موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٢

ولقد اشار البصراء بدقائق الاخلاق الى ان الطمأنينة مراتب ودرجات ، فهناك طمأنينة القلب بذكر الله ، فإن القلب اذا اخلص في ذكر الله هدأ واطمأن ، وسكن واستراح. وهناك طمأنينة السالك على بصيرة وهدى الى استقامة طريقه ، وتوصيله الى غايته ، ولعله مما يشير الى هذا قول الحق جل جلاله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي). وهناك طمأنينة المؤمن الى لطف الله وسعة رحمته ، فربه هو القائل : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).

والرجل المطمئن لا يحزن على ما فات ، ولا يفرح بما هو كائن ، ولا يخاف مما هو آت ، وهو لا يضجر من أداء واجب ، فإن الطمأنينة فيها معنى الاقامة والدوام ، ولذلك يقال : اطمأن فلان بالمكان إذا لزمه وأقام فيه ، وهو لا يمل مجانبة الاثم ، لأن الاثم والطمأنينة لا يجتمعان ، فالاثم حيرة ، ولكن البر سكينة والحديث يقول : «الاثم ما حاك في صدرك ، وكرهت أن يطلع عليه الناس». ويقول : «البر ما اطمأنت اليه النفس ، واطمأن اليه القلب».

والمطمئن لا يجزع من قضاء ، ولا يضيق بقدر ، بل يردد مع القائل :

ما قد مضى يا نفس فاصطبري له

ولك الأمان من الذي لم يقدر

وتحققي أن المقدّر كائن

يجري عليك ، حذرت ام لم تحذري

ولقد كان سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المثل الأعلى في التخلق بخلق الطمأنينة ، فما استطاعت الأهوال المتوالية ان تخرجه عن وقاره ورزانته ، ولا استطاع النصر العظيم ان يزدهيه او يغره ، ولا ضعف يقينه او رجاؤه في احلك الظلمات وأشد الأزمات ، والقرآن يترجم عن هذا حين يقول : «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ ، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ ، إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا ، فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ

٨١

تَرَوْها ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

وراودته الجبال الشّمّ من ذهب

عن نفسه فأراها أيّما شمم

ومن مفاتح الطمأنينة ذكر الله تعالى ، بالاقبال على تلاوة كتابه وتدبر آياته ، وذلك لأن القلب يطمئن بالايمان واليقين ، والقرآن الكريم هو اصدق رائد الى هذا الايمان ، وهو اقوى قاطع لذيل الشك والريب ، ومن هنا جاء قول الله تبارك وتعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) لأن هؤلاء اذا ذكروا ربّهم ، وقرأوا كلامه وتدبروا مغزاه ، خشعت قلوبهم واطمأنت.

ويعلل الفخر الرازي ذلك بقوله : «إن القلب كلما وصل الى شيء فإنه يطلب الانتقال منه الى حالة اخرى اشرف منها ، لأنه لا سعادة في عالم الاجسام إلا وفوقها مرتبة اخرى في اللذة والغبطة ، أما اذا انتهى القلب والعقل الى الاستسعاد بالمعارف الالهية والاضواء الصمدية بقي واستقر ، فلم يقدر على الانتقال منه البتة ، لأنه ليس هناك درجة اخرى في السعادة اعلى منها وأكمل ، فلهذا المعنى قال : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

وقد يحلو لمعترض ان يقول : إن القرآن الكريم هنا يقول : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ، وفي مكان آخر يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ، والاطمئنان ضد الوجل. والجواب عن ذلك أن المؤمنين إذا ذكروا العقاب ، وعدم العصمة من المعصية ، وجلوا وخافوا ، وإذا ذكروا الثواب والرحمة اطمأنت قلوبهم ، فالوجل عند ذكر العقاب ، والاطمئنان عند ذكر الثواب.

ويمكن ان يقال إن علمهم بكون القرآن معجزا يجعلهم يطمئنون الى صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن خوفهم من عجزهم عن الاستقامة الكاملة على

٨٢

الصراط المستقيم يوجد الخوف في قلوبهم.

