موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٢

وبعد محبة الأولياء تأتي محبة المؤمن لاخوته في الايمان والدين ، لأن القرآن الكريم يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (١). ولا تستقيم الأخوة الا على أساس المحبة. والمحبة في ظل الايمان والتقوى تكون محبة شريفة عفيفة نظيفة ، وتبقى في الدنيا ، وفي الآخرة ، ولذلك يقول القرآن : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٢).

ولقد أخبرتنا السنة من بعد القرآن الكريم أن هؤلاء المتحابين في الدنيا تحت لواء الايمان والتقوى يجمع الله بينهم في دار النعيم ، وان كان بين منازلهم شيء من التفاوت. فهذا رجل يقول للرسول : يا رسول الله ، كيف تقول في رجل أحبّ قوما ولم يلحق بهم (أي لم يساوهم في قدر الطاعة). فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المرء مع من أحبّ».

كما نوهت السنة بشأن هؤلاء المتحابين ، فقال الحديث : «زار رجل أخا له في قرية أخرى ، فأرصد الله له على مدرجته (أي طريقه) ملكا ، فلما أتى عليه قال : أين تريد؟ قال : أريد أخا لي في هذه القرية ، قال : هل لك عليه من نعمة تربّها (أي تصلحها وتتمها)؟ قال : لا ، غير أني أحببته في الله عزوجل. قال : فاني رسول الله اليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه».

وجاء في السنة : «ان الله تعالى يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي (أي لعظمتي)؟ اليوم أظلهم في ظلي : يوم لا ظل الا ظلي». وفي رواية أخرى : «المتحابون في ظلالي ، لهم منابر من نور ، يغبطهم

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآية ١٠.

(٢) سورة الزخرف ، الآية ٦٧.

٤١

النبيون والشهداء». وفي حديث آخر : «ان من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة ، بمكانهم من الله تعالى. قالوا : يا رسول الله ، تخبرنا من هم؟. قال : هم قوم تحابّوا بروح الله (بمحبته ورحمته) على غير أرحام بينهم (أي قرابة) ، ولا أموال يتعاطونها (يتعاملون فيها) فو الله ان وجوههم لنور ، وانهم لعلى نور ، لا يخافون اذا خاف الناس ، ولا يحزنون اذا حزن الناس ، (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

وان القرآن الكريم هو كتاب المحبة ، وان دين الله الاسلام هو دين المحبة ، وان أتباعه المؤمنين هم أهل المحبة ، وصلوات الله وسلامه على رسوله حين قال : «المؤمن الف مألوف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف». اللهم ارزقنا حبك ، وحب من يحبك ، انك نعم المولى ونعم النصير.

٤٢

الاحسان

اذا سمع كثير من الناس كلمة «الاحسان» انصرفت أذهانهم الى المعنى المادي الذي جرى به عرفهم ، وهو معاونة الغني للفقير بشيء من المال ، ولكن معنى هذه الكلمة ليس بهذا الضيق ، بل هو واسع عميق ، فالاحسان في اللغة معناه الاتقان وهو ضد الاساءة. وهو الاخلاص وصدق المراقبة ، وهو التطوع بالفضل بعد مراعاة العدل ، وهو الصنع الجميل ، والتصرف الحميد.

ولذلك جاء قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً). وجاء قول رسول الله عليه الصلاة والسّلام : «اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن».

وقد جاءت مادة «الاحسان» ومتعلقاتها فيما يقرب من أربعين موضعا في القرآن الكريم. وهذه العناية التي تظهر في القرآن بأمر الاحسان ، وتتمثل في الحديث عنه عشرات المرات ، تدل على المكانة السامية التي تحتلها فضيلة «الاحسان».

ولا عجب في ذلك ، فعلماء الأخلاق يقولون ان الاحسان خلق جامع لجميع أبواب الحقائق ، وفيه لب الايمان وروحه ، ولعل أساس التعريف بالاحسان هو العبارة النبوية الجليلة التي يقول فيها المصطفى

٤٣

صلوات الله وسلامه عليه : «الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك».

