موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٢

ولقد حض القرآن الكريم على فضيلة التذكر ، وأمر بها ، وندب إليها ، ورغّب فيها ، فجاء في سورتي الأنعام والسجدة قوله : (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) وجاء قوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) سبع مرات ، وجاء قوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ست مرات ، وجاء قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الخ. ويتنقل القرآن إلى أسلوب آخر من أساليب الحث على التذكر والدعوة إليه ، ولفت البصائر لشأنه ، فيقول : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ).

وكتاب الله الحكيم يرشدنا إلى أن التذكر القويم يحتاج إلى فهم ووعي وتبصر ، حتى ينتفع الإنسان بالتذكرة ويستجيب لها على وجه سليم ، ولذلك يقول القرآن ضمن صفات عباد الرحمن المذكورة في سورة الفرقان : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) والمعنى كما يقول المفسرون أنهم لم يقيموا عليها غير واعين لها ، ولا متبصرين بما فيها ، كمن لا يسمع ولا يبصر بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية ، مبصرين بعيون واعية ، فالمراد من النفي هنا نفي الحال لا نفي الفعل.

ولذلك كان من شأن أهل التذكر البصير أن يسارعوا إلى مواطن العبادة والطاعة. حينما تنفحهم نفحات الذكرى والتذكرة ، كما يقول الحق في سورة السجدة : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً ، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ، تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ).

وأهل التذكر والذكرى ليسوا كل من هبّ ودب ، بل هم خواص لهم صفات إذا تحلوا بها جاءتهم الذكرى على وجهها فنفعت وأفادت ، ومن هذه الصفات أن يكونوا أصحاب عقل خالص من الشوائب. ولذلك كرر القرآن قوله : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) وأن يكونوا أهل استجابة بقلوبهم وأسماعهم ، ولذلك يقول القرآن في سورة ق : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ، وأن يكونوا من أهل الانابة ، وهي الرجوع إلى الله بالتوبة

١٤١

وإخلاص العمل ، ولذلك قال كتاب الله تعالى في سورة غافر : (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) وقال في سورة الشورى : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ). وقال في سورة ق : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ).

وأن يكونوا من أهل الإيمان ، لأن الله تعالى يقول في سورة الذاريات : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) وأن يكونوا من أهل الخشية ، لأن القرآن يقول في سورة الأعلى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى ، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى). وأن يكونوا ممن يخافون عذاب الله ويرجون رحمته ، لأنه سبحانه يقول في سورة ق : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ). وأن يكونوا من أهل التقوى ، لأن الحق جل جلاله يقول في سورة الأعراف : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ).

والقران المجيد يهدد أشد التهديد أولئك الذين يهيء أمامهم باب التذكر ولا يتذكرون ، والذين يثير فيهم عوامل الذكرى ولا يستجيبون ، فيقول في سورة السجدة : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ). ويقول في سورة المائدة : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) ويقول في سورة الأنعام : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) أي آيسون أو مكتئبون. ويقول في سورة الأعراف : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ، وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). ويقول عن الكافرين في سورة الصافات : (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ). ويقول في سورة الكهف : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ ، إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً ، وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً). ويقول عن المكذبين بيوم الدين ، الذين لا تنفعهم شفاعة الشافعين ، يقول عنهم في

١٤٢

سورة المدثر : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي كأنهم حمير وحشية هاربة بسرعة من الأسد.

والتذكر المفيد النافع هو الذي يأتي في أوانه ومكانه ، وأما إذا فات ميقاته وبعد مكانه فإنه يصير حسرة أو ند ما لاذعا ، وهذا مما نتعلمه من القرآن الكريم حيث يقول في سورة الفجر : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ، وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى؟ يَقُولُ : يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ، فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ).