وقد تكون الطمأنينة عن «طريق التطلع» الى تحقيق اليقين وتأكد الايمان بالمشاهدة والعيان ، كما في قول الله جل جلاله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. قالَ : أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ : بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). وهذا تطلع لا بأس به الى الطمأنينة التي تحقق اليقين وتثبته ، ولنلاحظ أن إبراهيم عليه الصلاة والسّلام يسأل عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول ، فقوله : كيف تحيي الموتى؟ ليس نفيا للاحياء ، ولكن السؤال استفهام عن هيئة الاحياء ، مع التصديق بتحقق الاحياء ووقوعه ، فإبراهيم قد سأل أن يشاهد كيفية جمع اجزاء الموتى بعد تفريقها ، وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها ، فهو قد أراد ان يحصل عنده الفرق بين المعلوم سماعا والمعلوم عيانا.

ولم يكن إبراهيم عليه الصلاة والسّلام شاكّا في إحياء الله الموتى قط ، وإنما طلب المعاينة ، لأن النفوس تتطلع إلى مشاهدة العجيب من الأحوال مع تصديقها له ، ولهذا جاء في الحديث : «ليس الخبر كالمعاينة». والحديث الذي يقول : «نحن أحق بالشك من إبراهيم ، إذ قال رب ارني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي». معناه أن إبراهيم لو كان شاكا لكنا نحن أحق بالشك منه ، ونحن لا نشك فإبراهيم أحرى ألا يشك ، فالمراد من الحديث تأكيد نفي الشك عن ابراهيم.

وفي هذا يقول تفسير المنار : «فهم بعض الناس من هذا السؤال أن إبراهيم عليه الصلاة والسّلام كان قلقا مضطربا في اعتقاده بالبعث ، وهذا شك فيه ، وما أبلد أذهانهم وأبعد افهامهم عن إصابة المرمى ، وقد ورد في حديث الصحيحين : «نحن اولى بالشك من إبراهيم» اي إننا نقطع بعدم شكه كما نقطع بعدم شكنا او اشد قطعا.

نعم ليس في الكلام ما يشعر بالشك ، فإنه ما من احد إلا وهو يؤمن بأمور

٨٣

كثيرة إيمانا يقينيا وهو لا يعرف كيفيتها ، ويود لو يعرفها ، فهذا التلغراف الذي ينقل الخبر من المشرق إلى المغرب في دقيقة واحدة ، يوقن به كلّ الناس في كل بلد يوجد فيه ، ويقل فيهم العارف بكيفية نقله للخبر بهذه السرعة.

أفيقال فيمن طلب بيان هذه الكيفية إنه شاك بوجود التلغراف؟. طلب المزيد في العلم والرغبة في استكناه الحقائق والتشوق إلى الوقوف على اسرار الخليقة مما فطر الله عليه الانسان ، وأكمل الناس علما وفهما ، أشدّهم للعلم طلبا للوقوف على المجهولات تشوفا ، ولن يصل احد من الخلق الى الاحاطة بكل شيء علما وقتل كل موجود فقها وفهما.

وقد كان طلب الخليل عليه الصلاة والسّلام رؤية كيفية إحياء الموتى بعينيه من هذا القبيل ، فهو طلب للطمأنينة فيما تنزع اليه نفسه القدسية من معرفة خفايا اسرار الربوبية ، لا طلب للطمأنينة في اصل عقد الايمان بالبعث الذي عرفه بالوحي والبرهان دون المشاهدة والعيان».

وقد زكى القرآن المجيد مكانة النفس المطمئنة ، وبشّرها بحميد مآلها وجمال عاقبتها فقال : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي). و «النفس المطمئنة» هنا هي التي لا تأمر بالسوء وهي النفس المؤمنة الموقنة ، المخلصة الساكنة ، التي ايقنت أن الله ربها فاخبتت لذلك ، ورضيت بقضاء الله تعالى ، وعلمت ان ما اخطأها لم يكن ليصيبها ، وما اصابها لم يكن ليخطئها ، والتي عملت على يقين بما وعد الله في كتابه ، وهي واثقة بالبعث وبما لها عند الله من ثواب.

وقد ذكر المفسرون نماذج للذين اطمأنت نفوسهم من أهل السلف الصالح ، فذكروا حمزة ، وابا بكر ، وابن عباس ، وعثمان بن عفان ، وخبيب بن عدي ، رضوان الله على الجميع ، وقد كان من دعاء السلف :

٨٤

«اللهم هب لي نفسا مطمئنة إليك».

وقد تحدث القرآن عن نوع سيء من الطمأنينة ، لأنها طمأنينة كاذبة تقوم على الاغترار والانخداع ، فقال في سورة الحج : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ). فليست الطمأنينة هنا هي تلك الطمأنينة الراسخة الثابتة المستقرة ، وإنما هي صورة طمأنينة موقوتة مضطربة قلقة.

