الله العلم ، فيقول الله تعالى : ما صنعت فيما علمت؟. فيقول : يا رب ، كنت أقوم به آناء الليل وأطراف النهار. فيقول الله تعالى : كذبت. وتقول الملائكة : كذبت ، بل أردت ان يقال : فلان عالم ، ألا فقد قيل ذلك.

ورجل آتاه الله مالا ، فيقول الله تعالى : لقد أنعمت عليك فما ذا صنعت؟. فيقول : يا رب ، كنت أتصدق به آناء الليل وأطراف النهار. فيقول الله تعالى : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، بل أردت ان يقال : فلان جواد ، ألا فقد قيل ذلك.

ورجل قتل في سبيل الله تعالى ، فيقول الله تعالى : ما ذا صنعت؟. فيقول : يا رب ، أمرت بالجهاد فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، بل أردت ان يقال : فلان شجاع ، ألا فقد قيل ذلك.

*

ورجال التصوف عنوا كثيرا بأمر الاخلاص ، وأثرت عنهم أفانين من الكلمات والعبارات فيه ، ومنها ما يلي :

قال سهل : الاخلاص ان يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة.

وقال ابراهيم بن أدهم : الاخلاص صدق النية مع الله تعالى.

وقال رويم : الاخلاص في العمل هو ان لا يريد صاحبه عليه عوضا في الدارين.

١٨٣

وقال أبو عثمان : الاخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر الى الخالق فقط.

وقال المحاسبي : الاخلاص هو اخراج الخلق عن معاملة الرب.

وقال الفضيل : ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والاخلاص أن يعافيك الله منهما. وكان معروف الكرخي يقول لنفسه : أخلصي تتخلصي.

وقال الجنيد : ان لله عبادا عقلوا ، فلما عقلوا عملوا ، فلما عملوا أخلصوا ، فاستدعاهم الاخلاص الى باب البر أجمع.

وقال حاتم الأصم : يعرف الاخلاص بالاستقامة ، والاستقامة بالرجاء ، والرجاء بالارادة ، والارادة بالمعرفة.

وقال أحمد بن عاصم : اذا عملت عملا صالحا ، فلم تحب أن تذكر به وتعظم من أجل عملك ، ولم تطلب ثواب عملك من سواه ، فذلك اخلاص عملك.

وقال عبد الله الأنطاكي : اخلاص العمل أشد من العمل ، والعمل يعجز عنه الرجال.

وقال محمد بن علي الترمذي : ليس الفوز هناك بكثرة الأعمال انما الفوز هناك باخلاص الأعمال وتحسينها.

وقال خير النساج : الاخلاص هو الذي لا يقبل عمل عامل الا به ... الخ.

*

وهناك نوع من الاخلاص قد نستطيع أن نسميه بالاخلاص الموقوت أو المتقطع ، ويمكن أن نلحظه حين نجد القرآن الكريم يقول في سورة

١٨٤

يونس : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ، وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ، دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ : لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ! يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ، مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١).

ويقول في سورة العنكبوت : (فاذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ، فلما نجاهم الى البر اذا هم يشركون ، ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون) (٢).

ويقول في سورة لقمان : (واذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم الى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا الا كل ختار كفور) (٣).

ومعنى دعائهم هنا ـ كما يقول الآلوسي ـ هو أنهم دعوا الله من غير اشراك سواه في الرجاء ، لرجوعهم من شدة الخوف الى الفطرة التي جبل عليها كل أحد من التوحيد ، وأنه لا متصرف الا الله سبحانه ، وهذا شيء مركوز في طبائع الناس يظهر عند الشدائد.

ولقد روي أن عكرمة بن أبي جهل ركب البحر يوم فتح مكة هاربا ، فأصابتهم ريح عاصف ، فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة : أخلصوا ، فان آلهتكم لا تغني عنكم شيئا.

فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر الا الاخلاص ، ما ينجيني في

__________________

(١) سورة يونس ، الآيتان ٢٢ و ٢٣.

