موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٢

ـ عرضا وتبعا لا أصالة ـ في غير الخبر من أنواع الكلام ، كالاستفهام والأمر والدعاء ، مثل قول القائل : أمحمد في الدار؟ فإن ذلك يتضمن إخبارا بأن السائل جاهل بحال محمد ، وكذلك إذا قال : ساعدني ؛ فإن ذلك يتضمن أنه محتاج إلى المساعدة ... وهكذا.

وقد يعبّر عن كل فعل فاضل بالصدق ، سواء أكان هذا الفعل ظاهرا أم باطنا ، فيضاف إلى الصدق ذلك الفعل الذي يوصف به ، وعلى هذا جاء في القرآن المجيد قوله تعالى في سورة الإسراء : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً). وقوله في سورة الشعراء : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ) (١) (فِي الْآخِرِينَ). وقوله في سورة الأحقاف (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ). وقوله في سورة يونس : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ (٢) عِنْدَ رَبِّهِمْ) وقوله في سورة القمر : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).

وإذا كان الصدق هو إلزام اللسان الاخبار عن الأشياء بما هي عليه ، فإن «التصديق» هو تحقيق صحة هذا الاخبار وتقبّله من سامعه ، وقد وردت مادة «التصديق» في جملة آيات منها قوله في سورة الزمر : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). وقوله في سورة الصافات : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). وقوله في سورة التحريم : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ). وقوله في سورة المعارج : (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ).

ومن مادة «الصدق» جاءت «الصداقة» والصداقة هي صدق الاعتقاد في المودة ، والصديق هو من يصدق في مودته لصديقه ، فلا يرائي فيها ولا ينافق

__________________

(١) أي ذكرا حسنا باقيا.

(٢) قدم صدق : سابقة فضيلة.

٤١

ولا يخادع ، وقد قالوا إن هذا المعنى مختص بالانسان ، لا يكون في غيره من المخلوقات ، وقد وردت كلمة «الصّديق» في القرآن الكريم مرتين ، مرة في سورة النور عند قوله : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ) ، ومرة في قوله على لسان الكافرين : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ).

ومن مادة «الصدق» جاءت كلمة «الصّدقة» ، وهي ما يخرجه الانسان من ماله على وجه التقرب إلى الله ، كالزكاة ، يتحرى به الصدق في فعله ، ويجعله جزءا من البرهان على صدقه في إيمانه واستجابته لربه ، وقد تكرر ذكر «الصّدقة» في القرآن مرات كثيرة ، ويقال لمخرج الصدقة «المتصدق» أو «المصّدّق» بقلب التاء صادا وإدغامها في الصاد ، ومن ذلك قول القرآن في سورة يوسف : (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ). وقوله في سورة الحديد : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ).

وهكذا نرى أن العلاقة بين الصدق والتصديق والصداقة والصدقة والتصدق هي الانتماء إلى الحق والثبوت واللزوم والقوة ، ومن هنا قيل لمهر المرأة : «صداق» لقوة ثبوته ، ولأنه حق لازم.

* * *

ولجلال مكانة «الصدق» وعلوّ شأنه ذكر القرآن الكريم اتصاف الله تبارك وتعالى بصفة الصدق في مواطن كثيرة كقوله في سورة آل عمران : (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (١). وقوله في سورة الفتح : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ). وقوله في سورة النساء : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) وقوله أيضا فيها : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) وقوله في سورة الأحزاب :

__________________

(١) حنيفا : مائلا عن كل ضلال وباطل

٤٢

(قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ...) إلخ.

وكذلك نجد القرآن يصف رسل الله تعالى عليهم أفضل الصلاة والسّلام بالصدق ، فيقول في سورة يس : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ). ويقول في سورة مريم : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا). ويقول في سورة الأحزاب : (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ). ومن المجمع عليه أن الرسول لا بد له من الاتصاف بصفة الصدق.

وإذا كان خلق رسول الله محمد عليه الصلاة والسّلام هو التطبيق العملي لآداب القرآن ، كما أخبرت السيدة عائشة رضي الله عنها ، وإذا كان الحق جل جلاله يقول عنه : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فمن الطبيعي أن يكون سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدوة وأسوة ومثلا في الصدق ، وأن يظهر خلق الصدق فيه منذ نشأته تطبيقا لقول الله سبحانه : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ). ولذلك نعته قومه قبل بعثته بنعت «الصادق الأمين». ولقد قالت له السيدة خديجة رضي الله عنها عند بدء الرسالة : «إنك لتصدق الحديث». وقال له قومه : «ما جربنا عليك كذبا».

