موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٢

افرط ، والآخر فرّط ، وذلك ـ كما عبر التفسير بعبارته الواسعة المبسوطة ان الناس كانوا قبل ظهور الاسلام على قسمين : قسم تقضي عليه تقاليده بالمادية المحضة ، فلا هم له الا الحظوظ الجسدية ، كاليهود والمشركين ، وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة ، وهجر الدنيا ، وترك ما فيها من اللذات الجسمية ، كالنصارى والصابئين وطوائف من الوثنيين في الهند اصحاب الرياضات.

واما الامة الاسلامية فقد جمع الله لها في دينها بين الحقين : حق الروح وحق البدن ، فهي امة مادية روحية ، فقد اعطاها دينها جميع حقوق الانسانية ، لان الانسان جسم وروح ، فكأن الآية الكريمة تقول : جعلناكم امة وسطا ، تعرفون الحقين ، وتبلغون الكمالين ، لتكونوا شهداء بالحق على الناس الماديين بما فرطوا في جنب الدين ، والروحانيين بما أفرطوا وكانوا من الغالين : تشهدون على المفرطين بالتعطيل القائلين : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (١) بأنهم أخلدوا الى البهيمية ، وقضوا على استعدادهم بالحرمان من المزايا الروحية ، وتشهدون على المفرطين بالغلو في الدين القائلين : ان هذا الوجود حبس للارواح وعقوبة لها ، فعلينا ان نتخلص منه بالتخلي عن جميع اللذات الجسمانية ، وبتعذيب الجسد ، وهضم حقوق النفس ، وحرمانها من جميع ما أعده الله لها في هذه الحياة.

تشهدون عليهم بانهم خرجوا عن طريق الاعتدال ، وجنوا على ارواحهم بجنايتهم على اجسادهم وقواها الحيوية ، تشهدون على هؤلاء وهؤلاء ، وتسبقون الامم كلها باعتدالكم وتوسطكم في الامور كلها ، لان الاسلام الذي هداكم الله اليه وحباكم به فيه الكمال الانساني الذي

__________________

(١) سورة الجاثية ، الآية ٢٤.

١٠١

ليس بعده كمال ، لان الملتزم به يعطي كل ذي حق حقه ، يؤدي حقوق ربه ، وحقوق روحه ، وحقوق جسمه ، وحقوق ذوي القربى ، وحقوق سائر الناس.

ويكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهيدا عليكم ، لانه المثل الاعلى في التوسط والاعتدال ، وانما تكون هذه الامة وسطا باتباعها له في سنته وشريعته وسيرته ، وهو القاضي بين الناس فيمن اتبع سنته ، ومن ابتدع لنفسه تقاليد اخرى ، او حذا حذو المبتدعين.

فكما تشهد هذه الامة العاملة بالاسلام على الناس بسيرتها ورقيها المادي والروحي بان الناس قد ضلوا عن القصد ، يشهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لامته بما وافقت فيه سنته ، وما كان لها من الاسوة الحسنة فيه ، وبانها استقامت على الصراط المستقيم.

وانما يتحقق لكم وصف «الوسطية» اذا حافظتم على العمل بهدي الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، واما اذا انحرفتم ، أو غيرتم وبدلتم ، فالرسول بنفسه ودينه وسيرته حجة عليكم بانكم لستم من أمته التي وصفها الحق جل جلاله بقوله في كتابه : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (١).

* * *

ووردت في القرآن المجيد آية اخرى تشير الى فضيلة الوسطية حتى في العبادة ، وهي قوله تعالى في سورة البقرة : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ، وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (٢). وقد قال العلماء انها

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١١٠.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٢٣٨.

١٠٢

سميت «الوسطى» لانها افضل الصلاة واعظمها اجرا ، ولذلك خصت بطلب المحافظة عليها. وقد تكاثرت اقوال المفسرين في المراد بالصلاة الوسطى ، حتى شملت هذه الاقوال كل الصلوات ، وأيد كل مفسر قوله بدليل ، وكلمة «الوسطى» تحتمل ان يكون المراد بالصلاة الوسطى الصلاة المتوسطة المعتدلة التي لا نقصان فيها ولا افراط ، لان النقصان لا يكون وسطا ، لان الوسط هو العدل والخير ، والافراط لا يكون وسطا ، لانه مدعاة الى الملل.

