موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٢

وهذا هو نوح عليه‌السلام ، يقول عنه القرآن المجيد في سورة يونس : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ : يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ). أي ان كانت قد كبرت عليكم دعوتي وتذكيري لكم بربكم ، وأردتم الاعتداء عليّ ، أو معارضتي ، فانني قد فوضت أمري الى الله جل جلاله ، فهو الذي بعثني اليكم ، وكلفني دعوتكم ، وأنا أعتمد عليه وحده ، بعد أن بذلت جهدي في نصحكم ودعوتكم.

وهذا هو «هود» عليه‌السلام ، يقول كما جاء في سورة هود : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وهذا هو صالح عليه‌السلام يقول كما جاء في سورة هود : (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ، وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

وهذه هي طائفة من الرسل يتحدث عنها القرآن المجيد في سورة ابراهيم فيقول : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ : إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ، وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا ، وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا ، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).

ان هذا الاستعراض العاجل السريع يؤكد لنا أن فضيلة التوكل احدى الفضائل المشتركة التي ازدان بها رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ولا عجب فالله جل جلاله هو ناصر المتوكلين ومؤيدهم ، وهو سبحانه القائل في سورة الطلاق : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ، إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً). ويقول في سورة الأنفال :

٢٢١

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). أي عزيز لا يذل من استجار به ، ولا يهون من لاذ بجنابه ، والتجأ الى حماه ، وهو حكيم لا يعجز عن تدبير من توكل على تدبيره.

*

ويقرر ابن القيم في «مدارج السالكين» أن العباد درجات في التوكل ومنازله ، فأولياء الله وخاصته يتوكلون عليه في الايمان ، ونصرة دينه ، واعلاء كلمته ، وجهاد أعدائه ، وفي محابّه وتنفيذ أوامره ، ودون هؤلاء من يتوكل عليه في استقامته في نفسه ، وحفظ حاله مع الله فارغا عن الناس ، ودون هؤلاء من يتوكل عليه في معلوم يناله منه ، من رزق أو عافية ، أو نصر على عدو ، أو زوجة أو ولد ، ونحو ذلك ... الخ.

ولكي يتم التوكل وتكمل درجاته يحتاج الى لوازم هي :

١ ـ معرفة الرب وصفاته ، وان الأشياء صادرة عن مشيئته وقدرته.

٢ ـ اثبات الأشياء والمسببات ، والأخذ بالاسباب.

٣ ـ اخلاص القلب في توحيده لله بلا شريك.

٤ ـ اعتماد القلب على الله ، واستناده اليه.

٥ ـ حسن الظن بالله عزوجل.

٦ ـ استسلام القلب لله ، وانجذاب دواعيه اليه.

٧ ـ التفويض ، والقاء الأمور كلها الى الله تبارك وتعالى.

وهذا كله يثمر الرضى بما يقضي به الله سبحانه ، ولذلك سئل يحيى بن معاذ : متى يكون الانسان متوكلا؟. فأجاب : اذا رضي بالله وكيلا.

وينبغي أن نقرر ونكرر ونؤكد أن التوكل لا يعارض السعي ولا يناقضه ، بل انه يدعو اليه ويستوعبه ، والله جل جلاله هو الذي يتحدث

٢٢٢

الى عباده في سورة الملك : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) ، ويقول في سورة الجمعة : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ويقول في سورة النجم : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «لا يقدن أحدكم عن طلب الرزق ، ويقول : اللهم ارزقني ، وقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة». ولقد سأل عبد الله ابن الامام أحمد بن حنبل أباه فقال له : «يا أبي ، هؤلاء المتوكلون يقولون : نقعد وأرزاقنا على الله عزوجل». فأجابه أبوه : «هذا قول رديء خبيث ، يقول الله عزوجل : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ).

وسأله أيضا عن قوم يقولون : نتكل على الله ولا نكتسب. فأجابه بقوله : «ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله ، ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب ، هذا قول انسان أحمق».

وسأله ابنه صالح عن التوكل فأجابه : «التوكل حسن ، ولكن ينبغي للرجل أن لا يكون عيالا على الناس ، ينبغي أن يعمل حتى يغني أهله وعياله ، ولا يترك العمل».