وحينما تواطأ المشركون المعاندون على أن يتهموا رسول الله عليه الصلاة والسّلام بالسحر عارضهم أحدهم ، وكان شديد العداوة للرسول ، وهو النضر بن الحارث ، وقال لهم : «قد كان محمد فيكم غلاما حدثا ، فكان أرضاكم فيكم ، وكان أصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر ، والله ما هو بساحر».

وهكذا شهد له أعداؤه ، كما شهد له أولياؤه بالصدق ، ويا لها من شهادة ، فالصدق من أعظم الأخلاق الكريمة ، والقرآن قد قرر أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خلق عظيم ، والقرآن ينوه بالصدق ويرفع شأنه ، فلا عجب في أن يستمسك الرسول بالصدق في كل أحواله ، حتى في مزاحه ، لأن خلقه القرآن ، كما قالت الصديقة بنت الصديق رضوان الله عليهما.

٤٣

ويقرر القرآن المجيد بعد هذا أن الصدق هو صفة الأخيار من عباد الله الصالحين المصلحين ، الطائعين المستقيمين ، فيقول في سورة البقرة : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ، ويقول في سورة الزمر : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). وقال في سورة الحجرات : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). وقال في سورة الحشر : (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). وقال في سورة آل عمران يمدح المؤمنين : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ).

وإذا قال الانسان الصدق سمّي صادقا ، وما يزال الانسان يصدق ثم يصدق ثم يصدق حتى يصير صدّيقا و «الصّدِّيق» هو الملازم للصدق لا يتركه إلى غيره ، وقد وردت في تعريف الصّدّيق عدة أقوال. فقيل : هو من كثر منه الصدق ، وقيل : هو من لا يكذب أبدا ، وقيل : هو من لا يتأتى منه الكذب لتعوّده الصدق ، وقيل : هو من صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله ، وإذا كان المفسرون قد قالوا إن الصديقين قوم دون الأنبياء في الفضيلة فذلك لا يمنع أن يتصف الأنبياء والرسل بصفة «الصّدّيقية» الملائمة لعصمتهم ومنزلتهم الزائدة عن صديقية غيرهم ممن ليسوا برسل ولا أنبياء ، ولقد وصف القرآن الكريم خليل الرحمن وأبا الأنبياء إبراهيم بهذه الصفة ، فقال في سورة مريم : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا). ووصف إدريس بمثل هذا فقال في سورة مريم أيضا : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) ، وجاء في القرآن وصف يوسف بالصديقية في قوله : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ). وجاء وصف مريم بهذه الصفة في سورة المائدة : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ).

وجاء وصف الأخيار من عباد الله بوصف الصّدّيقية ، ففي سورة النساء :

٤٤

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً). وفي سورة الحديد : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ).

وهذا كله يدلنا على ما أعطى القرآن الكريم فضيلة «الصدق» من منزلة ومكانة.

* * *

وقد أفاض الامام ابن تيمية في الحديث عن الصدق ومعانيه ومراميه عند الصوفية ، وذلك في كتابه الجليل «مدارج السالكين بين منازل (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» ،) وقد جاء خلال حديثه أن الصدق هو : «الذي تنشأ منه جميع منازل السالكين ، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين ، وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان ، وسكان الجنان من أهل النيران ، وهو سيف الله في أرضه ، الذي ما وضع على شيء إلا قطعه ، ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه ، من صال به لم تردّ صولته ، ومن نطق به علت على الخصم كلمته ، فهو روح الأعمال ، ومحكّ الأحوال ، والحامل على اقتحام الأهوال ، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال. وهو أساس بناء الدين ، وعمود قسطاس اليقين ، ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين ، ومن مساكنهم في الجنات تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين ، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين».

وقد أمر الله تبارك وتعالى أهل الايمان بالصدق عقب أمره لهم بالتقوى ، فقال في سورة التوبة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ). وكأن هذا الأمر يتطلب تحقيق شيئين ، أولهما أن يكون المرء صادقا ، والآخر أن يكون في صفّ الصادقين ، يوافقهم ويلازمهم ويؤيدهم

٤٥

ويدافع عنهم.

ولذلك عاد القرآن الكريم في موطن آخر فطالب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبحث ويتبين حتى يعرف الصادقين ، ليحفظ لهم كرامتهم وشأنهم ويتبين الكاذبين حتى يؤاخذهم بكذبهم ويحذرهم ، فذلك حيث يقول له في سورة التوبة : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ).