وقد عبّر ابن الأثير عن معنى هذه الكلمات المضيئة بتعبير موجز يقول فيه : «أراد بالاحسان الاخلاص ، وهو شرط في صحة الايمان والاسلام معا. وذلك أن من تلفظ بالكلمة ، وجاء بالعمل من غير نية الاخلاص. لم يكن محسنا ، ولا كان ايمانه صحيحا. وقيل : أراد بالاحسان الاشارة الى المراقبة وحسن الطاعة ، فان من راقب الله أحسن عمله. وقد أشار اليه في الحديث بقوله : فان لم تكن تراه فانه يراك».

والاحسان على هذا الأساس هو كمال الحضور مع الله تعالى ، والمراقبة الجامعة لخشيته ، والاخلاص له ، بأن يحسن الانسان قصده ، فيجعله خالصا متجردا لله ، فلا يستجيب ولا يطيع الا كلمة ربه ، وأمر دينه ، وأن يقدم على تنفيذ ما أمر الله به في قوة وعزم ، بلا ضعف أو وهن ، وأن يصفي نفسه من الشوائب والأهواء ، وأن يجعل نفسه كالمهاجر الدائم الى الله عزوجل.

وقد ضرب القرآن الكريم لعباده مثلا رائعا في هذا الاحسان ، وجاء هذا المثل فيما رواه كتاب الله عن قصة ابراهيم ، واقدامه على ذبح ابنه اسماعيل ، حيث يقول عنهما : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى ، قالَ : يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ، فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

وابراهيم كان محسنا غاية الاحسان ، لأن الاحسان هنا يتمثل في

٤٤

تلك الطاعة المطلقة لله تعالى ، بلا تردد ولا توقف ، فابراهيم حينما رأى في المنام أنه يذبح ابنه ، وتأكد لديه أن هذه الرؤيا من الله تعالى ، ورؤيا الأنبياء حق ، سارع بتنفيذ الرؤيا ، ونسي في طاعة الله معاني الأبوة والبنوة ، وأحضر ولده ، وعرض عليه الأمر ، فكان على نهج أبيه ، فكان كل منهما محسنا ، ولذلك أثابهما الله تعالى بما أثابهما به ، وقال : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

واذا كنا قد عرفنا أن «الاحسان» فضيلة تطوي بين جناحيها فضائل ، فانه من السهل أن نتقبل قول العلماء : ان الاحسان يقال على وجهين : أحدهما الانعام على الغير ، فيقال : أحسن فلان الى فلان ، اذا أكرمه وأنعم عليه ، والثاني في الفعل ، كأن يعلم علما حسنا ، وأن يعمل عملا حسنا ، ومن هذا القبيل قول الامام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه : «الناس أبناء ما يحسنون» ، أي منسوبون الى ما يعملونه من الأعمال الحسنة.

وقد ورد ذكر «الاحسان» بمعنى الزيادة عن الواجب ، والتفضل بما ليس مفروضا. ومن أمثلة ذلك قول الله عز من قائل في سورة آل عمران : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ، وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، فكظم الغيظ هو كتمانه بشيء من المقاومة والمغالبة والمجاهدة ، والعفو هو الصفح وعدم مقابلة الاساءة بمثلها ، والاحسان هو الزيادة عن الكظم والعفو ، بأن يحسن الانسان الى من أساء اليه ، ولا يكتفي معه بالعفو ، بل يتفضل عليه بالاحسان وصنع الجميل.

ومن أمثلة ذلك أيضا قول الله تعالى أيضا : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ...) فالعدل هو أن يعطي الانسان ما عليه ، ويأخذ حقه.

٤٥

والاحسان أن يعطي الانسان أكثر مما عليه ، ويأخذ أقل مما له ، فالاحسان زائد على العدل ، ولذلك كان تحري العدل مفروضا واجبا ، وكان تحري الاحسان مندوبا مستحبا.

ومن هذا القبيل قول الله سبحانه في سورة البقرة : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ، وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). وقوله في سورة النساء : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ، وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً). وقوله في سورة لقمان : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ، وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ).

وذكر القرآن الاحسان ، بمعنى حسن المعاملة ، وليس هناك من هو أحق بحسن المعاملة أكثر من الوالدين ، ولذلك أكد القرآن الكريم الدعوة الى احسان المعاملة معهما ، فقال في سورة النساء : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً). وقال في سورة الأنعام : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً). وقال في سورة الاسراء : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً). وقال في سورة الأحقاف : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً).