(٢) سورة العنكبوت ، الآية ٦٥.

(٣) سورة لقمان ، الآية ٣٢.

١٨٥

البر غيره ، اللهم ان لك عهدا ان أنت عافيتني مما أنا فيه ، أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده : ، فلأجدنه عفوا كريما.

ثم جاء عكرمة الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأعلن اسلامه.

وفي رواية أن عكرمة لما ركب السفينة ، وأخذتهم الريح ، وجعلوا يدعون الله تعالى ويوحدونه ، قال : ما هذا؟.

فقالوا : هذا مكان لا ينفع فيه الا الله تعالى.

قال : فهذا اله محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) الذي يدعونا اليه ، فارجعوا بنا.

ورجع فأسلم!! ..

*

وفضيلة الاخلاص نعمة يمن بها الله تبارك وتعالى على من يشاء من عباده ، واذا أبغض الله عبدا فاسقا أو مرائيا ، حرمه هذه الفضيلة ، ولذلك قال بعض السلف : «اذا أبغض الله عبدا أعطاه ثلاثا ، ومنعه ثلاثا : أعطاه صحبة الصالحين ومنعه القبول منهم ، وأعطاه الأعمال الصالحة ومنعه الاخلاص فيها ، وأعطاه الحكمة ومنعه الصدق فيها».

وما أصدق قول القائل : العلم بذر ، والعمل زرع ، وماؤه الاخلاص.

*

ومن آفات الاخلاص عجب الانسان بعمله ، ورؤيته له ، ويقول ابن القيم لعلاج هذه الآفة :

«فالذي يخلصه من رؤية عمله مشاهدته لمنة الله عليه ، وفضله وتوفيقه له ، وأنه بالله لا بنفسه ، وأنه انما أوجب عمله مشيئة الله لا

١٨٦

مشيئته هو ، كما قال تعالى : (وما تشاؤون الا ان يشاء الله رب العالمين) (١).

فهنا ينفعه شهود الجبر ، وأنه آلة محضة ، وأن فعله كحركات الأشجار وهبوب الرياح وأن المحرك له غيره ، والفاعل فيه سواه. وأنه ميت ، والميت لا يفعل شيئا ، وأنه لو خلي ونفسه لم يكن من فعله الصالح شيء ألبتة ، فان النفس جاهلة ظالمة ، طبعها الكسل وايثار الشهوات والبطالة ، وهي منبع كل شر ، ومأوى كل سوء ، وما كان هكذا لم يصدر منه خير ، ولا هو من شأنه.

فالخير الذي يصدر منها انما هو من الله وبه ، لا من العبد ولا به ، كما قال تعالى : (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ، ولكن الله يزكي من يشاء) (٢). وقال أهل الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا). وقال تبارك وتعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا) (٣). وقال تعالى : (ولكن الله حبب اليكم الايمان وزينه في قلوبكم) (٤) الآية.

فكل خير في العبد فهو مجرد فضل الله ومنته ، واحسانه ونعمته ، وهو المحمود عليه ، فرؤية العبد لأعماله في الحقيقة كرؤيته لصفاته الخلقية : من سمعه وبصره ، وادراكه ، وقوته ، بل من صحته وسلامة أعضائه ، ونحو ذلك ، فالكل مجرد عطاء الله ونعمته وفضله.

فالذي يخلص العبد من هذه الآفة معرفة ربه ، ومعرفة نفسه. والذي يخلصه من طلب العوض على العمل علمه بأنه عبد محض ، والعبد

__________________

(١) سورة التكوير ، الآية ٢٩.

(٢) سورة النور ، الآية ٢١.

(٣) سورة الاسراء ، الآية ٧٤.

(٤) سورة الحجرات ، الآية ٧.