* * *

وما دام الصدق صفة لازمة للرسول ، وكان فضيلة تحلّى بها منذ صباه ، وضرب فيها القدوة المثلى لمن عداه ، فمن الطبيعي أن يدعو اليه ، وأن يحث عليه ، ولذلك جاءت في السنة النبوية المطهرة تلك الكلمات الجوامع مع التذكير بالصدق والأمر به ، فقال عليه صلوات الله وسلامه : «الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة». وقال : «عليكم بالصدق». وقال : «تحروا الصدق وإن رأيتم فيه الهلكة ، فإن فيه النجاة». وحينما سئل : أيكون المؤمن كذابا؟. أجاب : لا. وعدّ شهادة الزور ـ وهي لون صارخ من الكذب ـ فاحشة من أكبر الكبائر.

وكذلك أخبرنا أن الصدق سبب الخير ومفتاح البركة ، فقال «ما أملق تاجر صدوق» ، أي ما افتقر ، وقال «البيّعان ـ أي البائع والمشتري ـ بالخيار ما لم يفترقا ، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما».

والصدق كما يكون أصلا في القول والحديث ، يكون في أفعال الجوارح إذا كانت على وجهها من الحق والاستقامة والاخلاص ، فهناك صدق في الطاعة إذا عمرها اليقين والاحسان ، وهناك صدق في القتال ، إذا توافر فيه خلوص النية لله عزوجل ، وهناك الصدق في أداء الواجب ، إذا لم يقصّر الانسان في تبعة من

٤٦

تبعاته ، أو حق من حقوقه ؛ وهناك صدق الظاهر من حال الانسان بحيث يكون موافقا باطنه ، ولذلك نستطيع أن نقول إن الصدق كما يكون في الأقوال يكون في الأعمال والأحوال ، فالصدق في الأقوال هو ـ كما قال ابن القيم ـ استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها ، واستواء الأفعال على الأمر والمتابعة ، كاستواء الرأس على الجسد ، والصدق في الأحوال هو استواء أعمال القلب والجوارح على الاخلاص ، واستفراغ الوسع ، وبذل الطاقة ، وأعلى مراتب الصدق هي مرتبة الانقياد الكامل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع كمال الاخلاص كله لله تعالى الذي أرسله بدينه ودعوته.

وعلى هذا يكون الصدق صدق قول ، أو صدق نية ، أو صدق عزم ، أو صدق وفاء بالعزم ، أو صدق عمل ، أو صدق تحقيق لمقامات الدين كلّها ، وفي ضوء هذا نستطيع أن نفهم الصدق الوارد في قول الله تبارك وتعالى في سورة الأحزاب : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً). فهذا صدق في الوفاء بالعهد ، مثل ما فعل الشهيد أنس بن النضر رضي الله عنه ، الذي عاهد ربه على الثبات في الجهاد حتى نال الشهادة ، وفي جسمه بضع وثمانون ، ما بين طعنة وضربة ورمية ، ومثل الشهيد مصعب بن عمير رضي الله عنه الذي جاهد ثابتا صادقا حتى نال الشهادة.

ولقد روى الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الشهداء أربعة : رجل مؤمن جيد الايمان ، لقي العدوّ فصدق الله حتى قتل ، فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم هكذا ـ ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته ـ ورجل جيد الايمان ، إذا لقي العدو فكأنما يضرب وجهه بشوك الطّلح ، أتاه سهم غرب فقتله ، فهو في الدرجة الثانية ، ورجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، لقي العدو فصدق الله حتى قتل ، فذاك في الدرجة الثالثة ، ورجل أسرف على نفسه ، لقي العدوّ فصدق الله

٤٧

حتى قتل ، فذلك في الدرجة الرابعة (١)».

وقال أبو سعيد الخراز : رأيت في المنام كأن فلكين نزلا من السماء فقالا لي : ما الصدق؟ قلت : الوفاء بالعهد. فقالا لي : صدقت». ثم عرجا إلى السماء.

وأعلى درجات الصدق هي درجة الصدق في العبادة ومقامات الدين ، بأدائها والتزامها ، وذلك لأن العبادة تشمل الأقوال والأعمال والأحوال ، ولأن العبادة هي أشرف ما يؤديه الانسان في الحياة ، وقد أشار القرآن الكريم إلى شرف الصدق في العبادة حين قال في سورة الحجرات : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). وحين قال في سورة البقرة : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ، أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

* * *

ومن دلائل تجلّي الصدق في غير الأقوال أن القرآن الكريم قد ذكر الصدق مضافا إليه عدة أشياء ، فجاء فيه : مدخل الصدق ، ومخرج الصدق ، ومقعد الصدق ، ولسان الصدق ، وقدم الصدق. والصدق المراد في هذه الأشياء لا يكاد يبعد عن معنى الحق الثابت المتصل بالله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا. فالقرآن الكريم يقول : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) أي اجعل دخولي في أي مكان حقا ثابتا لله ولمرضاته. ويقول : (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) أي اجعل خروجي حقا ثابتا لله ولمرضاته ، ولذلك كان بعض

__________________

(١) انظر كتابي «الفداء في الاسلام» صفحة ٦٨. وسهم غرب : أي لا يعرف مصدره.