ولقد تعرض الاستاذ الامام محمد عبده لبيان المراد من الصلاة الوسطى ، وذكر خلاف المفسرين في ذلك ، وأورد الحديث القائل : «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر» ، ثم قال : «ولو لا انهم اتفقوا على انها احدى الخمس لكان يتبادر الى فهمي من قوله (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) ان المراد بالصلاة الفعل ، وبالوسطى الفضلى ، اي حافظوا على أفضل أنواع الصلاة ، وهي الصلاة التي يحضر فيها القلب ، وتتوجه بها النفس ، الى الله تعالى ، وتخشع لذكره وتدبر كلامه ، لا صلاة المرائين ولا الغافلين.

ويقوي هذا قوله بعدها : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ، فهو بيان لمعنى الفضل من الفضلى ، وتأكيد له ، اذ قالوا ان في القنوت معنى المداومة على الضراعة والخشوع ، اي قوموا ملتزمين لخشية الله تعالى ، واستشعار هيبته وعظمته ، ولا تكمل الصلاة وتكون حقيقية ينشأ عنها ما ذكر الله تعالى من فائدتها الا بهذا ، وهو يتوقف على التفرغ من كل فكر وعمل يشغل عن حضور القلب في الصلاة وخشوعه ، ولما فيها من ذكر الله بقدر الطاقة».

وقد علق السيد رشيد رضا على رأي الاستاذ الامام مؤيدا له بانه ليس هناك نص في الحديث المرفوع ينافي ما ذكره الاستاذ الامام ،

١٠٣

لان بعض المحدثين يقول ان كلمة «صلاة العصر» الموجودة في الحديث ، مدرجة من تفسير الراوي.

ويقول الله تبارك وتعالى في سورة القلم عن أصحاب الجنة : (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) (١). وأوسطهم أي خيرهم ، وأعدلهم رأيا ، وأمثلهم طريقة ، وأسرعهم رجعة الى الله عزوجل.

وقال في سورة العاديات عن الخيل التي يناضل عليها أصحابها : (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (٢) أي توسطن جموع المحاربين ، وهذا يفيد شجاعة أصحابها واقدامهم.

وقال في سورة المائدة عن كفارة الحلف : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (٣) أي من أقصده وأعدله في النوع والقدر.

ونحن نرى ان مادة «الوسط» قد جاء ذكرها في هذه الآيات بمعنى التقدير والرضى.

* * *

واذا كان كتاب الله المجيد قد دعا الى التوسط ، وحث على الاعتدال ، فان السنة النبوية قد جاءت من وراء القرآن تؤكد هذا المعنى وتؤيده ، فالحديث الشريف يقول : «خير الامور اوساطها». ويشرح ابن الاثير ذلك التعبير بان كل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان ، فان السخاء وسط بين البخل والتبذير ، والشجاعة وسط بين الجبن والتردد ، والانسان مأمور بان يتجنب كل وصف مذموم ، وتجنبه يكون بالتعري منه والبعد عنه ، فكلما ازداد منه بعدا ازداد منه تعريا ، وأبعد الجهات

__________________

(١) سورة القلم ، الآية ٢٨.

(٢) سورة العاديات ، الآية ٥.

(٣) سورة المائدة ، الآية ٨٩.

١٠٤

والمقادير والمعاني من كل طرفين وسطهما ، وهو غاية البعد عنهما ، فاذا كان في الوسط فقد بعد عن الاطراف المذمومة بقدر الامكان.

وجاء في الحديث : «اذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فانه أوسط الجنة وأعلى الجنة». وقال عليه الصلاة والسّلام دالا على التوسط ، مرشدا الى الاعتدال : «ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ، ولا الآخرة للدنيا ، ولكن خيركم من اخذ من هذه وهذه». وقال ايضا : «ان الله بعثني بالحنيفية السهلة ، ولم يبعثني بالرهبانية المبتدعة ، سنتي الصلاة والنوم ، والافطار والصوم ، ومن رغب عن سنتي فليس مني».

ويقول الامام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه : «عليكم بالنمط الاوسط ، فاليه ينزل العالي ، واليه يرتفع النازل». والنمط هو الطريق ، وقيل ان النمط هم الجماعة من الناس امرهم واحد.

ويعود الامام علي الى التنويه بالوسطية والدعوة اليها ، والتحذير من الانحراف عن الصراط ذات اليمين او ذات الشمال ، فيقول : «اليمين والشمال مضلة ، والطريق الوسطى هي الجادة ، عليها باقي الكتاب ، وآثار النبوة ، ومنها منفذ السنة ، واليها مصير العاقبة ، هلك من ادعى ، وخاب من افترى».

وللفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلمة مشابهة يقول فيها :

«ايها الناس ، قد سنت لكم السنن ، وفرضت لكم الفرائض ، وتركتم على الواضحة ، الا أن تميلوا بالناس يمينا وشمالا». واذا تجنب الانسان الميل يمينا او شمالا فقد توسط واعتدل.

ثم يعود الامام علي الى تأكيد الثناء على التوسط ، فيقول : «خير هذه الامة النمط الاوسط ، يرجع اليهم الغالي ، ويلحق بهم التالي». ويقول : «نحن النمرقة الوسطى ، بها يلحق الغالي ، واليها يرجع

١٠٥

التالي». ويفسر هذا التعبير بعض العلماء بأن آل البيت اشبه بالنمرقة ـ وهي الوسادة ـ للاستناد اليهم في امور الدين ، كما يستند الانسان الى الوسادة لراحة الظهر واطمئنان الاعضاء ، ووصفها بالوسطى لاتصال سائر النمارق بها ، فكأن الكل يعتمد عليها ، اما مباشرة او بواسطة ، وآل البيت الطاهرون يسيرون على الصراط الوسط العدل ، يلحق بهم من قصر ، ويرجع اليهم من غلا وتجاوز.

* * *

هذا ولقد وردت كلمات حكيمة لاعلام سبقوا ، تدعو الى التوسط والاعتدال ، مما يدل على ان «الوسطية» فضيلة اسلامية محمودة ، فقال مطرف لابنه : «يا بني ، الحسنة بين السيئتين ـ يعني بين الافراط والتفريط ـ وخير الامور اوساطها ، وشر السير الحقحقة». والحقحقة هي أشد السير وأتعبه للظهر.

وقال أبو المعتمد السّلمي : «الناس ثلاثة اصناف : اغنياء ، وفقراء ، واوساط ، فالفقراء موتى الا من اغناه الله بعز القناعة ، والاغنياء سكارى ، الا من عصمه الله بتوقع الغير ـ بكسر الغين وفتح الياء ـ وأكثر الخير مع اكثر الاوساط ، واكثر الشر مع الفقراء والاغنياء ، لسخف الفقر وبطر الغنى».

والامام ابن القيم يتكلم عن «التوسط» فيرفع شأنه ، ويقرر مكانه ، فيرى ان «التوسط» احد اركان اربعة يقوم عليها حسن الاخلاق ، وهي الصبر ، والعفة ، والشجاعة ، والتوسط ، ويعبر عن معنى التوسط بلفظ «العدل». ويقول ان العدل يحمل الانسان على اعتدال اخلاقه ، وتوسطه فيها بين طرفي الافراط والتفريط ، فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذلة والوقاحة ، وعلى

١٠٦

خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور ، وعلى خلق الحلم. الذي هو توسط بين الغضب والمهانة.

وانما كان للتوسط هذه المكانة الجليلة لان كل خلق محمود ـ كما يتحدث ابن القيم في توسع ـ مكتنف بخلقين ذميمين ، وهو وسط بينهما ، وطرفاه خلقان ذميمان ، كالجود الذي يكتنفه خلقا البخل والتبذير ، والتواضع الذي يكتنفه خلقا المهانة والكبر. فان النفس متى انحرفت عن «التوسط» انحرفت الى احد الخلقين الذميمين ، ولا بد ، فاذا انحرفت عن خلق «التواضع» انحرفت اما الى كبر واما الى ذلة. واذا انحرفت عن خلق «الحياء» انحرفت اما الى وقاحة واما الى خور ... وكذلك اذا انحرفت عن خلق «الصبر المحمود» انحرفت اما الى جزع ، واما الى غلظة.

واذا انحرفت النفس عن خلق «الحلم» انحرفت اما الى طيش واما الى عجز ، واذا انحرفت عن خلق «الرفق» انحرفت اما الى عنف ، واما الى اضاعة. واذا انحرفت عن خلق «العزة» التي وهبها الله للمؤمنين ، انحرفت اما الى كبر ، واما الى ذل. واذا انحرفت عن خلق «الشجاعة» انحرفت اما الى تهور ، واما الى جبن. واذا انحرفت عن خلق «القناعة» انحرفت اما الى الحرص ، واما الى الخسة. واذا انحرفت عن خلق «الرحمة» انحرفت اما الى القسوة ، واما الى ضعف القلب ... الخ

ثم يقول الامام ابن القيم : «وصاحب الخلق الوسط مهيب محبوب ، عزيز جانبه ، حبيب لقاؤه. وفي صفة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه عشرة أحبه».