* *

وإذا كان التذكر منازل ودرجات ، فأعلى هذه المنازل وقمة تلك الدرجات هي تذكر جلال الله تعالى ، واستحضار عظمته وقدرته ، وهذا ما يعبّر عنه بكلمة «ذكر الله» وذكر الله هو تمجيده سبحانه وتقديسه ، اعتقادا وتعبدا ، وهو تسبيحه وتنزيهه والثناء عليه بجميع محامده ، لأن هذا الذكر هو الاساس المتين والركن الركين ، والقرآن يقول في سورة الرعد : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ، أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

وقد أخبر القرآن أن ذكر الله تعالى هو طريق الفلاح ، فقال في سورة الأعلى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى). وأخبر أن ذكر الله المحيي للقلوب والضمائر هو طريق المغفرة ومفتاح الجنة ، فقال في سورة آل عمران : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ).

وهناك كثير من الناس يظنون أن ذكر الله مقصور على ترديد أسمائه وصفاته

١٤٣

سبحانه ، حتى ولو لم يكن مع هذا الترديد تدبر أو تذكر بالقلب ، وهذا خطأ فاحش ، فقد نقل القرطبي في تفسيره حديثا يقول : «من أطاع الله فقد ذكر الله ، وإن أقلّ صلاته وصومه وصنيعه للخير. ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثّر صلاته وصومه وصنيعه للخير». ويقول سعيد بن جبير : «الذكر طاعة الله ، فمن لم يطعه لم يذكره ، وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن». وليس بمعقول أن يكون مجرد ترديد اللسان لكلمات الذكر ، دون وعي أو تنبه أو تأثر ، هو المطلوب شرعا أو عقلا من ذكر الله عزوجل ، وكيف والله جل جلاله يقول في سورة البقرة : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ). وذكر الله لعبده هو تشريف للعبد أي تشريف ، لأن الله سيذكره بالرضى والقبول ، والتوفيق والتأييد ، ولا يتصور عاقل أن يكون ثمن هذا هو تحريك اللسان بكلمات والقلب غافل في سكرات.

والآية الكريمة السابقة تذكرنا بما روي عن ثابت البناني حيث قال لمن حوله : إني أعلم متى يذكرني ربي عزوجل ، فعجبوا منه وقالوا له : كيف تعلم ذلك؟. فقال : إذا ذكرته ذكرني ، لأنه يقول : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ). وقد نسبوا مثل هذا إلى أبي عثمان النهدي أيضا.

والقرآن الحكيم يؤكد الدعوة إلى ذكر الله. ففي سورة البقرة : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ ، وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ). وفيها : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) وهي أيام التشريق في عيد الأضحى. وفي سورة آل عمران : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ). وفي سورة الكهف : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً).

ويعلمنا كتاب الله المجيد أن ذكر الله يكون على كل حال : فيقول في سورة آل عمران : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ). ويقول في الأعراف : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ، وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ). وهذا التركيز القرآني الواضح على ذكر الله

١٤٤

يرجع إلى أن ذكر الله هو مبعث كل تذكر حميد ، وهو العلاج ليقظة القلب وتنبه الضمير.

وبفضيلة التذكر يتذكر الانسان ما عليه من واجبات فيؤديها ، وما له من حقوق فيبحث عنها ، وما فيه من عيوب فيصلحها ، ويتذكر حسناته فيحمد الله عليها ، ويرجوه المزيد منها ، ويتذكر سيئاته فيندم عليها ويقلع عنها ، ويمحو آثارها بالطيبات : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ).

١٤٥

العبودية لله

وتقول اللغة العربية ـ لغة القرآن الكريم ـ إن «العبد» هو الانسان حرّا كان أو رقيقا ، لأن الانسان مربوب الله عزوجل ، و «العبودية» هي إظهار التذلل ، لأنه يقال : طريق معبّد ، أي مذلّل بالمشي فيه ، ويقال : بعير معبّد أي مذلل ، وعبّدت فلانا أذللته ، ومن ذلك قول القرآن المجيد : (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ).

و «العبادة» أبلغ من العبودية ، لأن العبادة هي غاية التذلل ، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال ، وهو الله جل جلاله ، ولذلك قالوا إن العبادة هي الحب بغاية الذل والخضوع ، والتعبد هو التذلل والخضوع.

