موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٢

١٤ ـ الظالم صاحب الدنيا ، والمقتصد طالب العقبى ، والسابق طالب المولى.

١٥ ـ الظالم طالب النجاة ، والمقتصد طالب الدرجات ، والسابق صاحب المناجاة.

١٦ ـ الظالم أمن من العقوبة ، والمقتصد فاز بالمثوبة ، والسابق متحقق بالقربة.

١٧ ـ الظالم مضروب بسوط الحرص ، مقتول بسيف الرغبة ، مضطجع على باب الحسرة ، والمقتصد مضروب بسوط الندامة ، مقتول بسيف الاسف ، مضطجع على باب الجود ، والسابق مضروب بسوط التواجد ، مقتول بسيف المحبة ، مضطجع على باب الاشتياق.

١٨ ـ الظالم صاحب التوكل ، والمقتصد صاحب التسليم ، والسابق صاحب التفويض.

١٩ ـ الظالم صاحب تواجد ، والمقتصد صاحب وجود؟؟؟ ، والسابق صاحب وجود.

٢٠ ـ الظالم صاحب المحاضرة ، والمقتصد صاحب المكاشفة والسابق صاحب المشاهدة.

٢١ ـ الظالم يراه في الآخرة بمقدار أيام الدنيا في كل جمعة مرة ، والمقتصد يراه في كل يوم مرة ، والسابق غير محجوب عنه البتة.

٢٢ ـ الظالم مجذوب الى فعله الذي هو فضله ، والمقتصد مكاشف بوصفه الذي هو عزه ، والسابق المستهلك في حقه الذي هو وجوده.

٢٣ ـ الظالم الراجح السيئات ، والمقتصد المتساوي الحسنات والسيئات ، والسابق الراجح الحسنات.

١٢١

٢٤ ـ الظالم من ظاهره خير من باطنه ، والمقتصد المتساوي ، والسابق من باطنه خير.

٢٥ ـ الظالم صاحب الكبيرة ، والمقتصد صاحب الصغيرة ، والسابق المعصوم.

٢٦ ـ الظالم التالي للقرآن غير العالم به ولا العامل بموجبه ، والمقتصد التالي العالم غير العامل ، والسابق التالي العامل.

٢٧ ـ الظالم الجاهل ، والمقتصد المتعلم ، والسابق العالم.

٢٨ ـ الظالم من يحاسب فيدخل النار وهو أصحاب المشأمة ، والمقتصد من يحاسب فيدخل الجنة وهو أصحاب الميمنة ، والسابق من يدخل الجنة بغير حساب.

٢٩ ـ الظالم من خالف أوامر الله وارتكب مناهيه ، والمقتصد هو المجتهد في أداء التكاليف ، وان لم يوفق لذلك ، والسابق هو الذي لم يخالف تكاليف الله بتوفيقه.

٣٠ ـ الظالم من غلبته نفسه الامارة ، وأمرته فأطاعها ، والمقتصد من جاهد نفسه فغلبته تارة وغلب أخرى ، والسابق من قهر نفسه.

* * *

وهذا الفيض من الكلمات يمكن ان يكون موضوع بحث فسيح خاص لا يتسع له نطاق هذا المجال ، ولكن لا يفوتنا هنا أن نتذكر ان الصوفية لهم طريقتهم الخاصة بهم في الحديث عن المسابقة الى الخيرات ، فالقشيري مثلا يقول : «الناس في المسارعة على أقسام : فالعابدون يسارعون بقدمهم في الطاعات ، والعارفون يسارعون بهممهم في القربات ،

١٢٢

والعاصون يسارعون بندمهم بتجرع الحسرات ، فمن سارع بقدمه وجد مثوبته ، ومن سارع بهممه وجد قربته ، ومن سارع بندمه وجد رحمته». ويعود ليحدثنا عن أنواع السابقين المسارعين ، فيقول : «مسارع بقدمه من حيث الطاعات ، ومسارع بهممه من حيث المواصلات ، ومسارع بندمه من حيث تجرع الحسرات ، والكل مصيب ، وللكل من اقباله ـ على ما يليق بحاله ـ نصيب».

