موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٢

الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ». وجاء في سورة النازعات : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) والمراد بالمدبرات أمرا هنا الملائكة الموكلة بتدبير الأمور ، او الملائكة المدبرات أمر الدنيا بإذن الله تعالى.

ويرى الإمام محمد عبده أنها الكواكب التي انفردت بتدبير بعض الأمور الكونية في عالمنا الأرضي ، وليس التدبير هنا إلا ظهور الأثر ، ونسبة التدبير إليها لأنها اسباب ما نستفيده منها ، والمدبر الحكيم هو الله جل شأنه.

وقد وردت مادة «التدبر» في آيات من القرآن المجيد ، ففي سورة النساء : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ، وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً). أي : ألا يتأملون معانيه ويتبصرون ما فيه؟ أفلا يتدبرون كتاب الله تعالى ، فيعلموا انه كلام الله ، لاتّساق معانيه ، وائتلاف أحكامه ، وتأييد بعضه بعضا بالتصديق ، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق ، لأن القرآن لا يكذّب بعضه بعضا ولا ينقض بعضه بعضا ، وما يجهله بعض الناس من أمره هو من قلة علمهم وتقصير عقولهم.

ويتعرض السيد رشيد رضا لتفسير هذه الآية الكريمة بما يكشف عن مكانة فضيلة التدبر بين الفضائل الاسلامية القرآنية فيقول : «والمعنى : جهل هؤلاء حقيقة الرسالة وكنه هذه الهداية. أفلا يتدبرون القرآن الذي يدل على حقيقتها ، وعاقبة المؤمنين بها ، والجاحدين لها ، فيعرفوا انه الحق من ربهم ، وان ما أنذر به الكافرين والمنافقين واقع بهم ، لأنه كما صدق فيما أخبر به عما يبيّتون في أنفسهم ، وما يثنون عليه صدورهم ، ويطوون عليه سرائرهم ، يصدق كذلك فيما يخبر به من سوء مصيرهم ، وكون العاقبة للمتقين الصادقين ، والخزي والسوء على الكافرين والمنافقين ، بل لو تدبروه حق التدبر لعلموا أنه يهدي إلى الحق ، ويأمر بالخير والرشد ، وأن عاقبة ذلك لا تكون إلا بالفوز والفلاح ، والصلاح والإصلاح. فإذا كانوا لاستحواذ الباطل والغيّ عليهم ـ لا يدركون كنه هداية هذا القرآن في ذاتها ، أفلم يأن لهم أن يدركوا من خصائصه ومزاياه ، أنه لا يمكن أن يكون إلا من عند الله؟. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا

٢٢١

كثيرا. اي لو كان من عند محمد بن عبد الله القرشي ، لا من عند الله الذي أرسله به ، لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ، لعدم استطاعته واستطاعة أي مخلوق أن يأتي بمثل هذا القرآن في تصوير الحق بصورته كما هي ، لا يختلف ولا يتفاوت في شيء منها ، لا في حكايته عن الماضي ، الذي لم يشاهده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يقف على تاريخه ، ولا في إخباره عن الآتي في مسائل كثيرة وقعت كما أنبأ بها ، ولا في بيانه لخفايا الحاضر ، حتى حديث الأنفس ومخبآت الضمائر».

وجاء في سورة محمد : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها). أي : أفلا يلاحظون معاني القرآن ودقائقه ورقائقه ، وما فيه من المواعظ والزواجر ، حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات ، أم ان قلوبهم قد قست أو استغلقت ، فهي لا يصل إليها الذكر ، ولا ينكشف لها الأمر ، فكأنها مقفلة ، لا تقبل التدبر ولا الاعتبار؟. ويصوّر ابن جرير الطبري معنى الآية بما خلاصته : أفلا يتدبر هؤلاء الضالون مواعظ الله تعالى التي يعظهم بها في آيات القرآن الذي أنزله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويتفكرون في حججه التي بيّنها لهم في تنزيله ، فيعلموا خطأ ما هم عليه مقيمون ، أم أقفل الله على قلوبهم ، فلا يعقلون ما أنزل الله في كتابه من المواعظ والعبر ، إنهم لو فعلوا لوجدوا في القرآن الكريم زاجرا عن معصية الله ، وداعيا إلى طاعته.