٤٨

الصالحين إذا خرج من داره يقول : «اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك».

ويقول القرآن على لسان إبراهيم عليه‌السلام : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي ثناء ثابتا يصدق صاحبه ولا يكذب فيه ، وإنما يستحق إبراهيم ذلك بطاعته لربه ، وإخلاصه العمل لوجهه تعالى.

ويقول القرآن : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي أن لهم أعمالا صالحة قدّموها بإخلاص ، يتقبلها الله ويثيب عليها لأن أهلها صدقوا فيها. ويقول : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) ومقعد الصدق هنا هو الجنة التي لا ريب في وعد المؤمنين بها ، وإنما استحقوها بصدقهم في طاعتهم ، وإخلاصهم في عبادتهم.

* * *

والواقع الذي لا شك فيه أن التزام الصدق أمر يحتاج إلى إرادة صلبة ، وعزيمة قوية ، وإيمان وطيد ، واحتمال كريم لتبعات الصدق ، ولذلك قال بشر ابن الحارث «من عامل الله بالصدق استوحش من الناس». وسئل ذو النون : هل للعبد إلى صلاح أموره سبيل؟. فأجاب قائلا :

قد بقينا من الذنوب حيارى

نطلب الصدق ، ما إليه سبيل

فدعاوي الهوى تخف علينا

وخلاف الهوى (١) علينا ثقيل

وكأن ذا النون يشير بذلك إلى الجهد الكبير الذي يجب أن يبذله من ذات نفسه من شاء أن يكون متحليا بفضيلة الصدق ، وإلى أن أقوم طريق يوصل إلى الصدق هو أن يخالف الانسان هوى نفسه ، وأن يوافق الحقّ والعدل ، ومن هنا قال ابن القيم : «حمل الصدق كحمل الجبال الرواسي ، لا يطيقه إلا أصحاب العزائم». وقال الجنيد : «حقيقة الصدق أن تصدق في موطن لا

__________________

(١) خلاف الهوى : مخالفة هوى النفس.

اخلاق القرآن ـ (٤)

٤٩

ينجيك منه إلا الكذب».

والمؤمنون الحقيقيون هم الذين يحرصون على هذا الصدق ، لأنهم يتذكرون ثوابه الجليل الذي أشار إليه القرآن الكريم في سورة المائدة : (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). ولأنهم يتذكرون مآل الكذب والكاذبين ، فالقرآن الكريم يقول في سورة الزمر : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) (٢) (لِلْمُتَكَبِّرِينَ؟).

* * *

وفضيلة الصدق يقابلها رذيلة النفاق أيضا ، ولعل هذا هو الذي جعل القرآن الكريم يقسم الناس إلى صادق ومنافق ، فيقول في سورة الأحزاب : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).

ولذلك جاء على ألسنة العلماء أن الإيمان والكذب لا يتفقان ، لأن الايمان أساسه الصدق ، والنفاق أساسه الكذب ، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما يحارب الآخر.

وحسب الكذب شناعة وفظاعة أن يعدّ القرآن الكريم الكذب على الله تعالى من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إن حدث وما هو بحادث ـ مسوّغا لأشدّ العقوبات ، فيقول : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (١). والوتين :

__________________

(٢) مثوى : مستقر.

(١) تقول : افترى واختلق. وباليمين : بالقوة. والوتين : عرق في الجسم اذا انقطع مات صاحبه ، قيل انه من القلب ، وقيل انه يسقي الكبد. وحاجزين : مانعين للهلاك أو العذاب.

٥٠

نياط القلب أو نخاع الظهر.

ولكن الدين أباح ترك الصدق أو إتيان الكذب في مواطن محدودة معدودة ، فأباح ذلك في الحرب ، لأن الحرب خدعة ، كما قال الحديث الشريف ، وفي الاصلاح بين المتخاصمين ، فقد قال الرسول : «ليس بكذاب من أصلح بين اثنين ، فقال خيرا أو أنمى خيرا». وفي إرضاء الزوج لزوجته ، فقد جاء في الحديث : «لا يحل الكذب إلا في ثلاث : يحدّث الرجل امرأته ليرضيها ، والكذب في الحرب ، وفي الاصلاح بين الناس».

