موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٢

وجدنا سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمجد فضيلة الوفاء ويرفع قدرها ، فهو يقول : «المسلمون عند شروطهم». وهذا تعبير وجيز بليغ ، يصوّر ارتباط المسلمين بعهودهم ، ووقوفهم عند كلمتهم ، ووفائهم بما يشترطونه على أنفسهم. ويقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه : «عدة المؤمن دين» والعدة هي الوعد. ويقول : «عدة المؤمن كالأخذ باليد».

والرسول عليه الصلاة والسّلام هو الذي ضرب المثل الرائع في الوفاء ، حينما حفظ عهد زوجته خديجة رضي الله عنها ، حفظه في حياتها وبعد مماتها ، ولم يشغله عن ذكراها شاغل ، فكان يكثر من الحديث عنها والثناء عليها ، وحينما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها مشيرة الى خديجة بمقتضى الغيرة : هل كانت الا عجوزا أبدلك الله خيرا منها؟. انكر عليها ذلك وأجابها غاضبا : لا والله ما أبدلني الله خيرا منها ، آمنت بي اذ كفر الناس ، وصدقتني ، اذ كذبني الناس ، وواستني بمالها اذ حرص الناس ، وكانت وكانت ، وكان لي منها ولد.

ويضرب الرسول مثلا رائعا آخر في الوفاء بالوعد ، فقد روى عبد الله ابو الحمساء رضي الله عنه قال : بايعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيع قبل أن يبعث ، وبقيت له بقية (أي من ثمن المبيع) فوعدته أن آتيه بها في مكانه ، فنسيت ، ثم ذكرت بعد ثلاث ، فجئت فاذا هو في مكانه ، فقال : يا فتى ، لقد شققت عليّ ، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك!.

ولقد روى الامام مسلم في صحيحه أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه كان في مكة عقب هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى المدينة ، ثم أراد حذيفة ان يهاجر مع أبيه الى المدينة ، فقبض عليهما المشركون وقالوا لهما : انكما تريدان محمدا. فقالا : ما نريد الا المدينة. ثم أخذ

٢٠١

المشركون عليهما العهود والمواثيق حتى لا يقاتلا مع النبي ، وأعطى حذيفة ووالده على ذلك عهد الله وميثاقه ، ثم هاجرا ، وجاءت غزوة بدر ، فأرادا أن يشاركا فيها ، وأخبرا النبي بما أعطياه للمشركين من عهد وميثاق ، فقال النبي لهما : «انصرفا ، نفي لهم بعهدهم. ونستعين الله عليهم»!.

وكذلك جاء في كتابي «الفداء في الاسلام» أن المسلمين اضطروا أمام ظروف قاهرة ، واستجابة لنظرة عميقة بعيدة ، أن يقبلوا عهد الحديبية بينهم وبين المسلمين. وكان من شروطه أنه ان جاء أحد من مكة فارأ الى المدينة ردّه المسلمون الى مكة ، واشتد هذا الشرط على المسلمين ، ولكن الرسول عليه الصلاة والسّلام ، قال لأصحابه : «انه من ذهب منا اليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم فرددناه ، فسيجعل الله له فرجا ومخرجا».

وبعد كتابة عهد الحديبية ، ورجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى المدينة جاءه أبو بصير عتبة بن أسيد الثقفي. جاءه هاربا من مكة بعد أن أسلم. وجاء وراءه رجلان من أهل مكة يطلبان ردّه اليهم فأبى وفاء النبي الا أن ينفذ الشرط ، ولما تألم أبو بصير من ذلك ، قال له النبي عليه الصلاة والسّلام : «يا أبا بصير ، انا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت (من العهد) ، ولا يصلح في ديننا الغدر. وان الله جاعل لك ومن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا». وقد حقق الله تعالى ظن رسوله ورجاءه بعد قليل (١).

وهناك موقف مشابه لموقف أبي بصير السالف الذكر ، وهذا الموقف المشابه يتعلق بأبي جندل بن سهيل بن عمرو ، فقد كان والده ممثلا للمشركين في عهد الحديبية ، ولكن ابنه أبا جندل أسلم وهرب واتجه الى

__________________

(١) انظر كتابي «الفداء في الاسلام» ص ٧٠ ـ ٧٥. الطبعة الاولى.

٢٠٢

المدينة مهاجرا ، وعلم أبوه بذلك ، فأخذ يطالب الرسول برد ابنه ، فلم يملك الرسول الا الوفاء بالشرط ، ولما تألم أبو جندل من ذلك قال له الرسول : «يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فان الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، انا قد عقدنا بيننا وبين القوم عهدا ، وأعطيناهم على ذلك ، وانا لا نغدر بهم (١).

