موسوعة أخلاق القرآن - ج ٣

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٣

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٩

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد كل الحمد لله تبارك وتعالى ، هو ولي النعمة ومصدر الرحمة :

«إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ».

والصلاة والسلام على جميع أنبياء الله ورسله ، وعلى خاتمهم سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وأتباعه. وأحبابه ، ومن دعا بدعوته باحسان الى يوم الدين ، وأستفتح بالذي هو خير :

«رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا ، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».

٥
٦

«وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ، قالُوا خَيْراً ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ، وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ، كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ، يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».

سورة النحل

٧
٨

مقدمة المؤلف

هذا هو الجزء الثالث من كتابي «أخلاق القرآن» الذي صدر الجزء الاول منه في وسط عام ١٩٧١ م. وصدر الجزء الثاني منه سنة ١٩٧٢ م. وما زالت النية معقودة على المسير في هذا الطريق القرآني المشرق بفضل الله وعونه.

يا رب. لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. ما أوسع عطاءك. وما أكثر آلاءك. أنت الذي تهب القليل توفيقك. فينمو ويتزايد حتى يصبح كثيرا ، فتباركت وتعاليت ...

لقد اتجهت الى الكتابة عن «أخلاق القرآن» منذ عهد طويل. يزيد على عشرة أعوام ، ولم يكن يدور بخلدي أني سأبلغ ما بلغت من الخطوات الموصولة على هذا الدرب المبارك ، ولقد أذكر فيما أذكر أني كتبت في مجلة «لواء الاسلام» المصرية عن هذا الموضوع الجليل ـ بصورة موجزة بعض الايجاز ـ ومن بين ما كتبته مقال بعنوان «الامانة في القرآن» في عدد ربيع الاول سنة ١٣٨٢ ه‍ ـ أغسطس سنة ١٩٦٣ م. وبعده مقال عن «الاخلاص في القرآن» في عدد ربيع الآخر سنة ١٣٨٢ ه‍. وبعده مقال بعنوان «الوفاء في القرآن» في عدد جمادى الآخرة سنة ١٣٨٢ ه‍.

وشغلتني شواغل قرآنية ودينية وفكرية حينا من الزمن ، ثم عدت

٩

الى الموضوع الجليل «أخلاق القرآن» فأخذت أنشر في مجلة «منبر الاسلام» المصرية ، أنشر سلسلة متتابعة تحت عنوان : «من أخلاق القرآن» ، وقد بدأت هذه السلسلة بموضوع : «العفة» الذي نشر في عدد ذي القعدة سنة ١٣٨٧ ه‍ ، يناير ١٩٦٨ م.

وخيّل اليّ حين أتممت ثلاثين فصلا أنها خاتمة مطافي في هذا المجال القرآني الكريم ، فجمعتها وضمنتها الجزء الاول من هذا الكتاب ، وجعلت عنوانه «أخلاق القرآن» بعد أن حذفت لفظة «من» التي كانت في العنوان. ولكن الله جل جلاله أراد لي أن أفهم أن القرآن كنز قد نعرف بدايته ، ولكنا لا نستطيع ان نبلغ غايته ، اذ تبين لي أن هناك مزيدا من أخلاق القرآن ، فواصلت البحث حتى كتبت عن نحو عشرين خلقا أخرى من أخلاق القرآن ، ظهرت مجتمعة في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وعندها ظننت مرة أخرى أن المطاف سينتهي عند هذا الحد.

ولكن فضل الله الذي لا يحد ولا يعد ، أراني أن الكنز ما زال مليئا ، وما زال واسع الرحاب ممدود الاسباب ، فعدت مرة أخرى أو اصل الكتابة عن أخلاق القرآن ، حتى تجمعت هذه المجموعة التي يحملها هذا الجزء الثالث من كتابي : «أخلاق القرآن».

ومن يدري ... ان النية ما زالت معقودة على المزيد من الخطوات. وان الظن ما زال جميلا حميدا بفضل الله العظيم.

لقد ذكرت هذا هنا ليستبين للانسان أن موالاة الخطوات مع صدق النية تجعل القليل بفضل الله وحده كثيرا ، وليستبين للقارىء جزء من قصة هذا الكتاب الذي أرجو أن يجعله الله سبحانه خالصا لوجهه ، وسببا من أسباب عفوه ورضوانه.

