موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٢

الرضى

الرضى خلاف السخط ، ويراد بالرضى في عرف العلماء والفقهاء تقبل ما يقضي به الله عزوجل من غير تردد ولا معارضة ، وهذه الصفة هي ـ كما يقول ابن القيم ـ باب الله الأعظم ، وجنة الدنيا ، ومستراح العارفين ، وحياة المحبين ، ونعيم العابدين ، وقرة عيون المشتاقين.

وقد وردت مادة (الرضى) في آيات من كتاب الله جل جلاله ، فقال في سورة المائدة : (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ، لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). وقال في سورة التوبة : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). وقال في سورة المجادلة : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). وقال في سورة البينة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ).

٦١

ونلاحظ أن كل آية من الآيات السابقة قد جاء فيها قوله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) وذلك بشأن أصحاب الجنة ، وهم المؤمنون الصادقون من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، ومن المؤمنين بالله واليوم الآخر الذين كتب الله في قلوبهم الايمان وأيّدهم بروح منه. وإنما رضي الله تبارك وتعالى عنهم لأنهم تقيدوا بأحكامه ، وأطاعوا أمره ، فتفضل عليهم بإحسانه وبرّه ورضوا عنه ، أي حمدوا فضله وصنعه وإحسانه ، فهم يستريحون حين ينفذون أحكامه ويمتثلون أوامره ، فإذا كانوا يوم القيامة رضوا كل الرضى بما يرون من نعيم الله وإكرامه ، فشأنهم الرضى عن الله جل جلاله في الدنيا والآخرة ، يرضون في الدنيا بكل ما قدر وأمر ، ويرضون في الآخرة بما أعطى. ولذلك قال الأصفهاني : «رضى العبد عن الله أن لا يكره ما يجري به قضاؤه ، ورضى الله عن العبد أن يراه مؤتمرا لأمره ، منهيا عن نهيه».

ولا شك أن رضى الله عن الانسان هو غاية الغايات وأقصى الأماني ، ولذلك جاء في الحديث : «إن الله تعالى يتجلى للمؤمنين فيقول «أنا الذي صدقتكم وعدي ، وأتممت عليكم نعمتي ، وهذا محل إكرامي فما ذا تريدون؟ ـ وفي رواية فسلوني ـ فيقولون : رضاك». وفي حديث آخر أنه تبارك وتعالى يرضى عنهم ، فيكون رضاه أعظم هدية لهم ، ولذلك يقول القرآن الكريم : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ).

ورضوان الله يستحقه العبد برضاه عن كل ما قدّر الله وما أمر ، ولذلك جاء في التنزيل المجيد : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). وجاء في سورة الأحزاب : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً). ومعنى هذا أن الايمان الذي هو سبب لرضى الله لا يتحقق إلا برضى العبد بكل ما

٦٢

يجيئه من الله تعالى ، وفي الحديث : «ذاق طعم الايمان من رضي بالله ربا وبالاسلام دينا ، وبمحمد رسولا» ، وفي رواية «من قال حين يسمع النداء ـ نداء الأذان ـ رضيت بالله ربا ، وبالاسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، غفرت له ذنوبه». وفي رواية أخرى : «من قال كلّ يوم : رضيت بالله ربا ، وبالاسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة».

والرضا بالله ربّا يتضمن الطاعة له ، والخضوع لأمره ، والاتجاه اليه ، والاعتماد عليه ، والرضى بالاسلام دينا يتضمن الخضوع لأوامره والالتزام لأحكامه ، والرضى بسيدنا محمد رسولا يتضمن الاهتداء بهديه والاتباع لسنّته.

* * *

ولقد جاءت في القرآن الكريم آيات تشير إلى أن رضى العبد إذا كان موصول الأسباب بحمى الله تعالى كان رضى كريما محمودا ، فجاء في سورة طه : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى). وجاء في سورة البقرة : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ (١) فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) وجاء في سورة الليل : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ، إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ، وَلَسَوْفَ يَرْضى).

والخطاب في هذه الآيات موجّه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو خير من حقّق في نفسه خلق الرضى ، وخير من أنعم عليه ربّه برضاه ورضوانه. ولا عجب فقد كان من الدعاء المألوف لرسول الله أن يقول : «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك».

__________________

(١) كثرة تطلعك الى السماء راجيا ربك.