* * *

قد يقال : ألا تتعارض فضيلة المسارعة والمسابقة مع الحديث القائل : «العجلة من الشيطان»؟. ويجيب النيسابوري بأن الامور متفاوتة ، فمنها ما يحمد فيه التأخير ، لكونه مما يحصل على مهل وتدريج ، فلو طلب منه خلاف وضعه فات الغرض وضاع السعي ، أو لكونه غير معلوم العاقبة ، فيحتاج الى مزيد تدبر وتأمل.

ومنها ما يحمد فيه التعجيل والسرعة ، فيجب أن تنتهز فيه الفرصة وتغتنم ، فان الفرص تمر مر السحاب ، ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك».

واذا كانت مسابقة المؤمن مشروطة بأن تكون الى الخيرات وفي سبيل القربات ، فان اتباع الشيطان قد يتسابقون ويتنافسون ، ولكن في الآثام والكفران ، وهؤلاء لهم الويل والثبور عند الله جل جلاله ، والقرآن الكريم يقول في سورة آل عمران : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ

١٢٣

يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ، إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً ، يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١)». ويقول في سورة المائدة : (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بافواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ، يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، يقولون ان أوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فاحذروا ، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ، اولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) (٢). ويقول في السورة نفسها : (وترى كثيراً منهم يسارعون في الاثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون) (٣).

بل لقد يشترك اثنان في استباق ، ويكون بين هدفيهما ما بين السماء والارض من افتراق ، وقد عرض علينا القرآن صورة لذلك حينما قال في سورة يوسف ، عن يوسف وامرأة العزيز : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) (٤) ، فكل منهما قد سارع نحو الباب ، ولكنها سارعت اليه استمرارا منها في مراودتها ، وغلوا منها في اثمها واجرامها ، وسارع هو الى الباب فرارا بدينه وفضيلته ، فالمرأة قد سابقت الى الشر ، ويوسف قد سابق الى الخير ، ولكل وجهة هو موليها.

ولعل أشنع صورة من صور المسابقة الآثمة أن يسبق الانسان الى

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٧٦.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٤١.

(٣) سورة المائدة ، الآية ٦٢.

(٤) سورة يوسف ، الآية ٢٥.

١٢٤

رذيلة لم يسبق اليها أحد قبله ، ولذلك استبشع القرآن ذلك فقال في سورة الاعراف : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) (١). وحسب السابق الى الاثم جرما أنه سيسن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها ، وحسب السابق الى الخير شرفا أنه سيسن سنة حسنة له أجرها وأجر من عمل بها ، وعلى الله قصد السبيل :

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية ٨٠.

١٢٥

التحنف

«الحنيف» في أصل اللغة هو : المائل الى الشيء ، وقيل : الحنيف هو المستقيم ، فالمادة اللغوية للكلمة من قبيل الاضداد ، ثم أطلقت كلمة «الحنيف» على المائل عن الاديان الباطلة الى الدين الحق ، وعلى الثابت على الدين المستقيم ، ويقال : تحنف الرجل ، أي تحرى طريق السلامة ، وسمت العرب كل من حج واختتن حنيفا ، تنبيها الى أنه على دين ابراهيم عليه‌السلام ، وبعض الناس يسمون البنت «حنيفة» راجين أن يكون ذلك بشارة بطهارتها واستقامتها.

و «الحنف» ـ بفتح الحاء والنون ـ هو الميل عن الضلال الى الهدى ، ويقابله «الجنف» ـ بفتح الجيم والنون ـ وهو الميل عن الهدى الى الضلال ، ومن ذلك قول الله تعالى : (فمن خاف من موص جنفا) (١) أي ميلا ظاهرا في الحكم من العدل الى الظلم ، وقوله تعالى : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) (٢) أي غير مائل اليه. وجاء في الحديث : «انا نرد من جنف الظالم ما نرد من جنف الموصي».