وتحدثنا السيرة العطرة بأن الوفاء كان زينة الشخصيات المؤمنة التي نألقت على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي صدر الاسلام ، حتى قال التنزيل المجيد : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).

ولقد روي في سبب نزول هذه الآية الكريمة أن الصحابي الجليل أنس بن النضر لم يستطع أن يشهد غزوة بدر ، فحزن لذلك ، وقال للنبي : يا رسول الله ، غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين ، لئن أشهدني الله مع النبي قتال المشركين ليرينّ ما أصنع.

وجاء يوم الوفاء ... جاء يوم أحد ، وانكسر المسلمون في القتال ، وثبت أنس ، وهتف يقول : اللهم اني أعتذر اليك مما صنع هؤلاء (يعني أصحابه) وأبرأ اليك مما صنع هؤلاء (يعني المشركين). ثم انطلق يدافع ويجاهد. وقابله سعد بن معاذ ، فقال له أنس محرضا على الجهاد حتى النصر أو الاستشهاد : يا سعد بن معاذ ، الجنة ورب النضر ، اني لأجد ريحها من دون أحد!.

ولم يستطع سعد ـ كما اعترف ـ أن يجاري أنسا في صنع ما صنع ، حيث انطلق أنس يكافح ويجاهد ، ويؤدي واجب الوفاء والفداء

__________________

(١) انظر كتابي «الفداء في الاسلام» ص ٧٦ ـ ٨٤. الطبعة الاولى.

٢٠٣

حتى نال الشهادة في سبيل الله بلا تردد ولا تقهقر ، بعد أن أصابه بضعة وثمانون جرحا ، ما بين ضربة بالسيف ، أو طعنة بالرمح ، أو رمية بالسهم ، ومثّل بجثته المشركون الطغاة ، حتى خفيت معرفته على قومه ، فلم تعرفه الا أخته بعلامة كانت فيه ، عليه رضوان الله تبارك وتعالى.

وكذلك ضرب «الانصار» أروع الامثال في الوفاء :

عن أنس بن مالك قال : لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم ، بذراريهم ونعمهم ، ومع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ عشرة آلاف ، ومعه الطلقاء ، فأدبروا عنه حتى بقي وحده.

فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما شيئا. التفت عن يمينه فقال : يا معشر الأنصار. فقالوا : لبيك يا رسول الله ، نحن معك ، أبشر.

ثم التفت عن يساره فقال : يا معشر الأنصار. فقالوا : لبيك يا رسول الله ، أبشر ، نحن معك. وهو على بغلة بيضاء ، فنزل وقال : أنا عبد الله ورسوله.

فانهزم المشركون ، وأصاب النبيّ غنائم كثيرة ، فقسمها بين المهاجرين والطلقاء ، ولم يعط الأنصار منها شيئا فقالوا (أي بعضهم) : اذا كانت الشدة ندعى ، ويعطى الغنائم غيرنا ، فبلغه ذلك فجمعهم وقال : يا معشر الأنصار ، ما شيء بلغني عنكم؟. فسكتوا ، فقال : يا معشر الأنصار ، أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا ، وتذهبون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تحوزونه الى بيوتكم؟.

قالوا : بلى يا رسول الله ، رضينا!.

فقال رسول الله : لو سلك الناس واديا ، وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار!.

وهكذا يكون الوفاء عند أهل الصدق والفداء.

* * *

٢٠٤

وان للوفاء لشأنا وخبرا عند أعلام هذه الامة المحمدية المؤمنة ، فهذا أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكرم الله وجهه ، يقول : «ان الوفاء توأم الصدق (١) ، ولا أعلم جنّة (٢) أوفى منه ، ولا يغدر من علم كيف المرجع (٣). ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا (٤) ونسبهم أهل الجهل الى حسن الحيلة. مالهم قاتلهم الله؟. قد يرى الحوّل القلّب (٥) وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لا حريجة (٦) له في الدين».

وكأن الامام يريد أن يقول : ان أهل ذلك الزمان يعدون الغدر من العقل وحسن الحيلة ، سفها منهم وجهلا ، ويقول : ما لهم قاتلهم الله يزعمون ذلك ، مع أن الانسان البصير بتحويل الامور وتقليبها قد يرى وجه الحيلة في بلوغ مراده ، ولكنه يجد دون الاخذ بالحيلة مانعا من أمر الله ونهيه ، فيدع الحيلة وهو قادر عليها ، مبصر لها بعينيه ، خوفا من الله تعالى ، ووقوفا عند حدوده (٧).