٦٣

وكذلك جاءت في القرآن آيات كريمات تشير إلى أن تحقّق الرضى عند الانسان إنما هو نعمة من الله ، وهبة من فضله يمن بها على الأخيار من عباده في الدنيا والآخرة. قال تعالى في سورة مريم على لسان زكريا بشأن ولده : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا). أي مرضيا عنه ، وإنما يكون مرضيا عنه عند الله إذا كان قد رضي بكلّ ما أمر به الله .. وجاء في سورة الحاقة عن المؤمن الفائز : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ). وجاء في سورة الغاشية : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ). وجاء في سورة القارعة : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ). وجاء في سورة الفجر : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي).

ويشير القرآن الكريم في أكثر من موطن إلى أن الرضى المحمود الجميل الطيب الاثر والثمر هو الرضى بما يأتي به الله تعالى عزوجل ، والرضى بما يأمر به الله عزوجل ، والرضى بما عند الله عزوجل ، وأما ارتضاء غير هذا مما يخالف أمر الله وحكمه ، فهو رضى مذموم ومشؤوم ، ولذلك جاء في سورة التوبة على سبيل التعريض والمؤاخذة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ؟ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ). وجاء فيها أيضا : (فإن رجعك الله الى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل ان تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) (١) وجاء فيها كذلك : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ (٢) وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ). ويوجه الله المنحرفين إلى

__________________

(١) الخالفين : المتخلفين عن الجهاد.

(٢) الخوالف : النساء اللواتي يتخلفن عن الجهاد.

٦٤

طريق الرضى السليم فيقول : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ).

ولا عجب في ذلك فالرضى بالله هو الغنى ، ولذلك سئل أبو حازم الصوفي المدني : ما مالك؟ فقال مالي الرضى عن الله والغنى عن الناس. ولقد نظر أحد الشعراء الى هذا المعنى حين قال :

للناس مال ، ولي مالان ، مالهما

إذا تحارس أهل المال أحراس

مالي الرضى بالذي أصبحت أملكه

ومالي اليأس مما يملك الناس

* * *

ولقد أكثر السلف وبخاصة الصوفية القول في تعريف الرضى ، فقال عنه ابن عطاء : الرضى سكون القلب إلى قديم اختيار الله للعبد أنه اختار له الأفضل فيرضى به. وقال الجنيد : الرضى هو صحة العلم الواصل الى القلب ، فإذا باشر القلب حقيقة العلم أداه إلى الرضى. وقيل : إن الرضى هو نهاية التوكل. وقيل : الرضى ارتفاع الجزع في أي حال كان. وقيل : الرضى استقبال الأحكام بالفرح. وقيل : الرضى سكون القلب تحت مجاري الأحكام.

والرضى بالله يستلزم أن يكون الله عزوجل أحبّ شيء إلى العبد ، وأن تسبق محبته الى القلب كلّ محبة ، وأن تقهر محبته كل محبة ، وأن تكون محبة غيره تابعة لمحبته ، فيكون هو المحبوب بالأصل والذات ، وغيره محبوبا تبعا لحبّه كما يطاع تبعا لطاعته ، فهو في الحقيقة المطاع المحبوب.

ولكي يرضى الانسان بالله لا بد له من أن يعرف الله ، ولذلك قال الفضيل : «أحق الناس بالرضى عن الله أهل المعرفة بالله عزوجل». وقال أحمد بن أبي الحواري : «من عرف الله آثر رضاه». وهذا هو الإمام عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه «صيد الخاطر» يحدثنا عن أن الرضى بالله ثمرة من ثمرات المعرفة فيقول : «إن الرضى من جملة ثمرات المعرفة ، فإذا عرفته رضيت بقضائه» ، اخلاق القرآن ـ (٥)

٦٥

وقد يجري في ضمن القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي ، أما العارف فتقل عنده المرارات لقوة حلاوة المعرفة ، فلما ترقّى بالمعرفة إلى المحبة صارت مرارة الأقدار حلاوة.

وكذلك يكون الرضى ثمرة من ثمرات المحبة لله عزوجل ، ومن عرف الله أحبه ، ومحبة العبد لله حبا حقيقيا صادقا من أعلى مقامات المقرّبين اليه ، وحجة الاسلام الإمام الغزالي يفسّر ذلك بقوله : «الحب يورث الرضى بأفعال الحبيب ، ويكون ذلك من وجهين ، أحدهما أن يبطل الإحساس بالألم حتى يجري عليه المؤلم ولا يحس ، وتصيبه جراحة وهو لا يدرك ألمها ، ومثاله الرجل المحارب ، فإنه في حال غضبه ـ أو في حال خوفه ـ قد تصيبه جراحة وهو لا يحس بها ، حتى إذا رأى الدم استدل به على الجراحة.