واذا كان الاصل في «الحنيف» انه المائل الى الدين الصحيح المستقيم ، فقد توسعوا في معناه ، فأطلقوا الحنيف على الناسك ، والمخلص ،

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٨٢.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٣.

١٢٦

والمتعبد ، والمتحرر من العيوب والمآثم. و «التحنف» هو أن يتحرى الانسان أقوم السبل وأعدل الطرق ليسلكها ويلتزمها.

ومن هذا المعنى يلوح المفهوم الاخلاقي الذي يجعلنا نحس بأن «التحنف» بمعناه العام يدخل ضمن الفضائل الاسلامية القرآنية المجيدة التي تستحق البحث والتنويه. لان المتحنف يصور لنا قيمة سامية من القيم الاخلاقية ، فهو الرجل الذي يرى الناس أو كثرتهم تسير على طريقة باطلة ومعتقد فاسد ، فلا يتابعهم ولا ينساق وراءهم ، بل يخالفهم جميعا ما دام على الحق المبين ، ويتنكب طريقتهم ، ويمضي على طريقته ، وقد يشير الى هذا المعنى قول الحق جل جلاله : (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) (١).

والمتحنف هو الذي تدفعه مبادئه وقيمه الى الميل الى الحق عن الباطل : في القلب والنفس ، في الجهر والهمس ، في الافعال والاحوال والاقوال ، كما يشير القشيري في «لطائف الاشارات». فليس التحنف مجرد مخالفة ، أو معارضة للتظاهر او التفاخر ، وانما هو ادراك للحق ، واعتزاز به ، واصرار عليه ، وان خالف المخالفون.

ولقد نوه القرآن الكريم بفضيلة التحنف ومكانة الحنيف حين قال في سورة يونس : (قل يا أيها الناس ان كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ، وأمرت أن أكون من المؤمنين ، وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ، ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ، فان فعلت فانك اذن من الظالمين) (٢). وقوله : (أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ٩١.

(٢) سورة يونس ، الآيات ١٠٤ ـ ١٠٦.

١٢٧

اخلص نفسك وقلبك للدين ، وكن مائلا عن الزيغ والبدع ، داخلا في جملة من أخلص ، ولا تلتفت الى هؤلاء الضالين المنحرفين ، فانك على الحق المبين.

ويعود القرآن الكريم الى ذكر التحنف منوها بفضله ومكانته ، فيقول في سورة الحج : (فاجتنبوا الرجس من الاوثان ، واجتنبوا قول الزور ، حنفاء لله غير مشركين به ، ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير ، أو تهوي به الريح في مكان سحيق) (١). وقوله : (حُنَفاءَ لِلَّهِ) أي مخلصين له الطاعة والعبادة ، ثابتين على دينه وملته.

ويعود القرآن الكريم في موطن ثالث ليقول في سورة الروم : (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ، ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، منيبين اليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين ، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، كل حزب بما لديهم فرحون) (٢).

وقوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي اخلص نفسك للاسلام ولعقيدة التوحيد ، واستقم بدينك نحو الجهة التي وجهك الله اليها ، مائلا عن كل ما عدا هذا الدين من دين او ملة ، ولا يكن في قلبك شيء آخر سواه ، فهذه هي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، أي ما ركز فيهم من فوة على معرفة الايمان بالله جل جلاله.

ولقد روى البخاري ومسلم قول رسول الله عليه الصلاة والسّلام : «أحب الدين الى الله الحنيفية السمحة». وفي رواية : «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة». والحنيفية هي الاخلاص لله وحده في

__________________

(١) سورة الحج ، الآية ٣٠ ، ٣١.

(٢) سورة الروم ، الآيات ٣٠ ـ ٣٢.

١٢٨

الاقرار بالربوبية والاذعان للعبودية ،؟؟؟ الاستقامة على دين ابراهيم عليه‌السلام الذي يقول فيه القرآن المجيد في سورة آل عمران : (ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) (١).