وكلمة «العبد» تطلق بمعنى المملوك ، وبمعنى الذي تستعبده الدنيا ، فيعكف على شهواتها وخدمتها ، وبمعنى المخلوق الذي أوجده الله وخلقه ، وبمعنى الذي يعبد الله مخلصا ، ويستشعر روح الخضوع له دائما ، وهذا المعنى الأخير هو المناسب للمجال الأخلاقي الذي نستعرض فيه عقد الفضائل التي دعا اليها القرآن.

ولقد ذكر القرآن الكريم مادة العبودية والعبادة في عشرات من الآيات ، وأرشدنا الى أن العبادة لله هي غاية العباد التي خلقهم لها ، فذلك حيث يقول في سورة الذاريات : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) ، وهذه

١٤٦

العبادة يجب أن تكون مقصورة على الله ، ومن هنا نهى الحديث عما يشعر ـ ولو في الظاهر ـ بأن هناك عبودية لغير الله ، فقال : «لا يقل أحدكم لمملوكه : عبدي وأمتي ، وليقل : فتاي وفتاتي» لأن المستحق لذلك انما هو الله وحده لأنه رب العباد.

والعبودية نوعان : عامة وخاصة ، فالعبودية العامة هي خضوع أهل الأرض والسموات كلهم لجلال الله وقهره ، وقد أشار القرآن إلى هذا النوع في قوله في سورة مريم : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً).

والعبودية الخاصة هي عبودية الطاعة والمحبة ، وإليها الإشارة بقوله تعالى : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) فهؤلاء العباد هم الذين خضعوا لربهم طوعا واختيارا.

و «العبودية» حلية المؤمن الذي يوقن بوحدانية ربه ، ويوقن بلقائه وجزائه فهو يستعد دائما لهذا اللقاء بالعمل الصالح ، واجتناب الاشراك بالله سبحانه ، ولذلك يقول القرآن في سورة الكهف : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ، ويقول في سورة البينة : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ، وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

ولسموّ فضيلة «العبودية» جعلها القرآن الكريم صفة لخاتم الأنبياء وإمام المرسلين ، فقال في سورة البقرة : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ، وقال في سورة الإسراء : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). وقال في سورة الكهف : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً). وقال في سورة الفرقان : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً). وقال في سورة الجن : «وَأَنَّهُ لَمَّا

١٤٧

قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً). (١) وقال في سورة الأنفال : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ).

والعبد المراد في هذه الآيات الكريمة هو رحمة الله للعالمين سيدنا محمد عليه الصلاة والسّلام ، وكان من الممكن أن تصفه الآيات هنا بالنبوة أو الرسالة أو الرحمة أو غير ذلك من الصفات السامية الدالة عليه ، ولكن الآيات آثرت وصفه في هذه المواطن الشريفة الكريمة بصفة «العبودية». لأنها أشرف الفضائل التي يفخر بها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أمام خالقه تبارك وتعالى.

ومن هنا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله» وحينما سألته عائشة عن اجتهاده في طاعة ربه وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أجاب : «يا عائشة ، أفلا أكون عبدا شكورا».

* *

وكذلك جعل القرآن الكريم فضيلة «العبودية» صفة وخلقا للأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فقال في سورة ص عن داود : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ). وقال في السورة نفسها عن سليمان : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). وقال فيها عن أيوب : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ). وقال فيها : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ). وقال عن زكريا في سورة مريم : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا). وقال في السورة ذاتها عن عيسى : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا). وقال في سورة الاسراء عن نوح : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً). وقال في سورة التحريم مشيرا الى نوح ولوط : (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ).

__________________

(١) لبدا : جموعا متزاحمة متراكمة عليه.

١٤٨

ويمضي القرآن بعد هذا في التنويه بشأن فضيلة العبودية فيصف بها «الخضر» حيث يقول في سورة الكهف : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً).

ثم يصف بها الأبرار الأخيار من المؤمنين المستجيبين لله تعالى ، فيقول في سورة الفرقان : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) إلى آخر السورة ، ويقول في سورة الزخرف : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ). ويقول في سورة الاسراء مخاطبا الشيطان : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ).

