موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٢

في سورة هود حيث يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). وقد تحدث المفسرون عن معنى قوله في هذه الآية : (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) فقالوا ان المعنى : تواضعوا لربهم وتخشعوا ، واطمأنوا اليه ، وانقطعوا الى عبادته ، وكذلك أورد ابن جرير الطبري أقوالا في معنى الاخبات هي أنه الانابة أو الخوف أو الاطمئنان أو الخشوع أو الخضوع ، ثم علق ابن جرير على هذه الآراء بقوله :

«وهذه الأقوال متقاربة المعاني ، وان اختلفت ألفاظها ، لان الانابة الى الله من خوف الله ، ومن الخشوع والتواضع بالطاعة ، والطمأنينة اليه من الخشوع له ، غير أن نفس الاخبات عند العرب الخشوع والتواضع».

وكأن الآية السابقة الذكر ـ مع ما سبقها وما لحق بها ـ استعراض لحال المشركين ، وحال الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، لاظهار الفرق بين المتمردين والمخبتين ، ففي الآيات العشرين والحادية والعشرين والثانية والعشرين من سورة هود ، كان الحديث عن المشركين بقوله تعالى : (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ، لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ).

وتأتي عقب ذلك الآية التي فيها ذكر الاخبات ، وفيها صفة الصحابة المؤمنين ، فتقول كما سبق : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

ثم تأتي عقب ذلك الآية الرابعة والعشرون ، وفيها المقارنة المميزة بين

٢٤١

الفريقين ، فتقول : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ ، وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

وبسبب هذا الاستعراض وتلك المقارنة نجد المفسر ابن كثير يعلق على تلك الآيات التي سقناها سابقا ، فيقول : «لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء ، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فآمنت قلوبهم ، وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة قولا وفعلا ، من الاتيان بالطاعات ، وترك المنكرات ، وبهذا ورثوا الجنات ، المشتملة على الغرف العاليات ، والسرر المصفوفات ، والقطوف الدانيات ، والفرش المرتفعات ، والحسان الخيرات ، والفواكه المتنوعات ، والمآكل المشتهيات ، والمشارب المستلذات ، والنظر الى خالق الأرض والسموات ، وهم في ذلك خالدون ، لا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون ، ولا ينامون ولا يتغطون ، ولا يبصقون ولا يتمخطون ، ان هو الا رشح مسك يعرقون.

ثم ضرب تعالى مثل الكافرين والمؤمنين ، فقال : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) أي الذين وصفهم أولا بالشقاء ، والمؤمنين بالسعادة ، فأولئك كالأعمى والأصم ، وهؤلاء كالبصير والسميع ، فالكافر أعمى عن وجه الحق في الدنيا والآخرة ، لا يهتدي الى خير ولا يعرفه ، أصم عن سماع الحجج فلا يسمع ما ينتفع به : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) الآية.

وأما المؤمن ففطن ذكي لبيب بصير بالحق ، يميز بينه وبين الباطل ، فيتبع الخير ويترك الشر ، سميع للحجة ، يفرق بينها وبين الشبهة ، فلا يروج عليه باطل ، فهل يستوي هذا وهذا؟ أفلا تذكرون؟ .. أفلا تعتبرون فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء»؟.

ونلاحظ في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ان الآية ذكرت الايمان أولا ، ثم ذكرت العمل الصالح ثانيا ، ثم ذكرت الاخبات

٢٤٢

بعد ذلك ، وهذا الترتيب يشير الى أن الاخبات كأنه ثمرة للايمان والعمل ، والمعنى العام للآية هو أن الذين آمنوا واعتقدوا بربوبية الله اعتقادا جازما ، وصدقوا قوله وحكمه ، ثم قرنوا الايمان بالعمل الصالح ، واطمأنت نفوسهم بالايمان ، ولانت قلوبهم ، وخشعوا واطمأنوا ، فلم يبق عندهم زلزال ولا اضطراب ، أولئك المتصفون بما سبق هم أصحاب الجنة المستحقون لها بالذات ، الخالدون فيها أبدا.

