موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٢

واجعل عليهم رجزك وعذابك ، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب ، إله الحق».

رواه أحمد والنسائي وابن كثير في سيرته.

* * *

وما دمنا قد عرضنا لأقوال الرسول الكريم في الاطمئنان والثبات ، فلا يليق بنا أن ننسى موقف الرسول الخالد الذي علم به الدنيا كلّها كيف يكون الثبات على الحق ، والاستمساك بالعقيدة ، وذلك يوم قال : «والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتى يظهره الله او أهلك دونه» .. ولا عجب ولا غرابة ، فإن رسول الله عليه صلوات الله وسلامه ، الذي ثبّت الله قلبه ، وقواه وجعله راسخا في ثباته كالجبال ، فقام بأعباء الرسالة ، ونشر الدعوة ، وترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك. ولذلك يقول له رب العزة في سورة هود :

(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ، وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

وكما دعا القرآن الى ثبات القلوب وثبات الأقدام ، وثبات الحس والنفس في ميدان النضال والجهاد ، دعا الى «ثبات الكلمة» وثبات الكلمة هو الاتيان بها على وجهها صادقة واضحة صريحة ، يدعو اليها الحق ، ويوجهها العدل ، ويحث عليها الانصاف ، ولذلك قال سيد الخلق رسول الله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر». ولقد قال القرآن الكريم :

١٠١

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ).

وهكذا لا ينبغي أن يفر الانسان من الكلمة الطيبة ما استطاع اليها سبيلا ، والمؤمن في قوله وحكمه ورأيه لا يخادع ولا ينافق ، ولا يتذبذب أو يتلون ، ولا يفر من أداء واجبه ، لأنه أمانة لا تجوز خيانتها ، ولا يفر من إسهامه بعلمه او جسمه او ماله فيما يندبه اليه دينه ، ولا يفر من موطن البأس اذا كتبه الله عليه او عرّضه له.

ولقد حذر القرآن من التنكر لخلق الثبات والدوام على الحق ، فقال في سورة المائدة :

(وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ). وقال في سورة محمد : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) .. وقال في سورة الحج : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ (١) فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ). وقال في سورة التوبة : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ (٢) فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ). وقال في سورة النساء : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا : أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ، وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا : أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ، إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ، وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى ، يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً ، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً).

إنها صور مجسمة لطوائف تنكروا لخلق الثبات فكانوا من الخاسرين ،

__________________

(١) على حرف : على غير ثبات أو دوام.

(٢) يلمزك : يعيبك ويطعن عليك.

١٠٢

ولم ينتفعوا بهدي القرآن حين ذكّر الناس بأن الفرار رذيلة منكرة ، ومع ذلك لا تجدي ولا تنفع ، كما قال الله تعالى في سورة الأحزاب : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً).

وكما قال في سورة الجمعة : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ).

والصوفية على طريقتهم في فلسفة الأخلاق ـ يصورون الثبات تصويرا خاصا له صلته بعلاقة الانسان المتعبد بربه المعبود جل جلاله ، فيقول مثلا محمد ابن الفضل البلخي : «أصل الثبات على الحق دوام الفقر الى الله تعالى».

ولعل هذا يذكر بقول ابن عطاء الله السكندري :

«افضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات».

وقد عرف رجال هذه الأمة ما للثبات في مواقف الهول من مكانة ومنزلة ، وهذا شاعر يصف مجاهدا شهيدا فيقول فيه :

وقد كان فوت الموت سهلا فردّه

اليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر

ونفس تعاف الضيم حتى كأنه

هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر

فأثبت في مستنقع الموت رجله

وقال لها : من تحت أخمصك الحشر

تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى

لها الليل إلا وهي من سندس خضر

وهذا شجاع ثابت آخر يقول عن ثباته :

فإن تكن الأيام فينا تبدلت

بنعمى وبؤسى والحوادث تفعل

فما ليّنت منا قناة صليبة

ولا ذللتنا للذي ليس يجمل

ولكن صحبناها نفوسا أبيّة

تحمّل ما لا يستطاع فتحمل

إن افضل زينة للمجاهد المؤمن هو أن يتحلى على الدوام بخلق الثبات.