وكأن التحنف هو ابقاء الانسان ذاته على فطرتها الاولى التي برأه الله عليها ، قبل أن تعلق بها علائق الشهوات والانحرافات ، فاذا طرأ عليها شيء من ذلك كان جهده الاخلاقي دائرا حول دفع هذا الطارىء ، والعودة الى حالة الطهارة والصفاء التي تزدان بها نفسه وتقوى ، والتي تجعل أمره سهلا لينا ، وسطا عادلا ، سمحا لطيفا ، لا افراط فيه ولا تفريط.

وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى : «خلقت عبادي حنفاء» أي طاهري الاعضاء من المعاصي ، وقيل : أراد أنه خلقهم حنفاء مؤمنين ، لما أخذ عليهم الميثاق وهم في عالم الذر ، فقال لهم : ألست بربكم؟ قالوا : بلى. فلا يوجد أحد الا وهو معترف مقر بأن له ربا ، وان أشرك به فيما بعد ، والى هذا أشار القرآن الكريم حين قال في سورة الاعراف : (واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم قالوا بلى شهدنا : أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا انما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) (٢).

وجاء في السنة أحاديث كثيرة ، منها ما جاء في الصحيحين : «كل مولود يولد على الفطرة» ، وجاء في السنة أيضا ان الله تعالى أخذ على

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٦٧.

(٢) سورة الاعراف ، الآيتان ١٧٢ و ١٧٣.

١٢٩

بني آدم العهد والميثاق ، وأشهدهم على انفسهم : ألست ربكم؟. قالوا : بلى. قال : فاني أشهد عليكم السموات السبع ، والارضين السبع ، وأشهد عليكم أباكم آدم ، أن تقولوا يوم القيامة : لم نعلم بهذا. اعلموا أنه لا اله غيري ، ولا تشركوا بي شيئا ، واني سأرسل لكم رسلا ، لينذروكم عهدي وميثاقي ، وانزل عليكم كتبي. قالوا : نشهد أنك ربنا والهنا ، لا رب لنا غيرك. فأقروا له يومئذ بالطاعة ...

والقرآن الكريم قد وصف خليل الرحمن وأبا الانبياء ابراهيم بأنه «حنيف» سبع مرات في القرآن الكريم ، وهي :

١ ـ في سورة البقرة : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الآية ١٣٥

٢ ـ في سورة آل عمران : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الآية ٦٧

٣ ـ في سورة آل عمران ايضا : (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الآية ٩٥

٤ ـ في سورة النساء : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ، وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً). الآية ١٢٥.

٥ ـ في سورة الانعام : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). الآية ١٦١.

٦ ـ في سورة النحل : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). الآية ١٢٠.

٧ ـ في سورة النحل ايضا : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). الآية ١٢٣.

١٣٠

وكذلك جاء على لسان ابراهيم في سورة الانعام قوله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). الآية ٧٩.

ولعل السر في تكرار القرآن الكريم نسبة «الحنيفية» الى ابراهيم عليه‌السلام ـ والله أعلم بمراده ـ هو أن ابراهيم ضرب مثلا كريما في مقاومة الاشراك بالله ، والاحتفاظ بنفسه صافية ، وبقلبه سليما ، ودعا ربه أن يطهره ويطهر أبناءه من الوثنية والضلال ، (واذ قال ابراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنيّ ان نعيد الاصنام) (١). وهو الذي قال لقومه : (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ، وادعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا) (٢).

وجاء في القرآن الكريم على لسان ابراهيم ما يذكرنا بالفطرة ، وما يذكرنا بوجوب التحنف والميل عن الضلال الى الهدى ، وعن عبادة أي شيء الا عبادة الله الواحد القهار ، فجاء في سورة الانبياء وهي تتحدث عن ابراهيم : (قال بل ربكم رب السماوات والارض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين) (٣). وجاء فيها : (قال : أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم؟ أف لكم ولما تعبدون من دون الله ، أفلا تعقلون) (٤)؟.