وهكذا يشعرنا حديث القرآن عن العبودية بأنها إحدى المنازل السامية التي يتطلع اليها الأبرار من المؤمنين ، ويفاخرون بها ، ولذلك قال قائلهم يناجي ربه عزوجل :

ومما زادني شرفا وتيها

وكدت بإخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك : «يا عبادي»

وأن صيّرت أحمد لي نبيا

ولا عجب فالعبودية هي أعلى مراتب الدين وأرقى درجات الطاعة ، والى هذا يشير قول سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسّلام : «الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فانه يراك».

والعبودية صفة تؤدي بالانسان إلى أن يعبد ربّه في كل مقام بما يناسب ذلك المقام ، فيتحقق من وراء ذلك خير كثير موصول ، ولذلك يذكر ابن القيم في «مدارج السالكين» إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته ، فاذا أدى العبد ما يناسب الوقت أو الحال من طاعة تلائمه وتناسبه كان على أفضل العبادة ، ففي وقت الجهاد يشغل نفسه بالقتال والنضال ، وعند حلول الضيف يقوم بواجبه ، ومع الزوجة والأهل يكون حسن المعاملة لهم ، وفي وقت تعليم الجاهل يقبل على إرشاده وتعليمه ، وعند الأذان تظهر منه الاستجابة والتلبية ، وعند حلول الصلوات يقيمها على

١٤٩

وجهها ويخشع فيها ، وعند الحاجة إلى العون يغيث الملهوف وينجد المكروب ويساعد المحتاج ، وعند تلاوة القرآن يقبل عليه ويتدبره ويخشع له ، وهكذا.

ويرى ابن القيم أن هذا هو التعبد المطلق ، وهو شغل كل وقت بما يناسبه من طاعة وعبادة. ويقول : «وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره ، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت ، فمداره تعبده عليها ، فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية ، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره اليها ، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى.

فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره ، فان رأيت العلماء رأيته معهم ، وإن رأيت العبّاد رأيته معهم ، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم ، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم ، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم ، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلوب على الله رأيته معهم ، فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ، ولم تقيده القيود ، ولم يكن عمله على مراد نفسه ، وما فيه لذتها وراحتها من العبادات ، بل هو على مراد ربّه ، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه».

ومعنى هذا أن الذي تتحقق له فضيلة «العبودية» يكون دائما مع الله ، ساعيا في سبيل الله ، خادما لعباد الله ، مظهرا السكينة والتذلل لجلال الله ، نائيا عن الفساد والافساد في أرض الله ، مسخرا كلّ طاقاته في العمل بطاعة الله ، ففيه عبودية اللسان الذي ينطق بذكر الله ، ويرتل كلام الله ، ويتعود الكلمة الطيبة ، فيدعو الى الخير ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وفيه عبودية السمع ، فيصغي الى ما يجب استماعه من توجيه أو نصح أو إرشاد ، وهو يتذكر قول ربه عز من قائل : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، وقوله عن خيار عباده : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) ، وفيه عبودية النظر ، فلا ينظر إلا ما يحسن به النظر اليه ، وهو لا ينسى قول خالقه : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً).

* *

١٥٠

والعبودية حين تتحقق لصاحبها على حقيقتها ووجهها السليم الكريم تجعله من حزب الأتقياء الأوفياء المسارعين الى المغفرة والطاعة ، والذين يصفهم الإمام علي في «نهج البلاغة» فيقول عنهم فيما يقول :

«قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة ، وحاجاتهم خفيفة وأنفسهم عفيفة ، صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة ، تجارة مربحة يسّرها لهم ربهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها ، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها ، أما الليل فصافّون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن ، يرتلونه ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون دواء دائهم.

فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا اليها طمعا ، وتطلعت نفوسهم اليها شوقا ، وظنوا أنها نصب أعينهم. وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا اليها مسامع قلوبهم ، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم ، يطّلبون الى الله تعالى في فكاك رقابهم.