ويقول ابن القيم في حديثه عن التوكل : «فترك الأسباب المأمور بها فادح في التوكل ، وقد تولى الحق ايصال العبد بها ، وأما ترك الأسباب المباحة فان تركها لما هو أرجح منها مصلحة فممدوح والا فهو مذموم». ويقول أيضا : «فاعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل البتة». ويقول عن بصراء الصوفية : «وأجمع القوم على أن التوكل لا ينافي القيام بالأسباب ، فلا يصح التوكل الا مع القيام بها ، والا فهو بطالة وتوكل فاسد. قال سهل بن عبد الله : من طعن في الحركة

٢٢٣

(العمل) فقد طعن في السّنة ، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الايمان ، فالتوكل حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكسب سنته ، فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته».

والعبد يتوكل على الله أن يقيمه في سبب يوصله الى مطلوبه ، فاذا قام به توكل على الله في حال مباشرته ، فاذا أتمه توكل على الله في حصول ثمراته ، فكأن التوكل سيصاحب المؤمن في مراحل سعيه وعمله. ولقد كان رسول الله عليه الصلاة والسّلام أصدق المتوكلين ، ومع ذلك كان يحمل معه الزاد في السفر ، ولبس درعين حينما قاتل في غزوة أحد ، وكان يدخر لأهله قوت سنة : «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة»!.

وما أجمل العبارة التي ذكرها صاحب المنار ، وفيها يقول : «ان هناك أمورا تخفى علينا أسبابها ، ويعمى علينا طريق طلابها ، فيجب علينا بارشاد الدين والفطرة أن نلجأ فيها الى ذي القوة الغيبية ، ونطلبها من مسبب الأسباب ، لعله بعنايته ورحمته ـ يهدينا الى طريقها ، أو يبدلنا خيرا منها. ويجب مع هذا بذل الجهد والطاقة من العمل بما نستطيع من الأسباب ، حتى لا يبقى في الامكان شيء ، مع اعتقادنا بأن الأسباب كلها من فضل الله تعالى علينا ورحمته بنا ، اذ هو الذي جعلها طرقا للمقاصد ، وهدانا اليها بما وهبنا من العقل والمشاعر.

لا يسمح الدين للناس بأن يتركوا الحرث والزرع ، ويدعوا الله تعالى أن يخرج لهم الحب من الأرض بغير عمل منهم ، أخذا بظاهر قوله : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) ، وانما يهديهم الى القيام بجميع الأعمال الممكنة لانجاح الزراعة ، من الحرث والتسميد ، والبذر والسقي ، وغير ذلك ، وأن يتكلوا على الله تعالى بعد ذلك فيما ليس بأيديهم ، ولم يهدهم لسببه بكسبهم ، كانزال الأمطار ، وافاضة الأنهار ، ودفع الحوائج.

٢٢٤

فان استطاعوا شيئا من ذلك فعليهم أن يطلبوه بعملهم ، لا بألسنتهم وقلوبهم ، مع شكر الله تعالى على هدايتهم اليه ، واقدارهم عليه.

كذلك يحظر الدين عليهم أن ينفروا الى الحرب والمدافعة عن الملة والبلاد عزلا ، أو حاملي سلاح دون سلاح العدو المعتدي عليهم ، اتكالا على الله تعالى ، واعتمادا على أن النصر بيده ، بل يأمرهم بأن يعدوا للأعداء ما استطاعوا من قوة ، ويتكلوا بعد ذلك ـ في الهجوم والاقدام ـ على عناية الله تعالى ، بتثبيت القلوب والأقدام ، وغير ذلك من ضروب التوفيق والالهام ، فمن قصّر في اتخاذ الأسباب اعتمادا على الله فهو جاهل بالله».

*

ثم يأتي حديث الصوفية عن التوكل بأسلوبهم وعلى طريقتهم ، وهم قد فسحوا المجال لهذا الحديث في كتبهم وكلماتهم ، وتناثرت لهم عبارات تكشف عن مفهوم هذه الفضيلة الروحية الأخلاقية ، ومنها هذه الكلمات :

١ ـ معروف الكرخي : توكل على الله ، حتى يكون هو معلمك ، ومؤنسك ، وموضع شكواك ، فان الناس لا ينفعونك ولا يضرونك.

٢ ـ عمرو بن عثمان المكي : المعرفة صحة التوكل على الله.