١٨٧

لا يستحق على خدمته لسيده عوضا ولا أجرة ، اذ هو يخدمه بمقتضى عبوديته ، فما يناله من سيده من الأجر والثواب تفضل منه ، واحسان اليه ، وانعام عليه ، لا معاوضته ، اذ الأجرة انما يستحقها الحر ، أو عبد الغير ، فأما عبد نفسه فلا.

والذي يخلصه من رضاه بعمله وسكونه اليه أمران : أحدهما مطالعة عيوبه وآفاته ، وتقصيره فيه ، وما فيه من حظ النفس ونصيب الشيطان ، فقلّ عمل من الأعمال الا وللشيطان فيه نصيب وان قل ، وللنفس فيه حظ.

سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التفات الرجل في صلاته ، فقال : «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد».

فاذا كان هذا التفات طرفة أو لحظة ، فكيف التفات قلبه الى ما سوى الله؟. هذا أعظم نصيب الشيطان من العبودية.

وقال ابن مسعود : «لا يجعل أحدكم للشيطان حظا من صلاته ، يرى أن حقا عليه : ان لا ينصرف الا عن يمينه». فجعل هذا القدر اليسير النزر حظا ونصيبا للشيطان من صلاة العبد ، فما الظن بما فوقه؟.

أما حظ النفس من العمل : فلا يعرفه الا أهل البصائر الصادقون.

الثاني : علمه بما يستحقه الرب جل جلاله من حقوق العبودية وآدابها الظاهرة والباطنة وشروطها ، وأن العبد أضعف وأعجز ، وأقل من أن يوفيها حقا ، وأن يرضى بها لربه ، فالعارف لا يرضى بشيء من عمله لربه ، ولا يرضى نفسه لله طرفة ، ويستحي من مقابلة الله بعمله.

فسوء ظنه بنفسه وعمله وبغضه لها ، وكراهته لأنفاسه وصعودها الى الله يحول بينه وبين الرضى بعمله والرضى عن نفسه».

*

١٨٨

وقد يسأل سائل فيقول : وما حكم العمل المشوب بحظ من حظوظ الدنيا؟ وما مكانه من الرضى والقبول عند الله عزوجل؟

ويجيب الغزالي عن ذلك بأن العمل اذا لم يكن خالصا لوجه الله تعالى ، بل اختلط به شوب من الرياء أو حظوظ النفس ، فقد اختلفوا : أيقتضي ثوابا ، أم يقتضي عقابا ، أم لا يقتضي شيئا أصلا ، فلا يكون له ولا عليه.

وأما العمل الذي يكون كله رياء فانه يكون محسوبا على صاحبه ، ويكون سبب المقت والعقاب له ، وأما العمل الخالص لوجه الله تعالى فهو سبب الثواب ، وانما النظر في العمل المشوب ، فظاهر الأخبار الواردة تدل على أنه لا ثواب له ، ولكن الأخبار هنا لا تخلو من تعارض ، والظاهر لنا ـ والعلم عند الله ـ أن ننظر الى قدر قوة الباعث على العمل ، فان كان الباعث الديني مساويا للباعث النفسي تقاوما وتساقطا ، وصار العمل لا له ولا عليه ، وان كان باعث الرياء أغلب وأقوى ، فهو ليس بنافع ، وهو مع ذلك يضر صاحبه ويفضي به الى العقاب ، وان كان عقابه أقل من عقاب العمل الذي لا شيء فيه سوى الرياء.

وان كان قصد التقرب الى الله تعالى أغلب بالاضافة الى الباعث الآخر ، فله ثواب بقدر ما فضل من قوة الباعث الديني ، لأن الله تعالى يقول : (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) (١). ويقول : (ان الله لا يظلم مثقال ذرة وان تك حسنة يضاعفها) (٢).

فلا ينبغي ان يضيع قصد الخير في العمل ، بل ان كان غالبا على قصد الرياء حبط منه القدر الذي يساويه وبقيت الزيادة ، وان كان قصد

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآيتان ٧ و ٨.

(٢) سورة النساء ، الآية ٤٠.