* * *

١٠

ولا شك أن موضوع «أخلاق القرآن» موضوع خطير كبير ، بستحق هذه العناية وأضعافها. لأن القرآن المجيد كتاب الله عزوجل ، ودستور الاسلام الاول ، وينبوع الرشاد والارشاد ، ورائد الخير في الدنيا والآخرة ، والاخلاق الكريمة الفاضلة هي لب ما يدعو اليه هذا القرآن العظيم ، لأن الانسان بلا أخلاق يعد من الأموات ، والاخلاق الفاضلة هي التي تعطي الانسان معنى الحياة الصحيحة ، ولذلك نرى الامام ابن القيم في «مدارج السالكين» يتحدث عن قول الله تبارك وتعالى في سورة الأنعام :

«أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».

ويبيّن المراد منها بقوله :

«من كان ميت القلب. بعدم روح العلم والهدى والايمان ، فأحياه الرب تعالى بروح أخرى ، غير الروح التي أحيا بها بدنه ، وهي روح معرفته وتوحيده ، ومحبته وعبادته وحده لا شريك له ، اذ لا حياة للروح الا بذلك ، والا فهي في جملة الأموات. ولهذا وصف الله تعالى من عدم ذلك بالموت ، فقال : «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ».

وقال تعالى :

«إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ».

وسمى وحيه روحا ، لما يحصل به من حياة القلوب والارواح فقال تعالى :

«وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ، ما كُنْتَ تَدْرِي

١١

مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا».

فأخبر أنه روح تحصل به الحياة ، وانه نور تحصل به الاضاءة.

وقال تعالى :

«يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ».

وقال تعالى :

«رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ».

فالوحي حياة الروح ، كما أن الروح حياة البدن ، ولهذا من فقد هذه الروح ، فقد فقد الحياة النافعة في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فحياته حياة البهائم ، وله المعيشة الضنك ، وأما في الآخرة ، فله جهنم لا يموت فيها ولا يحيا.

ويعود الامام فيتحدث عن مراتب الحياة ، فيذكر حياة الارض بالنبات ، وحياة النمو والاغتذاء ، وحياة الحيوان بالاحساس والحركة ، وحياة الملائكة والأرواح ، وحياة العلم من موت الجهل ، وحياة الارادة والهمة ، ثم يصل الى مرتبة عليا هي «حياة الأخلاق» ويقول عنها :

«المرتبة السابعة من مراتب الحياة حياة الاخلاق والصفات المخمودة ، التي هي حياة راسخة للموصوف بها ، فهو لا يتكلف الترقي في درجات

١٢

الكمال ، ولا يشق عليه لاقتضاء اخلاقه وصفاته لذلك ، بحيث لو فارقه ذلك لفارق ما هو من طبيعته وسجيته ، فحياة من قد طبع على الحياء والعفة ، والجود والسخاء ، والصدق والوفاء ، ونحوها ، أتمّ من حياة من يقهر نفسه ، ويغالب طبعه ، حتى يكون كذلك ، فان هذا بمنزلة من تعارضه أسباب الداء وهو يعالجها ويقهرها بأضدادها ، وذلك بمنزلة من قد عوفي من ذلك.

وكلما كانت هذه الاخلاق في صاحبها أكمل كانت حياته أقوى وأتم ، ولهذا كان خلق «الحياء» مشتقا من «الحياة» اسما وحقيقة ، فأكمل الناس حياة أكملهم حياء ، ونقصان حياء المرء نقصان من حياته ، فان الروح اذا ماتت لم تحس بما يؤلمها من القبائح ، فلا تستحيي منها ، فاذا كانت صحيحة الحياة أحست بذلك فاستحيت منه ، وكذلك سائر الاخلاق الفاضلة والصفات الممدوحه تابعة لقوة الحياة ، وضدها من نقصان الحياة.

ولهذا كانت حياة الشجاع أكمل من حياة الجبان ، وحياة السخي أكمل من حياة البخيل ، وحياة الفطن أكمل من حياة الفدم البليد. ولهذا لما كان الانبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ أكمل الناس حياة ، حتى ان قوة حياتهم تمنع الارض أن تبلي أجسامهم ، كانوا أكمل الناس في هذه الاخلاق ، ثم الامثل فالامثل من أتباعهم».

الأخلاق ـ اذن ـ هي الروح ، وهي الحياة ، والانسان لا يكون انسانا فاضلا كاملا الا بمكارم الاخلاق. وأخلاق القرآن هي أخلاق الانسانية العليا والحياة المثلى ، فلا عجب اذا استحوذت على الالباب. وامتدت في الحديث عنها الاسباب.