قال بعض العلماء : وإنما جاز الكذب في هذه الأمور لأن الجيش حصن الأمة ، ولأن الشقاق رأس كل مصيبة ، ولأن النزاع بين الزوجين يعرّض الأسرة للضياع وهي أساس المجتمع.

هذا ، ولقد تكاثرت كلمات السلف في تصوير الصدق ووصفه ، فقيل : هو موافقة السر بالنطق. وقيل : هو استواء السر والعلانية ، وقيل : الصدق القول بالحق في مواطن التهلكة ، وقيل الصدق كلمة الحق عند من تخافه وترجوه. وقيل : الصادق الذي يتهيأ له أن يموت ولا يستحي من سرّه لو كشف.

ورضي الله عن أبي سليمان الداراني حين قال : اجعل الصدق مطيتك ، والحقّ سيفك ، والله تعالى غاية طلبتك.

٥١

الايثار

كلمة «الإيثار» مأخوذة من مادة «الأثر» ، وفيها معنى تقديم الشيء ، تقول : آثر فلان فلانا أي اختاره وقدّمه ، وتقول : آثرت أن أقول الحق ، أي فضّلت أن أقوله ، وقدمته على غيره ، والشخص الأثير لديك هو الذي تؤثره بفضلك وتخصه بصلتك ، وقد تستعار كلمة «الأثر» للفضل ، كما تستعار كلمة «الإيثار» للتفضل والتفضيل ، ومن ذلك قول القرآن الكريم عن يوسف عليه‌السلام : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ).

والمآثر : ما يروى عن مكارم الإنسان. وضد الإيثار هو الأثرة ، وهي استئثار الإنسان عن أخيه بما هو محتاج إليه ، وقيل هي استئثار صاحب الشيء به على غيره.

وقد أشار القرآن الكريم إلى خلق «الإيثار» حين قال في سورة الحشر : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا ، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) (١) (، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .. والمراد بالذين تبوأوا الدار هنا هم الأنصار ، والمراد بالدار «المدينة» ، أي أن الأنصار استوطنوا «المدينة» قبل المهاجرين ، واستقروا فيها وتمكنوا منها ، وأخلصوا الإيمان ولزموه فلم يفارقوه ، وهم يحبون إخوتهم

__________________

(١) خصاصة : فقر.

٥٢

المهاجرين إليهم ، ولا يحسون في صدورهم أي غضاضة أو ألم مما هيأه الله تعالى للمهاجرين من فيء أو خير ، بل إن الأنصار يفضّلون المهاجرين على أنفسهم في الاستمتاع بالخير ، ولو كان الأنصار محتاجين إليه ، وكل من حفظه الله من البخل ، وصانه من الشح ، فقد أفلح وفاز.

ولقد نزل المهاجرون بعد الهجرة في دور الأنصار على الرحب والسعة ، وفي ظلال الحب والكرم والمواساة ، فلما غنم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أموال بني النضير دعا الأنصار وشكرهم على ما صنعوا مع إخوتهم المهاجرين ، من إنزالهم إياهم في منازلهم ، وإشراكهم في أموالهم ، ثم قال لهم : «إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم ، وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ، ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئا». فقال الأنصار بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ، ونؤثرهم بالغنيمة» فنزلت الآية.

وروي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أحببتم قسمت ما أفاء (٢) الله (١) عليّ من بني النضير بينكم وبينهم ، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم ، وإن أحببتم أعطيتهم ، وخرجوا من دياركم». فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ : بل تقسمه بين المهاجرين ، ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار قائلة : رضينا وسلمنا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار». وأعطى المهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا ، إلا اثنين أو ثلاثة كان بهم فقر وحاجة. ونزلت الآية.

والإيثار فضيلة قرآنية أخلاقية نبيلة ، لا يتحلى بها إلا أصحاب القلوب الكبيرة والهمم العالية والعزائم الثابتة ، لأن الإيثار يحتاج في تحقيقه إلى صبر واحتمال وبذل وكرم ، ولذلك قال القرطبي : «إن الإيثار هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية ، رغبة في الحظوظ الدينية ، وذلك ينشأ عن قوة

__________________

(١) ما أعطاه للرسول بلا قتال.

(٢) ما أعطاه للرسول بلا قتال.

٥٣

اليقين ، وتوكيد المحبة ، والصبر على المشقة».

