موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٢

نيابة عنه ، والله واسع الفضل والعطاء ، فلو أخلص الانسان في الدعاء لكان شكرا عظيما.

هذا وللصوفية أقوال كثيرة في تصوير الشكر ، فقال بعضهم : «الشكر هو مشاهدة المنة وحفظ الحرمة». وقال ثان : «الشكر معرفة العجز عن الشكر». وقال ثالث : «الشكر اضافة النعم إلى موليها بنعت الاستكانة له». وقال رابع : «الشكر أن لا ترى نفسك أهلا للنعمة». وقال خامس : «الشكر استفراغ الطاقة». وقال سادس : «الشكر التلذذ بثنائه ، على ما لم تستوجب من عطائه».

اللهم اجعلنا أهلا لنعمتك ، ووفقنا لواجب ذكرك وشكرك.

١٢١

الرحمة

كلمة «الرحمة» في لغة العرب تدل على الرقة والعطف ، والرأفة والمغفرة ، والرحم علاقة القرابة ، والرحيم المبالغ في الرحمة ، والرحمة كما يقول العلماء رقة تقتضي الإحسان الى المرحوم ، وقد تستعمل تارة في الرقة المجردة ، وتارة في الاحسان المجرد من الرقة ، نحو : رحم الله فلانا ، وإذا نسب وصف الرحمة إلى الله تعالى فلا يراد به إلا الاحسان المجرد من الرقة ـ كما يقول الأصفهاني ـ وعلى هذا روي أن الرحمة من الله إنعام وإفضال ، ومن الآدميين رقة وتعطف ، وعلى هذا جاء الحديث القدسي : «أنا الرحمن ، وأنت الرحيم ، شققت اسمك من اسمي ، فمن وصلك وصلته ، ومن قطعك قطعته» فهذا إشارة إلى أن الرحمة منطوية على معنيين : الرقة والاحسان ، فركز الله تعالى في طبائع الناس الرقة ، وتفرد بالاحسان.

وقد يعبر عن الرحمة بكلمة «لين الجانب» كما في سورة آل عمران : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) ، وقد يعبر عنها بخفض الجناح ، كما في سورة الحجر : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) وفي سورة الاسراء : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).

والرحمة فضيلة إسلامية قرآنية ، تدل على قوة صاحبها ونبله ، لأنه لا يحتكر الخير لنفسه ، ولا يهمل التفكير في سواه ، بل هو يحس بآلام الآخرين ، ويقدر مشاعرهم ، ويسهم في معاونتهم ، ويخفف عنهم حينما يستحقون التخفيف.

١٢٢

والرحمة خلق لا يتنافى مع التأديب اللازم والعقاب المناسب ، والله وهو خير الراحمين لم تتناف رحمته الشاملة الكاملة مع عقوباته التي حددها ، وزواجره التي توعد بها ، لأن تشريع الله الحكيم يمضي بين الترغيب والترهيب على صراط سواء.

وليست الرحمة خلق ضعف كما يزعم بعض الزاعمين ، لأن الرحمة الأصيلة هي التي تنبعث عن قدرة ذاتية تستطيع أن تكون حازمة وصارمة ، ولكنها تقدر الظروف ، وتشعر بالمشاركة الوجدانية ، فتتنازل عن بعض حقها عن طيب خاطر ، وتترفق بمن يستحق الترفق واللين ، فهي في الواقع قوتان لا قوة واحدة قوة الاقتدار ، ثم قوة التحكم في النفس لحملها على أن ترحم ، وقد كانت قادرة على أن تقسو وتعنف.

وللرحمة مواطن كثيرة ، فهناك موطن الرحمة بالأبوين ، والرحمة بالأولاد والزوجات ، والرحمة بالأقارب وذوي الأرحام ، والرحمة باليتامى والمساكين والضعفاء كالمرضى والمصابين وذوي العاهات ، ثم الرحمة بالحيوان ، وهكذا تتسع آفاق الرحمة حتى تشمل جوانب فسيحة من الحياة ، وعددا ضخما من الأحياء.

وقد حث القرآن الكريم على التحلي بفضيلة الرحمة مع أحق الناس بهذه الرحمة وهم الآباء والأمهات ، فقال القرآن في سورة الاسراء : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (١) (وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً).

يذكر بعض المفسرين ـ وهو القرطبي ـ في قوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) أن هذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما ، والتذلل لهما ، وضرب خفض الجناح ونصبه مثلا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده ،

__________________

(١) أف : كلمة تضجر.

١٢٣

والذل هو اللين ، فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الانسان نفسه مع أبويه في خير ذلة ، في أقواله وسكناته ونظراته ، ولا يحد اليهما النظر.