ويقرب من هذا الوادي قول الله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ).

وقال الله تعالى في سورة يونس : «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا (١) وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ ، أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ». أي إن الذين لا يؤمنون بالبعث ، ولا يطمعون في ثوابنا ، واكتفوا بملذات الحياة وشهواتها ، وركنوا إلى الدنيا ، واغتروا بها ، وغفلوا عن آيات الله وأهملوها ، سيكون مصيرهم النار بما كفروا وفجروا. وقد علق الامام الرازي على هذه الآية بقوله : «صفة السعداء أن يحصل لهم عند ذكر الله نوع من الوجل والخوف ، كما قال تعالى : (إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ثم إذا قويت هذه الحالة حصلت الطمأنينة في ذكر الله تعالى ، كما قال تعالى : (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

وصفة الأشقياء ان تحصل لهم الطمأنينة في حب الدنيا ، وفي الاشتغال بطلب لذاتها ، كما قال في هذه الآية : (وَاطْمَأَنُّوا بِها) فحقيقة الطمأنينة عند

__________________

(١) (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) : لا يؤمنون بالبعث.

٨٥

هؤلاء أن يزول عن قلوبهم الوجل ، فإذا سمعوا الانذار والتخويف لم توجل قلوبهم ، وصارت كالميتة عند ذكر الله تعالى».

والانسان في اشد الحاجة إلى خلق الطمأنينة ، ليجعله يندفع في شعاب الحياة ومسالكها ، يمشي على نور الايمان ، ويعمل بثقة اليقين ، ويواجه المتاعب بالصدر الرحب ، ويلقى المسرات بالاتزان والاعتدال ، وبذلك يسعد في حياته ، وينعم برضوان الله جل جلاله عليه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

٨٦

الحياء

الحياء والاستحياء بمعنى واحد ، والحياء ـ كما في القاموس ـ الحشمة ، يقال : حيي منه حياء ، واستحيا منه ، واستحى منه ، واستحياه ، وو هو حييّ ـ بوزن غني ـ اي ذو حياء ، والحياء تغيّر وانكسار يعتري الانسان من خوف ما يعاب به ويذم ، واشتقاقه من الحياة ، ويقال : حيي الرجل ـ على وزن نسي ـ وكأن صاحب الحياء قد صار منكسر القوة منغص الحياة لما يعتريه حينئذ من الانكسار والتغير ، كما يقال : هلك فلان حياء من كذا ، ومات حياء وذاب حياء ، ورأيت الهلاك في وجهه من شدة الحياء ، وهكذا. ويقال : تحيى فلان من فلان انقبض وانزوى ، لأن من شأن صاحب الحياء أن ينقبض.

وقد وردت في تعريف الحياء عبارات كثيرة ، ولكنها متقاربة المعاني ، فقيل : الحياء انقباض النفس عن القبيح وتركه لذلك. وقيل : الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح. وقيل : الحياء انفعال النفس وتألمها من النقص والقبيح بغريزة حب الكمال. وقيل : الحياء انكسار وتغير في النفس يلم بها إذا نسب اليها او عرض لها فعل تعتقد قبحه ، فالرجل يستحيي ان يفعل كذا ، اي تنكسر نفسه فتنقبض عن فعله ويقال : استحيا من عمل كذا اي انفعلت نفسه وتألمت حين عرض عليه ان يفعله ، فرآه شينا ونقصا.

وضد الحياء الوقاحة ، وقد يقابل الحياء بالبذاء ، ومن ذلك الحديث القائل :

٨٧

«الحياء من الايمان ، والايمان في الجنة ، والبذاء من الجفاء ، والجفاء في النار». والبذاء هو المفاحشة ، ولذلك يقابل الحياء ايضا بالفحش ، كما في الحديث القائل : «ما كان الفحش في شيء إلا شانه ، وما كان الحياء في شيء إلا زانه». وقالت السيدة عائشة : «لو كان الحياء رجلا لكان رجلا صالحا ، ولو كان الفحش رجلا لكان رجلا سوءا».

والحياء خلق من مكارم الأخلاق ، يدل على طهارة النفس ، وحياة الضمير ، ويقظة الوازع الديني ، ومراقبة الله عزوجل. وقد يختلط الحياء عند كثير من الناس بالجبن ، مع أن هناك فرقا واسعا بينهما ، فالحياء تورع عن عمل او قول لا يليق بالكريم ، وأما الجبن فتقاعس عن واجب يلزم ان ينهض الانسان اليه ويقوم به ، والحياء ليس ضعفا او نقصا ، والمعيب في هذا المجال هو الاسراف في صفة الحياء حتى يضعف صاحبها عن الاقدام على الشيء الحسن النافع خوفا من الذم.