٣ ـ ابن مسروق الطوسي : التوكل اشتغالك عمالك بما عليك ، وخروجك مما عليك لمن ذلك له واليه.

٤ ـ محفوظ بن محمود النيسابوري : التوكل أن تأكل بلا طمع ولا شره.

٥ ـ شقيق البلخي : التوكل أن يطمئن قلبك بموعود الله تعالى.

٦ ـ أبو تراب النخشبي : التوكل طمأنينة القلب الى الله عزوجل.

٧ ـ ابراهيم القصار : التوكل السكون الى مضمون الحق.

٢٢٥

٨ ـ محمد بن خفيف : التوكل هو الاكتفاء بضمانه ، واسقاط التهمة عن قضائه.

٩ ـ اسماعيل بن نجيد : أدنى التوكل حسن الظن بالله عزوجل.

١٠ ـ منصور بن عمار : قلوب المتوكلين أوعية الرضا.

١١ ـ أبو الحسين النيسابوري : التوكل استواء الحال عند العدم والوجود ، وسكون النفس عند مجاري المقدور.

١٢ ـ ذو النون المصري : علامة التوكل انقطاع المطامع.

١٣ ـ ممشاذ الدينوري : التوكل حسم الطمع عن كل ما يميل اليه قلبك ونفسك.

١٤ ـ سري السقطي : التوكل الانخلاع من الحول والقوة.

١٥ ـ رويم البغدادي : التوكل اسقاط رؤية الوسائط ، والتعلق بأعلى العلائق.

١٦ ـ ابراهيم بن شيبان : التوكل سر بين الله والعبد ، فلا ينبغي أن يطلع على هذا السر أحد.

١٧ ـ ابن منازل الصوفي : التفويض مع الكسب خير من خلوه عنه.

١٨ ـ التوكل ألا تعجز عن حكم وقتك ، والمعرفة ألا تضيّع حكم وقتك.

١٩ ـ ابن سالم البصري : من توكل على الله أسكن الله قلبه نور الحكمة ، وكفاه كل هم ، وأوصله الى كل محبوب ، فانه عزوجل يقول : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي هو القائم بكل كفاية.

١٠ ـ ابن الجلاء : التوكل الايواء الى الله وحده في جميع الأحوال.

*

٢٢٦

ويتحدث الطوسي في كتابه «اللمع» عن درجات التوكل عند الصوفية ، فيجعلها ثلاث درجات :

الدرجة الاولى : توكل العامة ، وهو توكل المؤمنين الذي يشير اليه قول الله تبارك وتعالى : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). ويصوره أبو تراب النخشبي بقوله : «التوكل طرح البدن في العبودية ، وتعلق القلب بالربوبية ، والطمأنينة الى الكفاية ، فان أعطي شكر ، وان منع صبر ، راضيا موافقا للقدر».

الدرجة الثانية : توكل أهل الخصوص ، وهو توكل المتوكلين ، وهو كما يصوره ابن عطاء : «من توكل على الله لغير الله لم يتوكل على الله في توكله ، حتى يتوكل على الله بالله لله ، ويكون متوكلا على الله في توكله ، لا لسبب آخر». ويصوره أبو يعقوب النهرجوري بقوله : «التوكل موت النفس عند ذهاب حظوظها من أسباب الدنيا والآخرة».

الدرجة الثالثة : توكل خصوص الخصوص ، وهو كما يصوره الشبلي بقوله : «التوكل أن تكون لله كما لم تكن ، ويكون الله تعالى لك كما لم يزل». ويصوره ابن الجلاء بقوله : «التوكل الايواء الى الله وحده في جميع الأحوال».

ويرى أبو علي الدقاق أن التوكل ثلاث درجات : التوكل ، ثم التسليم ، ثم التفويض ، فالمتوكل يسكن الى وعده ، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه ، وصاحب التفويض يرضى بحكمه ، فالتوكل بداية ، والتسليم واسطة ، والتفويض نهاية ، فالتوكل صفة المؤمنين ، والتسليم صفة الأولياء ، والتفويض صفة الموحدين. التوكل صفة العامة ، والتسليم صفة الخواص ، والتفويض صفة خواص الخواص. التوكل صفة الأنبياء ، والتسليم صفة ابراهيم الخليل ، والتفويض صفة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليهم أجمعين.