والإيثار أسمى مراتب البذل ، ولذلك قال حجة الإسلام الغزالي إن أرفع درجات السخاء الإيثار ، وهو أن يجود الإنسان بالمال مع الحاجة إليه ، ولا يمكن لبخيل أو شحيح أن يعرف الطريق إلى الإيثار ، لأن المؤثر على نفسه يترك ما هو محتاج إليه ، والشحيح حريص على ما ليس بيده ، فإذا صار في يده ازداد حرصا عليه ، وبخل به ، فالبخل ثمرة الشح ، والشح يأمر بالبخل ، فمن أين يأتي الإيثار إذن؟. وصلوات الله وسلامه على رسوله حين قال : «إياكم والشحّ فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا».

وقد يبلغ الإيثار بصاحبه أن يعطي كلّ ما لديه ، ويبقى بلا شيء ، وهنا يقول العلماء : إنما يباح الإيثار بالكل لمن كان يوثق منه بالصبر الجميل على الفقر ، وأما من يخاف عدم الصبر ، ويخاف التعرض إلى السؤال إذا بذل ما عنده يكون مكروها بالنسبة إليه ، ويؤيد هذا ما رواه أهل التفسير من أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثل البيضة من الذهب ، وقال : هذه صدقة ، ويبدو أنه لم يكن يملك غيرها ، فأبى النبي أخذها منه ، وقال : «يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ، ثم يقعد يتكفف الناس (١)».

والإيثار كما يكون في بذل المال يكون في إيثار الطاعة لله على الاستجابة للشهوة ، وهذا يحتاج إلى مقاومة ومغالبة ، وقد جاء في الحديث : «أيما امرىء اشتهى شهوة ، فرد شهوته ، وآثر على نفسه ، غفر له».

وكذلك إيثار الآخرة على الدنيا ، والآجلة على العاجلة ، والقرآن الكريم يشير إلى مثل هذا الإيثار في مواطن ، فتراه يقول في سورة الأحزاب : «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ، فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ

__________________

(١) يتكفف الناس : يسألهم المعونة والمساعدة.

٥٤

وَأُسَرِّحْكُنَ (١) سَراحاً جَمِيلاً ، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً). ويقول في سورة طه عن السحرة الذين ظهرت لهم دلائل الإيمان ، فآثروا اتباع طريق ربّهم على طريق فرعون (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا ، فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ، وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى).

وقد حذر القرآن الكريم عباد الرحمن وخوّفهم إيثار الدنيا على الآخرة فقال في سورة النازعات : (فَأَمَّا مَنْ طَغى ، وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى). وقال في سورة الأعلى : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى). وروى الترمذي أن رسول الله عليه الصلاة والسّلام قال : من أحبّ دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى».

ولذلك عدّ البصراء من العلماء أسمى درجات الإيثار أن يؤثر الإنسان رضى ربّه على رضى من عداه ، فيفعل المرء ما فيه مرضاة خالقه ، حتى ولو غضب المخلوق ، وهذه الدرجة من درجات الإيثار هي درجة الأنبياء والمرسلين ، وإمامهم فيها هو خاتمهم سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه ، ومن هنا قال الإمام ابن القيم : «إيثار رضا الله عزوجل على غيره هو أن يريده ويفعل ما فيه مرضاته ، ولو أغضب الخلق وهي درجة الأنبياء ، وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه ، وأعلاها لأولي العزم منهم ، وأعلاها لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليهم ، فانه قاوم العالم كلّه ، وتجرد للدعوة إلى الله ، واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى ، وآثر رضا الله على رضا الخلق من كل وجه. ولم يأخذه في إيثار رضاه لومة لائم ، بل كان همّه وعزمه وسعيه كله مقصورا

__________________

(١) أسرحكن : كناية عن تطليقهن.

٥٥

على إيثار مرضاة الله ، وتبليغ رسالاته وإعلاء كلماته ، وجهاد أعدائه ، حتى ظهر دين الله على كل دين ، وقامت حجته على العالمين ، وتمت نعمته على المؤمنين ، فبلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حقّ جهاده ، وعبد الله حتى أتاه اليقين (١) من ربه ، فلم ينل أحد من درجة هذا الإيثار ما نال ، صلوات الله وسلامه عليه».