وقوله تعالى (مِنَ الرَّحْمَةِ) لبيان الجنس ، أي ان هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس ، لا بأن يكون ذلك استعمالا ، ثم أمر تعالى عباده بالترحم على آبائهم والدعاء لهم ، فيقول للانسان إنه يجب عليك أن ترحمهما كما رحماك ، وترفق بهما كما رفقا بك ، اذ تولياك صغيرا جاهلا محتاجا ، فآثراك على أنفسهما ، وأسهرا ليلهما ، وجاعا واشبعاك ، وتعريا وكسواك ، فلا تجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر الحدّ الذي كنت فيه من الصغر ، فتتولى منهما ما توليا منك ، ويكون لهما حينئذ فضل التقدم.

وأرشد القرآن الى أن علاقة الزوج بزوجته ينبغي أن تنهض على المحبة والرحمة. فقال في سورة الروم : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). والرحمة بين الزوجين تتطلب المعاشرة بالمعروف ، واحتمال الهفوة وصنع الجميل.

وكذلك وصف القرآن الكريم أتباع محمد عليه الصلاة والسّلام ، الذين استجابوا له وساروا معه ، بأنهم رحماء فيما بينهم ، فقال في سورة محمد : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) ، وأشار إلى مثل هذا حين قال في سورة المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ).

وجعل القرآن من صفات المؤمنين أن يوصي بعضهم بعضا برحمة الضعيف والتعطف عليه ، فقال في سورة البلد : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ). وحذر من الافساد في الأرض وجعله قرينا لتضييع معاني الرحمة من النفوس ، فقال في سورة محمد : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) وتقطيع الأرحام كناية عن ترك

١٢٤

المودة والتواصل ، وعن فساد العلاقات.

ويدل على جلال صفة «الرحمة» أنها صفة من صفات الله عزوجل ، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك في جملة آيات ، فقال في سورة الأنعام : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). وفيها : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) وفي سورة يوسف : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وفي سورة المؤمنون : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) وفي سورة غافر : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) وهناك عشرات من الآيات الكريمة جاء فيها وصف الله تعالى بالرحمة.

ونجد كل سورة من سور القرآن الكريم مبدوءة بقول الله جل جلاله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). ولفظ الرَّحْمنِ كما يقول بعض المفسرين يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل ، وهي إفاضة النعم والاحسان ، ولفظ الرحيم يدل على منشأ هذه الرحمة والاحسان ، على أنها من الصفات الثابتة الواجبة ، فالرحمن هو المفيض للنعم بسعة وتجدد لا منتهى لهما ، والرحمن هو الثابت له وصف الرحمة لا يزايله أبدا. ويقول الامام محمد عبده : «الرحمن الرحيم مشتقان من الرحمة ، وهي معنى يلم بالقلب فيبعث صاحبه ، ويحمله على الاحسان الى غيره ، وهو محال على الله تعالى بالمعنى المعروف عند البشر ، لأنه في البشر ألم في النفس شفاؤه الإحسان ، والله تعالى منزه عن الآلام والانفعالات فالمعنى المقصود بالنسبة اليه من الرحمة أثرها وهو الاحسان».

وبعض العلماء يرى أن كلمة (الرَّحْمنِ) تفيد معنى الرحمة الشاملة التي تشمل المؤمنين وغيرهم ، وأن كلمة (الرَّحِيمِ) تفيد معنى الرحمة المقصورة على المؤمنين ، ولذلك يقال : الله تعالى رحمن الدنيا رحيم الآخرة ، وذلك أن إحسانه في الدنيا يعم المؤمنين والكافرين ، وفي الآخرة يختص بالمؤمنين ، وعلى هذا قال القرآن المجيد : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) تنبيها على أنها في الدنيا عامة للمؤمنين والكافرين ، وأنها في الآخرة مختصة بالمؤمنين.

١٢٥

وقد يعاون على هذا الفهم أن القرآن يقول في سورة الأعراف : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). وقد علق الامام ابن القيم على هذه الآية في «بدائع الفوائد» بقوله : «وقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) له دلالة بمنطوقه ، ودلالة بإيمائه وتعليله ، ودلالة بمفهومه ، فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الاحسان ، ودلالته بتعليله وإيمائه على أن هذا القرب مستحق بالاحسان ، فهو السبب في قرب الرحمة منهم ، ودلالته بمفهومه على بعد الرحمة من غير المحسنين. فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة.

وإنما اختص أهل الاحسان بقرب الرحمة منهم لأنها إحسان من الله أرحم الراحمين ، وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الاحسان ، لأن الجزاء من جنس العمل ، فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته. وأما من لم يكن من أهل الاحسان ، فإنه لما بعد عن الاحسان بعدت عنه الرحمة ، بعدا ببعد ، وقربا بقرب ، فمن تقرب بالاحسان تقرب الله اليه برحمته ، ومن تباعد عن الاحسان تباعد الله عنه برحمته ، والله سبحانه يحب المحسنين ، ويبغض من ليس من المحسنين ، ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ، ومن أبغضه فرحمته أبعد شيء منه ، والاحسان ها هنا هو فعل المأمور به سواء كان إحسانا إلى الناس أو إلى نفسه».