وللاستاذ الامام محمد عبده كلمة يصور بها أثر الوفاء في عظمة الشعوب والامم ، يقول فيها :

__________________

(١) التوأم الذي يولد مع الآخر ، والمعنى أن الصدق والوفاء قرينان.

(٢) الجنة ـ بضم الجيم ـ : الوقاية.

(٣) من علم أن رجوعه الى الله لا يقبل الغدر ولا يفعل الخيانة.

(٤) أي يعدونه من باب التعقل وحسن الحيلة.

(٥) الحول القلب : البصير بتحويل الامور وتقليبها. أي انه قد يعرف الحيلة ولكنه لا يفعلها خشية لله تعالى.

(٦) الحريجة : التحرج ، أي تجنب الآثام خشية من الله سبحانه.

(٧) انظر نهج البلاغة ، ج ١ ص ٨٨.

٢٠٥

«ان الايفاء بالعهود والعقود من أهم الفرائض التي فرضها الله تعالى لنظام المعيشة والعمران ، وانما الصلاة والزكاة من وسائله (١) ، والزكاة فرع منه في وجه آخر ، فان الله تعالى فرض علينا الصلاة وهو غني عن العالمين ، لنؤدب بها نفوسنا ، فنعيش في الدنيا عيشة راضية ، ونستحق بذلك عيشة الآخرة المرضية ، اذ المصلي أجدر الناس بالقيام بحقوق عباد الله الذين هم عيال الله ، بما يستولي على قلبه فيها من الشعور بسلطان الله تعالى وقدرته ، وفضله واحسانه ، وعموم هذا السلطان والاحسان له وللناس كافة.

والاخلاف من الذنوب الهادمة للنظام ، المفسدة للعمران ، المفنية للأمم ، وما فقدت أمة الوفاء الذي هو ركن الأمانة وقوام الصدق الا وحلّ بها العقاب الالهي ، ولا يعجل الله الانتقام من الأمم لذنب من الذنوب يفشو فيها ، كذنب الاخلال بالعهد والاخلاف بالوعد.

وانظر حال أمة استهانت بالايفاء بالعهود ، ولم تبال بالتزام العقود ، كيف حلّ بها عذاب الله تعالى بالاذلال وفقد الاستقلال ، وضياع الثقة بينها حتى في الاهل والعيال ، فهم يعيشون عيشة الأفراد لا عيشة الأمم : صور متحركة ، ووحوش مفترسة ، ينتظر كل واحد منهم وثبة الآخر عليه ، اذا أمكن ليده أن تصل اليه ، ولذلك يضطر كل واحد اذا عاقد أي انسان من أمته أن يستوثق منه بكل ما يقدر ، ويحترس من غدره بكل ما يمكن ، فلا تعاون ولا تناصر ، ولا تعاضد ولا تآزر ، بل استبدلوا بهذه المزايا التحاسد والتباغض ، والتعادي والتعارض (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) ، ولكنهم أذلاء للعبيد».

* * *

__________________

(١) قال الامام هذه الكلمة عند تعرضه لتفسير قوله تعالى : (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا).

٢٠٦

ويرى حجة الاسلام الغزالي أن الوفاء يلزمه عدة أشياء ، منها :

١ ـ يقتضي وفاؤك لأخيك في الله تعالى أن تراعي جميع اصدقائه واقاربه والمتعلقين به.

٢ ـ من الوفاء أن لا يتغير حال الانسان في التواضع مع أخيه وان ارتفع شأنه ، أو عظم جاهه ، والشاعر يقول :

ان الكرام اذا ما أيسروا ذكروا

من كان يألفهم في المنزل الخشن

٣ ـ من لوازم الوفاء أن يجزع الانسان لفراق أخيه.

٤ ـ من لوازم الوفاء أن لا يسمع الانسان وشاية في أخيه.

٥ ـ من لوازم الوفاء ألّا يصادق الانسان عدوّ أخيه ...

واذا كانت الآية الكريمة تقول : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) فان من أجل انواع العهد عهد الحياة الزوجية الذي يقول عنه القرآن الكريم مخاطبا الأزواج : (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً). ولذلك يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه : «ان أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج». ويحذر الرسول أن يخون الزوج هنا في قليل أو كثير ، فيقول : «أيما رجل تزوج أمرأة ـ على ما قل من المهر او كثر ـ ليس في نفسه أن يؤدي اليها حقها ، وخدعها ، فمات ولم يؤد اليها حقها ، لقي الله يوم القيامة وهو زان ، وأيما رجل استدان دينا لا يريد أن يؤدي الى صاحبه حقه ، خدعه حتى أخذ ماله ، فمات ولم يؤد اليه دينه ، لقي الله وهو سارق».