واذا كان الوالدان هما أحق الناس بأن يتحلى الانسان معهما باحسان المعاملة ، فليس معنى هذا أن ينسى الانسان فضيلة الاحسان مع غيرهما ، فهناك الاحسان الى الاولاد ، والزوجة ، والأقارب ، والجيران ، وسائر الناس.

وهذا حجة الاسلام أبو حامد الغزالي يقول : «وقد أمر الله تعالى

٤٦

بالعدل والاحسان جميعا ، والعدل سبب النجاة فقط ، وهو يجري من التجارة مجرى رأس المال ، والاحسان سبب الفوز ونيل السعادة ، وهو يجري مجرى الربح ، ولا يعد من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله ، فكذا في معاملات الآخرة ، فلا ينبغي للمتدين ان يقتصر على العدل واجتناب الظلم ، ويدع أبواب الاحسان ، وقد قال الله تعالى : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) ، وقال عزوجل : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) ، وقال سبحانه تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). ونعني بالاحسان فعل ما ينتفع به المعامل ، وهو غير واجب عليه ، ولكنه تفضل منه ، فان الواجب يدخل في العدل وترك الظلم».

ويعود حجة الاسلام الى الحديث عن الاحسان في استيفاء الحقوق والديون ، وهو لون من ألوان الاحسان في المعاملات ، فيقول : «والاحسان فيه مرة بالمسامحة وحط البعض ، ومرة بالامهال والتأخير ، ومرة بالمساهلة في طلب جودة النقد ، وكل ذلك مندوب اليه ومحثوث عليه.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (رحم الله امرأ سهل البيع ، سهل الشراء ، سهل القضاء ، سهل الاقتضاء). فليغتنم دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اسمح يسمح لك). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من أنظر معسرا ، أو ترك له ، حاسبه الله حسابا يسيرا). وفي لفظ آخر : أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل الا ظله».

* * *

وهكذا نجد ان مجال الاحسان يتسع ويتسع ، حتى يشمل مجموعة من فضائل الاعمال ومكارم الاخلاق ، ولعل هذا هو بعض السر في أن المفسرين ذكروا معاني كثيرة لكلمة «الإحسان» الواردة في سورة النحل من القرآن الكريم ، فوردت في تفاسيرهم هذه المعاني للكلمة : «أداء الفرائض ـ القيام بالنوافل ـ الاخلاص لله ـ قول كل حسن ـ أن

٤٧

تعبد الله كأنك تراه ـ أن تكون السريرة أفضل من العلانية ـ فعل كل مندوب اليه ـ ان تحب للناس ما تحب لنفسك ، فان كان غيرك مؤمنا أحببت أن يزداد ايمانا ، وان كان كافرا أحببت ان يصير أخاك في الاسلام ...» الخ.

وأغلب هذه المعاني كما ترى يرتبط بمفهوم اساسي للاحسان ، وهو أن يجعل الانسان للفضل في معاملاته نصيبا ، فلا يقتصر على أداء الواجب والمفروض ، بل يضيف الى ذلك شيئا من الفضل ، وهو الاحسان ، ولذلك نرى الامام الرازي في تفسيره يميل الى هذا الجانب ، فيقول «ان العدل في الطاعات هو أداء الواجبات ، أما الزيادة على الواجبات فهي ايضا طاعات ، وذلك من باب الاحسان ، وبالجملة فالمبالغة في اداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية هو الاحسان ، والدليل عليه أن جبريل لما سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الاحسان قال : الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك.

فان قالوا : لم سمّي هذا المعنى بالاحسان؟. قلنا : كأنه بالمبالغة في الطاعة يحسن الى نفسه ، ويوصل الخير والفعل الحسن الى نفسه.

والحاصل ان العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات ، والاحسان عبارة عن الزيادة في تلك الطاعات ، بحسب الكمية ، وبحسب الكيفية ، وبحسب الدواعي والصوارف ، وبحسب الاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوبية ، فهذا هو الاحسان. واعلم أن الاحسان بالتفسير الذي ذكرناه يدخل فيه التعظيم لأمر الله تعالى ، والشفقة على خلق الله.