*

وجاء ذكر المخبتين مرة ثانية في قوله تعالى في سورة الحج : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ، فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ، فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) أي الخاشعين المتواضعين ، أو المطمئنين ، أو الوجلين ، أو الراضين بقضاء الله المستسلمين له ، أو الذين لا يظلمون غيرهم ، أو الذين ان ظلمهم غيرهم لم ينتصفوا ... هكذا تحدثت التفاسير المختلفة عن كلمة «المخبتين». ولعل أحسن تفسير لهم هو ما جاء في الآية التالية ، وهي قوله تعالى عقب ذلك : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ ، وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

والمعنى العام للآية الأولى هو : لقد شرعنا لكل أمة من الأمم السالفة ، من عهد ابراهيم عليه‌السلام الى من جاء بعده ، ضربا من ضروب القربان ، يذبحونه تقربا الى الله ، من الابل أو البقر أو الغنم ، ليذكروا اسم الله ، والمشرع واحد هو الله ، وانما تختلف التكاليف باختلاف الازمنة والاشخاص ، لاختلاف المصالح. فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم الله ، فالهكم اله واحد لا شريك له ، فاياه فاعبدوا ، وله أخلصوا الطاعة واستسلموا لحكمه ، وانقادوا له في جميع التكاليف ، فمن انقاد كان مخبتا ، وبشر يا رسول الله أولئك الخاضعين لله بالطاعة ،

٢٤٣

المذعنين له بالعبودية ، المنيبين اليه بالتوبة ، المطمئنين الى الله المتواضعين له.

والآية الثانية نفهم منها أن هؤلاء المتحلين بفضيلة الاخبات ، يتصفون بأربع صفات ، أولاها هي أن قلوبهم تخاف الله وتخشاه ، وثانيتها أنهم يصبرون على ما يسوقه الله اليهم من ابتلاء أو اختبار ، وثالثتها أنهم يحافظون على الصلوات ويؤدونها سليمة قويمة ، ورابعتها أنهم ينفقون مما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم وأقاربهم وفقرائهم ومحاويجهم ، ويحسنون الى الخلق ، مع محافظتهم على حدود الله.

ومما رواه التاريخ بمناسبة قول الله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان اذا رأى الربيع بن خيثم قال عنه : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ). فلم كان يقول عنه ذلك كلما رآه؟!

روى الامام حجة الاسلام أبو حامد الغزالي في ذلك أن الربيع كان كثير الخشوع لله ، وكان يغض بصره ويطرق ، فيحسب الناس أنه كفيف البصر ، وكان يزور ابن مسعود ، فاذا طرق عليه الباب ، وفتحت الجارية له ، رأته مطرقا غاضا بصره ، فتعود الى ابن مسعود وتقول له : «صديقك الأعمى قد جاء»! ..

ويخرج ابن مسعود الى استقباله قائلا له : «وبشر المخبتين ، أما والله لو رآك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفرح بك ، أو لأحبك».

والربيع هذا الذي كان مثلا من أمثلة المخبتين ، ونموذجا من نماذج الخاشعين كان يعد أحد الثمانية الذين انتهى اليهم الزهد في التابعين ، فقد جاء في «العقد الفريد» أن العتبي قال : «سمعت أشياخنا يقولون : انتهى الزهد الى ثمانية من التابعين : عامر بن عبد القيس ، والحسن بن أبي الحسن البصري ، وهرم بن حبان ، وأبي مسلم الخراساني ، وأويس القرني ، والربيع بن خيثم ، ومسروق بن الأجدع ، والأسود بن يزيد»

٢٤٤

وهو الذي كان يخشع في صلاته ، ويشعر بجلال من يناجيه ويصلي له. وكان يقول : «ما دخلت في صلاة قط فأهمني فيها الا ما أقول وما يقال لي».

ولقد رأى بعض الناس الربيع بن خيثم يتعب نفسه في العبادة ، فقالوا له ناصحين : لو أرحت نفسك؟. فأجاب : «راحتها أريد»!!.