١٠٣

السكينة

السكينة من مادة «السكون» ، وهو ثبوت الشيء بعد تحرك ، وسكن فلان الأرض : استوطنها ، والسكن ما يسكن اليه الانسان ، ومادة «سكن» تدل في اصلها على خلاف الحركة والاضطراب ، وفي «معجم مقاييس اللغة» أن السكينة هي الوقار ، وفي السكينة معنى الرضى والأمان والثقة واليقين والتأني في التفكير والكلام والحكم والحركة والتصرف ، ويقال للعقل إنه السكينة لأنه يجعل النفس ساكنة عن شهواتها ، وقيل ايضا إن السكينة هي زوال القلق والرعب.

وقد ذكر الرازي في تفسيره للسكينة معاني ثلاثة ، أولها السكون ، وثانيها الوقار لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والثالث اليقين وثبات القلب.

والسكينة خلق من أخلاق القرآن الكريم لأن الله تبارك وتعالى قد ذكر «السكينة» ستّ مرات ، مرة منها في سورة البقرة ، واثنتان منها في سورة التوبة ، وثلاث منها في سورة الفتح.

والسكينة خلق يثمر تثبيت القلب وتسكينه ، وإيداعه الجرأة مع الرزانة ، والتكلم بوقار المحققين وإيمان الصادقين ، ودقة العلماء ، وهدوء الحكماء ، ولعل هذا هو معنى ما ينسب الى عمر الفاروق رضي الله عنه من أنه كان يتكلم بما يدل على توافر الحكمة والسكينة في قلبه ، فقد روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال :

«إن السكينة لتنطق على لسان عمر».

وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال :

١٠٤

«كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقلبه».

وروي أن عبد الله بن مسعود قال :

«ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر» ، وفي رواية أنه قال : «كنا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا نشك أن السكينة تتكلم على لسان عمر». وأغلب الظن أن مرادهم بالسكينة هنا هو أثرها وثمرتها ، وهو الحكمة ، وان كان هناك من فسرها بالوقار والسكون والرحمة.

والسكينة كذلك هدوء في القلب ينزله الله تعالى على عبده عند اضطراب القلب من المخاوف او الأهوال ، فلا يزلزله الانزعاج ، بل يثبته الله ويوطده ، ويزيد في إيمانه ويقينه ، ولذلك نجد القرآن الكريم يخبرنا بأن الله تعالى جمّل رسوله صلوات الله وسلامه عليه بحلية السكينة في مواطن الهول والقلق ، كيوم «غار ثور» في الهجرة ، ويوم أحد حين فرّ من فر ، ويوم حنين إذ اشتد البأس على المؤمنين ، ويوم الأحزاب حينما بغى الكفران محاولا البطش بالايمان ، ويوم الحديبية حينما حاول الكفار أن يتحكموا في المسلمين ... الخ

ولعل أسمى درجة للسكينة هي تلك السكينة التي كانت تثبّت قلب النبي حين نزول الوحي عليه ، ويا له من موقف جليل رهيب.

* *

والسكينة التي تحدث عنها القرآن الكريم بشأن رسوله والمؤمنين هي ما يعمر الله به قلوبهم من القوة والروح والنور ، وبذلك يذهب الخوف ، ويبعد الحزن ، ويزول القلق ، والله جل جلاله يقول في سورة التوبة :

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ). ولا يشترط هنا أن يكون الإنزال إنزالا مكانيا من اعلى الى ادنى ، بل قد يكون معناه : خلق وأوجد ، على حد قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ).

١٠٥

فالمراد بالسكينة هنا هو الحالة النفسية الحاصلة بفضل الله وتوفيقه : من السكون ، والاستقرار ، وزوال الاضطراب والانزعاج ، والسكينة كما عرفنا وقار ورزانة وهيبة ، فالآية تشير إلى ان الله تباركت آلاؤه قد افرغ من سماء عزته وقدرته سكينته اللدنية على الرسول والمؤمنين ، فكانوا كالجبال الرواسي.

ويقول القرآن في سورة التوبة :

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ ، إِذْ هُما فِي الْغارِ ، إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا ، فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى ، وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

وكذلك تحدث القرآن عن السكينة في سورة الفتح ثلاث مرات فقال :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً). وقال : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ، وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً). وقال : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) (١) (، فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى ، وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها ، وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).