ومن الظاهر ان الشفقة على خلق الله أقسام كثيرة ، وأشرفها وأجلها صلة الرحم ، لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر فقال : (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) ، يعني في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ، وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ...) الى آخر الآية الكريمة.

٤٨

ونرى الامام القرطبي يتجه اتجاها ثانيا ، فهو يرى أن «الاحسان» في تعبير القرآن يشمل تحسين الانسان ما يعمله وتكميله ، واحسان الانسان الى غيره ، وهو ايصال ما ينتفع به اليه ، فهو يذكر هذين المعنيين عند تفسيره الآية السابقة.

ثم يقول : «وهو في هذه الآية مراد بالمعنيين معا ، فانه تعالى يحب من خلقه احسان بعضهم الى بعض ، حتى ان الطائر في سجنك ، أو السّنّور (١) في دارك ، لا ينبغي ان تقتصر في تعهده باحسانك ، وهو تعالى غني عن احسانهم ، ومنه الاحسان والنعم والفضل والمنن».

وهو ـ أي الاحسان ـ في حديث جبريل بالمعنى الاول لا الثاني ، فان المعنى الاول راجع الى اتقان العبادة ، ومراعاتها بآدابها المصححة والمكملة ، ومراقبة الحق فيها ، واستحضار عظمته وجلاله حالة الشروع وحالة الاستمرار ، وهو المراد بقوله : أن تعبد الله كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك.

وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين : أحدهما غالب عليه مشاهدة الحق فكأنه يراه ، ولعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشار الى هذه الحالة بقوله : (وجعلت قرة عيني في الصلاة) ، وثانيهما لا ينتهي الى هذا ، لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ومشاهد له ، واليه الاشارة بقوله تعالى : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) ، وقوله : (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ).

* * *

والواقع ان صاحب الاخلاق القرآنية يستطيع أن يجد للاحسان

__________________

(١) السنور : القط.

٤٩

مكانا وكيانا في كل الاحوال ، لأن الاحسان مطلوب في الاعتقاد باخلاص الاعتراف بالالوهية والتوحيد لله جل جلاله بلا أدنى اشراك ولو في الصورة او الظاهر.

والاحسان مطلوب في النية بتجريدها لله سبحانه ، كما يقول سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسّلام : «انما الاعمال بالنيات ، وانما لكل امرىء ما نوى ، فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها فهجرته الى ما هاجر اليه».

والاحسان مطلوب في القول ، بارشاد القرآن المجيد حيث يقول عن الاخيار من العباد (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) ، وقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ، وقوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً).

والاحسان مطلوب في العمل بدليل قول الله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً). والاحسان مطلوب في المظهر كالثياب ، وذلك بما يرمز اليه قول الله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ، ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).

والاحسان مطلوب في التحية بدليل قول الله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً).

والاحسان مطلوب في سائر العبادات : انه مطلوب في الصلاة بتحقيق السكينة والخشوع فيها ، وذلك بدليل أن القرآن يستعمل في الامر بالصلاة مادة «اقامة الصلاة» غالبا ، مثل : أقيموا ، أقاموا ، يقيمون ، أقام الصلاة.

٥٠

وهذه المادة تدل على التسوية والاتقان والاحسان ، ولقد رأى الرسول رجلا يسرع في صلاته ، فقال : «لو خشع هذا لخشعت جوارحه». ورأى آخر يسرع في صلاته فقال له : «صلّ فانك لم تصلّ».

والاحسان مطلوب في أداء الزكاة ، بدليل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ، وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ، وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ، وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (١) وقوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

والاحسان مطلوب في الصوم باخلاص النية ، والامتناع عن المفطرات الحسية ، ومنع الاعضاء عن استخدامها فيما لا يليق بالمسلم ، ومنع العقل والقلب عن خواطر الاثم وأفكار السوء.

ولذلك يقول القرآن الكريم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). ففي قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) اشارة الى أن جوهر الحكمة في الصوم التقوى ، ومن هنا قال الحديث القدسي : «كل عمل ابن آدم له ، الا الصوم ، فانه لي ، وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه من اجلي».