ولذلك كان يقول : «لو أن لي نفسين ، اذا علقت احداهما سعت الأخرى في فكاكها؟. ولكنها نفس واحدة ، فان أنا أوثقنها من يفكها»؟!

ومن نصائحه أيضا قوله : «كن وصي نفسك ، ولا تجعل أوصياءك الرجال».

وحينما مرض الربيع بن خيثم قيل له : ألا ندعو لك طبيبا؟

فقال : أنظروني. ثم فكر وقال : «وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا ، قد كانت فيهم أطباء ، فما أرى المداوي بقي ولا المداوى ، هلك الناعت ، والمنعوت له ، لا تدعوا لي طبيبا»!.

وأوصى الربيع بن خيثم ـ وكفى بالله شهيدا ، وجازيا لعباده الصالحين ومثيبا ـ فكانت وصيته : «اني رضيت بالله ربا ، وبالاسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، وأوصي نفسي ومن أطاعني ، أن يعبد الله في العابدين ، ويحمده في الحامدين ، وينصح لجماعة المسلمين».

وأوصى أهله بشأن ما يفعلونه عند موته : «لا تشعروا بي أحدا ، وسلّوني الى ربي سلّا»!!.

٢٤٥

لعلنا بعد هذا نعرف لماذا كان ابن مسعود يردد قوله : «وبشر المخبتين» كلما رأى الربيع بن خيثم ، ولماذا كان يقول له كلما رآه : أما والله لو رآك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفرح بك ، أو لأحبك».

*

والموطن الثالث الذي جاء فيه ذكر فضيلة «الاخبات» هو قول الله تعالى في سورة الحج : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، فَيُؤْمِنُوا بِهِ ، فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ، وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وقوله : (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أي تلين وتخشع ، وتذل وتخضع ، وتذعن للقرآن وتقر بما فيه.

ولنلاحظ أن الآية الكريمة ذكرت العلم بالحق ، ثم ذكرت الايمان ثم ذكرت الاخبات ، ثم ذكرت الاستقامة على صراط الهدى والفلاح ، فكأن الاخبات ثمرة للعلم والايمان ، ومفتاح الاستقامة والاهتداء ، وفي ذلك ما فيه من تذكير بمكانة فضيلة «الاخبات» وشأنها.

ولنلاحظ أيضا أن القرآن الكريم قد ذكر هؤلاء المخبتين العالمين المؤمنين المهتدين ، في آية تتوسط بين آية سابقة عليها تتحدث عن الذين لهم قلوب قاسية والذي قست قلوبهم ، وآية لاحقة لها تتحدث عن الكافرين الذين لا يزالون في شك ومرية ، حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ، ومن هذا الأسلوب نستطيع أن نفهم أن المخبتين ليس للشيطان عليهم من سبيل.

وهكذا يسير النظم القرآني البليغ في هذا الموطن : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ،

٢٤٦

فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ، وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ، أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ).

*

وللصوفية مع «الاخبات» حديث ، فالاخبات عندهم ـ كما يقول الهروي ـ هو أول مقامات الطمأنينة. وكذلك يقول الهروي : «الاخبات ورود المأمن من الرجوع والتردد». ويقبل ابن القيم على شرح هذه الجملة فيقول : «لما كان الاخبات أول مقام يتخلص فيه السالك من التردد ، الذي هو نوع غفلة واعراض ، والسالك مسافر الى ربه ، سائر اليه على مدى أنفاسه ، لا ينتهي مسيره اليه ما دام نفسه يصحبه ، شبّه حصول الاخبات له بالماء العذب الذي يرده المسافر على ظمأ وحاجة في أول مناهله ، فيرويه منهله ، ويزيل عنه خواطر تردده في اتمام سفره ، أو رجوعه الى وطنه لمشقة السفر.

فاذا ورد ذلك الماء زال عنه التردد وخاطر الرجوع ، كذلك السالك اذا سلك مورد الاخبات تخلص من التردد والرجوع ، ونزل أول منازل الطمأنينة بسفره ، وجدّ في السير»!.