بل الذي يغدو في شغل قريب قد تصيبه شوكة في قدمه ، ولا يحس بألم ذلك لشغل قلبه ، بل الذي يحتجم أو يحلق رأسه بحديدة كآلة يتألم ، فإن كان مشغول القلب بمهم من مهماته ، فرغ المزيّن والحجّام وهو لا يشعر ، وكلّ ذلك لأن القلب إذا صار مستغرقا بأمر من الأمور ، مستوفى به لم يدرك ما عداه ، فكذلك العاشق المستغرق الهمّ بمشاهدة معشوقه أو بحبه ، قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتم له لو لا عشقه ، ثم لا يدرك غمّه وألمه لفرط استيلاء الحب على قلبه. هذا إذا أصابه من غير حبيبه فكيف إذا أصابه من حبيبه ، وشغل القلب بالحب والعشق من أعظم الشواغل.

وإذا تصوّر هذا في ألم يسير بسبب حب خفيف تصوّر في الألم العظيم بالحب العظيم ، فإن الحب أيضا يتصور تضاعفه في القوة كما يتصور تضاعف الألم وكما يقوى حبّ الصور الجميلة المدركة بحاسة البصر ، فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة ، وجمال حضرة الربوبية وجلالها لا يقاس به جمال ولا جلال ، فمن ينكشف له شيء منه فقد يبهره بحيث يدهش ويغشى عليه ، فلا يحس بما يجري عليه».

٦٦

ثم يقول : وأما الوجه الثاني فهو أن يحس به ويدرك ألمه ، ولكن يكون راضيا ، بل راغبا فيه مريدا له ، أعني بعقله ، وإن كان كارها بطبعه ، كالذي يلتمس من الفصاد والفصد والحجامة ، فإنه يدرك ألم ذلك ، إلا أنه راض به وراغب فيه ، ومتقلد من الفصادية منّة بفعله ، فهذا حال الراضي بما يجري عليه من الألم «وكذلك كل من يسافر في طلب الربح يدرك مشقة السفر ، ولكن حبّه لثمرة سفره طيّب عنده مشقة السفر وجعله راضيا بها ، ومهما أصابته بلية من الله ، وكان له يقين بأن ثوابه الذي ادخر له فوق ما فاته ورضي به ورغب فيه وأحبه وشكر الله عليه».

٦٧

التواضع

كلمة «التواضع» مأخوذة من مادة «وضع» ، وهي تدل على خفض الشيء ، والتواضع في عرف علماء الأخلاق هو لين الجانب ، والبعد عن الاغترار بالنفس ، فكأن المتواضع قد كلّف نفسه أن يضعها دون منزلتها التي تستحقها ، وأن يهضمها حقّها ، ويجنبها الاغترار بذاتها ، ولذلك قالوا إن التواضع هو اللين مع الخلق ، والخضوع للحقّ ، وخفض الجناح ؛ وقال مظفر القرميسيني الصوفي : «التواضع قبول الحق ممن كان ، وذلك بالخضوع له ، والانقياد إليه ، ولو كان من صغير أو جاهل».

ولم ترد كلمة «التواضع» بلفظها في القرآن الكريم ، ولكن وردت كلمات تشير إليها وتدل عليها ، مما يجيز أن نعد «التواضع» خلقا من أخلاق القرآن. فالله تبارك وتعالى يقول في سورة الفرقان : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً). أي يمشون على الأرض هيّنين ، أو يمشون مشيا هينا ، لأن الهون ـ بفتح فسكون ـ هو الرفق والسهولة ، والحديث يقول : أحبب حبيبك هونا ما (١)». ويقول : «المؤمنون هيّنون ليّنون». ويقال : هان الأمر على فلان ، أي سهل ، وفي القرآن الكريم : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ). وفيه : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).

فقوله تعالى عن الأخيار من عباده : (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي يمشون

__________________

(١) هونا ما : بدون إسراف أو مبالغة.

٦٨

متواضعين بسكينة ولين ووقار ، وإذا كان الهون ـ بفتح فسكون ـ هو اللين والرفق ، فإن الهون ـ بضم الهاء ـ هو الهوان أو الذل ، وهذا من صفة غير المؤمنين ، والعلماء يذكرون أن الهوان على وجهين : الأول تذلل الإنسان في نفسه باختياره فيما لا يعيبه ، وهذا من شأن المؤمنين ، والآخر أن يكون من جهة متسلّط مستخفّ به ، وهذا من شأن الحقراء ، كما في قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ).