والاحسان في الحج مطلوب بالتجرد في الرحلة الى الله تبارك وتعالى ، والاستغراق في معاني ضيافة الله ، والله يقول : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ

__________________

(١) لا تيمموا : لا تقصدوا. والخبيث : الرديء. وتغمضوا فيه :

تتساهلوا.

٥١

مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ، وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ ، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ، وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ).

* * *

هذا وللصوفية عن فضيلة «الاحسان» أحاديث ذات تحليل وتفصيل ، وهذا ابن القيم في «مدارج السالكين» يذكر من عناصر الاحسان قول القائل : «ان تجعل هجرتك الى الحق سرمدا» ، ويعلق على ذلك بقوله : «لله على كل قلب هجرتان ، وهما فرض لازم له على الانفاس ، هجرة الى الله سبحانه بالتوحيد والاخلاص ، والانابة والحب ، والخوف والرجاء والعبودية.

وهجرة الى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتحكيم له والتسليم والتفويض ، والانقياد لحكمه ، وتلقي أحكام الظاهر والباطن من مشكاته ، فيكون تعبده به أعظم من تعبد الركب بالدليل الماهر في ظلم الليل ومتاهات الطريق.

فما لم يكن لقلبه هاتان الهجرتان فليحث على رأسه الرماد ، وليراجع الايمان من أصله ، فيرجع وراءه ليقتبس نورا ، قبل أن يحال بينه وبينه ، ويقال له ذلك على الصراط من وراء السور ، والله المستعان».

ولقد أشار القرآن الكريم في أكثر من موطن الى الثواب الجليل لاهل الاحسان ، ومن هذه الاشارات ما جاء في تلك الآيات : «ان الله مع المحسنين» ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ، (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ). جعلنا الله بمنه وتوفيقه من هؤلاء.

٥٢

التوبة

«التوبة» كلمة فيها معنى الرجوع والعودة : وفيها معنى طلب الوقاية ، والبعد عن شر ما يخافه الانسان في المستقبل من سيئات اعماله ، وعرّفها العلماء بأنها الرجوع الى الله تعالى : بالتزام فعل ما يحب ، وترك ما يكره ، وهناك من يصوّر معناها بأنه علم بضرر الذنب ، وتألم في القلب بسبب ذلك ، وندم على ما فات ، وقصد الى التخلص من الذنب ، وترك للمعصية في الحال ، والعزم على تركها في الاستقبال ، وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الاحوال.

ويذكر الاصفهاني ان التوبة هي ترك الذنوب على أجمل الوجوه ، وهذا هو أبلغ وجوه الاعتذار ، فان الاعتذار على ثلاثة أوجه : اما ان يقول المعتذر : لم أفعل ، أو يقول : فعلت لاجل كذا ، أو فعلت وأسأت وقد أقلعت ، وهذا الاخير هو التوبة.

وكلمة «التائب» تقال للعبد الذي توجه الى الله بالتوبة ، والتائب أيضا هو الله سبحانه وتعالى الذي تاب على عبده ، وكلمة «التواب» تقال للعبد الكثير التوبة ، وذلك بتركه كل وقت بعض الذنوب على الترتيب ، حتى يصير تاركا لجميعها ، والله تعالى من صفاته أنه «التواب» لكثرة قبوله توبة عباده حالا بعد حال.

ومعنى التوبة يتسع ويتسع حتى يكون فيه معنى الرجوع المستمر

٥٣

عما يكرهه الله ظاهرا وباطنا ، الى ما يحبه ظاهرا وباطنا ، ويدخل في مسماها الاسلام والايمان والاحسان ـ كما يقول ابن القيم ـ وتتناول جميع المقامات ، ولذلك كانت غاية كل مؤمن ، وبداية الامر ونهايته.

ولعلنا نستطيع ـ في ضوء هذا التحديد ـ أن نفهم جانبا من قصد الرسول عليه الصلاة والسّلام في قوله : «يا أيها الناس ، توبوا الى الله ، فو الله اني لأتوب اليه في اليوم اكثر من سبعين مرة». ويروى ان الرسول كان يكثر في مجلسه من قوله : «رب اغفر لي وتب علي انك أنت التواب الغفور». وحينما نزلت عليه سورة : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) كان يقول عقب صلواته : «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي».