١٨٩

الخير مغلوبا سقط بسببه جانب من العقوبة التي ستكون بسبب تغلب الرياء.

والحافظ العراقي يذكر أن الأخبار الواردة بشأن أن العمل المشوب لا أجر له. لا تخلو من تعارض ، وذكر حديثا فيه أن رجلا قال : يا رسول الله ، رجل يبتغي الجهاد في سبيل الله ، وهو يبتغي عرضا من أعراض الدنيا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أجر له». ثم ذكر حديثا آخر رواه أبو هريرة ، وفيه أن الرسول سئل عن الرجل يعمل العمل فيسره ، فاذا اطلع عليه أعجبه. فقال : له أجران ، أجر السر ، وأجر العلانية».

والمرجو من فضل الله ورحمته أن يتجاوز بعفوه عما يعرض للانسان في اثناء عمله من حظوظ النفس أو أهواء الذات ، فان استكمال حقيقة الاخلاص ، وتجريد النفس من هواها ، طريق شاق عسير ، ونستطيع ان نتبين ذلك في اشفاق وخوف من حديث الغزالي حين يضرب أمثلة للمرائين الذين يخلطون التقرب الى الله بغرض آخر من أغراض الدنيا ، قل أو كثر ، فيقول :

«ومثال ذلك أن يصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب ، أو يعتق عبدا ليتخلص من مؤونته ، وسوء خلقه ، أو يحج ليصبح مزاجه بحركة السفر ، أو يتخلص من شر يعرض له في بلده ، أو ليهرب من عدو له في منزله ، أو يتبرم بأهله وولده ، أو بشغل هو فيه ، فأراد أن يستريح منه أياما ، أو يغزو ليمارس الحرب ، ويتعلم أسبابه ، ويقدر به على تهيئة العساكر وجرها.

أو يصلي بالليل وله غرض في دفع النعاس عن نفسه به ، ليراقب أهله أو رحله ، أو يتعلم العمل ليسهل عليه طلب ما يكفيه من المال ، أو ليكون

١٩٠

عزيزا بين العشيرة ، أو ليكون عقاره أو ماله محروسا بعز العلم عن الأطماع.

أو اشتغل بالدرس والوعظ ليتخلص من كرب الصمت ، ويفترج بلذة الحديث ، أو تكفل بخدمة العلماء أو الصوفية لتكون حرمته وافرة عندهم وعند الناس ، أو لينال به رفقا (١) في الدنيا ، أو كتب مصحفا ليجدد بالمواظبة على الكتابة خطه ، أو حج ماشيا ليخفف عن نفسه الكراء ، أو توضأ ليتنظف أو يتبرد ، أو اغتسل لتطيب رائحته.

أو روى الحديث ليعرف بعلو الاسناد ، أو اعتكف في المسجد ليخفف كراء المسكن ، أو صام ليخفف عن نفسه التردد في طبخ الطعام ، أو ليتفرغ لأشغاله فلا يشغله الأكل عنها ، أو تصدق على السائل ليقطع ابرامه في السؤال عن نفسه ، أو يعود مريضا ليعاد اذا مرض ، أو يشيع جنازة لتشيع جنائز أهله ، أو يفعل شيئا من ذلك ليعرف بالخير ويذكر به ، وينظر اليه بعين الصلاح والوقار.

فمهما كان باعثه هو التقرب الى الله تعالى ، ولكن انضاف اليه خطرة من هذه الخطرات حتى صار العمل أخف عليه بسبب هذه الأمور ، فقد خرج عمله عن حد الاخلاص ، وخرج عن أن يكون خالصا لوجه الله تعالى ، وتطرق اليه الشرك ..»!.

حسبك يا «حجة الاسلام» حسبك! .. لقد شققت على كثير من الناس يسعون في الطريق بأقل من همتك وعزيمتك ، ودون ما طمحت اليه وأدرت البيان عليه ، وهم يطمعون في عفو الله وفضله ، والله هو صاحب الفضل العظيم ..