ومن هذه الآيات القرآنية التي تحدثت عن السكينة واهلها نفهم أن لها ثمرات ولأهليها ميزات وخيرات ، فالسكينة هي قرينة النصر للمؤمنين ، ولذلك نصر الله عباده الأولين بهذه السكينة ، وعذب أعداءهم الكافرين ، وهي طريق التأييد الإلهي لعبده المعتصم به بجنود كثيرة مستورة ، وهي مفتاح الازدياد في الايمان ، وهي سبب لرضى الله تعالى ، وعنوان على طهارة قلوب المزدانين بها ، وأهلها جدراء بالثواب والفتح والمغنم ، وهم أهل التقوى القائمون بتبعاتها ، والله

__________________

(١) حمية الجاهلية : ما يصحب الجاهلية من كبرياء وأنفة.

١٠٦

لا يضيع أجر من أحسن عملا.

ولا عجب في ذلك فإن فضيلة السكينة تولد في صدر الانسان ، وتنمو بذكر الله جل جلاله ، وهو أشرف الأعمال ، وذكر الله هو الذي يقوي الايمان ، ويوطد اليقين ، ومن اعتمد على الله وقاه وكفاه ، فازداد سكينة على سكينته.

ولقد امتن الله تبارك وتعالى على رسوله بفضيلة السكينة بين صفاته ، فجاء في الكتب القديمة من وصف الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني باعث نبيا أميا ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخّاب في الأسواق ، ولا متزين بالفحش ولا قوال للخنا ، أسدده بكل جميل ، وأهب له كلّ خلق كريم ، ثم أجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره ، والتقوى ضميره ، والحكمة معقوله ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والمعروف خلقه ، والعدل سيرته ، والحق شريعته ، والهدى إمامه ، والاسلام ملته ، وأحمد اسمه».

وقد كان صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرفون الرابطة بين السكينة والتوفيق في الجهاد ، لأن السكينة يتبعها الإقدام والثبات ، ولذلك نرى عبد الله ابن رواحة أحد شعراء الرسول يصوغ للمسلمين يوم الخندق نشيدا يرددونه ، ويرجو فيه ربّه أن يجملهم بفضيلة السكينة فيقول :

لا همّ لو لا انت ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبّت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

ولقد قال عبد الله بن مسعود : «السكينة مغنم ، وتركها مغرم».

* *

وبقيت الآية السادسة التي ذكرت فيها السكينة ، وهي تستحق أن نفردها بجانب من هذا البحث ، وهي التي يقول الله تعالى فيها في سورة البقرة :

١٠٧

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ).

ومعنى السكينة المتبادر للذهن هنا هو أن الله تعالى جعل التابوت الذي أرسله اليهم سبب سكون واطمئنان لقلوبهم ، وقد قال ابن عطية : الصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم ، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى. فالسكينة هنا يراد بها أيضا معنى الطمأنينة والسكون.

ولكنه قد وردت أقوال كثيرة مختلفة متعارضة في تفسير «السكينة» في هذه الآية ، فقيل إنها خلق رقيق كالريح والهواء ، وقيل إنها ريح خجوج (أي شديدة المرور في غير استواء) ، وقيل إن السكينة هنا حيوان له وجه كوجه الانسان ، وقيل هي صورة كالهرة كانت معهم في جيوشهم ، فإذا ظهرت انتصروا ، وقيل إنها شيء رأسه كرأس الهر ، وقيل إنها صورة هرة لها جناحان ، وعينان لهما شعاع وجناحان من زمرد وزبرجد ، فإذا سمعوا صوتها أيقنوا بالنصر ، وقيل هي طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيها قلوب الأنبياء ، وقيل هي روح من روح الله تتكلم ، اذا اختلفوا في شيء أخبرتهم ببيان ما يريدون ، وقيل إنها ريح هفافة لها رأسان ووجه كوجه الانسان ، وقيل إنها ملك يسكن قلب المؤمن ويطمئنه ... الخ.

وقد جاء في «تفسير المنار» أن أكثر الأقوال في «السكينة» هنا لا يدل عليه نقل ، ولا يقبله عقل ، كما أن الأصفهاني حكم على بعض هذه الأقوال بأنه قول لا يصح. ولعل من خير الأقوال في السكينة هنا قول عطاء :

«إن السكينة هنا هي الشيء الذي تسكن اليه النفوس من الآيات».