* * *

ومن أكرم ألوان الإيثار ، إيثار التضحية بالنفس على استبقائها ، وبذلها بلا خوف دفاعا عن عقيدة أو حرمة أو وطن ، وقد أشاد مسلم بن الوليد بمثل هذا الإيثار حين قال :

يجود بالنفس إن ضنّ البخيل بها

والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وإذا كان الإسلام قد حث على «الإيثار» لأنه فضيلة ومكرمة فقد نفر من الأثرة والاستئثار ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ستكون بعدي أثرة» أي يستأثر بعضكم على بعض ، والاستئثار هو تفرد الإنسان بالشيء دون غيره ، وكذلك قال للأنصار رضي الله عنهم : «إنكم ستلقون بعدي أثرة ، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض». أي يستأثر عليكم فيفضّل غيركم عليكم.

وهناك إيثار مذموم ، وهو أن يقدم إنسان شخصا لأمر وهناك من هو أصلح منه لذلك الأمر ، وقد روي عن يزيد بن أبي سفيان قال : قال أبو بكر رضي الله عنه حين بعثني إلى الشام : يا يزيد ، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة ، وذلك أكبر ما أخاف عليك ، فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ولي من أمور المسلمين شيئا فأمّر عليهم أحدا محاباة فعليه لعنة

__________________

(١) اليقين : الموت.

٥٦

الله ، ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم». والصرف التوبة ، والعدل الفدية.

* * *

ولقد كان رسول الله عليه الصلاة والسّلام المثل الأعلى في الإيثار ، ولذلك روى الغزالي أن سهل بن عبد الله التستري قال : قال موسى عليه‌السلام لربه : يا رب ، أرني بعض درجات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته. فقال : يا موسى ، إنك لن تطيق ذلك ، ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة ، فضّلته بها عليك وعلى جميع خلقي. فكشف له عن ملكوت السموات ، فنظر إلى منزلة كادت تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله تعالى ، فقال : يا رب ، بما ذا بلغت به إلى هذه الكرامة. قال : بخلق اختصصته به من بينهم ، وهو الإيثار ، يا موسى ، لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتا من عمره إلا استحييت من محاسبته ، وبوأته من جنتي حيث يشاء.

وقالت عائشة رضي الله عنها : ما شبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا ، ولو شئنا لشبعنا ولكننا كنا نؤثر على أنفسنا.

ومن حول الرسول كان الصحابة الذين ضربوا روائع الأمثلة في الإيثار ، فهذا مثلا عمر بن الخطاب يروي لنا أن رجلا أهدى إلى أحد الصحابة رأس شاة ، فقال المهدى إليه : إن أخي فلانا أحوج إليه مني ، فبعث به إليه ، فقال الثاني : إن أخي فلانا أحوج إليه مني ، فبعث به إليه ، وظل رأس الشاة يتنقل بين سبعة بيوت ، ورجع إلى الأول.

وكان قيس بن سعد بن عبادة مريضا ، فتخلف عن عيادته جمع من معارفه ، فسأل عنهم ، فقيل له : إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدّين. فقال : أخزى الله ما لا يمنع الإخوان من الزيارة. ثم أمر مناديا ينادي : من كان لقيس عليه مال فهو منه في حلّ.

٥٧

وأخذ عمر بن الخطاب صرة فيها أربعمائة دينار ، وقال لغلامه : اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ، ثم تلكأ ساعة في البيت حتى تنظر ما ذا يصنع بها ، فذهب الغلام وقال لأبي عبيدة : يقول لك أمير المؤمنين ، اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال : وصله الله ورحمه ، ثم قال : تعالي يا جارية ، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان ، وبهذه الخمسة إلى فلان ، حتى نفدت ، وعاد الغلام وأخبر عمر فأعطاه مثلها لمعاذ بن جبل ، وأمره بمعرفة ما يصنع فيها ، ففعل معاذ ما فعله أبو عبيدة ، لكن امرأته قالت : ونحن والله مساكين فأعطنا ، ولم يبق في الصرة إلا ديناران فأعطاهما لها. ولما عرف عمر ذلك سرّ سرورا كبيرا ، وقال : إنهم إخوة بعضهم من بعض.

ولقد جاء الرسول ضيف لم يجد له ما يطعمه ، فقال لأصحابه : من يضيف هذا الليلة؟. فقال رجل من الأنصار اسمه أبو طلحة (١) ـ أو أبو المتوكل ـ : أنا يا رسول الله. وذهب به إلى بيته ، وليس فيه إلا قوت أطفاله ، فقال لزوجته : علّلي الأطفال بشيء ، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي المصباح وأريه أنّا نأكل معه. وقعدوا وأكل الضيف وهما معه لا يأكلان ، فلما أصبح الصباح قال النبي للأنصاري : «قد عجب الله عزوجل من صنيعكما بضيفكما».