ويشترط في الوفاء بالعهد ألا يكون في معصية ، واذا كان القرآن المجيد يطلب منا الوفاء بالعهود فانما يلزم هذا الوفاء ما لم يكن الأمر المتعاقد عليه مخالفا لأمر الله ورسوله عليه الصلاة والسّلام. ولذلك

٢٠٧

يقول الغزالي : «ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر من الدين ، بل من الوفاء المخالفة».

واذا كان الانسان في نيته أن يفي ثم عجز لسبب خارج عن ارادته أو عن طاقته لم يكن عليه اثم ، لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اذا وعد الرجل أخاه ، ومن نيته أن يفي فلم يف (أي لعذر) ولم يجىء للميعاد ، فلا اثم عليه».

وينبغي للانسان أن يحتاط لأمره ، فلا يفي الا بما يقدر عليه ، ولقد تحدث الغزالي عن آفات اللسان ، فعدّ منها أن يكون اللسان سباقا الى اعطاء الوعد ، ثم لا تقدر النفس على الوفاء ، أو لا تسمح به ، فيكون ذلك خلفا للوعد ، وذلك من أمارات النفاق ، والأولى بالانسان أن يقول عند اعطاء الوعد : ان شاء الله ، وأن ينوي الوفاء به في عزم ، ومن عزم على الوفاء ، ثم عرض له مانع من الوفاء لم يكن منافقا.

ولعل أجمع الآيات القرآنية لأنواع الوفاء قول الله تبارك وتعالى في فاتحة سورة المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، ولذلك قال السيد رشيد رضا ان أساس العقود الثابت في الاسلام هو هذه الجملة البليغة المختصرة المفيدة : «أوفوا بالعقود» ، لانها تفيد أنه يجب على كل مسلم أن يفي بما عقده وارتبط به ، فكل قول أو فعل يعده الناس عقدا فهو عقد يجب أن يوفوا به كما أمر الله تعالى ، ما لم يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام.

ويروى عن ابن عباس أن المراد بالعقود عهود الله التي عهد الى عباده : «ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حدّ في القرآن كله : لا

٢٠٨

تغدروا ولا تنكثوا». وعن الراغب أن العقود ـ باعتبار المعقود والعاقد ـ ثلاثة أضرب : عقد بين الله تعالى والعبد ، وعقد بين العبد ونفسه ، وعقد بينه وبين غيره من البشر ، وكل واحد منها باعتبار الموجب له ضربان : ضرب اوجبه العقل ، وهو ما ركز الله تعالى معرفته في الانسان ، فيتوصل اليه اما ببديهة العقل ، واما بأدنى نظر ، وهو ما دل عليه قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ...) الآية ، وضرب أوجبه الشرع ، وهو ما دلنا عليه كتاب الله تبارك وتعالى ، وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه ، فهذه ستة أضرب.

وكل واحد منها اما ان يلزم ابتداء ، أو يلزم بالتزام الانسان اياه ، والثاني أربعة أضرب ، فالأول واجب الوفاء. كالنذور المتعلقة بالقربات ، مثل ان يقول الانسان : عليّ لله أن أصوم كذا ان عافاني الله تعالى ، والثاني يستحب الوفاء به ، ويجوز تركه ، كمن حلف على ترك فعل مباح ، فان له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك المباح ، والثالث يستحب ترك الوفاء به ، وهو ما ذكره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «اذا حلف أحدكم على شيء ، فرأى غيره خيرا منه ، فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه». والرابع يجب ترك الوفاء به ، نحو أن يقول : عليّ أن أقتل فلانا المسلم. ويحصل من هذه التفريعات أربعة وعشرون ضربا من ضروب العقود.

*

وللصوفية مذهبهم في تصوير الوفاء ، فمعروف الكرخي يقول : «حقيقة الوفاء اقامة السر عن رقدة الغفلات ، وفراغ الهمم من فضول الآفات». ويقول أبو بكر الشبلي : «الوفاء هو الاخلاص بالنطق ، واستغراق السرائر بالصدق». والقشيري في «لطائف الاشارات»

٢٠٩

يتعرض لتفسير قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). فيفتن في تصوير معناها بقوله :

«عهده سبحانه حفظ المعرفة ، وعهدنا اتصال المغفرة. عهده حفظ محابه ، وعهدنا لطف ثوابه ، عهده حضور الباب ، وعهدنا جزيل المآب أوفوا بعهدي بحفظ السر أوف بعهدكم بجميل البر.

أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم الميثاق ، أوف بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق.

أوفوا بعهدي ألا تؤثروا علي غيري ، أوف بعهدكم في ألا أمنع عنكم لطفي وخيري.

أوفوا بعهدي برعاية ما أثبت فيكم من الودائع ، أوف بعهدكم بما اديم لكم من شوارق اللوامع وزواهر الطوالع.

أوفوا بعهدي بحفظ أسراري ، أوف بعهدكم بجميل مبارّي.

أوفوا بعهدي باستدامة عرفاني ، أوف بعهدكم في ادامة احساني.

أوفوا بعهدي في القيام بخدمتي ، أوف بعهدكم في المنة عليكم بقبولها منكم.

أوفوا بعهدي في القيام بحسن المجاهدة والمعاملة ، أوف بعهدكم بدوام المواصلة والمشاهدة.

أوفوا بعهدي بالتبري عن الحول والمنة (١) ، أوف بعهدكم بالاكرام بالطول والمنة.

أوفوا بعهدي بالتفضيل والتوكل ، أوف بعهدكم بالكفالة والتفضل.

أوفوا بعهدي بصدق المحبة ، أوف بعهدكم بكمال القربة.

__________________

(١) المنة ـ بضم الميم ـ : القوة.

٢١٠

أوفوا بعهدي. اكتفوا مني لي ، أوف بعهدكم بكم عنكم.

أوفوا بعهدي في دار الغيبة على بساط الخدمة بشد نطاق الطاعة وبذل الوسع والاستطاعة ، أوف بعهدكم في دار القربة على بساط الوصلة بادامة الانس والرؤية وسماع الخطاب وتمام الزلفة.

أوفوا بعهدي في المطالبات بترك الشهوات ، أوف بعهدكم بكفايتكم تلك المطالبات.

أوفوا بعهدي بأن تقولوا (١) أبدا : ربي ربي ، أوف بعهدكم بأن أقول لكم ، عبدي عبدي. (٢)

واياي فارهبون : أن أفردوني بالخشية ، لانفرادي بالقدرة على الايجاد ، فلا تصح الخشية ممن ليس له ذرة ولا منة» (٣).

هذا ويقول ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» : «الوفي محفوظ من الله ، مشكور بين الناس».

*

واذا كان القرآن الكريم والسنة المطهرة قد مجدا فضيلة الوفاء كل هذا التمجيد ، فانهما قد حملا حملة رادعة على الخيانة والغدر ، فقال القرآن : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ). وقال : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ). وقال : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ). وقال : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً). وقال : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً). وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

__________________

(١) أي يقول كل منكم : ربي ربي.

(٢) أي : أقول لكل منكم : عبدي عبدي.

(٣) لطائف الإشارات ، ج ١ ص ٩٦.

٢١١

وحارب الاسلام الخيانة حتى مع غير الأولياء ، فقال القرآن : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا).

وقال الرسول عليه الصلاة والسّلام : «أيما رجل أمّن رجلا على دمه ، ثم قتله ، فأنا من القاتل بريء ، وان كان المقتول كافرا». وقال : «لا دين لمن لا عهد له» ونظر أبي الحديد الى هذا النص الكريم فقال : «الغدر يحبط الايمان (١)».

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويل لمن وعد ثم أخلف» قالها ثلاثا. وأخبرنا أن التنكر لفضيلة الوفاء من شيم المنافقين فقال : «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : اذا اؤتمن خان ، واذا حدّث كذب ، واذا عاهد غدر ، واذا خاصم فجر». وفي رواية قال : «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق ، وان صام وصلى وزعم أنه مسلم : اذا حدّث كذب ، واذا وعد أخلف ، واذا اؤتمن خان». ويقول الرسول أيضا : «لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة». وكان النبي يدعو ربه قائلا : «أعوذ بك من الخيانة ، فانها بئس البطانة»!. واهتدى الامام علي بهديه فقال : «كل غدرة فجرة ، ولكل فجرة كفرة ، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة».

والقرآن المجيد يقبح في أنظارنا وأفكارنا صور الخائنين الغادرين المتنكرين لفضيلة الوفاء ، فيقول في سورة البقرة : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ، وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ينقضون عهد الله الموثق المؤكد ، بتعطيل الملكات والطاقات عن استخدامها استخداما سليما ، وبعدم السمع والطاعة والانابة.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ، ج ١ ص ٤٩٢.