* *

والرسول عليه الصلاة والسّلام هو المثل الأعلى والقدوة الحسنة لأهل القرآن ، وقد وصفه التنزيل المجيد في أكثر من آية بفضيلة الرحمة ، فقال في سورة آل عمران : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). وقال في سورة التوبة : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ). وقال في

١٢٦

سورة الأنبياء : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) الى غير ذلك من الآيات. ولقد تحدث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه عن صفة الرحمة في نفسه الشريفة ، فجاء عنه أكثر من حديث حول هذه الصفة ، فقال : «أنا رحمة مهداة». وقال : «إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانا». وحبب في الرحمة ، وذكّر بثوابها وحسن عاقبتها ، فقال : «الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى». وقال : «إنما يرحم الله من عباده الرحماء». وقال : «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». وقال : «من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه‌الله يوم القيامة». وأنذر من يتنكر لفضيلة الرحمة ، فقال : «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» وقال : «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا». وكأن الامام علي بن أبي طالب اهتدى بهذا الهدي النبوي فقال في «نهج البلاغة» هذه العبارة : «ليتأس صغيركم بكبيركم ، وليرأف كبيركم بصغيركم».

وما أكثر المواقف التي تجلت فيها رحمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكفي أن يعود الانسان الى كتاب مبسوط من كتب السيرة أو الشمائل ، ليجد الفيض الكبير الكريم من الأدلة والشواهد على رحمة رسول الله عليه الصلاة والسّلام التي اتسعت وانفسحت ، حتى شملت الجوانب العديدة من الحياة والاحياء. لقد رحم الصغير والكبير ، ورحم القريب والبعيد ، ورحم الراشد والشارد ، ورحم الصديق والعدو ، ورحم الانسان والحيوان ، وحسبنا أن نتذكر هنا أنه القائل : «دخلت امرأة النار في هرة حبستها ، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض (١)» وهو الذي أخبر بمغفرة الله تعالى لامرأة خاطئة بسبب رحمتها كلبا استبد به العطش فسقته.

ولقد بلغ من رحمته أنه كان يصلي بالناس رجالا ونساء ، وفي نيته أن يطيل صلاته استلذاذا لها ، واستغراقا فيها ، واستبشارا بها ، ولكنه يسمع بكاء طفل ، فيخفف في صلاته رحمة بالطفل الباكي ، لعله في حاجة الى رعاية ، ورحمة

__________________

(١) خشاش الارض : ما يصلح لأكلها مما هو مطروح على الأرض.

١٢٧

بأمه التي تصلي خلف الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى لا تقلق على وليدها.

وقد علمنا عليه الصلاة والسّلام كيف نتحلى بفضيلة الرحمة في كثير من المواطن ، وقد فصلت السنة هذه المواطن ، ومنها موطن المعاملة للخدم والفعلة الذين يعملون ، فقال : «من كان أخوه تحت يده (أي يخدمه) فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم».

وها هو ذا صلوات الله وسلامه عليه يرى عائشة تركب جملا توجهه يمينا وشمالا في شيء من الحدة ، فقال لها : يا عائشة ، عليك بالرفق ، فإنه لا يدخل في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه».

هذا ومعنى الرحمة قريب من معنى الرفق ، وقد تحدث الغزالي في «إحياء علوم الدين» عن فضيلة الرفق فقال : «اعلم أن الرفق محمود ، ويضاده العنف والحدة ، والعنف نتيجة الغضب ، وقد يكون سببها شدة الحرص واستيلاؤه ، بحيث يدهش عن التفكر ، ويمنع من التثبت ، فالرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق ، ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة ، وحفظهما على حد الاعتدال.

ولأجل هذا أثنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الرفق ، وبالغ فيه ، فقال : «يا عائشة. إنه من أعطي حظّه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة ، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من خير الدنيا والآخرة».

ثم ساق طائفة كريمة من الأحاديث ، أسانيد بعضها ضعيفة ، ونترك هذا الضعيف ، ونورد ما يلي :

١ ـ إن الله ليعطي على الرفق ما يعطي على الخرق (١) ، وإذا أحب الله عبدا

__________________

(١) الخرق : الحمق وسوء التصرف.

١٢٨

أعطاه من الرفق ، وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا محبة الله تعالى.

٢ ـ إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف.

٣ ـ يا عائشة ، ارفقي ، فإن الله إذا أراد بأهل بيت كرامة دلهم على باب الرفق

٤ ـ من يحرم الرفق يحرم الخير كله.