وكذلك قال أبو بكر الأصم : «فيه سكينة من ربكم ، أي تسكنون عند مجيئه لأنهم متى جاء التابوت من عند ربهم وشاهدوه سكنت قلوبهم». وكذلك قال الرازي إن السكينة هنا عبارة عن الأمن والثبات ، وعلى ذلك تدخل كلمة

١٠٨

«السكينة» في آية البقرة ضمن المعنى الذي فهمناه للسكينة في الآيات الأخرى السابقة.

* *

وقد ذكر الامام الهروي أن السكينة ـ في عرف الصوفية ـ هي التي تنطق على لسان المحدّثين ـ بفتح الدال المشددة وإنما هي شيء من لطائف صنع الحق ، تلقي على لسان المحدّث ـ بفتح الدال المشددة ـ الحكمة وتنطق بنكت الحقائق ، مع استرواح الأسرار وكشف الشبهات ، لأن السكينة إذا عمرت القلب اطمأن بها «وخشعت الجوارح ، وجاء الوقار ، ونطق اللسان بالحكمة والصواب دون تكلف او تعمد ، وتجنب الباطل من القول.

والسكينة ـ كما يقول الامام ابن القيم ـ من أعظم مواهب الحق سبحانه ومنحه ، ومن أجل عطاياه ، ولهذا لم يجعلها في القرآن إلا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن أعطيها فقد خلعت عليه خلع الولاية وأعطي منشورها ، وهذا القول له ما يسوغه ، لأن السكينة تورث الانسان خشوعا في الطاعة ، ويقظة في العبادة ، وتعظيما للمعبود جل جلاله ، كما تورثه محاسبة النفس ، ومراقبة الخالق ، وحسن معاملة الخلق ، والرضا بالقضاء ، وتورثه أن يجعل عقله أمام لسانه ، فلا ينطق إلا بميزان ، وتورثه ألا يكون عبدا لشهوته او انفعاله او عاطفته ، بل هو يتلبث ويتريث ولا يتصرف إلا بحكمة ، ولا يتحرك إلا على نور.

وصاحب فضيلة السكينة تتكشف له دلائل الايمان وحقائق اليقين ، ويظهر له الفرق الجليّ بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال ، وبين الغيّ والرشد ، ويزداد ايمانا على ايمانه كما قال الله جل جلاله ، وانما يستحق هذه السكينة أهلوها والصالحون لها ، والمخلصون في الاهتداء الى طريقها ، ولذلك قال القائل الحكيم :

١٠٩

وتلك مواهب الرحمن ليست

تحصّل باجتهاد ، او بكسب

ولكن لا غنى عن بذل جهد

بإخلاص وجد ، لا بلعب

وفضل الله مبذول ، ولكن

بحكمته ، وعن ذا النصّ ينبي

فما من حكمة الرحمن وضع ال

كواكب بين أحجار وترب

فشكرا للذي أعطاك منه

فلو قبل المحلّ لزاد ربّي ..

ويتحدث ابن القيم عن تأثير السكينة في نفس صاحبها ، وأنها تباعده عن الركون إلى الشهوات والسيئات ، فيقول فيما يقول :

«صار سكونه اليها عوض سكونه الى الشهوات والمخالفات ، فإنه قد وجد فيها مطلوبه ، وهو اللذة التي كان يطلبها من المعصية ، ولم يكن له ما يعيضه عنها ، فإذا نزلت عليه السكينة اعتاض بلذتها وروحها ونعيمها عن لذة المعصية ، فاستراحت بها نفسه ، وهاج اليها قلبه ، ووجد فيها من الرّوح والراحة واللذة ما لا نسبة بينه وبين اللذة الجسمانية النفسانية ، فصارت لذته روحانية قلبية ، بعد ان كانت جسمانية ، فانسلب منها ، وحبس عنها ، وخلّصته ، فإذا تألقت بروقها قال :

تألق البرق نجديّا ، فقلت له :

يا ايها البرق ، إني عنك مشغول

وإذا طرقته طيوفها الخيالية في ظلام ليل الشهوات ، نادى لسان حاله ، وتمثل بمثل قوله :

طرقتك صائدة القلوب ، وليس ذا

وقت الزيارة فارجعي بسلام

فإذا ودعته وعزمت على الرحيل ، ووعدته بالموافاة ، تمثل بقول الآخر ، :

قالت وقد عزمت على ترحالها :

ما ذا تريد؟ فقلت : أن لا ترجعي

والسكينة قد تشابه الطمأنينة ، ولكن ابن القيم يفرّق بينهما بأن السكينة في حقيقتها تخلص من خوف ، والطمأنينة تحصّن بقوة ، ولذلك تعد الطمأنينة درجة أعلى من السكينة ، وإن كانت كل فضيلة منهما جليلة نبيلة.