* * *

وقد يظن ظان ان بلوغ فضيلة التوسط امر سهل ميسور ، مع ان الشوط اليها بعيد ، وقد تحدث حجة الاسلام الغزالي عن شدة الغموض

١٠٧

الذي يحيط بدرجة «الوسطية» ، فلا يستطيع أن يلمحها ويتحلى بها الا من أدام المجاهدة لنفسه ، والسعي نحو غايته ، فيقول : «ولما كان الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض ، بل هو أدق من الشعر ، وأحد من السيف ، فلا جرم من استوى على هذا الصراط المستقيم في الدنيا ، جاز على مثل هذا الصراط في الآخرة ، وقلما ينفك العبد من ميل عن الصراط المستقيم ، اعني الوسط ، حتى لا يميل الى احد الجانبين ، فيكون قلبه متعلقا بالجانب الذي مال اليه.

ولذلك لا ينفك عن عذاب ما ، واجتياز على النار ، وان كان مثل البرق ، قال الله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) (١) اي الذين كان قربهم الى الصراط المستقيم اكثر من بعدهم عنه.

ولاجل عسر الاستقامة وجب على كل عبد ان يدعو الله تعالى في كل يوم سبع عشرة مرة ، في قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٢) ، اذ وجبت قراءة الفاتحة في كل ركعة ، فقد روي ان بعضهم رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام ، فقال : قد قلت يا رسول الله : شيبتني هود ، فلم قلت ذلك؟ فقال عليه‌السلام : لقوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٣).

فالاستقامة على سواء السبيل في غاية الغموض ، ولكن ينبغي أن يجتهد الانسان في القرب من الاستقامة ، ان لم يقدر على حقيقتها».

ويتفنن حجة الاسلام في تفصيل الحديث عن الوسيلة الى بلوغ

__________________

(١) سورة مريم ، الآيتان ٧١ و ٧٢.

(٢) سورة الفاتحة ، الآية ٦.

(٣) سورة هود ، الآية ١١٢.

١٠٨

مرتبة الوسط ، وعن طريق العلاج لتجنب الانسان التفريط والافراط ، فيقول فيما يقول عن علاج الاخلاق السيئة : «فان أردت ان تعرف الوسط ، فانظر الى الفعل الذي يوجبه الخلق المحذور ، فان كان أسهل عليك واكثر من الذي يضاده ، فالغالب عليك ذلك الخلق الموجب له ، مثل ان يكون امساك المال وجمعه الذ عندك وأيسر عليك من بذله لمستحقه ، فاعلم ان الغالب عليك خلق البخل ، فزد في المواظبة على البذل ، فان صار البذل على غير المستحق الذ عندك واخف عليك من الامساك بالحق ، فقد غلب عليك التبذير ، فارجع الى المواظبة على الامساك.

فلا تزال تراقب نفسك ، وتستدل على خلقك بتيسير الافعال وتعسيرها ، حتى تنقطع علاقة قلبك عن الالتفات الى المال ، فلا تميل الى بذله ، ولا الى امساكه ، بل يصير عندك كالماء ، فلا تطلب فيه الا امساكه لحاجة محتاج ، او بذله لحاجة محتاج ، ولا يترجح عندك البذل على الامساك ، فكل قلب صار كذلك فقد اتى الله سليما ...»

وما اجمل قول القائل الحكيم الداعي الى فضيلة التوسط والاعتدال :

لا تذهبن في الامور فرطا

لا تسألن ان سألت شططا

وكن من الناس جميعا وسطا

وفقني الله واياك الى ان نكون من الامة المؤمنة الوسط ، لننال رضى الله عزوجل.

١٠٩

المسابقة إلى الخيرات

يقال في لغة العرب ـ وهي لغة القرآن الكريم ـ : سبق يسبق سبقا ، اي تقدم في السير ، او في غيره من الحسيات والمعنويات ، والاستباق هو التسابق الذي يكون بين اكثر من واحد ، وكل منهم يبذل وسعه ليسبق غيره ، وسابقه : باراه في السير ، واستبقا : تباريا. ويستعار لفظ «السبق» لاحراز الفضل والتبريز ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (١) اي المتقدمون الى ثواب الله وجنته بالاعمال الصالحة.