٥ ـ أيما وال ولي فرفق ولان رفق الله تعالى به يوم القيامة.

٦ ـ تدرون من يحرم على النار يوم القيامة؟ كل هين لين سهل قريب.

ولقد خطب عمر بن الخطاب يوما في عماله يحثهم على اللين والرفق والرحمة فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : «أيها الناس ، أيتها الرعية ، إن لنا عليكم حقا : النصيحة بالغيب ، والمعاونة على الخير ، أيتها الرعاة ، إن للرعية عليكم حقا ، فاعلموا أنه لا شيء أحب الى الله ولا أعز ، من حلم إمام ورفقه ، وليس جهل أبغض الى الله ولا أغم ، من جهل إمام وخرقه ، واعلموا أنه من يأخذ بالعافية فيمن بين ظهريه ، يرزق العافية من دونه».

وجاء في الخبر : «العلم خليل المؤمن ، والحلم وزيره ، والعقل دليله ، والعمل قيّمه ، والرفق والده ، واللين أخوه ، والصبر أمير جنوده».

اللهم هبنا الثبات على فضيلة اللين والرحمة إنك أنت الرحمن الرحيم.

١٢٩

الاعتبار

إن مادة «عبر» كما يذكر «معجم مقاييس اللغة» لها أصل واحد يدل على النفوذ والمضيّ في الشيء ، والعابر هو الناظر في الشيء ، والعبرة كالموعظة مما يتعظ به الانسان ويعمل به ويعتبر ليستدل به على غيره ، والعبرة ـ بفتح فسكون ـ هي الدمع لأنه يجري ، والاستعبار تحلّب الدمع ، وفي حديث أبي بكر أنه ذكر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم استعبر فبكى.

والعبرة ـ بكسر فسكون ـ هي الحالة التي يتوصل بها العاقل من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد ، والعبرة أيضا هي الدلالة الموصّلة إلى اليقين ، المؤديّة إلى العلم ، وهي من العبور ، كأنها طريق يعبر به ، ويتوصل به إلى المراد ، وقيل : العبرة هي الآية التي يعبر بها الانسان من منزلة الجهل إلى منزلة العلم ، وقد جاء في حديث أبي ذر : فما كانت صحف موسى؟. قال : كانت عبرا كلها. ومن طبيعة المعتبر بالأشياء أو بالآيات أو الأخبار أن تتكون له صفة يقتدر بها على ترك الجهل وبلوغ العلم حسبما يلوح له من عبر. وحينما يقول الحق جل جلاله : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) كأنه قد قال وهو أعلم بمراده : انظروا إلى من فعل ما فعل ، فجوزي بما جوزي به ، فتجنبوا صنيع الأشرار من السابقين ، لئلا ينزل بكم مثل ما نزل بأولئك.

وفي مادة «العبرة» معنى الضبط والتمييز ، ولذلك تقول اللغة : عبّر الصيرفيّ الدنانير تعبيرا : أي وزنها دينارا دينارا. وفيها معنى البيان والإيضاح ، ولذلك يقول القرآن الكريم : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ

١٣٠

إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أي تفسرونها ببيان المعنى الحقيقي المراد من المعنى الخيالي.

وفي الاعتبار معنى الإحساس بدلالات الآيات ، سواء أكانت حسية أم معنوية ، وفيه معنى التأمل والتفكر ، مما يربي في نفس المعتبر فضيلة التأثر بالعظة ، والاستجابة للنصيحة ، والتقبل للتوجيه ، والإفادة من سابق التجارب ، أو قائم الدلائل والمشاهد ، وقد أمر القرآن الكريم بالاعتبار ، فقال في سورة الحشر : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) وربط بين العبرة ومواطنها المتعلقة بما خلق الله وأبدع في كونه من أشياء دالة على قدرته داعية إلى خشيته ، فنراه يقول في سورة النحل : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ (١) وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ). ويقول في سورة المؤمنون : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها ، وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ). ويقول في سورة النور (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ).

ولقد أشار القرآن الكريم إلى غزوة بدر في سورة آل عمران فقال : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا : فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ، وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ).

وجاء «تفسير المنار» فتحدث عن معنى الآية ، ثم أشار إلى فضيلة الاعتبار التي ينوه بها كتاب الله تعالى ويوجه إليها ، فقال فيما قال :

«وجملة القول أن الآية ترشد إلى الاعتبار بمثل الواقعة المشار إليها (يعني غزوة بدر) التي غلبت فيها فئة قليلة فئة كثيرة بإذن الله ، ولذلك قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي لأصحاب الأبصار الصحيحة التي استعملت فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور ، بقصد الاستفادة منها ، إلا لمن وصفوا بقوله : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ

__________________

(١) الفرث : ما في الكرش من فضلات الطعام.