والاخبات عندهم درجات ومراتب ، أولاها أن تسيطر عزيمة السالك على شهوته فلا يميل الى مطالب النفس ، بل تتغلب ارادته على غفلته ، وثانيتها ألا ينقض عزيمته سبب ، ولا تعرض له وحشة في سعيه نحو ربه ، ولا تقطع الفتنة عليه طريقه ، وثالثتها أن تعلو همته وتعلو ، حتى يستوي عنده المدح والذم ، فلا يفرح لمدح الناس ، ولا يحزن لذمهم.

وهم يرون أن النفس بشهواتها وميولها هي العائق الأكبر عن الوصول الى صدق التحلي بفضيلة الاخبات الى الله عزوجل ، وهي الحجاب الذي يحول دون وصول العبد الى الله ، ولذلك يقول ابن

٢٤٧

القيم : «فالنفس جبل عظيم شاق في طريق السير الى الله عزوجل ، وكل سائر لا طريق له الا على ذلك الجبل ، فلا بد أن ينتهي اليه ، ولكن منهم من هو شاق عليه ، ومنهم من هو سهل عليه وانه ليسير على من يسره الله عليه.

وفي ذلك الجبل أودية وشعوب ، وعقبات وو هود ، وشوك وعوسج ، وعليق وشبرق ، ولصوص يقطعون الطريق على السائرين ، ولا سيما أهل الليل المدلجين ، فاذا لم يكن معهم عدد الايمان ومصابيح اليقين تتقد بزيت الاخبات ، والا تعلقت بهم تلك الموانع ، وتشبثت بهم تلك القواطع ، وحالت بينهم وبين السير ، فان أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته.

والشيطان على قلّة ذلك الجبل يحذر الناس من صعوده وارتفاعه ، ويخوفهم منه ، فيتفق مشقة الصعود ، وقعود ذلك المخوف على قلته ، وضعف عزيمة السائر ونيته ، فيتولد من ذلك الانقطاع والرجوع والمعصوم من عصمه الله.

وكلما رقي السائر في ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه ، فاذا قطعه وبلغ قلّته ، انقلبت تلك المخاوف كلهن أمانا ، وحينئذ يسهل السير ، وتزول عنه عوارض الطريق ومشقة عقباتها ، ويرى طريقا واسعا آمنا ، يفضي به الى المنازل والمناهل ، وعليه الأعلام وفيه الاقامات قد أعدت لركب الرحمن.

فبين العبد وبين السعادة والفلاح قوة عزيمة ، وصبر ساعة ، وشجاعة نفس ، وثبات قلب ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم».

فليرفع المؤمن رأسه الى السماء قبلة الدعاء ، وليرج ربه أن يحليه بفضيلة الاخبات والخشوع والطاعة. وليدع كما دعا رسول الله عليه الصلاة والسّلام : اللهم اجعلني لك مخبتا! .. والبشرى للمخبتين! ..

٢٤٨

القوة

مادة «القوة» تدل على الصلابة والتماسك. يقال : قوي الشخص أو الشيء يقوى ، أي تماسكت أجزاؤه. وتستعمل المادة في الأشياء المادية والمعنوية ، فيقال : قويت أطرافه ، وقوي عقله ، وقويت عزيمته ، وقويت مكانته ومنزلته ، وفي مادة «القوة» أيضا معنى القدرة والاستطاعة في الماديات والمعنويات.

ولقد ذكر القرآن الكريم القوة الحسية في البدن حيث قال في سورة الروم : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ، يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ). ولكنه ذكر القوة المعنوية في مواطن كثيرة ، وهذه القوة المعنوية فضيلة من الفضائل يعنى بها رجال الاخلاق والادب ، فالقرآن يستعمل القوة بمعنى صدق العزيمة وصلابة الارادة ، فيقول في سورة البقرة : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). أي تقبلوه واحرصوا عليه ، واعملوا بجد ونشاط ، ولا تميلوا الى الضعف والوهن.

ويقول القرآن عن موسى عليه‌السلام في سورة الاعراف : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ). أي خذها بجد وعزيمة.

٢٤٩

ومثل هذا في سورة مريم ، وهو : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا).