ومما يدلنا على أن التوبة خلق يصاحب المؤمن في مسيرته الحديث الذي يقول : «ان الله يحب العبد المفتن التواب» أي الذي كلما فتن بالذنب تاب ورجع. وحسب هذه الفضيلة شرفا ان يقول الحق عزوجل في شأنها : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (١). ويقول حجة الاسلام الغزالي : «التوبة عن الذنوب بالرجوع الى ستار العيوب وعلام الغيوب : مبدأ طريق السالكين : ورأس مال الفائزين ، وأول أقدام المريدين ، ومفتاح استقامة المائلين ، ومطلع الاصطفاء والاجتباء للمقربين».

ولقد تحدث الامام ابن القيم عن منازل السالكين ، وهم يرتقون بأرواحهم في مراتب الادب والتهذيب ، ثم قال : «ومنزل التوبة أول المنازل واوسطها وآخرها ، فلا يفارقه العبد السالك ، ولا يزال فيه الى الممات ، وان ارتحل الى منزل آخر ارتحل به ، واستصحبه معه ، ونزل به ، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته ، وحاجته اليها في النهاية ضرورية ، كما أن حاجته اليها في البداية كذلك».

* * *

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٢٢.

٥٤

والتوبة تصاحب الانسانية منذ أبيها الاول «آدم» عليه‌السلام. ولذلك نجد القرآن الكريم يقول في سورة البقرة : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١). وكانت التوبة دعوة الانبياء والرسل منذ القدم ، فهذا ابراهيم عليه‌السلام يقول كما جاء في سورة البقرة مخاطبا ربه : (وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢) ، وهذا «هود» عليه‌السلام يقول لقومه كما جاء في سورة هود : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ). وهذا هو «صالح» عليه‌السلام يقول عنه القرآن في السورة نفسها : (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ، فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ). وهذا هو «شعيب» عليه‌السلام يقول لقومه في السورة نفسها : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (٣).

وهذا هو «موسى» عليه‌السلام ، يلجأ الى التوبة ، ليتخذ منها مسلكا الى غفران ربه ورضاه ، فنجد في سورة الاعراف قوله تعالى : (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ : سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (٤)

وفي سورة التوبة يقول القرآن المجيد : (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) (٥). وفي السورة نفسها يجعل الله صفة التوبة أول صفة يذكرها لاولئك الذين اشتروا الجنة من ربهم ، ببيع نفوسهم واموالهم ، فيقول : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٦).

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٣٧.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٢٨.

(٣) سورة هود ، الآيات ٥٢ و ٦١ و ٩٠ على التوالي.

(٤) سورة الاعراف ، الآية ١٤٣.

(٥) سورة التوبة ، الآية ١١٧.

(٦) سورة التوبة ، الآية ١١٢.

٥٥

وهكذا نجد التنزيل الالهي كأنه يريد لنا أن نفهم أن «التوبة» سمة اساسية من سمات الاخيار المؤمنين بالله منذ أقدم العصور.

* * *

وليست التوبة كلمة تقال ، أو عبارة تردد ، ولكنها تتحقق بعدة أمور : منها أن يشعر الانسان بالندم على ارتكاب الخطأ أو الذنب ، ومن هنا جاء في الحديث : «الندم توبة». وان يترك المعصية ويبتعد عنها ، وان يعزم على عدم الرجوع اليها ، وان ينتقل من مجال الخطأ الى حقل العمل الصالح ، حتى يكون بعد التوبة أفضل مما كان عليه قبلها ، والا ينوي الاصرار على أي ذنب مهما كان صغيرا ، لان الله تبارك وتعالى يقول في سورة آل عمران : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١).