١٣١

لا يَسْمَعُونَ بِها ، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ).

وقال بعض المفسرين إن الأبصار هنا بمعنى البصائر والعقول من باب المجاز ، وقال بعضهم : يعني بأولي الأبصار من أبصروا بأعينهم قتال الفئتين ، وما ذكرته أظهر ، ولا أحفظ عن الأستاذ الإمام من هذا شيئا ، وإنما تكلم عن العبرة فقال ما مثاله مبسوطا مزيدا فيه :

وجه العبرة أن هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيّد الفئة القليلة فتغلب الكثيرة بإذن الله. وقد ورد في القرآن ما يمكن أن نفهم به سنته تعالى في مثل هذا التأييد ، لأن القرآن يفسّر بعضه بعضا ، ويجب أخذه بجملته. بل هذه الآية نفسها تهدي إلى السر في هذا النصر ، فإنه قال : (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) ومتى كان القتال في سبيل الله ـ أي سبيل حماية الحق والدفاع عن الدين وأهله ـ فإن النفس تتوجه إليه بكل ما فيها من قوة وشعور ووجدان. وما يمكنها من تدبير واستعداد ، مع الثقة بأن وراء قوتها معونة الله وتأييده».

ولقد عاد الكتاب المجيد إلى التنويه بشأن العبرة والاعتبار فقال في ختام سورة يوسف : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). وجاء في «تفسير سورة يوسف» للبيطار أن أولي الألباب هم أصحاب العقول الراجحة ، لأن أهل البصيرة والرؤية من العقلاء هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدل عليها أوائلها ومقدماتها ، بعد التأمل في حقيقتها وصفاتها ؛ وأما الأغرار الغافلون ، والظالمون المعاندون ، فلا يمرنون عقولهم على الاستقلال في النظر ، والاعتبار بما جرى على الأفراد والأمم ، فلا يفيدهم النصح والتذكير ، ولا سوء العاقبة والمصير.

ويقبل الرازي ليقول في الآية نفسها : «اعلم أن الاعتبار عبارة عن العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول ، والمراد منه التأمل والتفكر ، ووجه الاعتبار بقصصهم أمور :

الأول : أن الذي قدر على إعزاز يوسف ، بعد إلقائه في الجبّ ، وإعلائه

١٣٢

بعد حبسه في السجن ، وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون به أنه عبد لهم ، وجمعه مع والديه وإخوته على ما أحبّ ، بعد المدة الطويلة ، لقادر على إعزاز محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإعلاء كلمته.

الثاني : أن الإخبار عنه جار مجرى الإخبار عن الغيب ، فيكون معجزة دالة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثالث : أنه ذكر في أول السورة : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ،) ثم ذكر في آخرها : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) تنبيها على أن حسن هذه القصة إنما كان بسبب أنه يحصل منها العبرة ومعرفة الحكمة والقدرة.

والمراد من قصصهم قصة يوسف عليه‌السلام وإخوته وأبيه ؛ ومن الناس من قال : المراد قصص الرسل ، لأنه تقدّم في القرآن ذكر قصص سائر الرسل : إلا أن الأولى أن يكون المراد قصة يوسف عليه‌السلام. فإن قيل : لم قال عبرة لأولي الألباب ، مع أن قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا ذوي عقول وأحلام ، وقد كان الكثير منهم يعتبر بذلك؟ قلنا : إن جميعهم كانوا متمكنين من الاعتبار. والمراد من وصف هذه القصة بكونها عبرة كونها بحيث يمكن أن يعتبر بها العاقل. أو نقول : المراد من أولي الألباب الذين اعتبروا وتفكروا وتأملوا فيها ، وانتفعوا بمعرفتها ، لأن أولي الألباب لفظ يدل على المدح والثناء ، فلا يليق إلا بما ذكرنا».

ونحن نفهم من هذا البيان أن فضيلة الاعتبار بالوقائع والأحداث والأخبار الماضية أو اللاحقة إنما هي من نصيب العقلاء الفضلاء الذين ينظرون ويتفكرون ويتدبرون ، فتتأثر قلوبهم وألبابهم بما علموا أو شاهدوا ، وتستجيب ارواحهم لدواعي الخير والبر ، وتنصرف نفوسهم عن وساوس الشر ودواعي الإثم.

ونفهم أيضا أن خير ما يبث اضواء الاعتبار في صدر الانسان العاقل هو ما قصه القرآن المجيد من قصص وانباء ، فخير الحديث كتاب الله جل وعلا ، ومن أصدق من الله حديثا.