ولقد آثر الصحابة رسول الله بنفوسهم ، وهذا أبو طلحة يحمي النبيّ بنفسه في غزوة أحد ، فإذا تطلع الرسول ليرى القوم قال له أبو طلحة حريصا على حياته : لا تشرف يا رسول الله ، لا يصيبونك ، نحري دون نحرك.

وهذه عائشة رضي الله عنها سألها مسكين شيئا وهي صائمة ، وليس في بيتها إلا رغيف ، فقالت لخادمتها : أعطيه إياه. فقالت : ليس لك ما تفطرين عليه ، فقالت : أعطيه إياه ، ففعلت ، وفي المساء أهدي إليهم شاة بكفنها. فقالت عائشة للفتاة : كلي من هذا ، فهذا خير من قرصك. (وكان من عادة العرب أن يذبحوا الشاة ويسلخوها ويغطوها بعجين من القمح ، ثم يضعوها

__________________

(١) اقرأ قصة بطولته في كتابي «فدائيون في تاريخ الإسلام» ، ص ١١٦.

٥٨

في التنور ، فيشرب العجين دسم الشاة ، وذلك العجين يسمونه كفن الشاة).

ومن إيثار عائشة أنه لما طعن عمر بن الخطاب قال لابنه عبد الله : يا عبد الله بن عمر ، اذهب إلى أم المؤمنين عائشة فقل لها : يقرأ عمر بن الخطاب عليك السّلام. ثم سلها أن أدفن مع صاحبيّ (يقصد النبيّ وأبا بكر). فقالت : كنت أريده لنفسي ، فلأوثرنه على نفسي ، فلما عاد عبد الله قال له أبوه : ما لديك؟. فأجاب : أذنت لك يا أمير المؤمنين.

وفي غزوة اليرموك انطلق حذيفة العدوي بشربة ماء يبحث بها عن ابن عم له ليسقيه ، وهو يقول : إن كان به رمق سقيته. فوجده جريحا بين الحياة والموت ، فقال له : أسقيك؟. فأشار له برأسه أن نعم ، ثم رأى رجلا بجواره يردّد : آه آه. فأشار إلى ابن عمه ليذهب بالشربة إلى ذلك الرجل ، وكان هشام بن العاص ، فلما همّ هشام أن يشرب سمع ثالثا يردد : آه آه. فأمر الساقي بأن يذهب إليه بالماء ، فلما بلغه الساقي وجده قد مات ، فعاد إلى هشام فوجده قد مات ، فعاد إلى ابن عمه فوجده قد مات.

وما أكثر الأمثلة الرائعة للإيثار في تاريخ السلف من أبناء الإسلام ، مما يعدّ في نظر العامة من الناس كالرّؤى أو الأحلام.

* * *

هذا ولقد اشترط بعض الصوفية في إيثارك الخلق على نفسك ألا يفسد عليك ذلك دينك ، أو يقطع طريق عبادتك وتقرّبك من الله ، ويقول ابن خبيق الأنطاكي : «إن استطعت ألا يسبقك أحد إلى مولاك فافعل ، ولا تؤثر على مولاك شيئا». ولذلك كرهوا أن يؤثر الإنسان غيره بالجلوس في الصف الأول في الجماعات والجمع وما أشبه ذلك ، لأن الإيثار يكون في أمور الدنيا لا في الطاعات والقربات ، ولكن أبا حفص النيسابوري يقول : «الإيثار أن تقدم حظوظ الإخوان على حظك في أمر آخرتك ودنياك». وقد يكون

٥٩

من المواطن الصالحة لإيثار الضعيف بموطن الطاعة مواقف استلام الحجر الأسود ، والصلاة عند مقام إبراهيم ، والأخذ من ماء زمزم ، فإن الملاحظ أن الزحام يشتد في مواسم الحج عند هذه المواطن ، فيستأثر القويّ ويتمكن من الاستلام والصلاة والشرب ، على حين لا يتمكن ضعفاء أو نساء أو شيوخ عجزة من ذلك ، فقد يكون الأجمل بالمؤمن القوي أن تبدو منه فضيلة الإيثار في مثل هذه المواقف.

ألا إن الإيثار فضيلة سامية ، ومحمدة عالية ، يتحلى بها الأخيار الأبرار من الناس ، فإن استطعت السبيل إليها فلا تتقاعس ، وإن لم تستطع أن تكون من أهل الإيثار فلا أقلّ من أن تحارب في نفسك رذيلة الأثرة ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

٦٠