ومن شروط التوبة الخروج من عهدة حق الآدمي ، اما باعادة التائب هذا الحق الى صاحبه ، اذا كانت هناك قدرة على الاعادة ، واما باستحلال صاحب الحق بعد اعلامه به ، والحديث يقول : «من كان لأخيه عنده مظلمة من مال او عرض ، فليتحلله اليوم قبل ان لا يكون دينار ولا درهم ، الا الحسنات والسيئات». والراجح عند العلماء أنه لا يشترط على التائب أن يذكر كل شيء لصاحب الحق ، بل يكفي التعميم ، وقد بحثوا ـ فيما بحثوا ـ موضوع التوبة من الغيبة والقذف : هل يشترط ان يذهب التائب الى من اغتابه أو قذفه ، ويذكر له ذلك ليستسمحه؟. واختلفوا في ذلك ، والامام ابن تيمية يرجح عدم الذكر ، وهذا تلميذه ابن القيم يقول في ذلك ـ بعد أن ذكر رأي من يرى

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٣٥.

٥٦

الاخبار ـ : «والقول الآخر أنه لا يشترط الاعلام بما نال من عرضه وقذفه واغنيابه ، بل يكفي توبته بينه وبين الله ، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة ، فيبدل غيبته بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه ، وقذفه بذكر عفته واحصانه ، ويستغفر له بقدر ما اغتابه ، وهذا اختيار شيخنا ابي العباس ابن تيمية قدس الله روحه.

واحتج أصحاب هذه المقالة بأن اعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة ، فانه لا يزيده الا أذى وحنقا وغما ، وقد كان مستريحا قبل سماعه ، فاذا سمعه ربما لم يصبر على حمله ، وأورثه ضررا في نفسه أو بدنه ، كما قال الشاعر :

فان الذي يؤذيك منه سماعه

وان الذي قالوا وراءك لم يقل

وما كان هكذا فان الشارع لا يبيحه ، فضلا عن أن يوجبه ويأمر به.

قالوا : وربما كان اعلامه به سببا للعداوة والحرب بينه وبين القائل ، فلا يصفو له ابدا ، ويورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف ، وهذا ضد. مقصود الشارع من تأليف القلوب والتراحم والتعاطف والتحابب.

قالوا : والفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية وجنايات الابدان من وجهين : أحدهما أنه قد ينتفع بها اذا رجعت اليه ، فلا يجوز اخفاؤها عنه ، فانه محض حقه ، فيجب عليه أداؤه اليه ، بخلاف الغيبة والقذف ، فانه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه اليه ، الا اضراره وتهييجه فقط ، فقياس أحدهما على الاخر من أفسد القياس.

والثاني انه اذا أعلمه بها لم تؤذه ولم تهج منه غضبا ولا عداوة ،

٥٧

بل ربما سره ذلك وفرح به ، بخلاف اعلامه بما مزق به عرضه طول عمره ليلا ونهارا من أنواع القذف والغيبة والهجو ، فاعتبار أحدهما بالآخر اعتبار فاسد ، وهذا هو الصحيح في القولين كما رأيت ، والله أعلم».

* * *

وقد أوجز الاصفهاني الشروط التي يلزم توافرها في صحة التوبة ، فذكر أنها ترك الذنب لقبحه ، والندم على ما فرط منه ، والعزيمة على ترك المعاودة ، وتدارك ما أمكنه ان يتدارك من الاعمال بالاعادة ، فمتى اجتمعت هذه الاربع فقد كملت شروط التوبة في الشرع ، ويبدو أن هذا هو المراد من «التوبة النصوح» التي ذكرها القرآن الكريم في سورة التحريم حيث قال : (يا أيها الذين آمنوا توبوا الى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ، نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، يقولون ربنا أتمم) [١].

وكلمة «النصوح» مأخوذة من مادة «النصح» التي تفيد معنى خلاص الشيء من الغش والشوائب الغريبة ، وذلك لان التوبة النصوح انما تتم بتخليصها من كل غش ونقص وفساد ، وبتحقيقها على أكمل الوجوه ، بأن تكون شاملة لكل الذنوب صغيرها وكبيرها ، فلا يتوب من ذنب ويترك ذنبا آخر ، وأن يعزم عليها ويبادر اليها بارادته دون تردد.

وان يجعلها خالصة لوجه الله سبحانه ، لا لغرض ولا لمرض ولا لعلة.

وقد وردت كلمات بليغة في وصف هذه التوبة ، فقال فيها عمر رضي الله عنه : «هي أن يتوب من الذنب ثم لا يعود اليه ، كما لا يعود

__________________

(١) سورة التحريم ، الآية ٨.