ونفهم كذلك أن من يمر على العظة او العبرة ، دون أن يدركها او يتأثر بها

١٣٣

او يعتبر عندها ، يكون كمن فقد العقل ، او فقد البصر ، ويكون قد تبلد شعوره وإحساسه ، وتجمد تفكيره وإدراكه ، اولئك كالأنعام بل هم اضل ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

ويقبل النيسابوري ليحدثنا ايضا عن آية سورة يوسف السالفة الذكر ، فيذكر ان العبرة نوع من الاعتبار ، وهي العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول ، ووجه الاعتبار على العموم ان يعلم الانسان أنه لا خير إلا في العمل الصالح ، والتزود بزاد التقوى ، فإن الملوك الذين عمروا البلاد ، وقهروا العباد ، ثم لم يراعوا حقّ الله في شيء من ذلك ، ماتوا وانقرضوا ، وبقي الوزر والوبال عليهم ، والذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب ، وإعلاء شأنه بعد سجنه ، واجتماعه بأهله بعد غربته ، قادر على نصر محمد وإعلاء كلمته.

ويقص القرآن الكريم علينا قصة موسى باختصار في سورة النازعات ، ثم يعقب عليها بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) اي إن فيما قصّه الله تعالى من قصة موسى وفرعون لعبرة وموعظة لمن يخاف الله ويخشى عقابه ، ولمن له عقل يتدبر به عواقب الأمور ومصائرها ، فينظر في حوادث الماضين واحوال الحاضرين ، ويتعظ بها ، ثم يعقب القرآن على ذلك بعرض صور من كتاب الله المنظور ، وهو الكون ليفجّر في نفس المؤمن الواعي ينابيع هذا الخلق الكريم ، وهو الاعتبار ، فيقول عقب ذلك مباشرة : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها ، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ، وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها ، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها ، وَالْجِبالَ أَرْساها ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (١). ثم يتبع ذلك بذكر العاقبة التي ستختلف باختلاف الناس ما بين بر وفاجر ، او صالح وطالح ، او معتبر وغافل ، فيقول : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى ، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى فَأَمَّا مَنْ

__________________

(١) سَمْكَها : أي ثخانتها. وأَغْطَشَ : أظلم. وأَخْرَجَ ضُحاها : أبرز نهارها. ودَحاها : بسطها. ومَرْعاها : أقواتها. وأَرْساها : ثبتها.

١٣٤

طَغى ، وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ، وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى).

وإذا كان القرآن المجيد قد تحدث عن فضيلة الاعتبار هذا الحديث الواعظ الناصح ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أشار إلى العبرة والاعتبار في نهاية الحديث المنسوب إليه الذي يقول : «أوصاني ربي بتسع أوصيكم بها : أوصاني بالاخلاص في السر والعلانية ، والقصد في الغنى والفقر ، والعدل في الرضى والغضب ، وان أصل من قطعني ، وأعطي من حرمني ، وأعفو عمن ظلمني ، وان يكون نطقي ذكرا ، وصمتي فكرا ، ونظري عبرا». وإذا كان الحديث هنا قد ذكر مادة الاعتبار الذي ينشأ عن التأمل والنظر والتفكر ، فإنه في مقام آخر قد اشار إلى هذا الاعتبار وإن لم يصرح بمادته أو اسمه ، وذلك في قوله : «إن الرائد لا يكذب أهله ، والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم ، ولو غششت الناس جميعا ما غششتكم ، والله الذي لا إله إلا هو لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبنّ على ما تعملون. ولتجزونّ بالاحسان إحسانا ، وبالسوء سوءا ، وإنها لجنة أبدا ، او لنار أبدا».

* *

وإذا رجعنا إلى كتاب «نهج البلاغة» وجدنا الإمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه ، يكرر الاشارة إلى العبرة والاعتبار ، فنراه مثلا يقول : «إنما ينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار ، ويقتات منها ببطن الاضطرار ويسمع منها بأذن المقت والابغاض». وفي موطن ثان يقول :

«او ليس لكم في آثار الأولين مزدجر ، وفي آبائكم الأولين تبصرة ومعتبر ، إن كنتم تعقلون؟ او لم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون ، وإلى الخلف الباقين لا يبقون؟ او لستم ترون اهل الدنيا يمسون ويصبحون على احوال شتى ، فميت يبكى ، وآخر يعزّى ، وصريع مبتلى ، وعائد يعود ، وآخر بنفسه

١٣٥

يجود ، وطالب للدنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس بمغفول عنه ، وعلى أثر الماضي يمضي الباقي».

وفي موطن ثالث يقول : «إن الأمور اذا اشتبهت اعتبر آخرها بأولها».