١١٠

هذا وقد روي عن شيخ الاسلام ابن تيمية أنه كان اذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة الستة التي سبقت خلال البحث ، وقد حدث له في مرضه أزمة نفسية عنيفة ، فطلب من الحاضرين حوله أن يقرأوا آيات السكينة ، وأخذ يتدبرها ويتجاوب معها ، فتأثر بها فانجلت عنه تلك الأزمة كأنها لم تكن. وحدّث الامام ابن القيم عن نفسه أيضا انه كان يتلو آيات السكينة عند اضطراب قلبه بما يرد عليه ، فيجد لها تأثيرا عظيما في سكونه واطمئنانه.

ومدار ذلك فيما نفهم على الاخلاص والصدق في التدبر والاعتبار : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).

١١١

الشكر

«إن مادة «الشكر» في اللغة تدل على الكرم والسخاء .. يقال : شكر فلان ـ بوزن علم ـ صار سخيا بعد أن كان شحيحا ، وتدل على الزيادة والنمو ، فيقال : ناقة شكرة ـ بكسر الكاف أي تعتلف أيّ علف كان ، فتزيد ويصبح ضرعها ملآن ، والدابة الشكور هي التي يكفيها قليل العلف ، فتسمن عليه وتصلح.

وقد عرّف الأصفهاني «الشكر» بأنه تصور النعمة وإظهارها ، وضده الكفر ، وهو نسيان النعمة وسترها ، وقيل إن الشكر هو الامتلاء من ذكر المنعم. وقال الجوهري في «تهذيب اللغة» نقلا عن الليث : إن الشكر هو عرفان الاحسان ونشره وحمد موليه ، وتوسع البعض في تصوير الشكر فوصفه بأنه مقابلة النعمة بالفعل والقول والنية ، فيثني على المنعم بلسانه ، ويذيب نفسه في طاعته ، ويعتقد أنه موليها. والشكور من عباد الله تعالى هو الذي يجتهد في شكر ربه ، بطاعته وأداء ما وجب عليه من عبادته. وقال العلماء إن الشكر مثل الحمد ، إلا أن الحمد أعم منه ، فأنت تحمد الانسان على صفاته الجميلة وعلى معروفه ، ولا تشكره إلا على معروفه دون صفاته. والشكر يتضمن الرضى وزيادة ، لأن الشكر الكامل هو ما كان بالقلب واللسان والعمل ، وهذا يندرج تحته معنى الرضى ، ولذلك كانت منزلة الشكر عند الصوفية فوق منزلة الرضى.

١١٢

والشكر ثلاثة أنواع : شكر القلب وهو تصور النعمة ، وشكر اللسان وهو الثناء على المنعم ، وشكر سائر الجوارح ، وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقها ، والقرآن الكريم يدعو الى التحلي بالأنواع الثلاثة ، ولذلك قال :

(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) فهو قد قال : «اعْمَلوا» ولم يقل اشكروا ، لينبه على التزام الأنواع الثلاثة ، ومن هنا ذكر حجة الاسلام الغزالي أن الشكر يتحقق بعلم وحال وعمل ، فالعلم هو معرفة النعمة من المنعم ، والحال هو الفرح الحاصل بإنعامه ، والعمل هو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه ، وهذا العمل يتعلق بالقلب واللسان والجوارح.

ويعبّر ابن القيم عن حقيقة الشكر بأنه ظهور الأثر لنعمة الله تعالى على لسان عبده ثناء واعترافا ، وعلى قلبه شهودا ومحبة ، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة ، ولا بد من خضوع الشاكر للمشكور ، وحبّه له ، واعترافه بنعمته ، وثنائه عليه بها ، وأن لا يستعملها فيما يكره.

* *

وللشكر في نظر الدين منزلة رفيعة ومكانة مجيدة ، حتى ورد عن ابن مسعود أن الشكر نصف الايمان ، وكذلك ورد أن الايمان شطران هما الصبر والشكر ، ولذلك أمر الله به ـ كما قال ابن القيم ـ ونهى عن ضده ، وأثنى على أهله ، ووصف به خواصّ خلقه ، وجعله غاية خلقه وأمره ، ووعد أهله بأحسن جزائه ، وجعله سببا للمزيد من فضله وحارسا وحافظا لنعمته ، وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته ، واشتق لهم اسما من أسمائه ، فإنه سبحانه هو الشكور ، وهو يوصل الشاكر الى مشكوره ، بل يعيد الشاكر مشكورا ، وهو غاية الرب من عبده ، وأهله هم القليل من عباده.