ربنا عليك توكلنا ، واليك أنبنا ، واليك المصير.

٢٢٧

الرجاء

الرجاء هو الأمل وعدم اليأس. وقيل انه التوقع لما فيه خير ونفع ، أو تعلق القلب بحصول محبوب مرغوب مستقبلا ، والانسان بلا أمل أو رجاء يضيق في وجهه كل واسع ، ويبعد كل قريب ، ويعسر كل ميسور ، ولذلك قال القائل الحكيم :

أعلل النفس بالآمال أرقبها

ما أضيق العيش لو لا فسحة الأمل

بل توسع مصطفى كامل في تصوير جلال النكبة حينما يفقد الانسان الرجاء ، ويستولي عليه اليأس ، فقال : «لا حياة مع اليأس ، ولا يأس مع الحياة».

ولقد تحدث القرآن الكريم عن الرجاء في مواطن منه ، وجعله سمة من سمات المؤمنين ، وصفة من صفات المؤمنين ، فقال في سورة البقرة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وقال في سورة الاسراء : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً). وأشار الى استحسان التعلق برحمة الله والرجاء لفضله : فقال : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً).

وجعل القرآن المجيد خير أنواع الرجاء هو الرجاء في الله ، وفي ثوابه

٢٢٨

عند لقائه في الدار الآخرة ، فقال في سورة الكهف : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً). وقال في سورة العنكبوت : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). وقال فيها أيضا : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). وضمن للمتقين تحقيق حسن الرجاء ، فقال في سورة فاطر : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ).

بل جعل القرآن الحكيم صدق الرجاء عاملا من عوامل النصر والغلبة على الأعداء ، فقال سبحانه في سورة النساء : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ ، وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً). وكأنه بهذا يقول لهم ـ كما يذكر تفسير المنار ـ انكم ترجون من الله ما لا يرجون ، لأنكم تعلمون من الله تعالى ما لا يعلمون ، وتخصونه سبحانه بالعبادة والاستعانة ، وهم مشركون ، وقد وعدكم الله احدى الحسنيين ـ النصر أو الجنة بالشهادة ـ اذا كنتم للحق تنصرون ، وعن الحقيقة تدافعون. فهذا التوحيد في الايمان ، وهذا الوعد من الرحمن ، هما مدعاة الأمل والرجاء ، ومنفاة اليأس والقنوط ، والرجاء يبعث القوة ، ويضاعف العزيمة ، فيثابر صاحبه على العمل بالصبر والثبات. واليأس يميت العزيمة ويضعف الهمة ، فيغلب على صاحبه الفتور والجزع.

والقرآن الكريم يفتح أبواب الرجاء والأمل أمام عباد الله المؤمنين ، ليدخلوها فيتمتعوا بخير هذه الفضيلة الأخلاقية الجليلة : فضيلة الرجاء والأمل وحسن الظن ، فيقول عن المؤمنين في سورة آل عمران : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ، الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).

٢٢٩

ويشير الحق جل جلاله الى المواطن الشديدة التي ينبغي ان يتحلى فيها المؤمن بحسن الرجاء في الله ، لأنه المنقذ منها ، فيقول في سورة النحل : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ؟ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ. أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وورد في الحديث القدسي ما يدعو الى التحلي بالرجاء في الله ، والحث على حسن الظن به ، فقال : «أنا عند ظن عبدي بي ، فليظن بي ما يشاء». وقال : «يا ابن آدم ، انك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي». وأكد الحديث النبوي هذا المعنى الجميل النبيل فقال : «لا يموتن أحدكم الا وهو يحسن الظن بربه».

ويرى الامام ابن القيم أن منزلة الرجاء منزلة كريمة سامية ، لأنها تكشف عن فضيلة جليلة عالية ، وهو يبسط هذا المعنى بعبارته التي تذكر أن الرجاء هو «هو عبودية ، وتعلق بالله من حيث اسمه «المحسن البر» ، فذلك التعلق والتعبد بهذا الاسم والمعرفة لله ، هو الذي أوجب للعبد الرجاء ، من حيث يدري ومن حيث لا يدري ، فقوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته ، وغلبة رحمته غضبه ، ولو لا روح الرجاء لعطّلت عبودية القلب والجوارح ، وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ، بل لو لا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة ، ولو لا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الارادات».