ويعلق على هذا ابن ابي الحديد في شرحه لنهج البلاغة فيقول : «وذلك ان المقدمات تدل على النتائج ، والأسباب تدل على المسببات ، وطالما كان الشيئان ليسا علة ومعلولا ، وإنما بينهما أدنى تناسب ، فيستدل بحال أحدهما على حال الآخر ، وإذا كان كذلك. واشتبهت أمور على العاقل الفطن ، ولم يعلم إلى ما ذا تؤول ، فانه يستدل على عواقبها بأوائلها ، وعلى خواتمها بفواتحها ، كالرعية ذات السلطان الركيك الضعيف السياسة ، إذا ابتدأت أمور مملكته تضطرب ، واستبهم على العاقل كيف يكون الحال في المستقبل ، فانه يجب عليه أن يعتبر أواخرها بأوائلها. ويعلم أنه سيفضي أمر ذلك الملك إلى انتشار وانحلال في مستقبل الوقت ، لأن الحركات الأولى منذرة بذلك ، وواعدة بوقوعه ، وهذا واضح».

وفي موطن رابع يقول الإمام علي «من حاسب نفسه ربح ، ومن غفل عنها خسر ، ومن خاف أمن ، ومن اعتبر أبصر ، ومن أبصر فهم ، ومن فهم علم». ويعلق ابن ابي الحديد بأنه قد جاء في الحديث المرفوع : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا». وقوله : «من خاف أمن» أي من اتقى الله أمن عذابه يوم القيامة. وقوله : «ومن اعتبر أبصر» أي من قاس الأمور بعضها ببعض ، واتعط بآيات الله وأيامه ، أضاءت بصيرته ، ومن أضاءت بصيرته فهم ، ومن فهم علم. فان قيل : الفهم هو العلم فما الحاجة الى ان يقول : ومن فهم علم؟ فالجواب : إن الفهم هاهنا هو معرفة المقدمات ، ولا بد أن تعقب معرفة المقدمات معرفة النتيجة ، فمعرفة النتيجة هي العلم ، فكأنه قال : من اعتبر تنور قلبه بنور الله تعالى ، ومن تنور قلبه عقل المقدمات البرهانية ، ومن عقل المقدمات البرهانية علم النتيجة الواجبة عنها ، وتلك هي الثمرة الشريفة التي في مثلها يتنافس المتنافسون.

١٣٦

وفي موطن خامس يقول الإمام : «ما أكثر العبر وأقل الاعتبار». وفي الشرح تأتي هذه العبارة :

«ما أوجز هذه الكلمة ، وما أعظم فائدتها. ولا ريب ان العبر كثيرة جدا ، بل كل شيء في الوجود ففيه عبرة ، ولا ريب أن المعتبرين بها قليلون ، وأن الناس قد غلب عليهم الجهل والهوى ، وأرداهم (١) حب الدنيا ، وأسكرهم خمرها ، وان اليقين في الأصل ضعيف عندهم ، ولو لا ضعفه لكانت أحوالهم غير هذه الأحوال».

* *

هذا وللاعتبار عند الأصحاء من الصوفية شأن وأي شأن ، فان الصوفي الصادق هو خير من ينظر ويفكر ويعتبر ، وخير من يتذكر على الدوام قول القائل :

وفي كل شيء له آية

تدل على انه الواحد

وما اكثر ما يثيره الاعتبار في نفس هذا المتدبر المعتبر من لواعج الخشية ودوافع التقوى ، ومن هنا رأينا الإمام ابن القيم في كتابه : «مدارج السالكين» يشرح لنا كيف يستلزم الاعتبار الانتفاع بالعظة عند القوم ، فيقول : «الانتفاع بالعظة هو أن يقدح في القلب قادح الخوف والرجاء ، فيتحرك للعمل ، طلبا للخلاص من الخوف ، ورغبة في حصول المرجو. والعظة هي الأمر او النهي المعروف بالترغيب والترهيب. والعظة نوعان : عظة بالمسموع وعظة بالمشهود ، فالعظة بالمسموع الانتفاع بما يسمعه من الهدى والرشد ، والنصائح التي جاءت على لسان الرسل وما أوحي إليهم ، وكذلك الانتفاع بالعظة من كل ناصح ومرشد في مصالح الدين والدنيا. والعظة بالمشهود الانتفاع بما يراه ويشهده في

__________________

(١) أرداهم : أهلكهم ، والردى هو الهلاك.

١٣٧

العالم من مواقع العبر وأحكام القدر ومجاريه ، وما يشاهده من آيات الله الدالة على صدق رسله.

واما استبصار العبرة فهو زيادة البصيرة عما كانت عليه في منزل التفكر بقوة الاستحضار ، لأن التذكر يعتقل المعاني التي حصلت بالتفكر في مواقع الآيات والعبر ، فهو يظفر بها بالتفكر ، وتنصقل له وتتجلى بالتذكر ، فيقوى العزم على السير بحسب قوة الاستبصار ، لأنه يوجب تحديد النظر فيما يحرك المطلب ، اذ الطلب فرع الشعور ، فكلما قوي الشعور بالمحبوب اشتد سفر القلب اليه ، وكلما اشتغل الفكر به ازداد الشعور به ، والتبصر فيه ، والتذكر له».