٢١٢

ويقول التنزيل الحكيم في سورة الأعراف عن الكافرين : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ). وذلك لأنهم كانوا يعاهدون الله جل جلاله عند الشدة والضيق ، بان يشكروه ويوحدوه ويطيعوه ان نجاهم وأنقذهم ، فلما أنجاهم لم يفوا بوعودهم. وتنكروا لعهودهم ، وكانوا من الفاسقين.

ويقول القرآن المجيد مصورا غدر بعض الناس الذين أخذوا على أنفسهم أغلظ العهود والمواثيق بالطاعة والشكر ان أعطاهم ربهم ما أرادوا ، فلما حقق لهم ما طمعوا فيه كانوا من الجاحدين الغادرين : «ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ، فأعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ، ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم ، وأن الله علام الغيوب»؟!

ونحن نجد في ثنايا تراثنا الاخلاقي كثيرا من الكلمات الحكيمة التي تحذرنا الخيانة والغدر ، ومنها هذه الكلمات :

«كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة».

«من نقض عهده ، ومنع رفده ، فلا خير عنده».

«العذر يصلح في كثير من المواطن ، ولا عذر لغادر ولا خائن».

«الغدر من صغر القدر»!.

ألا ان الوفاء من صفات الكرام الأحرار ، وان الغدر من صفات اللئام الفجّار ، فلينظر كل امرىء أين يكون!.

٢١٣

التوكل

يقال : وكل فلان الأمر الى غيره ، أي اعتمد عليه ، ووثق به أن ينجزه ، والوكيل هو الذي يوكل اليه الأمر ، وقد تطلق كلمة «الوكيل» بمعنى الحفيظ ، لأنه الذي يرعى الأمر ويعنى به ، وقد تطلق بمعنى الرقيب المطلع ، لان من شأن الوكيل أن يراقب ما يوكل اليه ، وقد تطلق بمعنى الناصر ، لان الوكيل يركن اليه من يكل أمره اليه.

والتوكل في اللغة يقال على وجهين : الأول توكلت لفلان بمعنى توليت له ، ويقال وكلته فتوكل لي ، وتوكلت عليه بمعنى اعتمدته. والتوكيل أن تجعل غيرك نائبا عنك وتعتمد عليه.

والتوكل في الدين هو أن يفوض الانسان أمره الى ربه ، ويكتفي به فيه ، ولذلك كان معنى التوكل بلفظ التفويض في قول القرآن في سورة غافر : (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ). أي أرد أمري كله الى الله. ولقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو فيقول : «اللهم اني أسلمت نفسي اليك ، وفوضت أمري اليك».

والتوكل فضيلة اسلامية مفروضة ، اذ بها يتحقق معنى الايمان ، حتى قيل : من لا توكل له لا ايمان له ، وكأنهم استمدوا ذلك من قول الله تبارك وتعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، وقد تكرر

٢١٤

قوله سبحانه : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ست مرات في سور : آل عمران (مرتين) والمائدة والتوبة والمجادلة والتغابن.

ويقول العلماء ان التوكل نصف الدين والنصف الآخر هو الانابة ، لان الدين استعانة وعبادة ، فالتوكل هو الاستعانة ، والانابة هي العبادة ، كما أن التوكل الحقيقي الصادق يكون طريقا للفوز والنصر ، وهذا هو «تفسير المنار» يتحدث عن قول الله تعالى في سورة الأنفال : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فيقول هذه العبارة :

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) : أي يكل اليه أمره مؤمنا ايمان اذعان واطمئنان بانه هو حسبه وكافيه ، وناصره ومعينه ، وأنه قادر لا يعجزه شيء ، عزيز لا يغلبه ولا يمتنع عليه شيء أراده ، (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) : أي فهو تعالى ـ بمقتضى عزته وحكمته ، عند ايمانهم به ، وتوكلهم عليه ـ يكفيهم ما أهمهم ، وينصرهم على أعدائهم ، وان كثر عددهم ، وعظم استعدادهم ، لانه عزيز غالب على أمره ، حكيم يضع كل أمر في موضعه ، على ما جرى عليه النظام والتقدير في سننه ، ومنه نصر الحق على الباطل.

بل كثيرا ما تدخل عنايته بالمتوكلين عليه في باب الآيات وخوارق العادات ، كما حصل في غزوة بدر ، وآيات الله لا نهاية لها ، وان أجمع المحققون على أن التوكل لا يقتضي ترك الأسباب من العبد ، ولا الخروج عن السنن العامة في أفعال الرب».