ومن الآيات التي تشير إلى خلق التواضع قول الله تعالى في سورة المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ، يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ، ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

والمراد بالذلة في الآية الكريمة الرحمة والشفقة واللين ، وليس المراد بها الهوان ، فالمؤمن كما قيل ذلول ، أي عطوف على مستحق العطف ، وغير المؤمن ذليل ، أي صاحب هوان ، وفي الحديث : «المؤمن كالجمل الذّلول ، والمنافق والفاسق ذليل».

والعزة على الكافرين يراد بها القوة والغلبة ، ولذلك قال عطاء عن وصف المؤمنين في هذه الآية : «إنهم للمؤمنين كالوالد لولده ، وعلى الكافرين كالسبع على فريسته». والمقصود هنا طبعا هم الكافرون المعتدون ، لا مجرد الذين خالفوا في الدين دون عدوان.

وكذلك جاء قوله تعالى في سورة الفتح : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ). والمعنى قريب من معنى الآية السابقة ، وذكر القرآن الكريم بعض مظاهر التواضع ، فقال في سورة الإسراء : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً). وقال في سورة لقمان : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ، وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ، إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ). والمرح هو : الاختيال والبطر. وتصعير الخد

٦٩

هو إمالته تعاظما وتكبرا. والمختال هو المتباهي ، والقصد في المشي هو الاعتدال فيه. والغض من الصوت هو نقصه وخفضه.

* * *

والتواضع ضده التكبر ، سواء أكان التكبر بالعلم ، أم بالعبادة ، أم بالنسب ، أم بالجمال ، أم بالمال ، أم بالقوة ، أم بالشهرة ، أم بكثرة الأتباع ، أم بغير ذلك ؛ وإذا كان القرآن الكريم قد حمد التواضع ، ووعد بالخير أهله ، فإنه قد حمل حملة صارمة على التكبر وأهله ، فقال في سورة الأعراف : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ). وقال : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ). وقال : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) وقال : (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ).

وكذلك حمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التكبر وأهله حملة زاجرة مؤدّبة ، فقال : «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في ديوان الجبّارين». أي في قوائمهم وسجلهم ، والمراد أنه يكون منهم ويحشر معهم ، ويصيبه من العذاب الأليم ما يصيبهم. ويقول : «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر». وهذا على سبيل التهديد والوعيد ، ويقول «يقول الله عزوجل : العزة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني منهما شيئا عذّبته (١)». ولا يتحقق التواضع في نفس الإنسان إلا إذا أزهق دوافع الزهو والخيلاء والكبرياء في نفسه ، ولذلك قال أحمد بن عاطف الأنطاكي : «أنفع التواضع ما نفى عنك الكبر ، وأمات منك الغضب» وكأن المراد

__________________

(١) انظر كتابي «أدب الأحاديث القدسية» ، صفحة ٩١.

٧٠

بالغضب هنا الغضب لنفس الإنسان ظنّا منه أو توهما أنها تستحق أكثر مما تنال ، فيدعوه ذلك إلى الغرور والفجور.

وليس معنى هذا أن التواضع يفتح أمام الإنسان باب المذلة والهوان ، بل على العكس من ذلك يؤدي به التواضع إلى العز الحقيقي المحمود عند الله جل جلاله ، وعند العقلاء البصراء من الناس ، ولذلك قال ابن عطاء الله السكندري : «العز في التواضع ، فمن طلبه في الكبر فهو كتطلب الماء في النار». ولو تكبر الإنسان وتباهى ، ولو بطاعته وعبادته ، لما ذاق الطعم السليم للتواضع ، وهذا زياد النمري يقول : «الزاهد بغير تواضع كالشجرة التي لا تثمر». والكبر لا يقتصر على التطاول في المشية ، أو التبجح في الصوت ، بل الكبر الأخطر من ذلك هو ـ كما قال الحديث ـ بطر الحق وغمط الناس ، وبطر الحق هو رفضه وجحوده ، وغمط الناس هو احتقارهم والاستخفاف بهم.

والتواضع أقسام وألوان ، وأساسه التواضع أمام دين الله عزوجل ، بأن يتقبله الإنسان ويخضع له ، ولا يجادل فيه ، ولا يعترض عليه برأيه أو هواه ؛ ثم يلي ذلك التواضع مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا قول للانسان أمام هديه ، ولا هوى يخالف سنته ، بل تسليم ومتابعة واقتداء ، في أدب وحب واهتداء ؛ ثم يلي ذلك التواضع مع الخلق بأن يحفظ الإنسان حقّ غيره ، حتى ولو كان عدوا أو مخالفا في الدين ، وأن يقبل عذر المعتذر ، وأن يفىء إلى الحق مهما كانت الجهة التي جاءه منها ذلك الحق ؛ ثم يلي ذلك تواضع الإنسان فيما بينه وبين نفسه ، فلا يرى في نفسه لنفسه ما يفتح عليها أبواب الاغترار والتكبر ، بل يردعها ويقمعها ، فلا تختال ولا تميل.