ثم يسوق أبياتا من الشعر يقول فيها :

لو لا التعلق بالرجاء تقطعت

نفس المحب تحسرا وتمزقا

وكذاك لو لا برده بحرارة الأ

كباد ذابت بالحجاب تحرقا

أيكون قط حليف حب لا يرى

برجائه لحبيبه متعلقا؟

٢٣٠

أم كلما قويت محبته له

قوي الرجاء فزاد فيه تشوقا

لو لا الرجا يحدو المطيّ لما سرت

بحمولها لديارهم ترجو اللقا

ثم يردف ذلك بقوله : «وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء ، فكل محب راج خائف بالضرورة ، فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون اليه ، وكذلك خوفه ، فانه يخاف سقوطه من عينه ، وطرد محبوبه له وابعاده واحتجابه عنه ، فخوفه أشد خوف ، ورجاؤه ذاتي للمحبة ، فانه يرجوه قبل لقائه والوصول اليه ، فاذا لقيه ووصل اليه اشتد الرجاء له ، لما يحصل له به من حياة روحه ، ونعيم قلبه من الطاف محبوبه ، وبره واقباله عليه ، ونظره اليه بعين الرضى ، وتأهيله في محبته ، وغير ذلك مما لا حياة للمحب ولا نعيم ولا فوز الا بوصوله اليه من محبوبه ، فرجاؤه أعظم رجاء وأجله وأتمه.

فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة ، فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء ، وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه ، لكن خوف المحب لا يصحبه وحشة ، بخلاف خوف المسيء ، ورجاء المحب لا تصحبه علة ، بخلاف رجاء الأخير».

وينبغي أن نفهم أن الرجاء يستعمل بمعنى الخوف في لغة القرآن ، وذلك لان الراجي يخاف ألا يحقق أمله ، ومن قبيل استعماله مادة الرجاء بمعنى الخوف قول الله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً). أي ما لكم لا تخافون لله عظيمة؟.

والرجاء والخوف في مفهوم مهذبي الأخلاق ومؤدبي الأرواح يتلازمان ، لان التطلع الى المرغوب يصحبه توقع لحدوث المكروه ، فيظل الانسان راجيا وهو خائف ، ويظل خائفا وهو راج ، وبذلك يكون على الصراط. بمفهوم قول الله تعالى عن عباده الطيبين : (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ

٢٣١

أَقْرَبُ ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ). وقد أعطى أبو علي الروذباري تصويرا جميلا لهذا التلازم بين الرجاء والخوف ، فصورهما بصورة جناحي الطائر ، اذا استويا استوى الطير وتم طيرانه ، واذا نقص أحدهما وقع فيه النقص ، واذا ذهب الجناحان صار الطائر في حد الموت!

ولقد روت السنة المطهرة أن سيدنا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه دخل على رجل وهو في النزع ، فسأله : كيف تجدك؟. فقال الرجل : أجدني أخاف ذنوبي ، وأرجو رحمة ربي. فقال النبي : «ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن الا أعطاه الله ما رجا ، وأمنه مما يخاف».

ونجد أبا حامد الغزالي أيضا يستحسن أن يصور الرجاء والخوف عند المؤمنين بأنهما جناحان بهما يطير المقربون الى كل مقام محمود ، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود ، فانه لا يقود الى حمى الرحمن وساحة الجنان ، مع أن هذا الطريق بعيد الأرجاء ، ثقيل الأعباء ، محفوف بمكاره القلوب ومشاق الارواح والاعضاء ، الا أسباب الرجاء ، ولا يصون عن نار الجحيم والعذاب الأليم ـ مع كون طريقها محفوفا بلطائف الشهوات وعجائب اللذات ـ الا سياط التخويف.

ويأتي حاتم الأصم فيجعل أصل الطاعة ثلاثة أشياء هي : الرجاء والخوف والحب ، فيضيف اليهما الحب كما ترى ، ويؤكد أبو علي الجوزجاني هذا حين يجعل الخوف والرجاء والمحبة من أسس التوحيد ، لان زيادة الرجاء تأتي من اكتساب الخير لرؤية الوعد ، وزيادة الخوف تأتي من كثرة الذنوب لرؤية الوعيد ، وزيادة المحبة تأتي من كثرة الذكر لرؤية المنّة ، فالراجي لا يستريح من الطلب ، والخائف لا يستريح من الهرب ، والمحب لا يستريح من ذكر المحبوب ، فالرجاء نور منوّر ، والخوف نار منوّرة ، والمحبة نور الأنوار.