وهذا معناه أن التدبر إذا صار للإنسان خلقا يتحلى به ، وفضيلة يتزين بجمالها ، فإن هذا التدبر يعصم صاحبه من السوء ، ويقرنه بالخير ؛ وهذا التدبر إنما يثيره في الإنسان قلب حي يقظ ، وعقل متفتح مستجيب ، وإحساس دقيق مرهف ، وبهذا الاستعداد يتمكن الإنسان أن يحسن التدبر الدنيوي والتدبر الديني ، وهما اللذان يشير إليهما خالد بن معدان في قوله : «ما من آدمي إلا وله أربع أعين : عينان في رأسه لدنياه ، وما يصلحه من معيشته ، وعينان في قلبه لدينه ، وما وعد الله من الغيب ، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه ، وإذا أراد الله به غير ذلك طمس عليهما».

٢٢٢

ويروى عن خالد بن معدان ايضا عبارة اخرى قريبة من العبارة السابقة مع زيادة ، يقول فيها : «ما من الناس احد إلا وله اربع أعين ، عينان في وجهه لمعيشته ، وعينان في قلبه ، وما من أحد إلا وله شيطان متبطن فقار ظهره ، عاطف عنقه على عنقه ، فاغر فاه إلى ثمرة قلبه ، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه ما وعد الله من الغيب ، فعمل به وهما غيب فعمل بالغيب ، وإذا أراد الله بعبد شرا تركه».

ويشير «تفسير المنار» إلى ان التدبر للقرآن الكريم هو طريق الهداية السليم وصراط الحق المستقيم ، وان تدبر القرآن فرض على كل مكلّف بحسب قدرته وطاقته ، وهذا التدبر هو الذي يحقق للإنسان الاستقلال في الفهم والإدراك ، ويصونه من فساد التقليد والمتابعة العمياء. ثم يقول : «يجب على كل مسلم أن يتدبر القرآن ، ويهتدي به بحسب طاقته ، وانه لا يجوز لمسلم قط أن يهجره ويعرض عنه ، ولا ان يؤثر على ما يفهمه من هدايته كلام أحد من الناس لا مجتهدين ولا مقلدين ، فإنه لا حياة للمسلم في دينه إلا بالقرآن ، ولا يوجد كتاب لإمام مجتهد ، ولا لمصنف مقلد ، يغني عن تدبر كتاب الله في إشعار القلوب عظمة الله تعالى وخشيته وحبه ، والرجاء في رحمته والخوف من عقابه ، ولا في تهذيب الأخلاق وتزكية الأنفس ، وتنزيهها عن الشرور والمفاسد ، وتشويقها إلى الخيرات والمصالح ، ورفعها عن سفساف الأمور إلى معاليها ، ولا في الاعتبار بآيات الله في الآفاق ، وسننه في سير الاجتماع البشري وطبائع المخلوقات ، ولا في غير ذلك من ضروب الهداية التي امتاز بها على سائر الكتب الإلهية ، فكيف تغني عنه فيها المصنفات البشرية.

أما وسرّ القرآن لو ان المسلمين استقاموا على تدبر القرآن والاهتداء به في كل زمان ، لما فسدت اخلاقهم وآدابهم ، ولما ظلم أو استبد حكامهم ؛ ولما زال ملكهم وسلطانهم ، ولما صاروا عالة في معايشهم واسبابها على سواهم.

هذا التدبر والتذكر الذي نطالب به المسلمين آنا بعد آن ، كما هي سنة

٢٢٣

القرآن ، لا يمنع ان يختص اولو الأمر منهم باستنباط الأحكام العامة في السياسة والقضاء والادارة العامة ، وأن يتبعهم سائر الأمة فيها».

* *

وجاء في سورة المؤمنون قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ). وكلمة «يدبروا» في الآية أصلها «يتدبروا» أي : أفلم يتأمل هؤلاء المشركون كلام الله تعالى وتنزيله ، فيعلموا ما فيه من العبر ، ويعرفوا حجج الله التي احتج بها عليهم ، فيكون ذلك داعيا إلى التوبة والاهتداء.

ويقول القرآن في سورة ص : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) اي ليتدبر اصحاب العقول آيات هذا الكتاب الالهي المجيد ، وما شرعه الله فيه من شرائع ، فيعملوا به فيهتدوا ويسعدوا.