وعبر القرآن عن الفطرة السليمة والحنيفية الصافية والباطن الطاهر عند ابراهيم عليه‌السلام ، فقال عنه في سورة الصافات : (اذ جاء ربه بقلب سليم) (٥). أي أعرض عن كل شاغل ، وأقبل على ربه ومولاه

__________________

(١) سورة ابراهيم ، الآية ٣٥.

(٢) سورة مريم ، الآية ٤٨.

(٣) سورة الانبياء ، الآية ٥٦.

(٤) سورة الانبياء ، الآيتان ٦٦ و ٦٧.

(٥) سورة الصافات ، الآية ٨٤.

١٣١

بقلب مخلص طاهر من آفات القلوب ومن علائق الشهوة ، فجعله خالصا لله وحده.

ولنلاحظ هنا أن كلمة «حنيفا» لا تكاد تذكر في القرآن حتى يرد معها نفي الشرك ، وكأن القرآن يريد ان يذكرنا مرة بعد مرة أن التحنف والاشراك لا يجتمعان ، ومن هنا نكرر كما رأينا قوله تعالى : (حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في شأن ابراهيم جد نبينا عليهما الصلاة والسّلام ، ولذلك لم يكن عجيبا أن يقول التنزيل المجيد : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). لان معنى ذلك ـ كما يقول القشيري : اذا تجاذبتك الفرق والاهواء ، فأعرض عن هؤلاء ، وأقبل علينا ، وزد في توجهك الينا ، جاريا على منهاج الخليل ، الذي ترك قومه وأباه ، وأقبل على خالقه ومولاه ، غير معرج على شيء فيه نصيب للنفس ، فقد سلم ماله ونفسه وولده ، وما كان له جملة الى حكم الله وانتظار أمره.

وبمقتضى هذا المثل الاعلى الذي ضربه ابراهيم في التحنف والاستقامة والاخلاص في الطاعة رأينا القرآن الكريم يدعو عباده المؤمنين الى الاستمساك بمثل هذا الاخلاص ، لأنه لب الاسلام ، ولأن الاستقامة على الطاعة هي صبغة المسلمين المخلصين ، فقال القرآن الكريم في ختام سورة الحج : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ، هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ، هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ، وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (١).

ومما يدل على ان «التحنف» وثيق الارتباط بالفطرة اننا نجد في

__________________

(١) سورة الحج ، الآيتان ٧٧ و ٧٨.

١٣٢

ظلمات الجاهلية أفرادا تحنفوا وتطهروا ، واعتزلوا مسالك الانحراف ومواطن الاعتساف ، وتلمسوا الطريق الى الاستقامة والهداية على قدر طاقتهم ، ومن هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل الذي ترك عبادة الاوثان قبيل اشراق الاسلام ، وحاول أن يكون حنيفا على طريقة ابراهيم عليه‌السلام ، وقد روي عن اسماء بنت ابي بكر رضي الله عنهما أنه كان مسندا ظهره الى الكعبة وهو يقول : «يا معشر قريش ، والذي نفس زيد بيده ، ما أصبح أحد منكم على دين ابراهيم غيري». ثم يقول : «اللهم اني لو أعلم أحب الوجوه اليك عبدتك به ، ولكني لا أعلم». ويقول : «الهي اله ابراهيم ، وديني دين ابراهيم».

وكان زيد يحيي الموءودة ، واجتمع مع نفر من عقلاء قومه ، وتباحثوا في أمر الاصنام فذكروا أن عبادتها ضلال ، «فخرجوا يطلبون ويسيرون في الارض ، يلتمسون الحنيفية دين ابراهيم». ولم يكن فيهم ـ كما يقول ابن كثير ـ أعدل أمرا وثباتا من زيد بن عمرو ، فقد اعتزل الاوثان ، وفارق الاديان من اليهود والنصارى والملل كلها ، الا دين ابراهيم دين الحنيفية ، يوحد الله ، ويخلع ما دونه ، ولا يأكل ذبائح قومه ، ولاقى في سبيل ذلك ألوانا من الايذاء.