ان الانسان لا يخلو تماما من جميع الكدورات والشوائب ، ولا

__________________

(١) أي لينال به لينا ورفاهة في المعيشة.

١٩١

يصفو على الدوام من جميع العلل ، والاخلاص يكون لقلب العبد المخلص بالتجرد من الشرك والغل والتهم ، وأما الصفاء الكامل الذي لا تصحبه علة ، أو الطهارة من جميع أوصاف البشرية على الدوام ، فليس ذلك من شأن الانسان ، وجل المنزه عن النقص والعيب.

وهناك فرقة من الفرق الصوفية قد ضلت الطريق كما ضلت التحقيق حين زعمت أن الاخلاص لا يصح لعبد الا اذا خرج عن رؤية الخلق ، ولم يوافقهم في جميع ما يريد أن يعمله ، سواء أكان ذلك حقا أم باطلا. وقد رد أبو النصر الطوسي في كتابه «اللمع» على ضلال هذه الفرقة فقال :

«وانما ضلت هذه الفرقة لان جماعة من أهل الفهم والمعرفة تكلموا في حقيقة الاخلاص : أن لا يصفو لهم ذلك حتى لا يبقى على العبد بقية من رؤية الخلق والكون وكل شيء غير الله تعالى.

فظنت هذه الفرقة وطمعت أن ذلك يصح لهم بالدعوى والتقليد والتكلف ، قبل سلوك مناهجها ، والتأدب بآدابها ، والابتداء ببدايتها ، حتى يؤديه ذلك الى نهاياتها ، حالا بعد حال ، ومقاما بعد مقام ، فأداهم الدعوى والطمع الكاذب الى قلة المبالاة وترك الأدب ، ومجاوزة الحدود فأسرهم الشيطان ، وغلبتهم النفس والهوى ، بما خيل اليهم أنهم برسم المخلصين في الاخلاص ، وهم في عين الضلالة والانتقاص ، وأنّى لهم من ذلك الخلاص؟.

وقد خفي عليهم ـ لشقاوتهم ـ أن العبد المطلوب بدرجة الاخلاص هو العبد المهذب المؤدب ، الذي هجر السيئات ، وجرد الطاعات ، وعمل في الارادات ، ونازل الأحوال والمقامات ، حتى أداه ذلك الى صفاء الاخلاص.

فأما من هو أسير هواه ، ورهين نفسه وشيطانه ، وهو «في ظلمات بعضها فوق بعض اذا أخرج يده لم يكد يراها» فهو محجوب عن حال أهل البدايات ، فكيف يصل الى ما بعد ذلك؟.

١٩٢

فمثل هؤلاء كمثل من سمع بالجوهرة النفيسة أنها تكون صافية مدورة ، فوقع في يده خرزة من الزجاج فأعجبته تلك ، لأنها مدورة صافية ، فلما احتاج اليها حملها الى من يعرف الجواهر ، فقال له : هي زجاجة لا قيمة لها ، فلم يدعه الجهل والطمع الكاذب أن يرمي بها من قلة معرفته بالزجاج والجوهر.

*

وفضيلة الاخلاص هي التي تحرك في نفس الانسان كريم البواعث ونبيل الحوافز ، فلا يتحرك الى العمل لهوى خسيس ، أو غل دنيء ، أو رياء موبق ، بل يتحرك طلبا لرضا الله سبحانه ، وحبا في عمل الخير ، ورغبة في التعاون مع كرام الناس ، وتطلعا الى سيادة الحق والعدل والبر ، وهذا لا يمنع الانسان أن يتمتع بالطيبات وزينة الله في هذه الحياة.