ولقد كان السلف الصالح يعد «التدبر» فضيلة تزين أحرار الرجال وخيار الأبطال ، لما في التدبر من عمق النظر في عواقب الأمور ، ولذلك قال الامام علي في عبد الله بن عباس : «إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق». وكثر قول حكماء العرب في مدح الذين يتدبرون وينفذون بأبصارهم وبصائرهم في طيات الأمور ونتائج الاحداث ، فهذا احدهم يمدح ذكيا متدبرا ، فيقول فيه :

عليم بأعقاب الأمور برأيه

كأن له في اليوم عينا على الغد

وهذا ثان يقول :

بصير بأعقاب الأمور ، كأنما

تخاطبه من كلّ أمر عواقبه

وهذا ثالث يقول :

بصير بأعقاب الأمور كأنما

يرى بصواب الرأي ما هو واقع

وكان أسلافنا يحثون على المبادرة إلى التدبر في الوقت المناسب ، قبل فوات الأوان ، ولذلك يقول أكثم بن صيفي : «لا تتدبروا أعجاز امور قد ولت صدورها». والمتدبر الذكي الألمعي هو الذي يتطلع اولا إلى الماضي يدرسه

٢٢٤

ويستخلص منه العبرة ، ثم يدرس الحاضر بماله وما عليه ، ثم يتطلع ببصيرته إلى الغد ليستدل بالحاضر على المقبل ، كما انتفع بعبرة الماضي في الحاضر ، ولذلك قال حكماؤنا : «كفى بالدهر مخبرا بما مضى عما بقي».

إن المؤمن إذا صدق في تدبره يصير يقظا في تفكيره وتعبيره ، وفي قوله وعمله ، وفي صلاته الفردية والعامة ، فهو يضيء صدره بنور الفكرة ، ويعمر قلبه بوازع العبرة ، ويقدّر لرجله قبل الخطو موضعها ، ويجعل لسانه وراء عقله ، فلا يلفظ اللفظة إلا بعد أن يزنها بميزان هذا العقل ، لأن الحكيم يقول : «الكلمة أسيرة في وثاق الرجل ، فإذا تكلم بها عاد أسيرا في وثاقها». وخير الناس من كان التدبر له خلقا في اقواله واعماله ، متخذا له شعارا مثل قول القائل الحكيم :

إذ شئت أن تحيا عزيزا مسلّما

فدبّر وميّز ما تقول وتفعل

اللهم هبنا صواب الفكرة وصدق العبرة ، واجعلنا من المتدبرين أولي الألباب.

٢٢٥

التفكر

«التفكر» كلمة فيها معنى النظر والتفهم ، وقد عرّف الراغب الأصفهاني التفكر بأنه جولان قوة الفكر بحسب نظر العقل ، ويستعمل الفكر في المعاني ، وهو فحص الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها ، ولذلك تقول اللغة إن الفكر هو إعمال النظر في الشيء ولكن التفكر بالمعنى الأخلاقي الإسلامي القرآني هو أن ينظر الانسان في الشيء على وجه العبرة والعظة ، لتقوية جوانب الخير والصلاح ، ومقاومة دواعي الشر والفساد.

ولذلك نجد المفسرين يتعرضون لمعنى قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) فيقولون في معنى : (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) : أي لكي تتفكروا في امر الدنيا وامر الآخرة ، فتتجنبوا ما يجلب عليكم البلاء والشقاء فيهما ، وتعتصموا بما هو لائق بالمؤمنين من الأخلاق والمكارم ، وتستنبطوا الأحكام ، وتفهموا المصالح والمنافع المنوطة بها ، فتأخذوا بالأصلح ، وتبعدوا عما يضركم ولا ينفعكم ، أو يضركم أكثر مما ينفعكم.

ولقد جاء ذكر التفكر في القرآن الكريم عدة مرات ، فقال الله تعالى في سورة البقرة : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ). وقال في سورة الأنعام : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا

٢٢٦

تَتَفَكَّرُونَ). وقال في سورة الرعد : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). والجزء الأخير من هذه الآية الكريمة ورد مثله في سور الروم ، والزمر ، والجاثية ، كما ورد قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في سورة النحل مرتين.

كما جاء في سورة النحل أيضا قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وجاء في سورة يونس : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). وفي سورة الأعراف : (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). وفي سورة الحشر : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

ولو تتبعنا المواضع التي جاء فيها ذكر التفكر في القرآن الكريم ، لوجدنا أن هذا الذكر يأتي غالبا بعد الحديث عن أمر او مشهد يثير في النفس معنى من معاني الاعجاب بالخير والفضيلة والميل إليهما ، أو معنى من معاني النفور من الشر والرذيلة والضيق بهما ، او هكذا ينبغي ان يكون لدى الانسان القويم ، وهذا يؤكد لنا المعنى الأخلاقي القرآني لفضيلة التفكر ، وهو النظر على وجه الاتعاظ والاعتبار ، فالانسان يتفكر في أمر المعاصي وأمر الطاعات ، أو يتفكر في الصفات المهلكة والصفات المنجية ، فيتبين حينئذ ـ أو هكذا ينبغي له أن يتبين ـ أهو متلبس بمعصية فينتهي عنها ، أم هو سائر في طاعة فيزداد منها؟.