فيا رب الارباب ، يا مصدر التوفيق ، ويا خير رفيق. لقد شاءت ارادتك ، أن تتسع رحمتك ، فتدفع بهذا القلم الى الاشتغال بالقرآن.

١٣

والعكوف على أخلاق القرآن ... اللهم فلا تحرمه عطاءك ، ولا تقطع عنه آلاءك ، واجعل ما قدّم وما يقدم بابا من أبواب مغفرتك ومرضاتك ، انك أنت السميع المجيب.

أبو حازم

أحمد الشرباصي

١٤

تبين الامور

«تبين الأمور». فيه معنى التبصر والاستيضاح ، والتأكد من الأمر قبل الحكم له أو عليه. ولذلك تقول اللغة : بان الشيء يبين بيانا فهو مبين : أي اتضح يتضح اتضاحا فهو واضح ، والبيّنة هي العلامة التي توضح الشيء ، سواء أكان حسيا أم عقليا ، وبيّنت الشيء : أوضحته وأظهرته ، وتبين الانسان الشيء : تأمله حتى ظهر له واتضح. وتبين القوم الأمر : تدبروه على مهل غير متعجلين ، ليظهر لهم جليا.

ومعنى تبين الامور قريب من التبصر والاستبصار ، لان البصر يطلق أحيانا على العلم القوي المضاهي لادراك الرؤية. والقرآن الكريم يقول مثلا :

«فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها»(١).

وهذا مجاز عن ادراك الحق ، وكذلك العمى مجاز عن الغفلة عن الحق. والبصيرة هي البيان والحجة الواضحة ، والمستبصر هو الذي يمكنه التمييز بين الحق والباطل ، بالاستدلال والنظر.

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ١٠٤.

١٥

هكذا تتحدث اللغة. وتبين الامور في المجال الاخلاقي القرآني فضيلة من الفضائل التي دعا اليها القرآن ، وهدى لها الاسلام ، لانها تؤدي الى السير على بصيرة ، والسلوك باستقامة ، والتصرف بحكمة ، والحكم على الامور بقسط ، وتصون من التهور والاندفاع ، وشأن المؤمن أنه كيّس فطن ، وأنه لا يلدغ من جحر مرتين ، وأنه يقدر لرجله قبل الخطو موضعها ، كما عبّر القائل الحكيم.

ولقد طالب القرآن الكريم بالتبين في الأمور حين قال في سورة النساء :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا ، وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ، تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ ، كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ، إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً»(١).

روي في سبب نزول هذه الآية الكريمة أن رجلا من بني سليم مرّ بنفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يسوق غنما له فسلم عليهم ، فقالوا ظنا منهم انه مشرك : ما سلم علينا الا ليتعوذ منا ، فعمدوا اليه فقتلوه ، وأتوا بغنمه رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فنزلت الآية تعيب عليهم ما فعلوه وتنهاهم عنه.

وروي أن النبي صلوات الله وسلامه عليه بعث سرية فيها المقداد ، فلما أتوا القوم الاعداء ، وجدوهم قد تفرقوا ، وبقي منهم رجل له مال كثير. فقال : أشهد أن لا اله الا الله. فحسبوا ذلك خداعا ، فقتله المقداد ،

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٩٤.

١٦

ولما علم النبي بذلك استنكره وقال للمقداد : كيف لك بلا اله الا الله غدا؟. وأنزل الله الآية.

وخلاصة معنى هذه الآية : يا أيها المؤمنون الذين صدقتم وآمنتم بربكم وبما جاءكم من عنده ، اذا سرتم مسيرا لله في جهاد اعدائكم. فلا تتعجلوا ، بل تريثوا وتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره ، أو اشتبه عليكم حاله ، فلم تعلموا حقيقة اسلامه ولا كفره ، ولا تبادروا فتعتدوا على من التبس عليكم أمره ، ولا تقدموا على قتل أحد الا اذا ثبت لكم انه محارب لله ولرسوله ، ولا تقولوا لمن استسلم لكم ولم يقاتلكم ، مظهرا لكم أنه من ملتكم ، لا تقولوا له مكذبين اياه : «لَسْتَ مُؤْمِناً» فتقتلوه طلبا لمتاع الدنيا الزائل الذي يتمثل في الغنائم. والله سبحانه لم يشرع لكم القتال للحصول على هذا المتاع ، بل شرعه للدفاع ورد العدوان واعلاء كلمة الحق والعدل. وربما يكون بعض الناس من حولكم مسلما مستخفيا بدينه من المشركين ، فتقتلونه خطأ.