ولقد نوه الحديث النبوي بهذه المكانة للشكر حين قال : «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر» ، وقد قطع الله تعالى بتحقيق المزيد من النعمة مع الشكر ،

١١٣

ولم يستثن في ذلك ، فقال سبحانه : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) ، ولكنه استثنى في خمسة أشياء .. استثنى في الاغناء فقال :

(فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) ، وفي الاجابة قال : (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ). وفي الرزق فقال : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) وفي المغفرة فقال : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ). وفي التوبة فقال : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ).

وقد عني القرآن المجيد بالحديث عن الشكر عناية واضحة ، فذكره في مواطن كثيرة من آياته ، وطلب من عباد الله ان يتحلوا به ويحرصوا عليه ، فقال في سورة البقرة : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ). وقال أيضا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ). وقال في سورة النحل (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ، وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).

وقال في سورة الأعراف : (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ).

وقال في سورة لقمان : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ، وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

وقال أيضا : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ). وقال في سورة الزمر : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ).

ولأن الشكر مطلوب من الله تعالى بهذه الصورة أوصى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معاذ بن جبل فقال له : لا تنس أن تقول في دبر كلّ صلاة : «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».

وإذا كانت الآيات الكريمة السابقة قد طالبت بالشكر عن طريق الأمر الصريح المباشر ، فإن هناك آيات كريمة أخرى طالبت بالشكر عن طريق التوجيه والتحريض والحث ، ولقد وردت عبارة : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أربع عشرة مرة في القرآن الكريم ، وهي في الغالب ترد مسبوقة بذكر نعم الله

١١٤

وآلائه وأفضاله ، ونحن نفهم من لغة العرب أن «لعل» تكون للترجي والتوقع والانتظار ، وتكون للحض على الشيء ، ولذلك قالوا إن «لعل» تكون للترجي في الشيء المحبوب ، والاطماع فيه ، أو ـ كما يعبّر بعضهم ـ للرجاء والطمع ، ومن بين هذه الآيات قوله تعالى في سورة المائدة :

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وقوله في سورة الأنفال : (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). وقوله في سورة النحل : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .. وقوله في سورة الحج : (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، وقوله في سورة القصص : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

وكأن الحقّ ـ جل جلاله ـ يذكر نعمه وآلاءه ، ثم يعقّب على ذلك بالتوجيه الى الشكر ، لكي يشعر المنعم عليهم بأن واجب التقدير للنعمة ، أو الانصاف في المعاملة ، أو العدل في التصرف ، يستلزم شكر النعمة وتقديرها ، حتى يكون ذلك داعيا الى استمرار المزيد منها ، والله تبارك وتعالى هو خير الشاكرين.

وفي مواطن أخرى نجد القرآن الكريم يستعمل بدل كلمة «لعل» كلمة أخرى مثل «لو لا» ، وهي أيضا تأتي للتحضيض ، وبمعنى كلمة «هلّا» ، كما في قوله تعالى : (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ). أو كلمة «ا فلا» كقوله في سورة يس (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ). وقوله أيضا : (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ). أو كلمة «هل» كقوله في سورة الأنبياء : (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ).

وهذه المواطن توحي بروح الحث على خلق الشكر والدعوة اليه ، مع التنبيه على أنه مقتضى الادراك الواعي ، والتقدير البصير للأشياء ، والاحساس بقيمة النعم والآلاء ، ولذلك نجد القرآن الكريم يعلمنا أن الرجل المتحلي بخلق

١١٥

الشكر هو الانسان المتدبر المعتبر الناظر إلى آلاء الله وآياته نظرة فاحصة عميقة مقدرة ، فيذكر قوله سبحانه وتعالى : «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» في سور إبراهيم ، ولقمان ، والشورى ، وذلك بعد أن يورد جانبا من نعم الله التي لا تعد ، وآلائه التي لا تحصى.