ويقول ابو عبد الله السجزي الصوفي : «العبرة أن تجعل كلّ حاضر غائبا ، والفكرة ان تجعل كل غائب حاضرا». ويا لها من طاقة روحية اخلاقية لا يقتدر عليها الا السابقون في التحلي بمكارم الأخلاق. وكذلك يقول حاتم الأصم الصوفي : «الشهوة ثلاثة : شهوة في الأكل ، وشهوة في الكلام ، وشهوة في النظر ، فاحفظ الأكل بالثقة ، واللسان بالصدق ، والنظر بالعبرة».

نسأل الله جل جلاله أن يجعلنا من اهل العبرة والاعتبار : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).

١٣٨

التذكر

كلمة «التذكر» مشتقة من مادة الذكر ، والذكر ضد النسيان ، يقال : ذكرت الشيء ، خلاف نسيته ، ثم حملوا عليه الذكر باللسان ، وانما سموا الذكر باللسان ذكرا لأنه دلالة على الذكر القلبي ، غير أنه لما كثر اطلاق الذكر على القول اللساني صار هو السابق الى الفهم. وهم يقولون : اجعل هذا الشيء منك على ذكر ـ بضم الذال ـ أي لا تنسه ، والذكر أيضا يراد به العلاء والشرف ، ومنه قوله تعالى في سورة الزخرف : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ).

والذكر يقال تارة ويراد به هيئة النفس التي يمكن بها أن يحفظ الإنسان ما يقتنيه من المعرفة ، ويقال أيضا لحضور الشيء في القلب ، وقد يكون الذكر عن نسيان ، وقد يكون عن ادامة الحفظ ، أي استحضار شيء منسي أو غائب ، أو الاحتفاظ بشيء موجود قائم. ويقول الطبرسي في تفسيره : الذكر حضور المعنى للنفس ، وقد يكون بالقلب ، وقد يكون بالقول ، وكلاهما يحضر به المعنى للنفس ، وفي أكثر الاستعمال يقال : الذكر بعد النسيان ، وليس ذلك بموجب أن لا يكون الا بعد نسيان ، لأن كلّ من حضره المعنى بالقول أو العقد أو الخطور بالبال ذاكر له ، وأصله التنبه على الشيء ، فمن ذكرته شيئا فقد نبهته عليه ، وإذا ذكر بنفسه فقد تنبّه عليه.

والفرق بين الذكر والخاطر هو أن الخاطر ما يمر بالقلب ، ولكن الذكر كما عرفنا قد يكون بالقلب والقول. والتذكر ـ في عرف الأخلاق ـ فضيلة تجعل الإنسان حيّ القلب يقظ الضمير ، مرهف الإحساس رقيق الشعور

١٣٩

فكأن في داخله ميزانا دقيقا عميقا ، يتأثر بما يمر عليه أو يصل إليه ، فإذا هو يتذكر جمال الفضائل ويسعى إليها. ويتذكر قبح الرذائل وينفر منها ، وإذا حاول الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس أن يدخل على الإنسان بخديعة أو تغرير ، ليضله عن السواء السبيل ، أو ليشغله عن واجباته الدينية والدنيوية تنبه وتيقظ وتذكر ، فإذا التذكر يصده عن الخطأ ، ويصونه عن الانحراف ، ويثبته على طريق الاستقامة ، وكأن هذا التذكر قد صار ناقوس تحذير مستمر ، فهو شبيه بالساعة الالهية الدقاقة في صدر الانسان ، وهي «القلب» لا تزال دقاتها تشعر صاحبها بأنه من الأحياء.

ولقد حدثنا ربنا جل جلاله بأن وظيفة القرآن الكريم في الوجود هي إحياء التذكر في النفوس حتى تعقل وتؤمن وتعمل وتستقيم وتلتزم الخير وتجتنب الشر فقال في سورة ص : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ). وقال في سورة الأنعام : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ). وقال في سورة الإسراء : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا). وقال في سورة طه : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً). وقال في سورة الدخان : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). وقال في سورة طه : (طه ، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى). وقال في سورة الحاقة : (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ). والتذكرة هي ما يتذكر به الانسان الشيء المنسيّ ، أو يستديم به تذكر الشيء المذكور المستحق لدوام تذكره ، فيكون من المتجملين بفضيلة التذكر ، ويكون قد استجاب لنداء الحق المكرر في سورة القمر : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

والقرآن المجيد يحدثنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن وظيفته هي التذكير المحقق للتذكر عند كل مستجيب مؤمن ، فيقول الله جل جلاله لرسوله في سورة الطور : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) ، ويقول في سورة الغاشية : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ).

١٤٠