وقد تدل مادة «السبق» على معنى فوات اللحوق ، فيقال : سبق الطريد ، اي فات وأفلت من الطلب ، وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى في سورة العنكبوت : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٢) اي : احسبوا ان يفوتونا ويفلتوا من طلبنا. وكذلك قوله في السورة نفسها : (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ) (٣) اي مفلتين من الطلب.

وهناك كلمات تستعمل في لغة القرآن بمعنى المسابقة ، ككلمة

__________________

(١) سورة الواقعة ، الآية ١٠.

(٢) سورة العنكبوت ، الآية ٤.

(٣) سورة العنكبوت ، الآية ٣٩.

١١٠

«المسارعة» ، لان السرعة ضد البطء ، ويقال : اسرع وسارع اي خف وبادر ، ومن ذلك قوله تعالى : (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) (١) أي يمضون نحوها مسرعين ويبادرون اليها ، ويقال : هؤلاء مساريع في الحرب ، اي جمع مسراع ، وهو الشديد الاسراع الى النضال. وكذلك كلمة «المبادرة». يقال : بادر الانسان الشيء مبادرة وبدارا ، اي عاجله وأسرع اليه ، ويقرب من معنى «المسابقة» معنى «المنافسة» ، وقد عرفوا المنافسة بانها مجاهدة النفس للتشبه بالافاضل ، والاجتهاد في اللحوق بهم دون الحاق ضرر بالغير ، والقرآن المجيد يقول في سورة المطففين : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) (٢) ، أي فليرغب الراغبون ، وليتبادر المتبادرون.

* * *

وقد تحدث كتاب الله الحكيم في مواضع عن المسابقة الى الخيرات ، او المسارعة اليها ، فكان حديثه معطرا بنفحات التكريم والتمجيد ، حيث دعا دعوة قوية الى تحلي ابنائه بفضيلة المبادرة الى انتهاز الفرص في عمل الخير ، لان الحياة غير مأمونة ، والآجال غير معلومة ، وما يمكن اليوم قد لا يمكن غدا ، واليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل ، كما قال الامام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه.

ولو رجعنا الى سنة رسول الله عليه الصلاة والسّلام لوجدناها قد كررت عبارة : «بادروا بالاعمال» ، ومن ذلك الحديث الذي يقول : «بادروا بالاعمال فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي

__________________

(١) سورة الانبياء ، الآية ٩٠.

(٢) سورة المطففين ، الآية ٢٦.

١١١

كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا».

وقد ضربت السنة امثلة لمواطن المسابقة والمبادرة ، فقال الحديث : «خير الاعمال الصلاة في أول وقتها». وقال الحديث أيضا : «اول الوقت رضوان الله ، ووسط الوقت رحمة الله ، وآخر الوقت عفو الله». وقد علق ابو بكر الصديق رضي الله عنه على ذلك بقوله : «رضوان الله أحب الينا من عفوه ، فان رضوانه للمحسنين ، وعفوه عن المقصرين».

ودعا الحديث الى المبادرة بالتوبة ، فقال : «ان الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها». ودعا الى المبادرة بالصدقة ، فقال : «بادروا بالصدقة». ودعا الى المبادرة في السعي ، فقال : «باكروا في طلب الرزق والحوائج ، فان الغدو بركة ونجاح».

والانسان الذي يزدان بفضيلة المسابقة الى الخيرات يكون على الدوام عاملا من عوامل الصلاح والاصلاح ، فلسانه يسارع الى كلمة الحق والخير يقولها ، ويده تسارع الى المعونة الطيبة تقدمها ، وعينه تسارع الى صفحات العلم النافع تطالعها ، وقلبه يسارع الى مشاعر الخير ينفعل بها ، وهكذا ...

* * *

ونعود الى حديث القرآن عن فضيلة المسابقة في الخيرات. يقول الله تعالى في سورة البقرة آمرا بهذه الفضيلة : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ

١١٢

مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (١) اي تسابقوا الى الخيرات والاعمال الصالحة ، وهذا يتضمن الحث على المبادرة والاستعجال الى جميع الطاعات بالعموم. وقال ايضا في سورة المائدة : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (٢).