وإذا كانت الأشياء تتميز بضدها ، وتبدو قيمتها عند المقارنة بما يناقضها ، فلعل القرآن الكريم حين أمرنا بالشكر ونهانا عن ضده وهو الكفر ، قد أراد أن يهدينا الى الخير الكثير الذي نناله حين نتحلى بخلق الشكر ، وحسبنا من الخير أن يكون عاصما لنا من الهلاك والدمار.

والقرآن قد ذكر لنا في مواطن كثيرة أن الشكر يقابل الكفر ، فإذا لم يشكر الانسان فقد جحد الفضل وكفر النعمة ، وطريق الجحود إلى خسار ، وسبيل الكفر إلى دمار ، ولذلك يقول القرآن الكريم في سورة البقرة : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ). وفي سورة إبراهيم : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). وفي سورة النمل : (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) .. وفي سورة لقمان : (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

وبعض هذه الآيات السابقة قد أشار الى أن الشكر يحقّق لصاحبه جزاء طيبا ، ويصونه من السوء والأذى ، وقد أكد القرآن أن لخلق الشكر جزاءه وثوابه ، فقال في سورة الزمر : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ، وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ، وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ). وقال في سورة القمر : (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ). وبداية ثواب الشكر أنه يصون صاحبه من العذاب ، ولذلك قال القرآن : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ).

ثم ضمن الله تبارك وتعالى ثواب الشاكرين وجزاءهم بالخير ، فقال في سورة آل عمران : (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) ، وقال أيضا : (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) وقال في سورة الاسراء : «وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ

١١٦

فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً». وقال في سورة الانسان : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً). ثم أفهمنا القرآن المجيد أن تقوى الله تعالى هي مفتاح التوفيق للتحلي بالشكر والتمتع بثمراته ، فقال في سورة آل عمران (فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

ولله در حجة الاسلام الامام الغزالي حين يتفنن في إعطائنا صورا كثيرة للشكر ، فيذكر في «الاحياء» ، أن حياء العبد من تتابع نعم الله عليه شكر ومعرفته بتقصيره عن الشكر شكر ، والاعتذار عن قلة الشكر شكر ، والمعرفة بعظيم حلم الله وكنف ستره شكر ، والاعتراف بأن النعم ابتداء من الله تعالى من غير استحقاق شكر ، والعلم بأن الشكر أيضا نعمة من نعم الله وموهبة منه شكر ، وحسن التواضع للنعم والتذلل فيها شكر ، وشكر الوسائط شكر ، وقلة الاعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر ، وتلقي النعم بحسن القبول واستعظام صغيرها شكر ... الخ.

والتزام التحلي بخلق الشكر الحقيقي الكامل أمر صعب المرتفى ، وكثير من الناس لا يكلفون أنفسهم عناء الاستمساك بهذا الخلق القرآني الرفيع ، ولذلك حكم القرآن على كثير من الناس بقلة الشكر ، فقال في سورة الأعراف : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ). وفي سورة يوسف : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ). وفي سورة غافر : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ). وفي سورة الملك : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ). وفي سورة سبأ : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ).

ثم يخبرنا القرآن الكريم بأن الشكر صفة من صفات الله تعالى ، ولذلك قال الغزالي : «الشكر خلق من أخلاق الربوبية» ، وقد ورد وصف الله جل جلاله بصفة الشكر في آيات كثيرة ، ففي سورة البقرة : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ). وفي سورة النساء : (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) وفي فاطر :

١١٧

(إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) وفي الشورى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ). وفي التغابن : (وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ).

ووصف الله بالشكر معناه إنعامه على عباده ، وإثابتهم على ما قاموا به من العبادة .. وفي «تهذيب اللغة» أن الشكور اسم من أسماء الله تعالى ، وأن أبا إسحاق الزجاج فسّر معناه بأنه الذي يزكو عنده القليل من أعمال العباد ، فيضاعف لهم به الجزاء ، وقيل إن شكر الله لعباده هو مغفرته لهم ، والأول أظهر.

والشكر كذلك صفة من صفات خاتم الأنبياء وإمام المرسلين محمد ـ عليه أفضل الصلاة والسّلام ـ وعلى الرغم من ان الله تعالى قد أنزل على نبيه قوله :

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) ، فقد ظل ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ عابدا قانتا ، متهجدا متقربا ، ليضرب المثل الأعلى في خلق الشكر ، ولقد روي عن عطاء أنه قال :

«دخلت على عائشة ـ رضى الله عنها ـ فقلت : أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فبكت وقالت : وأي شأنه لم يكن عجبا؟ أتاني ليلة فدخل معي في فراشي ، حتى مسّ جلده جلدي ، ثم قال : يا ابنة. أبي بكر ذريني أتعبّد لربي. قلت : إني أحب قربك ، لكني أوثر هواك.