وكذلك كنتم من قبل تستخفون بدينكم ، فمن الله عليكم بالهجرة والقوة ، وبذلك أظهرتم الاسلام ، فاحرصوا على التبين والتثبت والتأكد قبل التصرف ، ولا تأخذوا بالظن أو التهمة ، والله جل جلاله عليم بكل ما تفعلون.

ولنلاحظ هنا أن القرآن الكريم قد كرر كلمة «فَتَبَيَّنُوا» هنا مرتين في آية واحدة ، وهذا لتقوية الحث على فضيلة التبين في الامور.

* * *

ويعود القرآن المجيد ليقول في سورة الحجرات :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا

١٧

أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ»(١).

أبان الحارث بن أبي ضرار الخزاعي عن سبب نزول هذه الآية فقال : قدمت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فدعاني الى الاسلام ، فدخلت فيه وأقررت به ، ودعاني الى الزكاة فأقررت بها وقلت : يا رسول الله ، ارجع الى قومي ، فأدعوهم الى الاسلام وأداء الزكاة ، فمن استجاب لي جمعت زكاته ، وترسل اليّ يا رسول الله رسولا لابّان كذا وكذا ، ليأتيك بما جمعت من الزكاة.

ورضي الرسول ذلك ، وعاد الحارث الى قومه ، وانتظر حتى أقبل الموعد. فجمع الزكاة انتظارا لمبعوث النبي ، ولكن المبعوث لم يحضر في موعده ، فقلق الحارث ، وخشي أن يكون الله تعالى قد غضب عليه ، أو غضب عليه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فشاور قومه في ذلك ، وأجمعوا على ان يتجهوا الى الرسول ليتبينوا حقيقة الأمر.

ومن جهة أخرى كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد بعث «الوليد ابن عقبة بن أبي معيط» ليحضر الزكاة من الحارث وقومه ، ولكن الوليد أدركته خيفة في وسط الطريق ، فعاد الى الرسول ، وأخبره ان الحارث منعه الزكاة وهم بقتله.

وغضب الرسول لذلك وهم بأن يسير الى الحارث وقومه لتأديبهم ، ولكن الحارث أقبل مع قومه بعد قليل ، فأخبره المسلمون قبل أن يبلغ مكان الرسول أن الرسول قد بعث اليه الوليد لأخذ الزكاة ، ثم زعم أنك قد منعته الزكاة وأردت قتله. فقال الحارث : لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة ، ولا أتاني.

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآية ٦.

١٨

ودخل الحارث على الرسول فقال له الرسول : منعت الزكاة ، وأردت قتل رسولي؟.

قال الحارث : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني ، ولا أقبلت الا حين احتبس عليّ رسول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، خشية أن تكون سخطة من الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم.

فنزل قول الله تعالى :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ، وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ، أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ، فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(١).

ومعنى الآية الاولى : يا من تحليتم بالايمان وطاعة الله وطاعة رسوله ، ان جاءكم شخص أخل بحق الشرع بخبر يتضمن شيئا مهما ، فتوقفوا فيه ، ولا تسلموا له على الفور. بل تأكدوا وتثبتوا لنعرفوا الحقيقة والواقع ، لئلا تصيبوا قوما من الناس الابرياء. وأنتم تجهلون حقيقة الامر. فتصيروا بعد ظهور براءتهم نادمين على ما ارتكبتم في حقهم. مغتمين غما يلازمكم ،

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآيتان ٦ و ٧.

١٩

وتتمنوا أن ذلك لم يقع منكم ، لان الندم هو الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه.

* * *

واذا نظرنا في القرآن المجيد متدبرين رأينا أنه يجعل البيان والتبيين والتبين وما تفرع من ذلك من مشتقات سمة من سمات هدى الله ودعوته ، فهو يقول في سورة البقرة :

«قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(١).

ويقول فيها :

«وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»(٢).

ويقول في سورة الحديد :

«قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(٣).

وكأن هناك ارتباطا بين التبين واليقين والعلم والعقل.

وكذلك نرى أن الحديث عن تبيين الآيات يأتي في كثير من المواطن في القرآن ، ويعقب القرآن على ذلك بمثل هذه الكلمات : «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ـ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ـ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ـ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ـ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ـ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». وكأن تبيان الله تعالى للآيات ينبغي أن يعقبه تبين من الانسان يهديه سواء السبيل ، ويشره فيه هذه الفضائل العظيمة التي

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١١٨.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٢٣٠.

(٣) سورة الحديد ، الآية ١٧.

٢٠