وأما النهار فحلماء علماء ، أبرار أتقياء ، قد براهم الخوف بري القداح (السهام) ، ينظر اليهم الناظر فيحسبهم مرضى ، وما بالقوم من مرض ، ويقول قد خولطوا (جنّوا) ولقد خالطهم أمر عظيم. لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متهمون ، ومن أعمالهم مشفقون ، إذا زكّي أحدهم خاف مما يقال له ، فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري ، وربي أعلم بي مني بنفسي ، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني أفضل مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون» الخ.

* *

ثم يأتي حديث الصوفية عن فضيلة «العبودية» ، فإذا هو حديث الذين يريدون أن نفهم عنهم أن العبودية ليست مجرد القيام بالشعائر والعبادات ، ولا مجرد الترديد للأوراد والأحزاب ، ولا مجرد الظهور بالخشوع والهدوء ، وإنما

١٥١

العبودية في فهمهم إيمان عميق ، وفهم دقيق ، وارتباط بالله وثيق ، ووفاء لا يخالطه ضعف ، وإسلام لله لا يخالطه إعراض ، وإزهاق للنزوات والرغبات ، مع إحياء للاجتهاد في القربات والطاعات ، ولذلك يقول أبو العباس السياري الصوفي : «العبودية معرفة المعبود ، والقيام بالعهود». ويقول الحارث المحاسبي : «صفة العبودية ألا ترى لنفسك ملكا ، وتعلم أنك لا تملك لنفسك ضرا ولا نفعا».

ولقد سئل أبو حفص النيسابوري عن العبودية ، فقال : «ترك الذي لك ، والتزام ما أمرت به». ويقول أحمد بن خضرويه البلخي : «في الحرية تمام العبودية ، وفي تحقيق العبودية تمام الحرية». وهذه العبارة تذكر في بيتين للمرحوم عبد الوهاب عزام ـ وكان صاحب ذوق صوفي ـ يقول فيهما :

قيّد الحرّ نفسه بهداه

وأبى في الحياة قيد سواه

وترى العبد راضيا كلّ قيد

غير تقييد نفسه عن هواه

ويقول محمد بن علي الترمذي : «من جهل أوصاف العبودية فهو بنعوت الربوبية أجهل». ثم يقبل علينا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المغربي ، الذي كان أستاذا للخواص وإبراهيم بن شيبان ، والذي مات سنة تسع وتسعين ومائتين. يقبل علينا أبو عبد الله ليحدثنا عن العبودية في فهمه حديثا فيه دقة وعمق ، فيقول : «من ادعى العبودية وله مراد باق فيه فهو كاذب في دعواه ، إنما تصح العبودية لمن أفنى مراداته ، وقام بمراد سيده ، يكون اسمه ما سمّي به ، ونعته ما حلّي به ، إذا سمّي باسم أجاب عن العبودية ، فلا اسم له ولا وسم ، لا يجيب إلا لمن يدعوه بعبودية سيده».

يقول أبو عبد الله هذا ، ثم يبكي ويقول :

لا تدعني إلا «بيا عبدها»

فإنها أصدق أسمائي!!

* *

وبعد ، فان القرآن الكريم يدعونا إلى إخلاص العبودية لله رب العالمين ،

١٥٢

لأنه لا معبود بحق سواه ، ولا معين لنا غيره ، فيقول : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، ويأمرنا بأن نظل على هذه العبودية من المبدأ الى المآل فيقول في سورة الحجر (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ). ويجعل غاية اهل العبودية أشرف غاية ، ونهايتهم أسعد نهاية ، فيقول في سورة الفجر : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي).

١٥٣

الخوف من الله

الخوف خلق من أخلاق القرآن الكريم ، نبّه عليه ، ودعا اليه ، وأمر به ، فقال : (وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، وقال : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ). وقال عن عباد الله الأبرار : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ). وهذا الخوف المحمود الذي يدعو اليه القرآن يقابله ضدّه وهو «الأمن» القائم على الاغترار او الكفران او الجهل ، وقد نفّر منه القرآن وحذّر ، فقال : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ ، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ).

وقال : (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً ، أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً).