وخرج زيد الى الشام يلتمس الهدى ، ويطلب في أهل الكتاب الاول دين ابراهيم ويسأل عنه ، فدله أحد الرهبان على أن نبيا قد آذن وقت ظهوره في مكة ، فعاد زيد مسرعا ، ولكنه لقي مصرعه في الطريق. ويروي ابن كثير أنه حينما ذكروا زيدا وشأنه أمام النبي قال : «هو أمة وحده يوم القيامة».

ورووا لزيد بن عمرو أشعارا تتسم بالحنيفية والتحنف والتطهر ، ومن ذلك قوله :

١٣٣

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له الارض تحمل صخرا ثقالا

دحاها فلما استوت شدها

سواء ، وأرسى عليها الجبالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له المزن تحمل عذبا زلالا

اذا هي سيقت الى بلدة

أطاعت فصبت عليها سجالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له الريح تصرف حالا فحالا

ومن ذلك قوله أيضا :

أربا واحدا أم ألف رب

أدين اذا تقسمت الامور

عزلت اللات والعزى جميعا

كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا العزى أدين ، ولا ابنتيها

ولا صنمي بني عمرو أزور

ولكن أعبد الرحمن ربي

ليغفر ذنبي الرب الغفور

فتقوى الله ربكم احفظوها

متى ما تحفظوها لا تبوروا

ترى الأبرار دارهم جنان

وللكفار حامية سعير

١٣٤

وخزي في الحياة ، وان يموتوا

يلاقوا ما تضيق به الصدور

* * *

هذا ومما ينبغي أن نتذكره أن بعض الجاهلين زعم أن كلمة «الحنيفية» عند العرب قديما كانت تطلق على الشرك ، وقد تكفل بالرد على هذا الجهل الاستاذ الامام الشيخ محمد عبده ، حين تعرض لتفسير قوله تعالى في سورة البقرة : (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين) (١) فذكر أن الحنيف هو المائل ، وأطلق على الخليل ابراهيم ، لأن الناس في عصره كانوا على طريقة واحدة وهي الكفر ، فخالفهم كلهم ، وتنكب طريقتهم. ثم قال :

«قال بعض المشتغلين بالعربية من الافرنج : ان الحنيفية هي ما كان عليه العرب من الشرك ، فاحتجوا على ذلك بقول بعض النصارى في زمن الجاهلية : (ان فعلت هذا أكون حنيفيا). وانها لفلسفة جاءت من الجهل باللغة. وقد ناظرت بعض الافرنج في هذا ، فلم يجد ما يحتج به الا عبارة ذلك النصراني ، وهو الآن يجمع كل ما نقل عن العرب من هذه المادة ، لينظر كيف كانوا يستعملونها ، ولا دليل في كلمة النصراني العربي ، على أن الكلمة تدل لغة على الشرك ، وانما مراده بكلمته البراءة من دين العرب مطلقا ، ذلك ان بعض العرب كانوا يسمون أنفسهم الحنفاء ، أيضا.

والسبب في التسمية والدعوى أن سلفهم كانوا على ملة ابراهيم حقيقة ، ثم طرأت عليهم الوثنية ، فأخذتهم عن عقيدتهم ، وأنستهم أحكام

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٣٥.

١٣٥

ملتهم وأعمالها. نسوا بعضها بالمرة ، وخرجوا ببعض آخر عن أصله ووصفه كالحج ، ونفي الشرك عن ابراهيم في آخر الآية احتراس من وهم الواهمين ، وتكذيب لدعوى المدعين».

* * *

أما بعد فيا أيها الانسان العاقل ، هذا طريق التحنف ، طريق التدبر والتطهر ، طريق الاستقامة والاخلاص ، طريق الميل عن كل ضلال وبهتان ، وطريق الثبات على اليقين والاحسان ، فكن متحنفا مسلما ، حتى تصبح حنيفا مؤمنا ، فابراهيم جد نبيك عليهما الصلاة والسّلام كان حنيفا مسلما ، ورسولك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يقول : «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» ، وربك جل جلاله هو الذي يقول : (وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين) (١). واتخذ لك من القرآن في هذا المجال شعارا ، هو قول ربك تبارك وتعالى :

(قل انني هداني ربي الى صراط مستقيم ، دينا قيما ملة ابراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين ، قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ، قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ، ولا تكسب كل نفس الا عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، ثم الى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه مختلفون ، وهو الذي جعلكم خلائف الارض ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم ان ربك سريع العقاب وانه لغفور رحيم) (٢).