والاخلاص بعد هذا تتعدد جهاته ونواحيه ومقاصده في الحياة ، فاذا كنا نرى في القمة اخلاص العبد لربه ، وهو افراده بالعبادة والتقديس ، ففي ظلال هذه القمة تبدو ألوان أخرى من الاخلاص ، فهناك اخلاص الانسان لوطنه ، بان يحبه ويدافع عنه ، ويضحي في سبيله بالنفس والنفيس ، وهناك اخلاص المرء لأهله وأصدقائه ومواطنيه ، وهناك اخلاص المرء لبني الانسان. وهم اخوته في الانسانية ، بأن يريد لهم الخير ، ويعمل لذلك ما استطاع اليه سبيلا.

وما شاع الاخلاص بين قوم في شؤون الدين والدنيا الا عمهم الخير والحق ، وزهق بينهم الشر والباطل ، وكانوا في الأولى والآخرة من السعداء.

١٩٣

الوفاء

ان مادة «وفى» تدل على الاكمال والاتمام ، وجاءت من المادة كلمة «الوفاء» بمعنى اتمام العهد واكمال الشرط. وأقول : أوفيتك الشيء ، اذا قضيتك اياه وافيا. وأقول : استوفيتك حقي ، أو توفيتك حقي ، أي أخذته كاملا. وفي الحديث : «أوفى الله ذمتك» أي أتمها ، وكل شيء بلغ تمام الكمال فقد وفي وتم ، والوفيّ ـ بوزن الغني ـ هو الذي يعطي الحق ، وسمّي الموت وفاة لاستيفاء الميت مدته التي وفّيت له ، ومنه قوله تعالى : () [١] أي يستوفي مدد آجالهم ، أو يستوفي تمام عددهم الى يوم القيامة.

هذا بعض حديث اللغة عن مادة «الوفاء». واما حديث الاخلاق فاننا نجد فيه تعريفهم الوفاء بقولهم : الوفاء هو ملازمة طريق المواساة ، والمحافظة على عهود الخلطاء ، ونجد الغزالي يصف وفاء الأخ لأخيه بأنه الثبات على حبه حتى الموت ، وبعد الموت مع اولاده واصدقائه.

ولقد تحدث القرآن الكريم عن فضيلة الوفاء في مواطن كثيرة ، ولعل أشرف مكانة للوفاء هي أن يصف الله تبارك وتعالى ذاته القدسية بالوفاء ، فيقول عز من قائل في سورة التوبة : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٤٢.

١٩٤

الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ، وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١)». ومعنى قوله : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) أنه لا أحد أوفى بعهده ، ولا أصدق في انجاز وعده ، من الله جل جلاله ، فهو القادر المتمكن من الوفاء ، وهو أصدق الواعدين ، وأوفى المعاهدين.

وهناك آيات قرآنية كثيرة تذكر اتصاف الله تعالى بالوفاء ، ففي سورة آل عمران : (وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ، والله لا يحب الظالمين) (٢). وفي سورة فاطر : (ان الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وانفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ، ليوفيهم اجورهم ويزيدهم من فضله انه غفور شكور) (٣) ..

والله جل جلاله يوفي كل انسان حقه ، سواء أكان مستقيما أم منحرفا ، صالحا كان أم صالحا ، فكل واحد منهم وما يستحقه ويليق به ، يقول جل جلاله في سورتي البقرة وآل عمران : (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) (٤). ويقول في آل عمران : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (٥). ويقول في سور الزمر :

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١١١.

(٢) سورة آل عمران ، الآية ٥٧.

(٣) سورة فاطر ، الآيتان ٢٩ و ٣٠.

(٤) سورة البقرة ، الآية ٢٨١ وآل عمران ، الاية ١٦١.

(٥) سورة آل عمران ، الآية ١٨٥.

١٩٥

(ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) (١). ويقول في سورة الاحقاف : (ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون) (٢). ويقول في سورة النجم : (وان ليس للانسان الا ما سعى ، وأن سعيه سوف يرى ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى) (٣).