والقرآن الكريم يحدثنا بان المسارعة الى الخيرات كانت فضيلة تذكر فتشكر للانبياء عليهم الصلاة والسّلام. فيقول في سورة الانبياء : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ ، إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) (٣).

ونوه القرآن بصفة السبق عند الملائكة ، فقال في سورة النازعات : (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) (٤). فقد ذكر بعض المفسرين ان المراد هم الملائكة الذين سبقوا بني آدم بالخير والعمل الصالح.

وأمر الله تعالى عباده بالمسارعة الى ابواب الفلاح والنجاح ، فقال في سورة آل عمران : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٥). والمراد بالمسارعة الى المغفرة والجنة هو الاسراع الى اسبابهما ، وما يعد الانسان لنيلهما ، من التوبة عن الاثم ، والاقبال على البر ، ان الحسنات يذهبن السيئات.

وكذلك يقول القرآن في سورة الحديد : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ، ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٦). اي سابقوا ايها الناس الى اعمال توجب لكم المغفرة والجنة.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٤٨.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٤٨.

(٣) سورة الانبياء ، الآية ٨٩ ، ٩٠.

(٤) سورة النازعات ، الآية ٤.

(٥) سورة آل عمران ، الآية ١٣٣.

(٦) سورة الحديد ، الآية ٢١.

١١٣

وقد يقال : وما ذلك العمل الذي نسارع اليه او نسابق لننال المغفرة والجنة؟. وقد ذهب المفسرون مذاهب شتى في ذلك العمل ، فذكر كل منهم عملا : ذكروا الهجرة ، والتكبيرة الاولى ، والاخلاص ، وترك الربا ، والجهاد ، والتوبة ، واداء الفرائض ، والصلوات ، وغير ذلك. والاقرب ان المطلوب هنا لكي نسرع اليه يشمل جميع الواجبات والقربات ، وذلك كما في قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ).

والفرصة اذا لم ينتهزها صاحبها انقلبت غصة ، وقد تتهيأ الاسباب للعمل في وقت ولا تتهيأ في كل وقت. فالواجب هو الاسراع والمبادرة ، وقد ذكر ابن القيم في كتابه «مدارج السالكين» ان السلف قالوا : «العارف ابن وقته ، لا ماضي له ولا مستقبل». وان بعضهم رأى ابا بكر الصديق رضي الله عنه في منامه ، فقال له : اوصني. فقال له ابو بكر : كن ابن وقتك.

ويقول ابو العباس الجماني :

ليس في كل ساعة وأوان

تتهيا صنائع الاحسان

فاذا أمكنت فبادر اليها

حذرا من تعذر الاحسان

وقال بعض الشعراء :

اذا هبت رياحك فاغتنمها

فان لكل خافقة سكون

ولا تغفل عن الاحسان فيها

فما تدري السكون متى يكون

١١٤

اذا ظفرت يداك فلا تقصر

فان الدهر عادته يخون

ويقول بعض الصوفية :

السباق السباق قولا وفعلا

حذروا النفس حسرة المسبوق

ويقول شاعر آخر :

بادر بخير اذا ما كنت مقتدرا

فليس في كل وقت انت مقتدر

ويفسر هذا سري السقطي فيقول : «الاحسان أن تحسن وقت الاحسان ، فليس في كل وقت يمكنك الاحسان».

* * *

ويصف القرآن المجيد طليعة المستجيبين لله ولرسوله في صدر الاسلام بانهم السابقون الاولون ، وبانهم أعلى شأنا من سواهم ، فيقول في سورة التوبة : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١). فهذه الآية تشير الى ثلاث طوائف تعد صفوة هذه الامة التي وصفها ربها بانها خير امة اخرجت للناس بايمانها وعملها وتمسكها بدينها. وافضل هذه الطوائف هي الطائفة التي سابقت فسبقت ، وسارعت فبرزت ، وبادرت مستجيبة لربها فأفلحت ، وهي طائفة السابقين الاولين من

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١٠٠.

١١٥

«المهاجرين» ، وهم كما قيل : اهل غزوة بدر ، او الذين صلوا الى القبلتين ، او الذين بايعوا بيعة الرضوان.