__________________

(١) سورة يونس ، الآية ١٠٥.

(٢) سورة الانعام ، الآيات ١٦١ ـ ١٦٥.

١٣٦

لوم النفس

اللوم ـ كما تقول اللغة ـ هو عذل الانسان على ما لا ينبغي ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة ابراهيم : (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) (١) ، والملوم هو الشخص المعذول ، كما في قوله تعالى في سورة الاسراء : (ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) (٢). وقوله في السورة نفسها : (ولا تجعل مع الله الها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا) (٣).

والتلاوم هو تبادل اللوم ، فيقال : تلاوم الرجلان ، اذا لام كل منهما الآخر ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة القلم : (فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) (٤). واللومة هي اللوم ، كما في قوله في سورة المائدة : (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (٥). واللوام هو من يكثر اللوم ، أو من يشتد في لومه ، والنفس اللوامة هي التي تلوم صاحبها لوما شديدا على ارتكاب الشر ، أو التقصير في عمل الخير. والملوم هو من يستحق أن يوجه الناس اليه اللوم ، كقوله تعالى في

__________________

(١) سورة ابراهيم ، الآية ٢٢.

(٢) سورة الاسراء ، الآية ٢٩.

(٣) سورة الاسراء ، الآية ٣٩.

(٤) سورة القلم ، الآية ٣٠.

(٥) سورة المائدة ، الآية ٥٤.

١٣٧

سورتي المؤمنون والمعارج : (الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فانهم غير ملومين) (١). وقوله في سورة الذاريات : (فتول عنهم فما أنت بملوم) (٢). أي ليس لأحد أن يوجه اليك اللوم ، واللائمة هي الامر الذي يلام عليه الانسان.

هذا بعض حديث اللغة عن «اللوم». فما حديث الأخلاق؟.

* * *

ان المراد بفضيلة لوم النفس في حديث القرآن الاخلاقي ، هو أن يتعود الانسان ملاحظة نفسه ، في أقوالها واعمالها ، وحركاتها وسكناتها ، ليتابعها ويقوّم سعيها ، ويراجعها حين تنحرف ، أو تهم بشيء من الانحراف ، ليعيدها الى الصراط ، ويقيمها عليه ، ويلزمها به ، وكذلك يراجعها وهي تسعى وانية أو بطيئة في مجال الخير ، ليفجر فيها ينابيع النشاط والقوة والاجتهاد ، حتى تزداد من الخير ، وتجتهد في ميدان البر.

وكأن الانسان بهذه الفضيلة الاخلاقية القرآنية يقيم من نفسه على نفسه بنفسه ديدبانا أو حارسا يقظا حذرا ، يمنعها من السوء ، ويدفعها الى الطيب من العمل والقول والتفكير ، وكأن هذه المتابعة للنفس هي ما يسميه أهل عصرنا بسلطة «الضمير».

وليست فضيلة اللوم للنفس غاية تطلب لذاتها ، بمعنى انه ينبغي أن يعاتب الانسان نفسه ، ويلومها لمجرد اللوم والمعاتبة ، وانما هي فضيلة مطلوبة عند وجود داعيها ومقتضيها ، فلو أن الانسان حافظ على

__________________

(١) سورة المؤمنون ، الآية ٦. وسورة المعارج ، الآية ٣٠.

(٢) سورة الذاريات ، الآية ٥٤.

١٣٨

استقامة سلوكه وتصرفه وتفكيره منذ بداية الطريق الى نهايته ـ وهذا أمر متعسر أو متعذر ـ لما كان هناك داع يدعو الى لوم النفس أو معاتبتها أو مؤاخذتها ، والا كان ذلك تصرفا لا مسوغ له ولا مبرر.