وكذلك يتفكر الانسان في الفرائض والواجبات : أهو يؤديها أم يقصّر فيها؟. ويتفكر في الصفات المهلكة : أهو متلطخ بشيء منها؟. ويتفكر في الصفات الجميلة : ما الذي يحتاج إليه منها ؛ وهكذا.

* *

ولقد عرض الامام الغزالي في حديثه الممتع الواسع عن التفكر نموذجا للتفكر

٢٢٧

في الطاعات فقال عن الانسان المتفكر : «فينظر أولا في الفرائض المكتوبة عليه أنه كيف يؤديها ، وكيف يحرسها عن النقصان والتقصير ، او كيف يجبر نقصانها بكثرة النوافل ، ثم يرجع إلى عضو عضو ، فيتفكر في الأفعال التي تتعلق بها مما يحبه الله تعالى ، فيقول مثلا : إن العين خلقت للنظر في ملكوت السموات والأرض عبرة ، ولتستعمل في طاعة الله تعالى ، وتنظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا قادر على ان اشغل العين بمطالعة القرآن والسنة ، فلم لا أفعله؟ وأنا قادر على ان انظر إلى فلان المطيع بعين التعظيم فأدخل السرور على قلبه ، وأنظر إلى فلان الفاسق بعين الازدراء فأزجره بذلك عن معصيته ، فلم لا أفعله؟

وكذلك يقول في سمعه : إني قادر على استماع كلام ملهوف ، أو استماع حكمة وعلم ، او استماع قراءة وذكر ، فما لي أعطّله وقد أنعم الله عليّ به ، وأودعنيه لأشكره ، فما لي أكفر نعمة الله فيه بتضييعه وتعطيله؟.

وكذلك يتفكر في اللسان ، ويقول : إني قادر على أن أتقرب إلى الله تعالى بالتعليم والوعظ والتودد إلى قلوب اهل الصلاح ، وبالسؤال عن احوال الفقراء ، وإدخال السرور على زيد الصالح ، وعمرو العالم ، بكلمة طيبة ، وكل كلمة طيبة فإنها صدقة؟

وكذلك يتفكر في ماله ، فيقول : أنا قادر على أن أتصدق بالمال الفلاني ، فإني مستغن عنه. ومهما احتجت إليه رزقني الله تعالى مثله ، وإن كنت محتاجا الآن فأنا إلى ثواب الايثار أحوج مني إلى ذلك المال.

وهكذا يفتش عن جميع اعضائه وجملة بدنه وامواله ، بل عن دوابه وغلمانه وأولاده ، فإن كل ذلك ادواته واسبابه ، ويقدر على ان يطيع الله تعالى بها ، فيستنبط بدقيق الفكر وجوه الطاعات الممكنة بها ، ويتفكر فيما يرغبه في البدار إلى تلك الطاعات ، ويتفكر في إخلاص النية فيها ، ويطلب لها مظانّ الاستحقاق حتى يزكو بها عمله ، وقس على هذا سائر الطاعات».

والتفكر ليس خبط عشواء ، ولا اضطراب عمياء ، ولا شرود عجماء ،

٢٢٨

وإنما للتفكر حدوده وقيوده ، ولعل مما يشير إلى ذلك الحديث القائل : «تفكروا في خلق الله ، ولا تتفكروا في الله ، فإنكم لن تقدروا قدره». وكذلك روي : «تفكروا في آلاء الله ، ولا تفكروا في الله». وقد جاء في السنة ايضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على قوم ذات يوم وهم يتفكرون ، فقال لهم : ما لكم لا تتكلمون؟ فقالوا : نتفكر في خلق الله عزوجل. فقال : «كذلك فافعلوا وتفكروا في خلقه ، ولا تتفكروا فيه».

وكذلك ليس من التفكر الاخلاقي الاسلامي أن يتفكر الانسان في طرق الوصول إلى الشهوات والملذات ، ولا في وسائل العدوان على الأنفس أو الأعراض أو الأموال أو غير ذلك من حرمات الناس ، وليس من التفكر الاسلامي القرآني أن يستجيب الانسان لدواعي الحسد ونزعات الحقد والبغضاء ، أو غير ذلك مما يجعله فريسة لخبيث المشاعر وسيء النوايا.

* *

ولقد أشاد السابقون من علماء الأمة وبصرائها بمنزلة التفكر السليم القويم ، فذكر حجة الاسلام الغزالي أن الفكر هو مصباح الأنوار ، ومبدأ الاستبصار ، وشبكة العلوم ، ومصيدة المعارف والفهوم ، وقال خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز : «الفكرة في نعم الله عزوجل من أفضل العبادة». وقال الحسن : تفكر ساعة خير من قيام ليلة.