* * *

والحياء خلق من أخلاق القرآن ، فقد ذكر الله تبارك وتعالى مادة «الحياء» في ثلاثة مواطن ، فقال في سورة البقرة : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها). وقال في سورة الأحزاب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ (١) ، وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا ، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ ، وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ). وقال في سورة القصص : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ

__________________

(١) غير ناظرين اناه : اي غير منتظرين نضجه واستواءه. وفانتشروا : فانصرفوا ولا تطيلوا المكث بعد الطعام.

٨٨

ما سَقَيْتَ لَنا).

وقد تعرض المفسرون لمعنى الحياء او الاستحياء في هذه الآيات ، فقالوا في معنى الآية الأولى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) اي لا يدع ولا يترك ولا يمتنع ، لأن الانسان اذا استحيا من شيء تركه وامتنع عنه ، وقيل : إن المعنى هو ان الشيء الذي يستحيى منه يكون قبيحا في نفسه ، ويكون لفاعله عيب في فعله ، فأخبر الله تعالى بأن ضرب الأمثال ليس بقبيح ولا بعيب حتى يستحيى منه.

وقالوا في الآية الثانية : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) إن المعنى هو انها جاءت نحوه وقد سترت وجهها بثوبها ، أو بيدها ، او جاءت ماشية على بعد مائلة عن الرجال ، او جاءته وهي على إجلال له وإكبار.

وقالوا في الآية الثالثة : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) ان هذه الآية قد نزلت في شأن قوم كانوا يتحيّنون وقت اطعام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيدخلون بيته ، ويقعدون منتظرين إدراك الطعام ، ثم يأخذ بعضهم يحدّث بعضا مطيلين الجلوس والحديث ، وكان هذا يؤذي النبي عليه الصلاة والسّلام ، لتضييق الدار عليه وعلى أهله ، ولصرفه عن شؤونه ، وكان النبي يستحيي من دعوتهم الى الخروج ، ولكن الله تعالى لا يترك التنبيه على ذلك لأنه حق.

ومن هذا الاستعراض السريع لآيات الحياء في القرآن الكريم نفهم ان الحياء جاء مرة منسوبا الى الله عزوجل ، ومرة منسوبا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومرة منسوبا الى احدى الفتيات الطاهرات العفيفات.

والى جوار الآيات التي ذكرت مادة «حياء» صراحة ، جاءت آيات ترمز لى الحياء وتشير نحوه ، وهي الآيات التي تذكّر الانسان باطّلاع الله على كل احواله واموره ، فإن استحضار ذلك في نفس المؤمن يجعلها متجملة بالحياء والحشمة ، كقوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). وقوله (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى). وقوله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ

٨٩

الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ). وقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) وقوله : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ (١) ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ ، إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

وخلق الحياء وثيق الصلة بيقظة الضمير ، ويقظة الضمير وثيقة الصلة بحياة القلب وصفائه ، ولذلك يرى ابن القيم أن الحياء من الحياة ، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه خلق الحياء ، وان قلة الحياء من موت القلب والروح ، فكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتم.

* * *

ولقد عني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلق الحياء ، وأكد التنويه به والرفع من مكانته ، فجعل الحياء وثيق الارتباط بالايمان ، فقال : «الحياء شعبة من الايمان» ، وقال : «ان الحياء والايمان في قرن ، فإذا سلب احدهما تبعه الآخر». ورأى النبي عليه الصلاة والسّلام رجلا يعاتب آخر بشأن الحياء فقال له : «دعه فإن الحياء من الايمان». وكأن الرسول عليه صلوات الله وسلامه قد جعل الحياء من الايمان لأن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي ، فصار كالايمان الذي يحول بين الانسان وهذه المعاصي ، ولعل هذا هو الذي جعل الرسول عليه صلوات الله وسلامه يقول : «استحيوا من الله حق الحياء» وحينما قال الصحابة : إنا نستحيي من الله يا رسول الله والحمد لله

__________________

(١) تفيضون فيه : تشرعون فيه وتتوسعون. وما يعزب : ما يغيب.

٩٠

أجابهم قائلا : «ليس ذاك ، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء ان تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وتذكر الموت والبلى ، ومن اراد الآخرة ترك زينة الدنيا ، وآثر الآخرة على الأولى».