كما أن التوكل الحقيقي الصادق يفتح أمام صاحبه طريقا الى الجنة بغير حساب ، فقد جاء في الحديث المتفق عليه أن سبعين ألفا من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخلون الجنة بغير حساب : «هم الذين لا يسترقون (من الرقية) ، ولا يتطيرون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون». ولا عجب فالتوكل كل رجوع بصير كامل الى رحاب الله عزوجل ، وهذا يورث الرضا الالهى ، وهو الفوز الأكبر ، ومن هنا يقول أبو عثمان

٢١٥

الجيري : «التفويض رد ما جهلت علمه الى عالمه ، والتفويض مقدمة الرضا ، والرضا باب الله الأعظم» ، ومن توكل على الله ورضي به ربا وهاديا ، رضي الله عنه ، والتنزيل المجيد يقول : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ).

والتوكل الحقيقي الصادق يجعل كل ما يسوقه الله الى عبده طيبا وطاهرا وكريما ، ولذلك يقول ابن سالم البصري : «التوكل على الله فريضة ، لقوله تعالى (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، والحركة في طلب الرزق مباح لمن عجز عن التوكل ، فان الله تعالى يقول (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) ، مما يفتح بالطلب والكسب منه طيب وخبيث ، وما يفتح بالتوكل لا يكون الا طيبا ، لان ذلك من معدن طيب».

والله جل جلاله هو خير من يعتمد عليه ، ويوكل اليه ، ويستمد منه ، ويستعان به ، وكذلك ورد قول القرآن : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) ثلاث مرات في سورة النساء ، كما ورد في سورة آل عمران : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ). وجاء في سورة الاسراء : (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً).

والتوكل الحقيقي الصادق هو أسطع برهان على تحقيق عقيدة التوحيد في قلب المتوكل وعقله ، ولذلك كان التوكل ـ كما يصور رشيد رضا ـ أعلى مقامات التوحيد ، فالمؤمن الموحد الكامل لا يتوكل على مخلوق مربوب لخالقه مثله ، بل مشهده في المخلوقات أنها أسباب سخر الله تعالى بعضها لبعض في نظام التقدير العام ، الذي أقام الله به أمور العالم المختار منها وغير المختار ، فكلها سواء في الخضوع لسننه في الأسباب والمسببات ، وهي فيما وراء تسخيره اياها متساوية في عجزها عن

٢١٦

النفع والضر ، فشأن المؤمن المتوكل في دائرة الأسباب ، أن يطلب كل شيء عن طريق سببه ، خضوعا لسنن الله تعالى في نظام خلقه ، وهو بذلك يطلبها من حيث أمره الله أن يطلبها أمرا تكوينيا قدريا ، وتشريعا تكليفيا ، فاذا جهل الأسباب ، أو عجز عنها ، وكل أمره فيها الى ربه تبارك وتعالى ، داعيا اياه أن يعلمه ما جهل ، بما سنه من وسائل العلم ، ومنها الالهام في بعض الأحيان ، وأن يسخر له ما عجز عنه من جماد أو حيوان أو انسان.

ومن هنا نستطيع أن ندرك أن التوكل في جوهره عمل من أعمال القلب ، وليس قولا باللسان أو عملا بالجوارح فحسب ، فبداية التوكل هي الايمان ، وعماده هو اليقين ، ولذلك جعل القرآن الكريم فضيلة التوكل صفة أساسية للمؤمنين ، فقال في سورة الأنفال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً ، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). وقال في سورة النحل عن الشيطان : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). وقال في سورة العنكبوت : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). وقال في سورة الشورى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

*

ومن جلال المكانة لفضيلة التوكل أن نرى الحق جل جلاله يأمر بها خاتم رسله صلّى الله عليه وعليهم وسلم ، ويكرر هذا الأمر ويؤكده في مواضع كثيرة من كتابه المجيد ، فيقول له في سورة النساء : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً). ويقول في سورة هود : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ

٢١٧

وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). ويقول في سورة التوبة : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ). ويقول في سورة الرعد : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ ، لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ ، قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ). ويقول في سورة الفرقان : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً ..). الخ.