٥٨

اللبن الى الضرع». وقال الحسن البصري : «هي ان يكون العبد نادما على ما مضى ، مجمعا على أن لا يعود فيه». وقال الكلبي : «ان يستغفر باللسان ، ويندم بالقلب ، ويمسك بالبدن». وقال محمد بن كعب القرظي : «يجمعها أربعة أشياء : الاستغفار باللسان ، والاقلاع بالابدان ، واضمار ترك العود بالجنان ، ومهاجرة سيء الاخوان».

* * *

ولقد أطال الصوفية الحديث عن التوبة ، وفصلوا القول في معانيها تفصيلا ، وهي عند البصراء منهم أصل من أصولهم السبعة التي يكمل بها التصوف ، وهي : التمسك بكتاب الله تعالى : والاقتداء بسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأكل الحلال ، وكف الاذى ، واجتناب الآثام ، وأداء الحقوق ، والتوبة. وبعضهم يرى أن عمق الندم على ارتكاب الاثم هو المنبع الذي ينبثق منه رحيق التوبة ، ولذلك يقول ان شجرة التوبة تسقى بماء الندم ، ويرى بعض آخر منهم أن عماد التوبة هو أن ترى جرأتك على الله تعالى بارتكاب الذنب ، فتستعظم ذلك ، وترى حلم الله عنك فلا تغتر به.

وهم يرون أن التوبة فرض ، وأنها واجبة على جميع المذنبين وفي كل الذنوب ، ولذلك يقول عمرو بن عثمان المكي : «التوبة فرض على جميع المذنبين والعاصين ، صغر الذنب أو كبر ، وليس لاحد عذر في ترك التوبة بعد ارتكاب المعصية ، لان المعاصي كلها قد توعد الله عليها أهلها ، ولا يسقط عنهم الوعيد الا بالتوبة ، وهذا ما يبين ان التوبة فرض».

واذا كانت التوبة عند الصوفية مقامات ـ كما يشرح ذلك ابن القيم ـ فان منها مقاما لا يعرفه الا المحبون لله تعالى ، الذين يستقلون

٥٩

في حق محبوبهم جميع أعمالهم واحوالهم واقوالهم ، فلا يرونها قط الا بعين النقص والازراء عليها ، ويرون شأن محبوبهم أعظم ، وقدره أعلى ، واذا غفلوا عن مراد محبوبهم منهم ، ولم يوفوه حقه ، تابوا من ذلك توبة أصحاب الكبائر ، فالتوبة لا تفارقهم ابدا ، وكلما ازدادوا حبا لله ازدادوا معرفة بحقه ، وادراكا لتقصيرهم ، ولذلك يكون خوفهم أشد.

والتوبة تجب على الفور عقب وقوع الذنب ، ولذلك تتحتم المبادرة بها ، ولا يباح تأخيرها ، وكل تأخير للتوبة يعد استمرارا في الذنب والرضى به ، ولذلك كان من المأثور قولهم : العجلة من الشيطان الا في خمس : اطعام الطعام اذا حضر ضيف ، وتجهيز الميت اذا مات ، وتزويج البكر اذا أدركت ، وقضاء الدين اذا وجب ، والتوبة من الذنب اذا أذنب.

ولعل المبادرة بالتوبة هي بعض ما نفهم من قول الله تبارك وتعالى في سورة النساء : (انما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ، فاولئك يتوب الله عليهم ، وكان الله عليما حكيما وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى اذا حضر أحدهم الموت قال اني تبت الآن ، ولا الذين يموتون وهم كفار ، اولئك أعتدنا لهم عذابا أليما) (١).

وانما تقبل التوبة ممن يقدر على ارتكاب الذنب ، ثم يمنع نفسه عنه ويتوب منه ، ولكن الشخص الذي لا يستطيع ان يسرق مثلا ، لسبب خارج عن ارادته ، ويقول اني تائب عن السرقة ، ولكنه عند زوال هذا السبب يقدم على السرقة ، لا تقبل توبته ، وهذه التوبة تسمى «توبة الافلاس» أو «عفة العاجز».

* * *

__________________

(١) سورة النساء ، الآيتان ١٧ و ١٨.

٦٠