وثمرة التفكر ثمرة يانعة ممتعة ، نامية سامية ، فمن وراء التفكر يكون التعقل والارتداع عن كل ما يقبح ويسوء ، والاقبال على كل ما هو جميل ومقبول ، ومن وراء التفكر يكون الادراك الواعي البصير لجلال الله وعظمته ، وكثرة نعمه وآلائه ، ومن وراء التفكر يكون الاعتزاز بالله وحده والذل لوجهه سبحانه والترفع عن الهوان مع غيره ، ومن وراء التفكر تكون الطاعة والاجتهاد في العبادة والازدياد من القربات ، ومن وراء التفكر يكون إحياء الجوانب

٢٢٩

الفاضلة المشرقة في ذات الانسان ، ويكون إزهاق النوازع الخبيثة الرديئة ، ولذلك يقول بشر : «لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوا الله عزوجل».

ويرى الامام الغزالي ان من ثمرات التفكر تكثير العلم وتوسيع المعرفة ، والمعارف إذا اجتمعت لدى الانسان وترتبت أثمرت معرفة اخرى ، لأن المعرفة انتاج المعرفة ، فإذا حصلت معرفة جديدة أدت الى معرفة اخرى ، وهكذا يمتد النتاج ، ويمضي الفكر الى غاية بعيدة. وما اجمل الشافعي في تصويره لثمرة التفكر بقوله : «صحة النظر في الأمور نجاة من الغرور ، والعزم في الرأي سلامة من التفريط والندم ، والروية والفكر يكشفان عن الحزم والفطنة ، ومشاورة الحكماء ثبات في النفس وقوة في البصيرة ففكّر قبل ان تعزم ، وتدبّر قبل ان تهجم ، وشاور قبل تقدم».

وإذا كان التفكر بهذه المنزلة ، وثمرته بتلك المكانة فالمصيبة كبيرة حين يحرم الانسان فضيلة التفكر ، ولقد روي أن الحسن قرأ قوله تعالى في سورة الأعراف : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ). ثم ذكر الحسن ان معنى «الصّرف» هنا هو ان الله جل جلاله يمنع هؤلاء الأشقياء التفكر في امر الله عزوجل.

* *

ولقد يسأل سائل عن طريق التفكر ، والجواب أن التفكر يتحقق أولا على وجهه الكامل بنور إلهي في القلب يحصل بالفطرة ، وقد يتحقق التفكر بالمحاولة والتعلم والممارسة ، فيحمل الانسان نفسه على ان تتفكر وتتدبر ، ويكرر ذلك فإذا التكرار يورثه عادة ، وإذا العادة تعمّق جذورها فكأنها طبيعة.

٢٣٠

ويعاون على التفكر الصمت والسكون ، حتى يسبح الفكر في آفاق التذكر والتدبر ، ولذلك جاء في حديث منسوب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوصاني ربي بتسع أوصيكم بها» ، وفي آخر الحديث قال : «وأن يكون نطقي ذكرا وصمتي فكرا ، ونظري عبرا». وقيل لعيسى عليه‌السلام : يا روح الله ، هل على الأرض اليوم مثلك؟. أجاب : نعم ، من كان منطقه ذكرا ، وصمته فكرا ، ونظره عبرة ، فإنه مثلي. وقال الشافعي : استعينوا على الكلام بالصمت ، وعلى الاستنباط بالفكر.

ولكن ليس كل صمت يؤدي إلى فضيلة التفكر ، فقد يصمت الانسان عن غفلة ، وقد يسكت عن بلادة ، وقد يسكت عن شرود ، ولذلك قال الحسن : من لم يكن سكوته تفكرا فهو سهو.

* *

ومن الخير لنا في مقامنا ان نتذكر أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، كان إذا قام للتهجد والتعبد بالليل ، تطهر واستاك ، ونظر إلى السماء ، ثم تلا قول ربه تبارك وتعالى في سورة آل عمران : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ). ثم يأخذ في صلاته وتعبده.

وكذلك كان الرسول عليه الصلاة والسّلام يتلو هذه الآيات ويقول : «ويل لمن لا كهابين فكيه ولم يتأمل ما فيها». والتفكر في خلق السموات والأرض هو أن يتدبروا ذلك الخلق ، ليستدلوا به على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته وعلمه وحكمته ، فيكون ذلك داعيا إلى قوة الإيمان فيهم وعمق اليقين عندهم ، ويكون ذلك داعيا إلى مضاعفة الجهد في العبادة والطاعة لله عزوجل.