والقوة التي تتصل بالمعنويات أنواع وألوان ، فهناك قوة الايمان ، وقوة الأخلاق ، وقوة العلم ، كما أن هناك قوة العمل وقوة الجهاد ، وقوة الرأي ، وقوة الكلمة ، فاذا توافرت هذه الانواع لانسان فقد بلغ قمة ملحوظة في تقدير رجال الأخلاق والفضائل ، واذا توافر له جانب من هذه الأنواع كان له من المنزلة بقدر هذا الجانب.

ومما يدل على شرف «القوة» بأجلى برهان هو ان القرآن الكريم وصف ذا الجلال والكمال والجمال سبحانه بالقوة ، فقال في سورة هود : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) وقال في سورة الانفال : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ). ووصف القرآن رب العزة بأن القوة كلها له فذكر في سورة البقرة : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ، وكرر وصف الله بوصفي القوة والعزة معا سبع مرات.

واذا تطلعنا الى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لوجدناه مثلا باهرا في القوة ، ففوق ما آتاه الله من سلامة الحس والنفس ، ونقاء الجسم وفتوة البدن ، آتاه القوة الروحية الاخلاقية القائمة على الثبات وقوة الارادة وصلابة العزيمة ، ولا عجب فهو القائل وقد تألبت عليه جموع المشركين : «والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله ، أو أهلك دونه». وهو الذي كان يتحصن به الاشداء الاقوياء من صحابته في ساحات الجهاد وساعات الهول ، حتى يقول عنه الامام علي : «كنا اذا اشتد البأس واحمرت الحدق ، اتقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما يكون احد منا أقرب الى العدو منه».

ويقول البراء : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اذا تشمر

٢٥٠

للقتال أشد الناس بأسا ، وكان الشجاع منا هو الذي يقترب منه في الحرب لشدة قربه من العدو».

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبب في القوة العاقلة الفاضلة ، فكان يدعو ربه قائلا : «أعوذ بك من العجز والكسل». ويقول «المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وان أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فان (لو) تفتح عمل الشيطان».

وبعض الناس ـ كما أوضحت في كتابي «من أدب النبوة» يتوهمون حين يسمعون صدر هذا الحديث أن المراد بالقوة فيه هو قوة البدن فحسب ، مع أن اطلاق القوة هنا يشمل قوة البدن وقوة العقل ، وقوة الروح ، وقوة العمل ، كما أن الضعف وهو ضد القوة يكون في هذه الأشياء كلها ، ولذلك ورد عن الرسول عليه الصلاة والسّلام قوله : «ليس الشديد بالصرعة ، انما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» ، والصرعة هو الرجل الموفور القوة ، الذي يعتمد على متانة الأعضاء فحسب (١).

*

ويقول القرآن المجيد على لسان ابنة شعيب في حق موسى عليه‌السلام : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي القادر على انجاز عمله بجد ونشاط ، مع أمانة واخلاص. ويروى أن أباها قال لها : وما علمك بقوته وأمانته؟. فأجابت : انه رفع الصخرة التي

__________________

(١) انظر كتابي «من أدب النبوة» ص ٢٩٧ ـ ٣٠١ طبع مطابع الاهرام التجارية بالقاهرة سنة ١٩٧١.

٢٥١

لا يطيق جملها الا عشرة رجال ، واني لما جئت معه تقدمت أمامه ، فقال لي : كوني من ورائي ، فاذا اختلف عليّ الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق ، لأهتدي اليه.

والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا ـ كما يحدثنا القرآن في سورة آل عمران ـ يستعينون بفضيلة القوة على الثبات في المعارك ، فيقول القرآن : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) (علماء فقهاء كثيرون) (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ، وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا ، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا ، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ). ولقد أدرك لوط عليه‌السلام قيمة القوة وعبر عن فائدتها ، حينما رأى الخبثاء الفاسقين من قومه يحاولون الاعتداء على أضيافه ، فقال نهؤلاء الاضياف في ما جاء في سورة هود : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ).