فقام إلى قربة ماء ، فتوضأ فلم يكثر صبّ الماء ، ثم قام يصلي ، فبكى حتى سالت دموعه على صدره ، ثم ركع فبكى ، ثم سجد فبكى ، ثم رفع رأسه فبكى ، فلم يزل كذلك يبكي حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة ، فقلت : يا رسول الله ، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟. قال : أفلا أكون عبدا شكورا؟ ولم لا أفعل ذلك وقد أنزل الله تعالى علي : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

١١٨

رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ). كان الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يدعو ربه تعالى فيقول : «رب اجعلني لك ، شكارا لك ، ذكارا لك (١)».

والقرآن يحدثنا كذلك بأن الشكر صفة الأنبياء ، فهو إذن خلق من أخلاق النبوة ، يقول الله تعالى في سورة النحل : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). ويقول في سورة الاسراء : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً). ويقول في سورة النمل عن سليمان : (قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ). وقال عنه أيضا : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ).

وإذا كان أول من يشكر هو الله ـ جل جلاله ـ لأنه صاحب الفضل والنعمة والمنة ، ولا منعم في الحقيقة سواه ، فإن شكر الوالدين يأتي عقب ذلك ، ولعل هذا هو ما يشير اليه قوله تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) ، وهو أيضا المفهوم من قوله عز من قائل : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً). وشكرهما يكون بطاعتهما وتوقيرهما ، والاحسان في الأعمال والأقوال إليهما ، وعدم إيذائهما ولو بأقل لفظ ، وخفض جناح الذل لهما تأدبا ، ورحمتهما وهما كبيران ، والدعاء لهما ، وصلة رحمهما ، وبرّ من يحبان أو يعاونان ... الخ.

ثم يأتي شكران الناس ، لأن القرآن الكريم يقول : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ)؟ ويقول أيضا : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها).

ولقد عنيت السنة النبوية المطهرة بالحث على شكر الناس ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» لأن الذي لا

__________________

(١) شكارا ذكارا : كثير الشكر والذكر لك.

١١٩

يقدّر صنيع الناس الجميل معه ، ولا يشكرهم عليه يكون مقصرا في حق الله عزوجل ، وقد جاء في كتاب «النهاية» أن الله تعالى لا يقبل شكر الانسان على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ، ويكفر معروفهم ، لاتصال أحد الأمرين بالآخر. وقيل : إن معنى الحديث هو ان من كان من طبعه وعادته كفران نعمة الناس وترك الشكر لهم كان من عادته كفر نعمة الله وترك الشكر له. وقيل : معناه أن من لا يشكر الناس كان كمن لا يشكر الله وإن شكره ، كما يقول : لا يحبني من لا يحبك ، أي أن محبتك مقرونة بمحبتي ، فمن أحبني يحبك ، ومن لم يحبك فكأنه لم يحبني. وفي رواية : «من لا يشكر الناس».

وقد أرشد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الى طريق الشكر للناس بقوله : «من أعطي عطاء فوجد فليجز به ، ومن لم يجد فليثن ، فإن من أثنى فقد شكر ، ومن كتم فقد كفر». ويقول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من صنع إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئون به فادعوا له ، حتى تروا أنكم قد كافأتموه».

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : لما قدم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المدينة أتاه المهاجرون فقالوا : يا رسول الله ، ما رأينا قوما أبذل من كثير ، ولا أحسن مواساة من قليل ، من قوم نزلنا بين أظهرهم ـ يعنون الأنصار ـ لقد كفونا المؤونة ، وأشركونا في المهنأ ـ أي محل الهناء والسرور ـ حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا ، ما دعوتم لهم وأثنيتم عليهم».

وكذلك جاء في الحديث : «من صنع إليه معروف فقال لفاعله : جزاك الله خيرا ، فقد أبلغ الثناء». وهذا بالنسبة للعاجز غير القادر على الشكر المادي ، وجملة : «جزاك الله خيرا» فيها ثناء بليغ ، لأن فيها معنى الاعتراف بالعجز عن الشكر ، وقائلها قد دعا الله ورجاه بأن يثيب صاحب المعروف

١٢٠