واختار «تفسير المنار» انهم الذين هاجروا قبل صلح الحديبية ، فقد كان المشركون قبل ذلك يضطهدون المسلمين ، ويقاتلونهم في كل مكان ، ويمنعون المؤمنين ان يهاجروا ، فالذين هاجروا قبل الحديبية تعرضوا لالوان الاذى في الحواس والاموال ، وقد ضربوا الامثلة الرائعة في صدق الايمان ، ويتألق في طليعتهم الخلفاء الراشدون الاربعة ، وبقية المبشرين بالجنة ، وما زالت السيرة العاطرة تنوه بان خديجة كانت اول من اسلم ، وتبعها علي ، وزيد بن حارثة وابو بكر ، رضوان الله تعالى عليهم.

ثم تأتي الطائفة الثانية ، وهي طائفة السابقين من «الانصار» الذين بايعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيعة العقبة الاولى ، ثم الذين بايعوا بيعة العقبة الثانية وحدها ، ثم الذين اسلموا من اهل المدينة قبل الهجرة ، ثم الذين اسلموا عقبها قبل استعلاء الاسلام واعتزاز دولة المسلمين.

ثم تأتي الطائفة الثالثة ، وهم الذين تابعوا هؤلاء السابقين الاولين من المهاجرين والانصار اتباعا باحسان. وهؤلاء جميعا قد اخبر القرآن الكريم بان الله قد رضي عنهم ، وانهم رضوا عنه ، وانهم من اهل الجنة ، ولكن اولى هذه الطوائف ـ وهي التي سبقت وبادرت ـ تمتاز بفضيلة المسارعة الى الحق ، والاستباق نحو الخير.

ويقول تفسير المنار : «ولا شك في مشاركة سائر المؤمنين لاولئك الصحابة الكرام في رضاء الله وثوابه ، بقدر اتباعهم لهم في الهجرة ان وجدت اسبابها ، والجهاد بالاموال والانفس لنصرة الاسلام ، ومنها نصرته بالحجة والبرهان ، وفي سائر اعمال البر والاحسان. وان

١١٦

الآيات تدل على ذلك في كل موضع ، لان الجزاء في حكم الله الحق وشرعة العدل على الاعمال.

وللسابقين في كل عمل فضيلة السبق والامامة في كل عصر ، ويمتاز عصر الرسول الذي وجد فيه الاسلام ، واقيم بنيانه ، ورفعت اركانه ، ونشرت في الخافقين اعلامه ، على كل عصر بعده ، وهم الاقلون المقربون ، كما قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (١).

وفي سورة الحشر نجد القرآن الكريم يتحدث عن السابقين من المهاجرين والانصار ، ثم يتحدث عمن جاءوا بعدهم ، فيصفهم بانهم يترحمون على الذين سبقوهم في الايمان ، فيقول : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢).

يقول ابن ابي ليلى عند هذه الآية : «الناس على ثلاثة منازل : المهاجرون ، والذين تبوأوا الدار والايمان ، والذين جاؤ من بعدهم ، فاجهد ان لا تخرج من هذه المنازل».

وقال بعضهم : «كن شمسا ، فان لم تستطع فكن قمرا ، فان لم تستطع فكن كوكبا مضيئا ، فان لم تستطع فكن كوكبا صغيرا ، ومن جهة النور لا تنقطع». ومعنى هذا ـ كما ذكر القرطبي ـ : كن مهاجريا ، فان قلت : لا أجد ، فكن أنصاريا ، فان لم تجد فاعمل كأعمالهم ، فان لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله.

* * *

__________________

(١) سورة الواقعة ، الآيات ١٠ ـ ١٤.

(٢) سورة الحشر ، الآية ١٠.

١١٧

والمسارعون الى الخيرات ، المسابقون الى الطاعات ، يصورهم القرآن المجيد لنا ، فاذا فيهم طائفة من الصفات تجعلهم أهلا للسبق من جهة ، وأهلا لمكانة السابقين العظيمة من جهة اخرى ، فهو يقول مثلا في سورة آل عمران : (ليسوا سواء ، من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ، يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويساعدون في الخيرات ، وأولئك من الصالحين ، وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ، والله عليم بالمتقين) (١). فهم من صلاحهم واستقامتهم ، وطاعتهم وخشيتهم ، يبادرون الى فعل الخيرات خوف الفوات بالموت ، أو هم يعملون الاعمال الصالحة نشطين غير متثاقلين ، لعلمهم بجلال موقعها وحسن عاقبتها وقدر ثوابها ، وشأن المؤمن المخلص أنه لا يتباطأ عما يعن له من الخير ، وانما يتباطأ الذين في قلوبهم مرض ، كما قال الله تعالى في المنافقين : (ان المناقين يخادعون الله وهو خادعهم واذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله الا قليلا) (٢).