وفي كتابي «الدين للحياة» صفحات تتحدث عن القوة في الاسلام بصفة عامة ، وعن القوة في القرآن بصفة خاصة ، وفيها أن الاسلام «هو دين القوة التي لا تطغى ، والشدة التي لا تبغي ، ولعل القرآن الكريم ، وهو دستور العربية الاعلى ـ قد أراد أن يبسط هذا المعنى في أسماع الناس وعقولهم ، وأن يؤكده في قلوبهم وأرواحهم ، حينما احتفل في حديثه عن القوة هذا الاحتفال.

ان القرآن الكريم يحدثنا عن صفات الله ذي الطول والانعام ، فيذكر لنا من هذه الصفات صفة القوة ، وفي وصف الله بالقوة أكثر من مرة ايحاء الى المؤمنين بأن يكونوا أقوياء ، لانهم يلجأون الى حصن منيع وعرش رفيع ، فلهم من ذلك قوة ، ولهم من ذلك أسوة. يقول القرآن المجيد : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ). (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ). (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أي شديد القوة.

٢٥٢

(وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) ، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) ، (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

والقرآن الكريم يحدثنا عن جبريل عليه‌السلام ، وهو أحد الملائكة وسفير الله الى أنبيائه ورسله ، وأمينه على وحيه ، فيصفه بالقوة أيضا ، مع أن طبيعة الملائكة النورانية ، ومجاليها الصافية المباركة ، قد لا يناسبها ـ في الظاهر ـ هذا الوصف ، فيقول عنه : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ). ويقول : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى).

والقرآن الكريم يحدثنا عن الرسل ، وهم المعصومون المؤيدون بنصر الله تعالى وهدايته ، الذين تتنزل عليهم جنود السماء ، فتقودهم من نصر الى نصر ، ومع ذلك نرى القرآن يصفهم بالقوة وشدة البأس وبسطة الجسم وتوافر الفتوة ، فهو يقول عن النبي الملك طالوت : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ).

وهذا موسى عليه‌السلام يدرك ما في القوة والتعاون بها من خير وسبب للوصول ، فيقول لربه : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ..)

والقرآن الكريم يصف رسول الله محمدا عليه الصلاة والسّلام ، ويصف أمته ، فينعتهم بالقوة ، فيقول : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).

والقرآن يتحدث عن «ذي القرنين» في اصلاحه ، فيجعل القوة من اسباب نجاحه ، فيقول : (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً).

والقرآن يتحدث عن عفريت سليمان الذي أراد أن يحضر له عرش

٢٥٣

بلقيس ، فيجعل من أسباب ثقته بفعل ذلك قوته ، فيقول : (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ ، وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ).

وهذه بنت شعيب عليه‌السلام تجعل قوة موسى عليه‌السلام مسوغا ومحرضا على الاستعانة بقوته ، فيقول القرآن الكريم عن ذلك : (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).

والله يتحدث عن القوة في ملكه وخلقه على أنها مظهر من مظاهر الفضل والنعمة ، فيقول : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ). ويقول : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً). ويقول : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ). ويقول : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ، فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ، وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً). ويقول : وما أروع الاشارة الى الانتفاع بالقوة فيما يقول : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ).

ويأمر الله سبحانه بالقوة حتى في العبادة وتنفيذ الأوامر ، واختيار ما يحتاج الى الجهد ، فيقول : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، ويقول : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (١).

*

ولقد أتت في التنزيل المجيد آية تشمل الدعوة الى كل أنواع القوة المادية والمعنوية ، وهي قول الله تبارك وتعالى في سورة الأنفال : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ ، اللهُ يَعْلَمُهُمْ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).

__________________

(١) انظر كتابي «الدين والحياة» ص ٥٨ ـ ٦١ طبع دار الكاتب العربي بالقاهرة سنة ١٩٦٨

٢٥٤

وقد ذكر السيد رشيد رضا عن هذه الآية أن الله تبارك وتعالى أمر عباده المؤمنين بأن يجعلوا الاستعداد للحرب التي تدفع العدوان وتحفظ النفوس وتصون الحقوق بأمرين : أولهما اعداد جميع أسباب القوة بقدر الاستطاعة ، والقوة هنا قد تكون قوة السلاح أو قوة العلم ، أو قوة الاخلاق أو قوة اليقين ، أو قوة الامداد ، لأن كلمة القوة تشمل كل هذه الانواع وغيرها.