وإذا تحقق الحياء عند الانسان بالصورة التي رسمها هذا الحديث الشريف فإن الحياء يصد صاحبه عن كل قبيح ، ويصله بكل جميل ، وبهذا يتحقق قول الرسول : «الحياء لا يأتي إلا بخير». وبهذا ايضا نفهم بوضوح : لماذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل دين خلقا ، وخلق الاسلام الحياء». ولو تدبر العاقل امر الحياء لأدرك في يسر ان الحياء لو لم يكن خلقا قرآنيا اسلاميا. يأمر به الله تبارك وتعالى ويدعو اليه رسوله عليه الصلاة والسّلام ، لكان أمرا من أمور الفطرة الانسانية الصافية ، وطبيعة من طبائع البشرية الطاهرة.

والحياء من ناحية متعلّقه يكون على ثلاثة أوجه ، حياء من الله ، وحياء من الناس وحياء المرء من نفسه ، ولا بد من هذه الأوجه الثلاثة لكي يكمل الحياء ، ويتحقق على وجهه التام ، لأن من استحيا من الله تعالى ولم يستحي من الناس فقد استهان بالناس ، ومن استحيا من الناس ولم يستحي من الله فقد استهان بالله جل جلاله ، ومن استحيا من الناس ولم يستحي من نفسه ، هانت عليه نفسه ، ومن هانت عليه ، لم يكن أهلا لمكارم الأخلاق.

ومظاهر الحياء كثيرة ، وأنواعه عديدة ، فهناك الحياء من الذنب ، وهو الشعور الذي يعتري نفس المذنب ، فيخجل من ذنبه ويستحيي ، والحياء من التقصير ، وهو أن يفعل الإنسان خيرا ، ولكنه يراه دون ما ينبغي فيستحيي ، وحياء الإكبار ، وهو استحياء الصغير من الكبير الجليل ، وحياء الاحتشام ، وهو خجل الإنسان من التبسط في الكلام مع من يهابه ، وحياء الكرم ، وهو استحياء الرجل الكريم إذا أعطى وأحس بأن ما أعطاه دون ما ينبغي ،

٩١

وحياء المحبة ، وهو استحياء المحب من محبوبه ، على حد قول القائل :

أهابك إجلالا ، وما بك قدرة

عليّ ، ولكن ملء عين حبيبها

وهناك الحياء البليغ الرائع ، وهو استحياء الإنسان من نفسه ، ومن اكتفائها بما تستطيع أن تبلغ أعلى منه ، وهذا أشرف أنواع الحياء ، لأن المرء إذا استحيا من نفسه فهو من غيره يكون أشدّ استحياء ، وقد توسع ابن القيم في الحديث عن أنواع الحياء.

ومما جاء في السنة المطهرة قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا لم تستح فاصنع ما شئت». ولذلك الحديث تفسيران : الأول منهما أن ذلك أمر تهديد ووعيد ، أي إذا لم تستح من العيب ، ولم تخش العار مما تفعله ، فافعل كلّ ما تحدثك به نفسك من أهوائها وأغراضها ، حسنا كان أم قبيحا. ويكون التقدير : من لم يستح صنع ما شاء ، وهذا توبيخ وتبكيت ، وإن كان لفظه وظاهره الأمر ، وفيه تنبيه على أن الذي يصد الإنسان عن إتيان السيئات هو الحياء ، فإذا تجرد عن الحياء صار كأنه مأمور بارتكاب كلّ ضلالة ، واقتراف كل سيئة ، وهذا التفسير هو التفسير المشهور الظاهر.

والتفسير الآخر للحديث هو أن ذلك أمر إباحة. أي إذا كنت في فعلك آمنا أن تستحي منه ، لأنه لا عيب فيه ولا سوء ، ولأنك تلتزم الصواب في فعلك ، فاصنع ما شئت ، فأنت آمن من العقاب والعتاب ، ويكون التقدير : انظر إلى الفعل الذي تريد أن تفعله فإن كان طيبا لا يستحى منه فلا عليك أن تفعله.

* * *

وبعض أهل السوء يتوقحون ويتبجحون فيقولون نحن لا يهمنا الناس ، ويرتكبون من الأخطاء ما يرتكبون دون أن يستحوا ، وكأنهم قد خلعوا برقع الحياء عن وجوههم ، وقد يتعللون فيقولون إن الخجل من الناس لون من

٩٢

الرياء أو التصنع ، وعلى هذا الأساس لا يقيمون للناس وزنا ، فيأتون من السيئات ما يريدون بلا وازع ولا رادع ، مع أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله تعالى».