وهكذا يربط هذا البيان الروحي بين الرجاء والخوف من جهة ،

٢٣٢

والمحبة من جهة أخرى ، فيعطى الرجاء ولازمه الخوف ارتباطا بمحبة الله ، فتجعلهما نعمة وضياء ، فيأنس العبد بربه ، ويعكف على حبه ، حتى يحق لسري السقطي أن يقرر أن هناك أشياء لا يسكن معها في القلب غيرها ، هي الخوف من الله وحده ، والرجاء لله وحده ، والحب لله وحده ، والأنس بالله وحده : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).

*

ولقد يشتبه الرجاء بالتمني ، مع أن بينهما فرقا ينبغي أن يلحظ ، فالرجاء انما يكون حسن ظن مصحوب بالعمل والطاعة ، وحسن التوكل ، والراجي كمن يشق أرضه ، ويفلحها ، ويصلحها ، ويستثمرها ، ويرجو الحصاد من الرب ، ولكن «التمني» يكون مع الكسل وعدم العمل وانقطاع الطاعة ، وهو لذلك آفة تصدع الكيان الأخلاقي للانسان ، ومن هنا قال رسول الله عليه الصلاة والسّلام : «الأحمق من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني».

والتمني كما يقول الراغب هو تقدير شيء في النفس ، وتصويره فيها ، وذلك قد يكون عن تخمين وظن ، ويكون عن روية وبناء على أصل ، ولكن لما كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك ، فأكثر التمني تصور ما لا حقيقة له ، ولذلك صاروا يعبرون عن الكذب بالتمني.

ولذلك قالوا ان الرجاء ذو شعب ثلاث هي : العلم والمال والعمل ، فالعلم يثمر المال ، والمال يقتضي العمل ، وعنوا كثيرا بالتأكيد على تلازم الرجاء والعمل ، حتى لا يكون تمنيا كاذبا ، ومما يشير الى اقتران الرجاء بالعمل قول الله جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ). وكذلك قوله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً).

٢٣٣

واذا كان الرجاء بلا عمل صار غرورا ، ويصور الغزالي الفرق بين الرجاء والغرور ـ أو التمني ـ بالصورة الحسية الموضحة المجسمة التي يقول فيها : «فكل من طلب أرضا طيبة ، وألقى فيها بذرا جيدا غير عفن ولا مسوس. ثم أمده بما يحتاج اليه ، وهو سوق الماء في أوقاته ، ثم نقى الشوك عن الأرض والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده ، ثم جلس منتظرا من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة ، الى أن يتم الزرع ويبلغ غايته ، سمي انتظاره رجاء.

وان بث البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة ، لا ينصب اليها الماء ، ولم يشتغل بتعهد البذر أصلا ، ثم انتظر الحصاد منه ، سمي انتظاره حمقا وغرورا لا رجاء. وان بث البذر في أرض طيبة ، لكن لا ماء لها ، وأخذ ينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا تمتنع أيضا ، سمي انتظاره تمنيا لا رجاء ...».

واذا تعرفنا الى درجات الرجاء وجدنا أولاها وأعلاها هي رجاء المؤمن الذي يعمل لطاعة الله ، على نور من الله ، وهو يرجو ثوابه ، وأقل منها درجة هي رجاء من أذنب ذنوبا ثم تاب منها ، فهو يرجو عفو الله وغفرانه واحسانه ، وأحط الدرجات رجاء من يتمادى في الخطأ والاهمال ، ثم يرجو رحمة ربه بلا عمل ، وهذا رجاء كاذب ، لان الرجاء لا يصدق الا مع العمل.

*

ولا يليق بالعاقل أن يتوسع في الرجاء فيخرج به عن حد الفضيلة الى أن يكون لهوا صارفا عن الايمان بالله والاستجابة له ، فان الحق جل جلاله يقول في شأن الكافرين : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي اترك هؤلاء الكافرين ، لا يهمهم الا أن يأكلوا

٢٣٤

ويتمتعوا بشهواتهم ، ويشغلهم الأمل الواسع عن الاتجاه الى الايمان بالله وطاعته ، فسوف يعلمون العاقبة الوخيمة لذلك ، يوم يلقون الله فيعاقبهم على كفرهم ، وحينئذ يعلمون علم اليقين أنهم كانوا في باطل وضلال.