والخوف في اللغة هو الفزع ، وفي اصطلاح العلماء هو توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة ، كما أن الرجاء هو توقع شيء محبوب عن أمارة مظنونة او معلومة ، وقال الإمام الغزالي عن الخوف إنه تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال ، ويظهر أثر ذلك في الأعمال والأقوال والصورة ، كما وردت أقوال أخرى في تصوير معنى الخوف ، فقيل : هو اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف. وقيل : هو هرب القلب من حلول المكروه عند

١٥٤

استشعاره ، وقيل : هو قوة العلم بمجاري الأحكام.

ولقد تكررت الدعوة الى الخوف من الله عزوجل في القرآن الكريم ، فجاء قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً). وقال : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وأكد كتاب الله المجيد توجيهه الى الخوف من مقام الله جل جلاله ، فقال : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ). وقال : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى). وقال : (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ، ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ). والمقام في الأصل هو مصدر القيام ، وهو أيضا مكان القيام وزمانه ، ولقد قيل في تفسير «مقام الله» قولان ، أولهما أنه المقام الذي يقوم فيه العبد بين يدي ربه لعبادته ، كما يقال هذا معبد الله ، وهذا معبد الباري ، أي المكان الذي يقوم فيه العبد بعبادة الله تعالى.

والقول الآخر أن مقام الله تعالى يراد به الموضع الذي يقوم الله فيه على عباده ، وهو غير محدود ، وذلك يدل عليه قوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي حافظ ومطّلع.

وقد كرر القرآن ذكر الخوف من يوم الحساب والجزاء ، وهو يوم القيامة ، فقال في سورة هود : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) ، وقال في سورة الرعد : (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ). وقال في سورة الأنعام (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). وقال في سورة الانسان : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (١).

وهذا الخوف الذي يدعو اليه القرآن ويمجّد شأنه إنما هو الخوف القائم على المراقبة لله ، والخضوع لأمره ، والخشية من عقابه ، وليس معنى هذا أن القرآن يرتضي لأهله الخوف بمعنى الذل أو الهوان ، أو تهيب أحد من الناس ،

__________________

(١) قمطريرا : شديد العبوس.

١٥٥

بل إنه حين يدعو أهله إلى الخوف من الله ، يحررهم بذلك من الخوف لغيره ، أو الذل لسواه ، ويحررهم من كل أنواع الخوف الأخرى ، ولذلك يقول : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي لا يلحقهم خوف من أهوال يوم القيامة ، ولا هم يحزنون على فوات الثواب ، وقيل في المعنى : إنه لا خوف عليهم من وسوسة الشيطان ، ولا مما يعقبها من الشقاء والخسران ، فهم لا يخافون مما هو آت ، ولا يحزنون على ما فات ، لأن اتباع الهدى يسهّل عليهم طرق اكتساب الخيرات.

وكذلك يقول القرآن : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ، وقال في سورة طه : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً). ويقول في سورة يونس : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

والخوف من الله ومن حسابه وعقابه ومحارمه فرض على كل مؤمن كما قرر العلماء ، مستدلين على ذلك بقوله تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وهذا الخوف من الله يستلزم عند صدقه الرجوع إلى الله ، والاعتصام بحبله وبابه ، ولذلك قال أبو حفص النيسابوري : «الخوف سوط الله يقوّم الشاردين عن بابه». وقال الغزالي. «الخوف سوط الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى». وما دام القلب مستشعرا روح الخوف من الله فانه يظل عامرا بالايمان واليقين ، ومن هنا قال أبو سليمان الداراني. «ما فارق الخوف قلبا إلا خرب».

وليس المراد من خوف الانسان لله تعالى ما يخطر بالبال من الرعب ، كاستشعار الخوف من الأسد مثلا ، بل يراد به ـ كما قال الأصفهاني ـ الكف عن المعاصي واختيار الطاعات ، ولذلك صدقوا حين قالوا. لا يعدّ خائفا من لم يكن للذنوب تاركا. كما أن الخوف من الله ليس شكلا خارجيا يتمثل في صيحة أو أنّة أو رنّة ، فليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه ، بل من يترك ما يخاف أن

١٥٦

يعاقب عليه ، وقد قيل لذي النون : متى يكون العبد خائفا؟. فقال : إذا نزّل نفسه منزلة السقيم الذي يحتمي مخافة طول السقام.