ولقد هدد الرسول الكريم كل من يتنكر لخلق الحياء فقال : «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له». وقال : «إن الله إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء لم تلفه إلا مقيتا ممقّتا (١) ، فإذا لم تلفه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة ، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلفه إلا خائنا مخوّنا نزعت منه الرحمة ، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلفه إلا رجيما ملعّنا نزعت منه ربقة الإسلام». والربقة في الأصل العروة ، ويراد بها هنا أحكام الإسلام وأوامره.

وقد ورد وصف الله جل جلاله بالحياء ، فجاء في السنة : «إن الله تعالى حيي ستّير ، يحب الحياء والستر ، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر». وجاء فيها : «إن الله تعالى حيي كريم ، يستحي إذا رفع الرجل يديه أن يردّهما صفرا» أي خاليتين ، وجاء فيها : «إن الله تعالى يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه». ولكن الحياء في حق الله تعالى لا يجوز بالمعنى البشري ، وهو انقباض النفس ، لأن ذلك تغيّر يلحق البدن ، وذلك لا يعقل إلا في الجسم ، وهذا مستحيل في حق الله تعالى ، إذ هو منزّه عن الاتصاف به ، فإذا جاء وصف الله تعالى بالحياء يكون معناه ترك الفعل القبيح. ويقول ابن القيم : «وأما حياء الرب تعالى من عبده فذلك نوع آخر ، لا تدركه الأفهام ، ولا تكيّفه العقول ، فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال».

ولقد كان رسول الله عليه الصلاة والسّلام مثلا أعلى في الحياء ، حتى قيل في وصفه إنه كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها ، وذلك في غير حقوق الله

__________________

(١) مقيتا ممقتا : اي بغيضا مكروها كرها شديدا.

٩٣

وتبعات الدعوة ومواطن الحق.

* * *

وللصوفية مذهبهم في الحياء ، فهم يرون ـ كما يذكر الإمام الهروي ـ أن الحياء من أول مدارج الخصوص ، وهو على ثلاث درجات ، فالدرجة الأولى هي الحياء الذي يتولد من علم العبد بأن الله ناظر إليه ، فيدعوه ذلك إلى الدأب في الطاعة والنفور من المعصية ؛ والدرجة الثانية الحياء الذي يتولد في العبد عند شعور قلبه بأن الله تعالى معه ، وأنه مع الله ، وأن الله قريب منه بالإجابة والإثابة ، والدرجة الثالثة هي الحياء الناشيء من انخلاع قلب العابد من التعلق بالكائنات ، وعكوفه على ربّ البريات بحيث لا يرى المرء مع الله غيره ، ولا يخطر بباله في تلك الحالة سواه.

والصوفية في حديثهم عن الحياء يركّزون جلّ عنايتهم في الحياء من الله تبارك وتعالى ، وها هو ذا الجنيد شيخهم يقول : «الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير ، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء ، وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح ، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق». ويقول ذو النون : «الحياء وجود الهيبة في القلب ، مع وحشة ما سبق منك إلى ربّك» ويقول السري : «إن الحياء والأنس يطرقان القلب فإن وجدا فيه الزهد والورع أقاما فيه وإلا رحلا»

ويرى الصوفية أن القلب إذا حرم الحياء أصبح لا خير فيه ، ولذلك يقول أحدهم : «أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيى منه ، وعمارة القلب بالهيبة والحياء ، فإذا ذهب من القلب لم يبق فيه خير» ، ويجعل الفضيل قلة الحياء أحد خمسة أسباب للشقوة فيقول : «خمس من علامات الشقوة : القسوة في القلب ، وجمود العين ، وقلة الحياء ، والرغبة في الدنيا ، وطول الأمل». وهذا أحد الأئمة يقول :

هب البعث لم تأتنا رسله

وجاحمة النار لم تضرم

أليس من الواجب المستحقّ

حياء العباد من المنعم؟

٩٤

بقيت بعد ذلك عبارة مثيرة يقول فيها يحيى بن معاذ : «من استحيى من الله مطيعا استحيى الله منه وهو مذنب». ولنترك ابن قيم الجوزية يشرح هذه العبارة ويفسرها بقوله : «من غلب عليه خلق الحياء من الله تعالى حتى في حال طاعته ، فقلبه مطرق بين يديه إطراق مستح خجل ، فإنه إذا واقع ذنبا استحيى الله عزوجل من نظره إليه في تلك الحالة لكرامته عليه ، فيستحيي أن يرى من وليه ومن يكرم عليه ما يشينه عنده ، وفي المشاهد شاهد بذلك ، فإن الرجل إذا اطلع على أخصّ الناس به ، وأحبّهم إليه ، وأقربهم إليه ـ من صاحب أو ولد أو من يحبه ـ وهو يخونه ، فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع عليه حياء عجيب ، حتى كأنه هو الجاني ، وهذا غاية الكرم».