ولقد روي أن بلالا رضي الله عنه جاء الرسول يؤذنه بصلاة الفجر ، فوجده

٢٣١

يبكي ، فقال : يا رسول الله ، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟. فقال النبي : ويحك يا بلال ، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ). ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها.

وقد قيل للامام الأوزاعي : ما غاية التفكر في هذه الآيات؟ فأجاب يقرأهن ويعقلهن. ولا بد من أن يكون الأوزاعي قد أراد بعقل هذه الآيات فهمهن فهما صحيحا ، والتأثر بهذا الفهم ، والاستجابة لمقتضى هذا التأثر وهو شكر الله وطاعته وعبادته. ومن هنا كان سفيان بن عينية يتمثل كثيرا بقول القائل : «إذا المرء كانت له فكرة ، ففي كل شيء له عبرة»!.

* *

وما أوسع المجال للتفكر عند تلاوة آيات القرآن ، فإن وراء كل آية من الأسرار والإشارات والنفحات الشيء الكثير ، واللائق بالمؤمن المتفكر أن يردد الآية التي يريد التفكر فيها ـ كما ينصح الغزالي ـ ويعيدها مرات ومرات. بتمعن وتدبر ، فإن تحت كل كلمة أسرارا واسعة ، وقراءة آية بتدبر وتفكر وفهم خير من كثير القراءة بلا وعي.

وليت كل واحد منا يستمع إلى حجة الاسلام ويستجيب حين يراه يحث على التفكر الواسع النطاق بذلك الاسلوب البليغ : «فانظر إلى الملكوت لترى عجائب العز والجبروت ، ولا تظنن أن معنى النظر إلى الملكوت بأن تمد البصر إليه ، فترى زرقة السماء وضوء الكواكب وتفرقها ، فإن البهائم تشاركك في هذا النظر ؛ فإن كان هذا هو المراد فلم مدح الله تعالى ابراهيم بقوله : (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض) لا بل كل ما يدرك بحاسة البصر

٢٣٢

فالقرآن يعبر عنه بالملك والشهادة ، وما غاب عن الابصار فيعبر عنه بالغيب والملكوت ، والله تعالى عالم الغيب والشهادة ، وجبار الملك والملكوت ، ولا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء ، وهو عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول.

فأجل أيها العاقل فكرك في الملكوت ، فعسى يفتح لك أبواب السماء فتجول بقلبك في أقطارها ، إلى أن يقوم قلبك بين يدي عرش الرحمن ، فعند ذلك ربما يرجى لك أن تبلغ رتبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال : رأى قلبي ربي. وهذا لأن بلوغ الاقصى لا يكون إلا بعد مجاوزة الأدنى ، وأدنى شيء إليك نفسك ، ثم الارض التي هي مقرك ، ثم الهواء المكتنف لك ، ثم النبات والحيوان وما على وجه الارض ، ثم عجائب الجوّ وهو ما بين السماء والارض ، ثم السموات السبع بكواكبها ...» الخ.

إن الانسان المتفكر يكون متعلقا بأسباب الله عزوجل ، يذكره ويراقبه ويخشاه ، وكأن التفكر معه رائد يهديه إلى طريق ربه ، ويحول بينه وبين الانصراف عنه ، وثمرة ذلك هو الاستقامة على الصراط المستقيم.

٢٣٣

البرّ

هناك كلمات إسلامية مظلومة القدر مهضومة الحق ، لأننا حرّفناها عن جليل معناها ، أو بعدنا بها عن نبيل مغزاها ، أو جعلنا نكررها بألسنتنا دون تمعن فيها أو تدبر لمراميها. ومن هذه الكلمات كلمة «البر» ، فغاية ما يفهمه كثير من عامة الناس عن كلمة «البر» هو المعنى المادي الحسي المحدود ، وهو معاونة المحتاجين بشيء من المال أو الصدقة. ونحن ـ مثلا ـ نقول في كثير من الأحيان إن رمضان هو شهر الاحسان ، ثم نحسب أن البر في رمضان هو أن نتصدق ـ فقط ـ على هذا الفقير ببضعة قروش ، أو أن نقدّم لذاك المسكين قدرا من الطعام ، مع أن البر في منطق الاسلام اسم لفضيلة جامعة لأنواع الخير والتوسع فيه ، فهو كما يقول بصراء العلماء : البرّ فعل الواجبات ، والبعد عن المحرمات ، والبشاشة مع الناس ، والعطف عليهم ، والاحسان اليهم ، وتحمل الأذى منهم.

وإذا رجعنا إلى اللغة وجدنا أن مادة «البر» تدل على السعة والصدق والطاعة وقد قالوا إن كلمة : «البر» ـ بكسر الباء ـ مأخوذة من كلمة البر بفتح الباء ـ وهو خلاف البحر ، وقد تصوروا فيه التوسع ، فاشتقوا منه كلمة «البر» بمعنى التوسع في فعل الخير.