وثانيهما المرابطة على الحدود والثغور بالجنود المدربين ووسائل الانتقال السريع ، وكان أسرع الوسائل عند نزول الآية هي الخيل ، وهذان الامران هما اللذان تعول عليهما جميع الدول التي ارتقت فيها الفنون العسكرية. ومن المعلوم بالبداهة أن اعداد المستطاع من القوة ، يختلف امتثال الامر الرباني فيه باختلاف درجات الاستطاعة في كل زمان ومكان بحسبه ، وقد روي ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا الآية السابقة ، ثم قال : «ألا ان القوة الرمي» وكرر ذلك ثلاثا ، وهذا اشارة الى ان أعظم أركان القوة هو الرمي ، وذلك لأن رمي العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة ، واطلاق الرمي في الحديث السابق يشمل كل ما يرمى به العدو من سهم أو قذيفة أو بندقية أو طيارة أو مدفع أو غير ذلك. واذا كان بعض هذه الوسائل لم يظهر في عهد النبي فان لفظ «الرمي» يشمله ، لان الحديث لم يقيد الرمي بشيء دون شيء ، ولعل الله تعالى ـ كما ذكر رشيد ـ قد أجرى ذلك اللفظ على لسان نبيه مطلقا ليدل على العموم لامته في كل عصر بحسب ما يرمى به في كل عصر (١).

فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنص القرآن أن يصنعوا

__________________

(١) انظر تفسير المنار ، ج ١٠ ص ٦٩ ـ ٧١ الطبعة الثانية ، طبع دار المنار سنة ١٣٦٩ ه‍.

٢٥٥

أسلحة القتال الحديثة ليحفظوا هيبتهم وحريتهم أمام اعدائهم ، ويجب عليهم أن يتعلموا كل الفنون والصناعات التي تمكنهم من صنع هذه الأسلحة ، والقرآن بعد هذا يقول : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).

*

واذا كان كتاب الله تعالى يذكر القوة العاملة الفاضلة ويمجدها ، فانه يحمل على الضعف والعجز ، ولذلك نجد في سورة آل عمران قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ، وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ، فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

ونجد في سورة النساء قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً). ونجد في سورة ابراهيم قوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ، قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ ، سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ)

وينبغي أن نتذكر أن قوة الايمان هي أفضل أنواع القوى ، لأنها هي التي تؤدي الى مجموعة من الفضائل كالاخلاص ، وصدق الجهاد ، وصفاء النية ، وطهارة الطوية ، ولذلك خاطب الله المؤمنين مرات كثيرة بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ثم طالبهم عقب ذلك النداء بتبعات وواجبات لا يقوم بها الا الأحرار الاخيار من الناس ، وكأن تحقق الايمان فيهم هو خير معوان لهم في النهوض بهذه التبعات والواجبات. ولا شك

٢٥٦

أن القوي الايمان هو الذي يجهر بكلمة الحق ويستجيب لدعوة الصدق ، وهو الذي يؤدي عمله باتقان واحسان ، ويلتزم الصراط في عزيمة ومداومة.

والقرآن المجيد يذكرنا في مواطن منه بأن قوة البغي والطغيان مصيرها الوبال والخسران ، ولذلك يقول في سورة التوبة : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً ، وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً ، فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ، وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا ، أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ). ويقول في سورة القصص : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ ، وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ، إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ، وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ، وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ، وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ، قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي ، أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) وحينما أسرف قارون في طغيانه كانت النتيجة : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ ، فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ).

وفي سورة الروم : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ، وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). وفي سورة فصلت : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَقالُوا : مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ، وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي

٢٥٧

أَيَّامٍ نَحِساتٍ ، لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ). وفي سورة محمد : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ ..) الخ.

ويعلمنا القرآن ان الطريق الى القوة يكون بالاستمداد من عون الله وقوته ، ولذلك يقول القرآن في سورة الكهف : (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) ويقول الرسول عليه الصلاة والسّلام : «من سره أن يكون أعز الناس فليتق الله ، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده».