نسأل الله جلت قدرته أن يجمّلنا بخلق الحياء منه ، إنه اكرم مسؤول وأفضل مأمول.

٩٥

الثبات

تقول اللغة إن الثبات هو دوام الشيء ، وهو ضد الزوال ، والرجل الثبيت هو الفارس الشجاع ، والثابت العقل ، والعالم الثبت هو الثقة في العلم ، واستثبت تأنّى ، فمادة «الثبات» تدل على الاستقرار والرسوخ ، وعلى ضد التزلزل والاضطراب ، وفيها أيضا معنى القوة ، ولذلك يقال : ثبّته الله أي قواه».

والثبات خلق من أخلاق القرآن الكريم ، نحتاج إليه أشدّ الاحتياج ، لأن طريق العبادة والطاعة طويل ، لا بد له من ثبات واستقرار ، وطريق العمل والسعي الحميد في الحياة طويل لا بد له من ثبات واستقرار ، وطريق الحرية والعزة والكرامة طويل لا بد له من ثبات واستقرار ، وطريق الأبطال وتحقيق الآمال بكريم النضال طويل لا بد له من ثبات واستقرار ، ولذلك نادى الله جل جلاله عباده الأخيار بقوله في سورة آل عمران : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وقد أخبر الله تبارك وتعالى عباده بأن الثبات صفة كريمة من صفات المؤمنين ، تتحقق لهم عن طريق الاهتداء بهدي القرآن المجيد ، وبالاقبال على طاعة الله والاعتصام بحبله وهداه ، فقال في سورة النحل : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) ، وقال في سورة محمد : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ). ومتى منّ الله تعالى على عباده بالتثبيت فقد تحقق لهم الثبات.

٩٦

كما اخبر الحق سبحانه بأنه قد منّ على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنعمة الثبات ، وإنما تحقق الثبات لرسول الله بفضل الله ، وبما آتاه من وحيه ، وبما قصّ عليه وذكر له في قرآنه الكريم من آيات وأنباء وعظات ، ولذلك يقول في سورة الفرقان : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً). ويقول في سورة هود : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) ويقول في سورة الاسراء : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً). فالله تعالى قد أقرّ رسوله على الحق ، وحصنه به ، وعصمه من موافقة الكافرين ، وكان رسول الله يدرك خير الإدراك فضل الله العظيم عليه في هذا التثبيت ، ولذلك كان يدعو فيقول : «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين».

* * *

ومن المواقف المشهودة التي تحتاج الى الثبات ، والى الاعتصام بحبل الله القوي المتين موقف الجهاد ومقاومة الأعداء ، ولذلك جاء في سورة الأنفال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). والثبات في الجهاد قوة معنوية لها قيمتها ، فقد يكون السلاح والعتاد في أيدي المجاهدين ، وفيهم الكثرة والقوة الحسية ، ومع ذلك يظلون في حاجة الى ما هو أهم ، وهو القوة المعنوية المتمثلة في الثبات ، والبصراء بأمور النضال يقررون أن الثبات يكون في كثير من الأحيان السبب القوي والأخير للنصر والفوز ، فالجيوش تتقاتل وتتصارع ، والأكثر منها صبرا ودواما واستمرارا هو الذي يتغلب ويفوز ولعل هذا هو الذي جعل القرآن المجيد يحذّر تحذيرا شديدا من ترك الثبات في القتال ، ويتهدد من يتنكر لهذا الخلق الكريم بالعقاب والعذاب ، فيقول في سورة الأنفال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

٩٧

ونوه خير تنويه بالذين لا يضطربون ، ولا يتزلزلون ، ولا يهابون ، فقال فيهم في سورة آل عمران : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ، فَزادَهُمْ إِيماناً ، وَقالُوا : حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ ، لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ ، وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).

وقد ربط القرآن برباط دقيق بين الثبات الحسي والثبات المعنوي ، حين يتوافر الايمان واليقين لدى اهله ، ولذلك قال للمؤمنين في شأن غزوة بدر :

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً (١) مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ ، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ).