والبر في تعبير القرآن الكريم يفيد معنى الايمان وما يتبعه من أعمال ، فهو يشمل صحة الاعتقاد واستقامة التطبيق ، ولذلك يقول الحق جل جلاله في في سورة البقرة : «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَلكِنَ

٢٣٤

الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ، وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ ، وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ ، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ، أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

ولقد رووا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن البر ، فتلا هذه الآية الكريمة.

ويقول عليه الصلاة والسّلام أيضا : «البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك (أي تردد) وكرهت أن يطلع عليه الناس». ويقول في حديث آخر : «البر ما اطمأنت اليه النفس ، واطمأن اليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس ، وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك».

وهذا هو القرآن الكريم يعطّر ذكر البر في مواطن منه ، ونحن نرى من جلال مكانة «البر» أن الله تبارك وتعالى قد جعل لذاته القدسية اسما مشتقا من مادته ، وهو اسم «البرّ» ، فقال القرآن في سورة الطور : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) أي العطوف على عباده ، الشامل لهم ببره ولطفه ورعايته.

وجعل القرآن المجيد فضيلة البر صفة من صفات الأنبياء والمرسلين ، فقال في سورة مريم عن زكريا عليه‌السلام : (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا). وقال في السورة نفسها على لسان عيسى عليه‌السلام : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا).

ووصفت السنة المطهرة ملائكة الرحمن ـ وهم عباد مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ـ بأنهم بررة ، فقال عليه الصلاة والسّلام : «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة» يعني الملائكة.

* *

ومن دقائق التعبير في القرآن الكريم أنه بعد أن عدّد أعمال البر الكثيرة

٢٣٥

الكبيرة في آية البر : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ..) الخ. ختم هذه الآية بقوله عن أولئك الأبرار الأخيار : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ، ولو رجعنا الى الآية الكريمة التي فرض الله فيها فريضة الصوم على عباده لوجدناها تقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). فهناك في آية البر قال : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ، وهناك في آية الصيام : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فكأن الصيام طريق يؤدي الى تحقيق البر ، لأن البر كما قالت الآية صفة المتقين ، وكذلك يقول الله تعالى في سورة البقرة : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى). والتقوى معنى كبير واسع ، فالتقوى وقاية وصيانة من جهة ، بالابتعاد عن كل سوء ورذيلة ، والتقوى قوة وحصانة من جهة أخرى ، بإتيان كل عمل طيب وسعي حميد.

* *

والبر يتفرع إلى ألوان وأنواع ، فهناك البر بالإنفاق لوجه الله تعالى ، وفيه يقول رب العزة : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ). ولقد ضرب أسلافنا أروع الأمثال في برهم بانفاق أموالهم في سبيل الله عزوجل ، حتى استحقوا أن يقال فيهم : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ، إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً). وأن يقال فيهم : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وكان منهم أبو بكر الذي بذل ماله كلّه في سبيل الله ، وكان منهم عثمان مجهز الجيوش ، وكان منهم عبد الرحمن بن عوف صاحب الباع الطويل في الانفاق ، وعلى قمة الأبرار الأجواد يأتي رسول الله عليه الصلاة والسّلام الذي كان أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان ، فهو في جوده حينئذ كالريح المرسلة ، ولذلك استحق عن جدارة أن يوصف بأنه نبي أكبر ، وأن يخاطبه أمير الشعراء شوقي فيقول له :

٢٣٦

وإذا سخوت بلغت بالجود المدى

وفعلت ما لا تفعل الأنواء

وإذا ملكت النفس قمت ببرها

ولو أنّ ما ملكت يداك الشاء

ويقول عنه :

نبي البر ، بيّنه سبيلا

وسنّ خلاله ، وهدى الشعابا

وهناك بر الوالدين ، بعدم عقوقهما أو الإساءة اليهما ، وبالاحسان اليهما كل الاحسان ، ولذلك يقول الرحمن : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً).

ولقد قال أحد الصحابة كما روى أبو داود والترمذي : يا رسول الله ، من أبرّ؟. فأجاب : أمك ثم أمك ثم أمك ، ثم أبوك ، ثم الأقرب فالأقرب. وروى مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أبرّ البر صلة الولد أهل ودّ أبيه».

وهناك بر الأقارب وذوي الأرحام ، والقرآن يقول : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ). وجاء في الحديث القدسي أن الرحم قالت لربّها : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، فقال لها : ألا ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك؟. قالت : بلى يا رب ، قال : فذاك لك!. وفي الحديث النبوي : «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ، فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر».