ورذيلة الكافرين التي لا بعدها رذيلة أنهم محرومون من الرجاء في الله وحسن الظن به والأمل في رحمته ، ولذلك حمل القرآن المجيد حملة صارمة على أولئك اليائسين من لقاء الله لقاء رحمة وثواب ، فيقول في سورة يونس : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ ، أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). أي لا يتوقعون لقاء الله في الآخرة أبدا لانهم منكرون للبعث ، أو لا يؤملون لقاء الله الخاص بالمتقين في دار الكرامة.

ويقول في سورة يونس أيضا : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ). ويقول كذلك : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ ، قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). ويقول في سورة الفرقان : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا. لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» ...) الخ.

واذا كان الرجاء فضيلة كبرى في ميدان مكارم الاخلاق ، فان ضده وهو القنوط أو اليأس رذيلة مردية من رذائل المنحرفين عن الصراط ، ولذلك نهى القرآن عن اليأس أو القنوط فقال في سورة الحجر : (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ ، قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ). وقال في سورة الزمر : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى

٢٣٥

أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). وقال في سورة يوسف : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).

وحمل القرآن على الانسان الجاحد الضال بسبب يأسه وقنوطه ، فقال في سورة هود : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ). أي انه في هذه الحالة شديد اليأس من الرحمة ، قطوع الرجاء من عودة تلك النعمة ، كثير الكفران لغيرها من النعم التي لا يزال يتمتع بها ، فضلا عما سلف منها ، فهو يجمع بين اليأس مما نزع منه ، والكفر بما بقي له ، لحرمانه من فضيلتي الصبر والشكر.

ويقول في سورة الاسراء : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً). أي اذا أنعمنا عليه تكبر وتباعد عن القيام بحقوق الله ، واذا ابتلاه الله بشدة من فقر أو مرض يئس وقنط ، لانه لا يثق بفضل الله تعالى ، ولا يحسن الظن به. ويقول في سورة العنكبوت : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ...) الخ.

وأما المؤمن الذي هداه الرحمن ورباه القرآن ، فانه يعتصم بحبل الله القوي المتين ، ويستضيء بهدي ربه المبين ، فيظل متمسكا بعروة الأمل والرجاء ، ان نالته نعمة شكر ، وان ابتلاه الله احتمل وصبر ، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.

*

ويأتي حديث الرجاء عند الصوفية ...

ان الصوفية يعرّفون الرجاء بعدة تعريفات. فالرجاء هو الثقة بجود الله تعالى ، وهو الارتياح لمطالعة كرم الله سبحانه ، وهو الاستبشار

٢٣٦

بجود الرب وفضله تبارك وتعالى ، وهو النظر الى سعة رحمة الله عزوجل ، الى غير ذلك من التعريفات.

ويذهب فريق من أهل التصفية الروحية واللطائف الأخلاقية الى أن رجاء المخطىء التائب ، قد يكون أقوى أو أكمل من رجاء المحسن الذي ينظر الى عمله ، ولذلك كان يحيى بن معاذ يقول في مناجاته لربه :

«يكاد رجائي مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الاعمال ، لاني أجدني أعتمد في الأعمال على الاخلاص ، وكيف أصفي الأعمال وأحررها وأنا بالآفات معروف؟ وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك ، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف؟.

الهي ، أحلى العطايا في قلبي رجاؤك ، وأعذب الكلام على لساني ثناؤك ، وأحب الساعات اليّ ساعة يكون فيها لقاؤك»!.

وهذا رجاء رحيب الأرجاء ، يذكرنا بقول الشاعر في هذا الباب :

واني لأرجو الله حتى كأنني

أرى بجميل الظن ما الله صانع!

*

واذا كان الرجاء فضيلة أخلاقية اسلامية مطلوبة محبوبة ، فلا بد ان يكون لها حكمة وفائدة وثمرة ، وابن القيم يتوسع في الحديث عن فوائد الرجاء ، ومنها هذه الفوائد :

١ ـ اظهار العبودية والافتقار الى الله ، والحاجه الى ما يرجوه من ربه ، ويتطلع اليه من احسانه ، وأنه لا يستغني عن فضله واحسانه طرفة عين.