والخوف من الله ليس هربا منه ، أو إعراضا عنه ، بل هو قوة احساس بعظمته وهيبته ، وجلاله وحقّه ، وقوة عزيمة في الإقبال عليه ، ليكون الانسان أهلا لقبوله ومرضاته ، فاذا صدقت في خوفك من الله زدت لجوءا إليه واعتصاما بحبله ، وذلك بخلاف خوفك من غيره ، فالانسان إذا خاف شيئا آخر غير الله بعد عنه وهرب منه.

والصادق في خوفه من الله يبذل غاية جهده في التحرر من المعصية ، وفي القيام بالطاعات والقربات ، ومع ذلك يخاف ألّا يبلغ بجهده وعمله مرتبة المقبولين الذين يقول الله تعالى فيهم : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) ولقد جاء في السنة المطهرة أن السيدة عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) فقالت : يا رسول الله ، قول الله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟. قال : لا يا ابنة الصدّيق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ، ويخاف أن لا يقبل منه.

وقد قال الحسن في شأن هؤلاء : عملوا والله بالطاعات ، واجتهدوا فيها ، وخافوا أن تردّ عليهم ، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية ، والمنافق جمع إساءة وأمنا.

* *

والدواعي التي تدعو الانسان الى استشعار الخوف من الله جلّ جلاله كثيرة ، وقد أحصى حجة الاسلام الغزالي مجموعة منها ، فذكر أن هناك مكروهات كثيرة يخافها الناس ، كالذين يغلب عليهم خوف الموت قبل التوبة ، أو خوف نقض التوبة بعد القيام بها ، ونكث العهد بعد

١٥٧

ربط النفس به ، أو خوف ضعف القوة عن الوفاء بتمام حقوق الله تعالى ، أو خوف زوال رقة القلب وتبدلها بالقسوة ، أو خوف الميل عن طريق الاستقامة ، أو خوف استيلاء العادة في اتباع الشهوات المألوفة ، أو خوف أن يكله الله تعالى إلى حسناته التي اتكل عليها أو تفاخر بها بين عباد الله ، أو خوف البطر بكثرة نعم الله تعالى عليه ، أو خوف الاشتغال عن الله بغير الله ، أو خوف الاستدراج باتصال النعم وتواترها ، أو خوف انكشاف غوائل الطاعات ، حيث يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب ، أو خوف تبعات الناس عنده بسبب الغيبة والخيانة والغش وإضمار السوء.

أو خوف ما لا يدري أنه يحدث في بقية عمره ، أو خوف تعجيل العقوبة في الدنيا والافتضاح قبل الموت ، أو خوف الاغترار بزخارف الدنيا ، أو خوف اطّلاع الله على سريرته في حال غفلته عن الله ، أو خوف خاتمة السوء عند الموت ، أو خوف السابقة التي سبقت عليه في الأزل.

ولقد ذكر الغزالي أن أغلب أنواع الخوف على اليقين هو خوف سوء الخاتمة ، والمراد من سوء الخاتمة هو أن يغلب على القلب ـ عند سكرات الموت وظهور أهله ـ الشك أو الجحود ، فتقبض الروح في حال غلبة الجحود أو الشك ، فيكون ذلك حجابا بين الانسان وربّه ، وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب الخالد وربما وقع سوء الخاتمة بأن يغلب على قلب الانسان عند الموت حبّ أمر من أمور الدنيا ، أو شهوة من شهواتها ، فيتمثل ذلك في قلبه ويستحوذ عليه ، فلا يبقى فيه متسع لغيره ، ويتفق قبض الروح في تلك الحالة ، فيكون ذلك سببا في صرف وجهه وقلبه إلى شهوات الدنيا ، وإذا انصرف وجه الانسان عن ربه وقع الحجاب ، وإذا وقع الحجاب ، نزل العذاب ، والقرآن يقول : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ).