* * *

والتواضع خلق يرتفع في ميزان القرآن الكريم حتى يجعله حلية للأنبياء والمرسلين ، عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين ، وحينما وصف القرآن سيدنا

٧١

رسول الله بالرأفة والرحمة والحرص على خير الناس ، أراد أن يشعرنا بأنه المثل الأعلى في التواضع. وها هو ذا رب العزة يخاطب نبيّ الرحمة في سورة آل عمران بقوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). ويقول له في سورة الشعراء : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ (١) لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

ولقد أقام الرسول بعمله وقوله وتصرفاته في حياته الدلائل بعد الدلائل على أنه كان المثل الأعلى للتواضع ، فهذا النبي العظيم الذي وصفه القرآن الكريم بأنه رؤوف رحيم ، وبأنه الشاهد والمبشّر والنذير ، والداعي إلى الله بأمره والسراج المنير ، وبأنه رحمة الله للعالمين ، هذا النبي الخاتم الجامع كان يجيب دعوة العبد ، ويصغي للأمة فلا ينصرف عنها حتى تنصرف ، ولا يتميز على أصحابه ، بل يشاركهم العمل ما قلّ أو كثر ، وإذا دخل بيته كان في خدمة أهله ، فهو يحلب الشاة ، ويرقع الثوب ، ويخصف النعل ، ويميل الإناء للهرة لتشرب ، ويعلف الدابة ، ويعقل البعير ، ويطحن بالرحى ، ويشتري الشيء من السوق ويحمله ، ويأكل مع الخادم ، وبجالس المساكين ، ويعنى بالأرملة واليتيم والفقير ... الخ.

ويعنى النبي صلوات الله وسلامه عليه بالدعوة إلى التواضع والحث عليه ، فيقول : «إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا ، حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد». ويقول : «طوبى لمن تواضع في غير مسكنة ، وأنفق مالا جمعه في غير معصية ، ورحم أهل الذل والمسكنة ، وخالط أهل الفقه والحكمة». ويقول : «الشرف التواضع». ويقول : «ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد إلا رفعه». ويقول : «أخبركم بمن تحرم

__________________

(١) واخفض جناحك : كن رحيما بهم عطوفا عليهم.

٧٢

النار عليه؟ تحرم على كل قريب هيّن ليّن سهل» ، وهذه الصفات التي ذكرها هذا الحديث هي قواعد التواضع.

* * *

وكما حدثنا القرآن الكريم عن عظمة التواضع في شخصية رسول الله محمد عليه الصلاة والسّلام ، أشار إلى أن عبده وابن أمته عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسّلام كان متجملا بفضيلة التواضع والخضوع لجلال الله تعالى ، فقال في سورة النساء : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ (١) الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ، وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً ، وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

والواقع أن من حقق صفة العبودية لله تعالى ، وكان عبدا صادقا من عباد ربه ، لا يمكن أن يكون متكبرا ، بل لا بد أن يكون متواضعا ، لأن عبوديته لربه تذكّره على الدوام أن كلّ الناس إخوة له ، من ناحية أنهم كلهم عبيد الله ، ولا يمكن للأخ الكريم الخلق أن يتكبر على أخيه ، ولذلك يعجبني قول ابن القيم : «إذا كان الله قد رضي أخاك المسلم لنفسه عبدا ، فلا ترضى أنت به أخا؟. فعدم رضاك به أخا ـ وقد رضيه سيدك الذي أنت عبده عبدا لنفسه ـ عين الكبر ، وأي قبيح أقبح من تكبر العبد على عبد مثله لا يرضى باخوته ، وسيده راض بعبوديته».

وكان عيسى عليه‌السلام يقول : «طوبى للمتواضعين في الدنيا ، هم أصحاب المنابر يوم القيامة». ومن قبله موسى عليه‌السلام يروي لنا أن مما أوحاه الله إليه : «إنما أتقبل صلاة من تواضع لعظمتي ، ولم يتعاظم على خلقي».

__________________

(١) لن يستنكف : لن يترفع ولن يستكبر.