٢ ـ ان الله سبحانه يحب من عباده أن يرجوه ويسألوه من

٢٣٧

فضله ، لانه الملك الواسع الجود والعطاء ، وهو أجود من سئل ، وأوسع من أعطى ، وأحب شيء الى الجواد أن يسأله السائلون ويرجوه الراجون ، حتى ورد في الحديث : «من لم يسأل الله يغضب عليه».

٣ ـ الرجاء حاد يحدو الراجي في مسيرته الى ربه ، ويحثه عليها ، فلو لا الرجاء ما سار أحد ، فان الخوف وحده لا يحرك العبد ، وانما يحركه الحب ، ويزعجه الخوف ، ويحدوه الرجاء.

٤ ـ ان الرجاء يضع صاحبه على عتبة الحب ، ويدخله ساحته ، فكلما اشتد رجاء العبد ، وحصل له ما يرجوه ، ازداد حبا لله تعالى ، ورضى عنه ، وشكرا له.

٥ ـ ان الرجاء هو الذي يبلغ بصاحبه المقام الأعلى : مقام الشكر ، الذي هو خلاصة العبودية ، فاذا حصل له مرجوه كان أدعى لشكره.

٦ ـ الرجاء يوجب لصاحبه المزيد من معرفة صفات الله وأسمائه الحسنى ، فيتعلق بها ويدعوه بها ، كما قال الحق جل جلاله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها). وهذه الأسماء هي أعظم ما يدعو بها الداعي.

٧ ـ ان الله تبارك وتعالى يريد من عبده تكميل مراتب عبوديته ، من الذل والانكسار ، والتوكل والاستعانة ، والخوف والرجاء ، والصبر والشكر ، والرضى والانابة ، وغيرها ، فالرجاء عنصر من عناصر التكملة لهذه العبودية.

٨ ـ في الرجاء انتظار وترقب وتوقع لفضل الله ، وهذا يجعل القلب متعلقا على الدوام بذكر الله ، موصول الالتفات اليه ، ومن كان مع الله كان الله معه ، ومن كان معه سعد وفاز.

*

٢٣٨

وما أجمل قول من قال :

اذا اشتملت على اليأس القلوب

وضاق لما به الصدر الرحيب

وأوطنت المكاره واطمأنت

وأرست في مكامنه الخطوب

ولم تر لانكشاف الضر وجها

ولا أغنى بحيلته اللبيب

أتاك على قنوط منك غوث

يمن به اللطيف المستجيب

فكل الحادثات اذا تناهت

فموصول بها الفرج القريب!

اللهم لا تحرمنا نعمة الرجاء فيك ، والامل في كرمك وفضلك!

٢٣٩

الاخبات

«الاخبات» كلمة فيها معنى الاطمئنان مع اللين ، لانها كلمة مشتقة من مادة «الخبت» وهو المكان المطمئن الواسع من الأرض. وأخبت الانسان : اذا قصد المكان المطمئن أو نزله. وجاء في «تاج العروس» أن من المجاز قولهم : أخبت الرجل الى الله ، اذا خشع وتواضع. وأخبتوا الى ربهم ، أي اطمأنوا اليه ، ويقال : فلان يصلي بخشوع واخبات ، وخضوع وانصات. ولذلك يستعمل الاخبات بمعنى اللين والتواضع والوقار.

وقد ذكر القرآن الكريم فضيلة «الاخبات» في ثلاثة مواطن ، وتعرض المفسرون لبيان المعنى المراد من الاخبات في لغة التنزيل المجيد ، فذكروا ما يقرب من سبعة معان هي : الخوف من الله ، والانابة والاطمئنان والخشوع واللين والتواضع والخضوع ، ونستطيع أن نقول ان «الاخبات» فضيلة من الفضائل القرآنية ، وخلق من مكارم الأخلاق الدينية ، يقوم مفهومه ـ تقريبا على مزيج من الخوف والانابة والخشوع والطمأنينة (١).

وأول موطن جاء فيه ذكر «الاخبات» من القرآن المجيد ، يوجد

__________________

(١) تحدثنا بتوسيع عن كل فضيلة من هذه الفضائل في الجزء الاول من هذا الكتاب.

٢٤٠