ومن وسائل تحقيق القوة الحسية والروحية الابتعاد عن الرذائل والفواحش ، والاعتصام بالفضائل والمحامد ، واجتناب ما يوهن حس الانسان أو نفسه ، من مسكر أو مخدر أو مفتر ، وما يضعف كيانه من ترف واسراف.

أيها المؤمن ، كن قويا في حسك وعقلك وخلقك وسلوكك ، وكن في قوتك نظيفا شريفا ، فان ربك هو رب الأقوياء الشرفاء!.

٢٥٨

غض البصر والصوت

مادة «الغضّ» في اللغة تدل على النقص والخفض والتقليل ، ويذكر ابن فارس في معجمه «معجم مقاييس اللغة ان هذه المادة لها اصلان أحدهما يدل على كف ونقص ، ويدل الآخر على لين وطراوة ، فكل شيء غضضته فقد كففته ، والشيء الغض هو الطري ، ويقال : غض بصره أي خفضه ، وكذلك غض صوته أي خفضه. واذا كان غض الصوت يدل على استقرار الشخصية وهدوء النفس ، واتزان التفكير وسلامة الحس ، فان غض البصر أدب نفسي وفضيلة أخلاقية تدل على ترفع صاحبها عن الخنا ، وتساميه عن الاستجابة لدواعي الشهوات والأهواء.

ولقد ذكر القرآن الكريم فضيلة «غض البصر» في سورة النور ، ضمن ما أمر الله تبارك وتعالى رسوله أن يبلغه الى عباده ، ويدعوهم اليه ويأمرهم به ، ولم يكتف القرآن بأن يأمر الرجال بغض الابصار ، بل أمر به النساء أيضا ، لأن الفضيلة هنا مطلوبة لهؤلاء وهؤلاء ، فقال : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ، وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ، ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ ، إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ، وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها ، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ ، أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ ، أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ ، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ ، أَوِ

٢٥٩

الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ ، وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ، وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١)»

ومعنى قوله : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) هو أن يكفوا من عيونهم ، وينقصوا من نظرهم ، ويصرفوه عما يحرم عليهم النظر اليه ، ويقتصروا على نظر ما يحل لهم أن ينظروه ، وحمل النفس على هذا الأدب يحتاج الى ايمان وعزيمة ، والى أرادة صلبة قوية ، لأنهم اذا لم يحفظوا نظرهم ويصرفوا أبصارهم في مثل هذا المقام فان ذلك سيؤول بهم الى شر العواقب ، ولذلك كان الأليق بهم والأطهر لهم أن يكفوا وينصرفوا عما يحرم عليهم أن يتطلعوا اليه.

والمرأة الأصلية الشريفة العفيفة يعد من يتوقح في نظره اليها وهو أجنبي عنها مثلا لسوء الاخلاق او وضاعة الاعراق ، ولذلك يروي التاريخ أن امرأة عربية مرت على جماعة من بني نمير ، فأحدوا بصرهم اليها ، ولم يغضوا بعيونهم عنها فقالت لهم : يا بني نمير ، والله ما أخذتم بواحدة من اثنتين : لا بقول الله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) ولا بقول الشاعر :

فغض الطرف انك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا!

وفيما يتعلق بغض النساء ابصارهن عن التطلع الى الرجال بلا ضرورة تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها : «حماديات النساء غض الاطراف» أي كف الابصار عن التحديق في الرجال الاجانب عنهن ، ويقال ان صحة العبارة التالية هي «حماديات النساء غض الاطراف» أي ان يغضضن من أبصارهن مطرقات راميات بأبصارهن الى الارض. ومعنى قولها «حماديات النساء» أي غاية ما يحمد منهن.

__________________

(١) وليضربن : وليسدلن. بخمرهن : أغطية رؤوسهن. جيوبهن : فتحات صدورهن. لبعولتهن : لازواجهن. الاربة : الحاجة الى النساء لم يظهروا : لم يطلعوا.

٢٦٠