٧٣

لكأن التواضع أمانة غالية مودعة لدى أنبياء الله ورسله ، فهم يحرسونها ويحرصون عليها لتبقى وتدوم.

* * *

ولقد تجلت شواهد التواضع من سلف هذه الأمة بصورة رائعة باهرة ، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه يلبس المرقّع ، ويحمل الدقيق للمرأة العجوز ، وينفخ على النار لينضج الطعام للأطفال الفقراء ، ويطلي إبل الصدقة حتى تبرأ من مرضها ، ولقد دعا الناس ذات يوم إلى الاجتماع في المسجد ، ثم وقف يخطب ويقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله : «أيها الناس ، لقد رأيتني أرعى الغنم على خالات لي من بني مخزوم ، فأقبض القبضة من التمر والزبيب فأظل بها يومي».

ثم نزل ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : يا أمير المؤمنين ، ما زدت على أن عبت نفسك. فقال له عمر : ويحك يا ابن عوف ، إني خلوت بنفسي فحدثتني فقالت : أنت أمير المؤمنين ، فمن ذا أفضل منك؟. فأردت أن أعرّفها نفسها.

وقال عروة : رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، على عاتقه قربة ماء ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا ينبغي لك هذا ، فقال : لما أتاني الوفود سامعين مطيعين ، دخلت نفسي نخوة فأردت أن اكسرها.

وتفاخرت قريش عند سلمان الفارسي ، فقال متواضعا : «لكنني خلقت من نطفة قذرة ، ثم أعود جيفة منتنة ، ثم آتي الميزان ، فإن ثقل فأنا كريم ، وإن خفّ فأنا لئيم». وهذا هو الخليفة العادل خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز يضرب الأمثلة الرائعة في التواضع وهو خليفة ، فثيابه تقدّر باثني عشر درهما ، وكان عنده بعض جلسائه ، فاحتاج السراج إلى إصلاح فقام إليه عمر فأصلحه ، فقال له من معه : كنا نكفيك ذلك. فقال : ليس من كرم الرجل أن يستخدم

٧٤

ضيفه ، قمت وأنا عمر ، ورجعت وأنا عمر ، ما نقص مني شيء. ولقد اشترى ابنه خاتما غاليا ، فكتب إليه عمر يقول : «بلغني أنك اشتريت خاتما بألف درهم ، فإذا أتاك كتابي هذا فبع الخاتم ، وأشبع بثمنه ألف بطن ، واتخذ لك خاتما بدرهمين ، واكتب عليه : رحم الله امرأ عرف قدر نفسه».

والتواضع إنما يصدق إذا كان عن قدرة ، أما إذا رغب الإنسان أو رهب أو خاف من شخص فذلّ له وانكسر معه ، فليس ذلك من التواضع في شيء ، ولذلك قال ابن السماك لهارون الرشيد : «إن تواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك» ، وإنما يصدق التواضع من الكبير مع الصغير ، ومن القوي مع الضعيف ، ومن العالم مع الجاهل ، ومن الغني مع الفقير ، ولعل هذا يذكّرنا بقول الإمام علي رضي الله عنه لبعض الصالحين في مقام له : «ما أحسن التواضع بالأغنياء في مجالس الفقراء رغبة منهم في ثواب الله ، وأحسن من ذلك تيه الفقراء على الأغنياء ثقة منهم بالله عزوجل».

وقد يظن بعض الناس أن التواضع معناه إهمال النظافة في البدن أو الثياب أو الأدوات ، أو إهمال العناية بمظهر الإنسان وشكله ، وليس لهذا الظن نصيب من الحق ، لأن الله تبارك وتعالى قد قال : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ). وقال رسول الله عليه الصلاة والسّلام : «إن الله جميل يحب الجمال». ولقد يكون الإنسان طهورا في بدنه وثيابه ، أنيقا في شكله ومظهره ، متمتعا بطيبات حياته ، ومع ذلك يتواضع فيصدق منه التواضع.