ونوه القرآن المجيد بسمو فضيلة الوفاء حين جعلها صفة للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فقال في سورة النجم : (وابراهيم الذي وفّى) (٤). وذلك لان ابراهيم بذل غاية جهده في كل ما طولب به من ربه ، فبذل ماله في طاعة الله ، وقدم ولده اسماعيل قربانا لله ، حتى فداه الله ، ووفى بكلمات الله المشار اليها في قوله تعالى : (واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن) (٥) ، وقاوم الوثنية والاشراك ، وفضل حق ربه على حق أبيه ، واحتمل ابتلاء الاحراق بالنار في سبيل الله ، الى غير ذلك من ألوان الوفاء.

وقال القرآن في سورة مريم : (واذكر في الكتاب اسماعيل انه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا) (٦). وانما خصه بذكر صفة الوفاء له هنا ، وصدقه في الوعد ، لأنه كان مشهورا بذلك ، وكانت له في هذا الباب أشياء لم تعهد من غيره ، وحسبنا أنه وعد بالصبر على الذبح ، وقال لأبيه : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) ووفى بعهده ، وصدق في وعده ، فكان من المخلصين.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٧٠.

(٢) سورة الاحقاف ، الآية ١٩.

(٣) سورة النجم ، الآيتان ٤١ و ٤٢.

(٤) سورة النجم ، الآية ٣٧.

(٥) سورة البقرة ، الآية ١٢٤.

(٦) سورة مريم ، الآية ٥٤.

١٩٦

وحدثنا القرآن بأن الوفاء صفة المؤمنين الاخيار الابرار ، فقال في سورة آل عمران : (بلى من أوفى بعهده واتقى فان الله يحب المتقين) (١). وقال في سورة الرعد : (انما يتذكر أولوا الالباب ، الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) (٢). وقال في سورة الفتح : (ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله ، يد الله فوق أيديهم ، فمن نكث فانما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) (٣). والوفاء بالعهد في أمثال هذه الآيات الكريمة يشمل الوفاء بمختلف أنواع العهد بين الناس ، سواء أكان عهدا ماديا أو معنويا ، حالّا أو مؤجلا ، ويشمل كذلك الوفاء بعهد الله تبارك وتعالى ، ولذلك جاء في «تفسير المنار» هذه العبارة : «العهد ما تلتزم الوفاء به لغيرك ، فاذا اتفق اثنان على أن يقوم كل منهما للآخر بشيء مقابلة ومجازاة يقال انهما تعاهدا ، ويقال : عاهد فلانا فلان عهدا ، فيدخل فيه العقود المؤجلة والامانات ، فمن ائتمنك على شيء ، أو أقرضك مالا الى أجل ، أو باعك بثمن مؤجل ، وجب عليك الوفاء بالعهد ، وأداء حقه اليه في وقته ، من غير أن تلجئه الى التقاضي والالحاح في الطلب ، بذلك تقضي الفطرة وتحتمه الشريعة ، وهذا مثال العهد مع الناس». ثم قال : «ويدخل في الاطلاق عهد الله تعالى ، وهو ما يلتزم المؤمن الوفاء له به ، من اتباع دينه ، والعمل بما شرعه على لسان رسوله ، وعهد للناس العمل به».

والقرآن يخبرنا أن الوفاء ألوان وأنواع ، فهناك الوفاء بالعهد الذي يقول عنه : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا). وهناك الوفاء بالوعد الذي

__________________

(١) سورة آل عمران ، الاية ٧٦.

(٢) سورة الرعد ، الآية ٢٠.

(٣) سورة الفتح ، الآية ١٠.

١٩٧

يشير اليه بقوله : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ). وهناك الوفاء بالنذر الذي يشير اليه بقوله : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) ، وهناك الوفاء بالكيل الذي يشير اليه في قوله : (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ). وهناك الوفاء بالعقود الذي يشير اليه بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ...) الخ.

ولكن أعلى هذه العقود واجدرها بالرعاية والعناية هو عهد الله جل جلاله الذي أشار اليه القرآن في قوله : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) وقوله : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا). وقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً ، إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). وقد أشار الله جل جلاله الى جانب من مضمون هذا العهد الالهي حين قال في سورة يس : (ألم أعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين ، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) (١).