وهناك البر في الكلام والحديث ، فإن الكلمة الطيبة نوع من البر ، والله تعالى يقول في سورة المجادلة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى ، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). وقد حبب القرآن المجيد أقوى تحبيب في البر بالكلام. فقال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ ، تُؤْتِي

٢٣٧

أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ، وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ويقول : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ).

* * *

وإذا كان القرآن المجيد قد طالب المسلم بأن يكون بارا بالمسلمين ، فانه وجهه الى البر مع غير المسلمين ما داموا عادلين ، فقال : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). وجاء في الحديث : «تصدقوا على أهل الأديان كلها».

ثم يعمم القرآن الدعوة الى المشاركة في إشاعة البر بين أرجاء المجتمع ، فيقول : «وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ».

وقد قرر كتاب الله ثواب أهل البر وسمو مكانتهم في أكثر من آية ، ففي سورة آل عمران جاء : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ). وفي سورة الانسان : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً). وفي سورة المطففين : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ). وفي سورة الانفطار : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ).

* * *

ومن لطائف البر في منطق الاسلام أن الانسان لا يكون بارا إلا إذا كان صادقا ، ولذلك فسروا البر بالصدق ، وتقول لغة العرب : برّ فلان في يمينه ، أي صدق فيها ، وبرّ فلان بوعده إذا وفاه ، وبرّ فلان بكلامه ، إذا صدّقه بالعمل ، ويقال : حجة مبرورة ، أي مقبولة قبول العمل الصادق.

والقرآن يقول مبكتا الكذبة من بني إسرائيل : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ). ويقول الرسول صلوات

٢٣٨

الله وسلامه عليه : «عليكم بالصدق ، فان الصدق يهدي الى البر ، وان البر يهدي الى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ، ويتحرى الصدق ، حتى يكتب عند الله صدّيقا».

وتقص علينا قصة الإسراء والمعراج أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ في طريقه على قوم تقطع شفاههم بمقاريض من نار ، فسأل النبي ، من هؤلاء يا جبريل؟. فأجاب : هؤلاء خطباء من أهل الدنيا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون.

فالواجب على المسلم أن يحقق البر في نفسه قبل أن يطالب غيره بأن يكون بارا ، وإلا قيل له :

يا أيها الرجل المعلّم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم؟

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا

كيما يصح به وأنت سقيم

ونراك تصلح بالرشاد عقولنا

أبدا ، وأنت من الرشاد عديم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها

فاذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى

بالقول منك وينفع التعليم

أو قيل له :

ما أقبح التزهيد من واعظ

يزهّد الناس ولا يزهد

لو كان في تزهيده صادقا

أضحى وأمسى بيته المسجد

والرزق مقسوم على من ترى

يسعى له الأبيض والأسود

ولقد تحدث الامام الرازي في تفسير قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) فكان مما قاله هذه العبارة :

«أما قوله : أفلا تعقلون ، فهو تعجب للعقلاء من أفعالهم ، ونظيره قوله تعالى : (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

وسبب التعجب وجوه : الأول أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن

٢٣٩

المنكر إرشاد الغير الى تحصيل المصلحة ، وتحذيره عما يوقعه في المفسدة ، والاحسان الى النفس أولى من الاحسان الى الغير ، وذلك معلوم بشواهد العقل والنقل ، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل مناقض لا يقبله العقل ، فلهذا قال : أفلا تعقلون.

الثاني : أن من وعظ الناس ، وأظهر علمه للخلق ، ثم لم يتعظ ، صار ذلك الوعظ سببا لرغبة الناس في المعصية ، لأن الناس يقولون : إنه مع هذا العلم ، لو لا أنه مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات ، وإلا لما أقدم على المعصية فيصير هذا داعيا لهم الى التهاون بالدين ، والجراءة على المعصية ، فاذا كان غرض الواعظ الزجر عن المعصية ، ثم أتى بفعل يوجب الجراءة على المعصية فكأنه جمع بين المتناقضين ، وذلك لا يليق بأفعال العقلاء ، فلهذا قال : أفلا تعقلون.

الثالث : أن من وعظ فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذا في القلوب والإقدام على المعصية مما ينفر القلوب عن القبول ، فمن وعظ كان غرضه أن يصير وعظه مؤثرا في القلوب ، فالجمع بينهما متناقض غير لائق بالعقلاء ، ولذلك قال علي : قضم ظهري رجلان : عالم متهتك وجاهل متنسك».

نسأل الله جل جلاله أن يجعلنا من أهل البر في القول والعمل.

٢٤٠