فالقرآن يجمع هنا بين الربط على القلوب ، وهذا هو الثبات المعنوي ، وتثبيت الأقدام ـ وهذا استقرار حسي ـ فالذين آمنوا بربهم لا يستخفّون باسباب الثبات الحسي ، كما لا يستخفون بأسباب الثبات المعنوي ، بل يجعلون شعارهم كما ذكر القرآن في سورة آل عمران :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ (٢) كَثِيرٌ ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا ، وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ، وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا ، وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا ، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

وكما ذكر في سورة البقرة : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً ، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا ، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

__________________

(١) يغشيكم النعاس أمنة منه : يلقي عليكم النوم كالغشاء لتأمنوا وتستريحوا وتقووا.

(٢) ربيون : منسوبون الى الرب لايمانهم وحكمتهم. وقيل : جموع كثيرة.

٩٨

ومن أروع مواقف الثبات في تاريخ الاسلام ، ثبات القلة المؤمنة في اليوم العصيب الشديد : يوم غزوة أحد ، وكأن القدر أجرى على لسان الرسول في أول الغزوة ما يشير الى ضرورة هذا الثبات ، حيث قال للرماة الذين طالبهم بحماية ظهر الجيش من فوق الجبل : «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا قد هزمنا القوم فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل اليكم».

والحق الذي لا شك فيه أنه لم ينقذ المسلمين من حرب الإبادة والإفناء في هذه الغزوة ـ غزوة أحد ـ إلا ثبات الطائفة القليلة من المجاهدين المخلصين .. فحينما أشيع بين المحاربين أن الرسول قد مات ، تخاذل بعض المقاتلين ، ولكن أنس ابن النضر هتف بأعلى صوته يقول : «يا قوم ، إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اللهم إني أعتذر اليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ اليك مما جاء به هؤلاء» .. ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل ، وكان لأنس من المسلمين أشباه ونظائر ثبتوا وقاوموا ، وفي هذا نزل قول الله تعالى في سورة آل عمران :

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ، وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً ، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها ، وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ).

ولقد ضرب رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ المثل الأعلى في ثبات النفس ، وثبات الحس في غزوة أحد .. فقد أصيب في وجهه وشفتيه وأسنانه ، وسال الدم الزكي على وجهه الشريف ، وتعب كثيرا ، حتى صلى الظهر قاعدا بسبب الجراح التي نالته ، وحينما جاء عدو الله «أبيّ بن خلف» يقول : أين محمد؟ لا نجوت إن نجا. قال الصحابة : يا رسول الله ، هل يعطف عليه أحدنا ليقتله؟. فقال : دعوه .. فلما اقترب من الرسول تناول الرسول الحربة من

٩٩

أحد الصحابة ، وبكل ثبات واطمئنان طعنه بها طعنة قتلته.

ومن هنا قال المقداد عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوم أحد : «فو الذي بعثه بالحق ما زلت قدمه شبرا واحدا ، وإنه لفي وجه العدو ، تفيء اليه طائفة من أصحابه مرة ، وتفترق عنه أخرى ، وهو قائم يرمي عن قوسه ، ويرمي بالحجر ، حتى انحازوا عنه».

وبعد غزوة أحد ، وفي اليوم التالي مباشرة ، أمر الرسول بالخروج لتعقّب فلول الأعداء المشركين ، وقال : «لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال بالأمس».

ولقد دعا الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عقب غزوة أحد دعاء فيه الرجاء من الله بأن يحقق في نفوس المؤمنين معاني الثبات والاطمئنان ، تقول السيرة : لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استووا حتى أثني على ربي عزوجل» فصاروا خلفه صفوفا ، فقال :

«اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مضل لمن هديت ، ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا مقرّب لما باعدت ، ولا مبعد لما قاربت ، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك.

اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني اسألك النعيم يوم العيلة (١) ، والأمن يوم الخوف ، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ، وشر ما منعتنا ، اللهم حبب الينا الايمان وزيّنه في قلوبنا ، وكرّه الينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين.

اللهم توفنا مسلمين ، وأحينا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا نادمين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذّبون رسلك ، ويصدون عن سبيلك ،

__________________

(١) العيلة : الفقر ، وفي القرآن : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) أي أزال عنك فقر النفس ، وجعل لك الغنى الأكبر وهو غنى النفس.

١٠٠