فعلى المؤمن إذن أن يواصل استشعار الخوف من الله والوجل لذكره ، والخشية من عقابه ، وليتذكر قول ربه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ

١٥٨

وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ». وكذلك يقول الحق جل جلاله : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ، الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

وليتذكر المؤمن المتحلي بفضيلة الخوف من ربه أن سيد الخلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أشدّ المؤمنين خوفا من الله ، وهيبة له ، وخشية من جلاله ، مع أنه المغفور له من ربه ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهو القائل : «شيّبتني هود وأخواتها : سورة الواقعة ، وإذا الشمس كورت ، وعم يتساءلون». وقد ذكر العلماء أن سبب ذلك ـ والله أعلم ـ يرجع الى ما في سورة هود من تكرار الإبعاد. كقوله تعالى : (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ). وقوله : (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ). وقوله : (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ).

ولأن سورة الواقعة جاء فيها قوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ ، خافِضَةٌ رافِعَةٌ) ، ولأن سورة التكوير جاء فيها تصوير لأهوال يوم القيامة ، كما في قوله تعالى : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ، عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ). ولأن سورة النبأ «عم يتساءلون» فيها قوله تعالى : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً). وقوله : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً).

* * *

ولا شك أن يقظة الخوف في نفس المؤمن تثمر عنده تجنّبه الشهوات وابتعاده عن الآثام ، ولعل هذا هو ما قصده العلماء بقولهم إن الخوف المحمود الصادق هو ما منع صاحبه محارم الله عزوجل ، ومن هنا قال إبراهيم بن سفيان : «إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها ، وطرد الدنيا عنها». وقال ذو النون : «الناس على الطريق (أي مستقيمون عليه) ما لم يزل عنهم الخوف ، فإذا زال عنهم الخوف ضلّوا الطريق».

١٥٩

كما أن صدق الخوف في نفس المؤمن يجعله مالكا لمفتاح السعادة الأبدية التي ليس بعدها سعادة ، وهي الفوز برضى الله تعالى ونعيمه في دار الخلود ، ولقد كان حجة الاسلام بارعا حين صّور ذلك بعبارة بليغة مترابطة الأجزاء متوالية الخطوات على هذا النحو : «لا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه والقرب منه ، فكل ما أعان عليه فله فضيلة ، وفضيلته بقدر غايته ، وقد ظهر أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته ، والأنس به في الدنيا ، ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة ، ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر ، ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة ودوام الذكر ، ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلا بانقطاع حب الدنيا من القلب ، ولا ينقطع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها ، ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات ، ولا تنقمع الشهوة بشيء كما تنقمع بنار الخوف».

وإذا واصلنا قراءاتنا في كتب السلف فيما يتصل بالخوف وجدنا جملة ألفاظ متقاربة ، وإن لم تكن مترادفة ، ومنها : الخوف ، والخشية ، والرهبة ، والوجل ، والهيبة ، وقد قالوا في التفرقة الدقيقة بينها إن الخوف هرب من حلول المكروه عند استشعاره ، وهو لعامة المؤمنين ، وصاحبه يلتجىء إلى الهرب والامساك. والخشية أخص من الخوف ، وهي للعلماء العارفين بالله ، المشار اليهم بقوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ، وصاحب الخشية يلتجىء إلى الاعتصام بالله ، وعلى قدر العلم تكون الخشية ، ولذلك قال سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسّلام «إني لأعلمكم بالله وأشدّكم له خشية».

وقد فرقوا بين الخوف والخشية ، فقالوا إن الخوف خشية سببها ذلّ الخاشي ، وإن الخشية خوف سببه عظمة المخشيّ ، ولذلك كان العلماء بالله أكثر خشية ، لأنهم عرفوا عظمة الله فخافوه ، لا لذل منهم ، بل لعظمة جانب الله. والعبد إذا نظر الى نفسه وجدها في غاية الضعف ، فيشعر بالخوف ، وإذا نظر الى حضرة الله تعالى رآها في غاية العظمة فيشعر بالخشية ، ودرجة الخشية

١٦٠