وينبغي أن نتذكر أن التواضع يجب أن يكون بقدر ومقدار ، لأن الإنسان إذا أسرف في تواضعه فقد وضع نفسه موضع السخرية أو سوء الظن ، وإذا كنا نرى من واجبنا أن نحترم الرجل العظيم مرتين ، مرة لعظمته ، ومرة لتواضعه ، فإن المسرف في التواضع يحملنا على الاستهزاء به والاستنكار لعمله. وإذا كنا نعلم أنه ما من فضيلة إلا وهي وسط بين رذيلتي الإفراط والتفريط ، فإن التواضع كذلك وسط له طرفان مذمومان ، وهذا هو حجة الإسلام الإمام

٧٥

الغزالي يقول عن التواضع : «اعلم أن هذا الخلق كسائر الأخلاق ، له طرفان وواسطة ، فطرفه الذي يميل إلى الزيادة يسمّى تكبرا ، وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمّى تخاسسا ومذلة ، والوسط يسمى تواضعا ، والمحمود أن يتواضع في غير مذلّة ، ومن غير تخاسس ، فإن كلا طرفي الأمور ذميم ، وأحب الأعمال إلى الله أوساطها. فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر ، ومن يتأخر عنهم فهو متواضع ، أي وضع شيئا من قدره الذي يستحقه ، والعالم إذا دخل عليه إسكافي فتنحى له عن مجلسه وأجلسه فيه ، ثم تقدم وسوّى له نعله ، وغدا إلى باب الدار خلفه فقد تخسس وتذلل ، وهذا أيضا غير محمود ، بل المحمود عند الله العدل ، وهو أن يعطي كلّ ذي حق حقّه.

فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأقرانه ومن يقرب من درجته ، فأما تواضعه للسوقي فبالقيام ، والبشر في الكلام ، والرفق في السؤال ، وإجابة دعوته ، والسعي في حاجته ، وأمثال ذلك ، وألا يرى نفسه خيرا منه ، بل يكون على نفسه أخوف منه على غيره ، فلا يحتقره ولا يستصغره ، وهو لا يعرف خاتمة أمره.

ومتى صدق الإنسان في تواضعه ، وجعله وسطا معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط ، حقق الله له من الثمرات ، بمنافع ما يحرمه الغافل المتكبر ، فبالتواضع يصلح القلب ويطهر ، ولذلك جعل أبو عثمان الحيري النيسابوري التواضع أحد أربعة أمور يصلح بها القلب فقال : «صلاح القلب في أربع خصال : في التواضع لله ، والفقر إلى الله ، والخوف من الله ، والرجاء في الله» وكذلك ينال المتواضع عفو الله ورحمه ونعمته ، ولذلك قال يوسف بن الحسين الرازي :

«الخير كلّه في بيت ، ومفتاحه التواضع ، والشر كله في بيت ، ومفتاحه التكبر ، ومما يدلك على ذلك أن آدم عليه‌السلام تواضع في ذنبه ، فنال العفو والكرامة ، وأن إبليس تكبر فلم ينفعه شيء».

وهذا يذكّرنا بما جاء في كتاب «نهج البلاغة» للامام علي ، إذ يقول في

٧٦

صدر خطبة طويلة له : «الحمد لله الذي لبس العزّ والكبرياء ، واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حمى وحراما على غيره ، واصطفاهما لجلاله ، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده ، ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين ، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصب عليه لأصله ، فعدو الله إمام المتعصبين وسلف المستكبرين ، الذي وضع أساس العصبية ، ونازع الله رداء الجبرية ، وادّرع لباس التعزز. وخلع قناع التذلل. ألا ترون كيف صغّره الله بتكبره ، ووضعه بترفعه ، فجعله في الدنيا مدحورا ، وأعد له في الآخرة سعيرا».

وهكذا يصدق منصور بن عمار حين يقول : «أحسن لباس العبد التواضع والانكسار ، وأحسن لباس العارفين التقوى ، قال الله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ). والحديث النبوي الشريف يزكي ذلك فيقول : «إذا هدى الله عبدا للاسلام ، وحسّن صورته ، وجعله في موضع غير شائن له ، ورزقه مع ذلك تواضعا ، فذلك من صفوة الله».

وقد يقال : وكيف الطريق إلى اكتساب فضيلة التواضع؟. والغزالي يرسم الطريق فيذكر ما ملخصه أن الإنسان يجب عليه أولا أن يتذكر بدايته : «من أي شيء خلقه ، من نطفة خلقه فقدره ، ثم السبيل يسره ، ثم أماته فأقبره ، ثم إذا شاء أنشره (١)» ، فالإنسان في أول أمره لم يكن شيئا مذكورا ، وهو في النهاية يصير شيئا معدوما ، وأي شيء أخسّ من المحو والعدم ، ولقد كان أيضا معدوما قبل إيجاده ، ثم منّ الله عليه بالطاقات والهبات ولو شاء لنزعها

__________________

(١) نطفة : مادة التناسل السائلة. وفأقبره : أمر بدفنه في القبر. وأنشره : بعثه حيا بعد موته.