ويعود القرآن المجيد في سورة «المؤمنون» فيذكرنا بأن المسابقين الى الخيرات تكون لهم مجموعة من الصفات والافعال والخلال الكريمة ، فيقول : (ان الذين هم من خشية ربهم مشفقون ، والذين هم بآيات ربهم يؤمنون ، والذين هم بربهم لا يشركون ، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم الى ربهم راجعون ، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) (٣). أي يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها ، أو يسارعون في الدنيا الى وجوه المنافع والاكرام ، فالله تعالى يهيئها لهم ،

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآيات ١١٣ ـ ١١٥.

(٢) سورة النساء ، الآية ١٤٢.

(٣) سورة المؤمنون ، الآيات ٥٧ ـ ٦١.

١١٨

وهم يسارعون الى نيلها ، وهم لها سابقون ، أي فاعلون السبق لأجلها ، أو هم سابقون الناس لأجلها.

والقرآن يحدثنا في سورة فاطر بأن الامة المؤمنة قد تفوز وتنجو في عمومها ، وقد ينال أبناؤها حظوظهم من رحمة الله أو فضله ، ولكن السابقين بالخيرات يظلون فائزين دون سواهم بالحظ الاوفر والنعيم الاكبر ، فيقول : (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ، فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم مقتصد ، ومنهم سابق بالخيرات باذن الله ، ذلك هو الفضل الكبير ، جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ، وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، ان ربنا لغفور شكور ، الذي أحلنا دار المقامة من فضله ، لا يمسنا فيها نصب ، ولا يمسنا فيها لغوب) (١).

* * *

ولقد طرق الصوفية شجونا كثيرة من فنون القول وهم يتحدثون على طريقتهم الخاصة عن هذه الآية ، ليفسروا فيها الظالم لنفسه ، والمقتصد ، والسابق بالخيرات ، وحاول القرطبي والنيسابوري والقشيري أن يجمعوا شتات هذه الآراء ، وفيما يلي نستعرض مجموعة الكلمات التي قيلت في تبيان هذه الآية الكريمة ، التي نزلت في شأن أمة محمد عليه الصلاة والسّلام كما يقرر بعض المفسرين ، كما يروى أنه لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمتي ورب الكعبة» ثلاث مرات.

وهذه هي الاقوال الواردة في بيان الاصناف الثلاثة :

١ ـ الظالم من غلبت زلاته ، والمقتصد من استوت حالاته ، والسابق من زادت حسناته.

__________________

(١) سورة فاطر ، الآيات ٣٢ ـ ٣٥.

١١٩

٢ ـ الظالم من زهد في دنياه ، والمقتصد من رغب في عقباه ، والسابق من آثر على الدارين مولاه.

٣ ـ الظالم من طلبه ، والمقتصد من وجده ، والسابق من بقي معه.

٤ ـ الظالم من نجم كوكب عقله ، والمقتصد من طلع بدر علمه ، والسابق من ذرت شمس معرفته.

٥ ـ الظالم من ترك المعصية ، والمقتصد من ترك الغفلة ، والسابق من ترك العلاقة (بالدنيا).

٦ ـ الظالم من جاد بماله ، والمقتصد من لم يبخل بنفسه ، والسابق من جاد بروحه.

٧ ـ الظالم من له علم اليقين ، والمقتصد من له حق اليقين.

٨ ـ الظالم صاحب المودة ، والمقتصد صاحب الخلة ، والسابق صاحب المحبة.

٩ ـ الظالم يترك الحرام ، والمقتصد يترك الشبهة ، والسابق الفضل.

(ما زاد عن الحاجة) في الجملة.

١٠ ـ الظالم صاحب سخاء ، والمقتصد صاحب جود ، والسابق صاحب ايثار.

١١ ـ الظالم صاحب رجاء ، والمقتصد صاحب بسط ، والسابق صاحب أنس.

١٢ ـ الظالم صاحب خوف ، والمقتصد صاحب خشية ، والسابق صاحب هيبة.

١٣ ـ الظالم له المغفرة ، والمقتصد له الرحمة والرضوان ، والسابق له القربة والمحبة.

١٢٠