وهذا العهد الذي أمرنا الله تعالى بالوفاء به قيل هو العهد الفطري الذي ذكره الله في سورة الأعراف بقوله : (واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم؟ قالوا : بلى شهدنا ، أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين ، أو تقولوا انما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ، أفتهلكنا بما فعل المبطلون) (٢). وحينما تعرض تفسير «مجمع البيان» لمعنى قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) ذكر ان عهد الله قد رووا فيه عدة وجوه :

أولها : أن هذا العهد هو أن الله تبارك وتعالى عهد اليهم في التوراة

__________________

(١) سورة يس ، الآيتان ٦٠ و ٦١

(٢) سورة الاعراف ، الآيتان ١٧١ و ١٧٢.

١٩٨

أنه باعث نبيا يقال له : محمد ، فمن تبعه كان له أجران اثنان : أجر باتباعه موسى وايمانه بالتوراة المبشرة بمحمد ، وأجر باتباعه محمدا وايمانه بالقرآن ، ومن كفر به تكاملت أوزاره ، وكانت النار جزاءه ، والمعنى : أوفوا بعهدي في محمد ، أوف بعهدكم وهو ادخالكم الجنة.

ثانيها : أنه العهد الذي عاهدهم عليه ، حيث قال لهم : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أي أطيعوا بجد واجتهاد ، وتذكروا ما في الكتاب من نواه وأوامر.

ثالثها : أنه ما عهده اليهم في سورة المائدة حيث قال : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ، وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ، وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ ، لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ. وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ، فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ، وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ ، إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

رابعها : أنه أراد جميع الأوامر والنواهي.

خامسها : أنه جعل تعريفهم نعمة الله عهدا عليهم وميثاقا ، لأنه يلزمهم القيام بما يأمرهم به من شكر هذه النعم ، كما يلزمهم الوفاء بالعهد والميثاق الذي يؤخذ عليهم.

وفي تفسير المنار : أن عهد الله تبارك وتعالى المطلوب الوفاء به ، هو العهد الاكبر الذي أخذه الله على جميع البشر بمقتضى الفطرة ، وهو التدبر والتفكر ، ووزن كل شيء بميزان العقل والنظر الصحيح ، لا بميزان

١٩٩

الهوى والغرور. ويقول التفسير : «العهد الذي تقتضيه فطرة الله التي فطر الناس عليها ، هو عهد منه يطالب الناس به ، ويحاسبهم عليه ، ومنه الحنيفية ، وأصلها الميل عن جانب الباطل والشر ، الى جانب الحق والخير ، فقد فطر الله أنفس البشر على الشعور بسلطان غيبي فوق جميع قوى العالم ، وعلى ايثار ما تراه حسنا واجتناب غيره ، وعلى حب الكمال وكراهة النقص. ولكنهم يخطئون في تحديد هذه المعاني ، ويحتاجون الى بيانها لوحي من الله تعالى ، وهو عهد الله المفصّل الذي يرسل به رسله ، لمساعدة الفطرة على تزكية النفس ، وازالة ما يطرأ عليها من الفساد بالجهل وسوء الاختيار».

* * *

وقد أمر الله عز شأنه عباده بأن يتخذوا من فضيلة الوفاء درعا وحصنا وزينة لنفوسهم وأخلاقهم ، فقال في سورة الحج : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) ، وقال في سورة النحل : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ). وقال في سورة الاسراء : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ). وقال في سورة الانعام : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ).

ومن سمو مكانة الوفاء في حديث القرآن الكريم أن الله جل جلاله جعل الوفاء جزاء لمكارم الاعمال والخصال ، فقال في سورة البقرة : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ). وقال في سورة الانفال : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ). وقال في سورة الزمر : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ).

واذا انتقلنا الى روضة السنة المطهرة المفسرة لكتاب الله سبحانه ،

٢٠٠