٧٧

منه : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ ، وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١) ، فمن كان هذا مبتدأه ، وهذا منتهاه ، فكيف يجوز له أن يتكبر أو يتجبر؟. وبصدق التفكر والتدبر في هذا يفتح الإنسان في قلبه ينبوع التواضع لله ولخلقه.

نسأل الله أن يجمّلنا بالتواضع ، وأن يباعد بيننا وبين التكبر ، إنه ولي المخلصين.

__________________

(١) النجدين : طريق الخير وطريق الشر.

٧٨

الطمأنينة

كلمة «الطمأنينة» تفيد معنى السكون والاستقرار ، ومن ذلك طمأنينة الأعضاء ، اي استقرارها وعدم حركتها ، وقد جاء في الحديث النبوي : «ثم اركع حتى تطمئن راكعا». والاطمئنان هو السكون بعد الانزعاج ، وطمأنينة القلب : هي عدم اضطرابه وقلقه. وقد يراد بطمأنينة القلب أن يسكن فكر الانسان الى شيء يعتقده ، فلا يرتاب فيه ولا يشك ، ومن هذا قول الله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أي أن الايمان ثابت في قلبه ، مطمئن اليه صاحبه ، ولم يخالطه شك او ريب.

وقد يراد بطمأنينة القلب الثقة في أمر او توقّعه برجاء عميق ، كما في قول الله تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ). أي وما جعل الله الإمداد المتتابع لكم بالملائكة في غزوة بدر إلا أن يكون بشرى لكم ، ولتسكن به قلوبكم ، وتثق فيه ، وترجو من ورائه الخير والنصر.

ويقول الصوفية إن الاطمئنان سكون يقويه أمن صحيح شبيه بالعيان ، او هو سكون أمن في استراحة نفس.

و «الطمأنينة» خلق من اخلاق القرآن الكريم ، تحدّث عنها في اكثر من من موطن ، فقال في سورة البقرة : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). وقال في سورة الرعد : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ، أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ). وقال في سورة الفجر : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) .. الخ.

٧٩

وبتدبرنا لحديث القرآن عن الطمأنينة نفهم ـ والله اعلم بمراده ـ أنه يقصد بها الثبات والاستقرار ، ويتحقق هذا بأمور منها : أن تكون النفس موقنة بالحق لا يخالجها فيه ظن او تردد ، وان تكون آمنة لا يستفزها خوف ولا حزن وأن تنتهي بآمالها ورغباتها الى ربها ، فليس وراءه اقوى منه ولا اقدر ، ولذلك يقول الامام الرازي : «إن حاجات العبد غير متناهية ، وكل ما سوى الله تعالى فهو متناهي البقاء والقوة ، إلا بإمداد من الله ، وغير المتناهي لا يصير مجبورا بالمتناهي ، فلا بد ـ في مقابلة حاجة العبد التي لا نهاية لها ـ من كمال الله الذي لا نهاية له ، حتى يحصل الاستقرار ، فثبت ان كل من آثر معرفة الله لشيء غير الله فهو غير مطمئن ، وليست نفسه نفسا مطمئنة.

أما من آثر معرفة الله لا لشيء سواه ، فنفسه هي النفس المطمئنة ، وكل من كان كذلك كان أنسه بالله وشوقه الى الله ، وبقاؤه بالله ، وكلامه مع الله ، فلا جرم يخاطب عند مفارقة الدنيا بقوله : «ارجعي الى ربك راضية مرضية ، وهذا الكلام لا ينتفع الانسان به إلا إذا كان كاملا في القوة الفكرية الالهية او في التجريد والتفريد».

وينبغي ان يكون معنى قول الرازي : إن حاجات العبد غير متناهية ، إن حاجات الانسان كثيرة موصولة ما دام حيا ، والبقاء الأبدي الذي لا نهاية له إنما هو لله وحده : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).

والطمأنينة خلق اصحاب العقول الراجحة ، والعلم الراسخ ، والايمان القوي ، والذكر الخالص ، والحق الثابت ، فهم لا يزدهيهم متاع ، ولا يوئسهم تعب ، وما داموا قد اقبلوا على الله ، واعتصموا بحبل الله ، وحرصوا على ذكر الله ، فإنهم لا يذلون لما عداه في هذه الحياة. ولذلك قال سهل بن عبد الله : «اذا سكن قلب العبد الى مولاه واطمأن اليه ، قويت حال العبد ، فإذا قويت أنس بالعبد كلّ شيء».

٨٠