ولكن من أخطأ فألمّ بصغيرة أو غيرها هو الذي يحتاج الى فضيلة لوم النفس ، وليس معنى هذا أيضا أن يتعمد الانسان الخطأ ليوجد فرصة يلوم فيها نفسه ، فقد يكون ذلك عبثا يتنزه عنه العقلاء ، لأن من تجنب الخطأ ، والتزم الصواب ، وأحسن المسعى ، أفضل ممن تعمد الوقوع في الخطأ ، ثم شرع يندم عليه ويتوب منه ، ولذلك قال بعض السلف : «هب أن المسيء قد عفي عنه ، أليس قد فاته ثواب المحسنين»؟.

وقد يخيل لبعض الناس أو لكثير منهم ان التحلي بفضيلة لوم النفس أمر سهل ميسور ، فما عليه ـ في توهمه أو زعمه ـ الا أن يكرر ارتكاب الخطأ ، ثم يكرر القيام بالمعاتبة واللوم للنفس ، وبذلك يكون قد تحلى بفضيلة من فضائل القرآن المجيد ... كلا ، فان التحلي القويم بهذه الفضيلة يحتاج الى همة وعزيمة ، والى انتباه ويقظة ، والى جهد وتعب ، ولقد أحسن أبو حامد الغزالي في تصوير ذلك وتمثيله بصورة ملموسة بارزة ، فقال :

«اعلم أن مطلب المتعاملين في التجارات ، المشتركين في البضائع عند المحاسبة ، سلامة الربح. وكما أن التاجر يستعين بشريكه ، فيسلم اليه المال حتى يتجر ، ثم يحاسبه ، فكذلك العقل ، هو التاجر في طريق الآخرة ، وانما مطلبه وربحه تزكية النفس ، لأن بذلك فلاحها. قال الله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١)). وانما

__________________

(١) سورة الشمس ، الآيتان ٩ و ١٠.

١٣٩

فلاحها بالاعمال الصالحة ، والعقل يستعين بالنفس في هذه التجارة ، اذ يستعملها ويستسخرها فيما يزكيها ، كما يستعين التاجر بشريكه وغلامه الذي يتجر في ماله.

وكما أن الشريك يصير خصما منازعا يجاذبه في الربح ، فيحتاج الى أن يشارطه أولا ، ويراقبه ثانيا ، ويحاسبه ثالثا ، ويعاقبه أو يعاتبه رابعا ، فكذلك العقل يحتاج الى مشارطة النفس أولا ، فيوظف عليها الوظائف ، ويشرط عليها الشروط ، ويرشدها الى طرق الفلاح ، ويجزم عليها الامر بسلوك تلك الطرق ، ثم لا يغفل عن مراقبتها لحظة ، فانه لو أهملها لم ير منها الا الخيانة وتضييع رأس المال ، كالعبد الخائن اذا خلا له الجو ، وانفرد بالمال.

ثم بعد الفراغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها ، فان هذه تجارة ربحها الفردوس الاعلى ، وبلوغ سدرة المنتهى مع الانبياء والشهداء. فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم كثيرا من تدقيقه في ارباح الدنيا ، مع أنها محتقرة بالاضافة الى نعيم العقبى ، ثم كيفما كانت فمصيرها الى التصرم والانقضاء ، ولا خير في خير لا يدوم ، بل شر لا يدوم خير من خير لا يدوم ، لأن الشر الذي لا يدوم اذا انقطع بقي الفرح بانقطاعه دائما ، وقد انقضى الشر ، والخير الذي لا يدوم يبقى الأسف على انقطاعه دائما ، وقد انقضى الخير ، ولذلك قيل :

أشد الغم عندي في سرور

تيقن عنه صاحبه انتقالا

فحتم على كل ذي حزم آمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه ، والتدقيق عليها في حركاتها وسكناتها ، وخطراتها وخطواتها ، فان كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها. يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد ، فانقضاء

١٤٠