ولقد أراد الله جل جلاله ـ وهو أعلم بمراده ـ أن يعلّم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبدأ بأخذ الحيطة والأهبة والاعداد والاستعداد ، في المواطن التي تحتاج الى هذا ، وأن يستعين بآراء من حوله من أهل العلم والخبرة والبصر بالأمور ، فاذا انتهى الى رأي أو خطة ، أقدم على التطبيق والتنفيذ ، في همة وعزيمة ومضاء ، متوكلا على الله ، مستمدا من نصره وهداه ، واثقا بأنه مولاه ولا مولى له سواه ، فذلك حيث يقول له : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ، ومعنى هذا ـ كما يبين تفسير المنار ـ أنك اذا عزمت بعد المشاورة في الأمر ، على امضاء ما ترجحه الشورى ، وأعددت له عدته ، فتوكل على الله في امضائه ، وكن واثقا بمعونته ، وتأييده لك فيه ، ولا تنكل على حولك وقوتك ، بل اعلم أن وراء ما أتيته وما أوتيته قوة أعلى وأكمل هي قوة الله جل جلاله ، ويجب أن تكون بها الثقة ، وعليها المعول ، واليها الملجأ ، اذا تقطعت الأسباب ، وأغلقت الابواب.

وان العزم على الفعل ، وان أتى بعد التفكير والمشاورة واحكام الرأي واعداد العدة ، لا يكفي للنجاح الا بمعونة الله وتوفيقه ، لان الموانع الخارجية للنجاح والعوائق دونه ، لا يحيط بها الا الله تعالى ، فلا بد للمؤمنين من الاتكال عليه ، والاعتماد على حوله وقوته. والله

٢١٨

جل جلاله يحب المتوكلين على حوله وقوته ، مع العمل في الأسباب بسننه ، ومن أحبه الله عصمه من الاغترار باستعداده ، والركون الى عدته وعتاده ، والبطر الذي يصرفه عن النظر فيما يعرض له بعد ذلك حتى لا يقدره قدره ، ولا يحكم فيه أمره ، فبدلا من أن يكون نظره في الأمور بعين العجب والغرور ، واستماعه لأنبائها بأذن الغفلة والازدراء ، ومباشرته لها بيد التهاون ، يلقي السمع وهو شهيد ، وينظر بعين العبرة فبصره حينئذ حديد ، ويبطش بيد الحق فبطشه قوي شديد ، ذلك بأنه يسمع ويبصر ويعمل للحق لا للباطل الذي يزينه الهوى ويدلي به الغرور ، فيكون مصداقا للحديث القدسي : «فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها».

والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرشدنا الى ما في التوكل من ايجابية ونزعة عملية حين يقول : «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا». فقد أعطانا في هذا الحديث صورة حية لحركة الطيور التي تترك أعشاشها عند الصباح ، وتخرج باحثة عن الطعام والقوت ، وهي خالية البطون ، وما تزال هكذا في سعيها وحركتها ، حتى تعود آخر النهار وهي ممتلئة البطون.

وهذا أحد الصحابة يسأل رسول الله عليه الصلاة والسّلام قائلا : يا رسول الله ، ناقتي أتركها وأتوكل؟ فأجابه : «اعقلها وتوكل» وفي هذا توجيه للأبصار والبصائر الى الاحتياط والحذر وبذل الطاقة والمجهود.

ولو راجعنا سير الأنبياء والمرسلين ـ عن طريق القرآن الكريم ـ لوجدنا فضيلة التوكل كالقسط المشترك بين هؤلاء الأكرمين ، فابراهيم عليه‌السلام هو القائل كما حكت سورة الممتحنة : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). وروت السيرة أن ابراهيم قال عند القاء

٢١٩

الكافرين له في النار : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، ولذلك يقول عبد الله بن عباس : «حسبنا الله ونعم الوكيل ، قالها ابراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ألقي في النار ، وقالها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قالوا له : ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل».

وهذا هو يعقوب عليه‌السلام يأمر أولاده بأخذ الحيطة واتباع الحذر ، واخفاء أمرهم عن غيرهم قدر استطاعتهم ، ثم يتوكل على ربه ، كما جاء في سورة يوسف : (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ ، وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).

وهذا هو موسى عليه‌السلام يحكي عنه القرآن في سورة يونس فيقول (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ، فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). أي ان كنتم آمنتم بالله حق الايمان ، فعليه وحده فتوكلوا ، وثقوا بوعده دون سواه ، ان كنتم مذعنين لربكم بالفعل ، فامتثلوا الأمر ، ونطقوا بكلمة التوكل ، لأن التوكل هو أكبر مقامات الايمان ، وأعلى درجات اليقين ، ولا يكمل الا بالصبر على الشدائد ، وهو يستلزم مقارنة اتخاذ الأسباب ، وحقيقته أن يبذل الانسان كل ما يستطيع ، ثم يرجو من ربه أن يسخر له ما لا يستطيع.

وهذا هو شعيب عليه‌السلام يقول القرآن الكريم على لسانه في سورة الأعراف : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها ، وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا ، وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا ، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ).

٢٢٠