موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٢

وَشِقاقٍ) فعزة الكافرين تعزز كاذب ، ولذلك جاء في الحديث : «كلّ عز ليس بالله فهو ذل». ومن ذلك أيضا قوله تعالى عن بعض الضالين : (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) والعزة هنا مستعارة للحمية الجاهلية والأنفة الذميمة ، ومن ذلك أيضا قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) أي يحاولون التمنع بهم من العذاب : وهيهات ، وهيهات.

ورضوان الله على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حين أراد أن يوطد في نفس أبي ذر الغفاري قواعد العزة ، عند ما أرغمه بعض حكام عصره على على شدة تعرض لها فقال : «يا أبا ذر ، إنك غضبت لله فارج من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عما منعوك ، وستعلم من الرابح غدا ، والأكثر حسّدا ، ولو أن السموات والأرض كانتا على عبد رتقا (١) ، ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا ، لا يؤنسنك إلا الحق ، ولا يوحشنك إلا الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك ، ولو قرضت (٢) منها لأمنوك». أي لو ذللت ونلت من متاع الدنيا لما خافوك.

إن العزة ميراث المؤمن ، فليحرص كلّ مؤمن على ميراثه.

__________________

(١) أي مضمومة ملتحمة.

(٢) أخذت منها ونلت.

٢١

العدل

العدل هو القصد في الأمور ، وهو الإنصاف والمساواة بين الناس ، وهو الحكم بالاستواء ، وهو تحري المساواة والمماثلة بين الخصمين ، بأن لا يرجح أحدهما على الآخر بشيء قط ، بل يكونان سواء ، حتى يصل كلّ ذي حق حقه .. وقد روي : بالعدل قامت السموات والأرض ، أي أنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائدا على الآخر ، أو ناقصا عنه ، على مقتضى الحكمة ، لم يكن العالم منتظما. وتطلق كلمة «العدل» على العادل من الناس المرضيّ المستوي الطريقة.

والعدالة أو المعادلة لفظ يقتضي معنى المساواة ، والعدل نقيض الظلم والجور ، والعدل له مرادف هو القسط.

وقد تكررت مادة «العدل» بمشتقاتها ما يقرب من ثلاثين مرة في القرآن الكريم ، وقد يشير هذا التكرار ـ ولو من ناحية المظهر على الأقل إلى عناية التنزيل المجيد بالحديث عن العدل ، والعجيب في أمر هذا الحديث أنه استعرض مواطن عديدة ينبغي أن يتحقق العدل فيها ، أو تحقق فيها العدل الكامل بالفعل ، وفي طليعة هذه المواطن ، وفوق هاماتها كلها ، نجد القرآن لكريم يحدثنا عن عدل الله جل جلاله ، فينفي أولا عن ذاته العلية صفة الظلم .. كأن يقول (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) .. ويصف ذاته لقدسية بالعدل والقسط ، كأن يقول : «شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ

٢٢

وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

فالله جل جلاله ـ كما تخبرنا هذه الآية هو الذي يقوم بتحقيق العدل في الدين ، وفي الكون ، فيأمر بعلم ويقضي بحكمة ، وشريعته تحقق العدالة بين مطالب البدن ومطالب الروح ، وهو الذي يأمر بالعدل والتوسط دون إفراط أو تفريط.

و «العدل» نفسه اسم من أسماء الله تعالى ، فهو الذي لا يميل به هوى فيجور في الحكم ، ولفظ «العدل» في الأصل مصدر سمّي ـ به فوضع موضع وصف «العادل» ، ولفظ «العدل» أبلغ في الدلالة على صفة العدالة من لفظ «العادل».

والرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مأمور بالعدل كما يحدثنا القرآن الكريم في قوله : (فَلِذلِكَ فَادْعُ ، وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ).

ويقول الله تعالى آمرا رسوله بالعدل في الحكم لغير المسلمين : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). وهذه الآية خطاب من الله جل جلاله للرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في شأن حكمه بين غير المسلمين من أهل الكتاب ، فهم ـ وإن كانوا غير مسلمين ـ يجب أن يكون حكمه بينهم بالعدل.

والقرآن الكريم يأمر بالعدل في الحكم والفصل في القضايا والخصومات بين الناس فيقول : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ، وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) ..

ويقول في آية أخرى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ). وهذا العدل يشمل أول ما يشمل المساواة والعدالة عند الفصل في الحقوق بين الناس.

ويقرر الإمام الشافعي هنا أن القاضي ينبغي له أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء : في الدخول عليه ، والجلوس بين يديه ، والاقبال عليهما ، والاستماع منهما ، والحكم عليهما ، ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته ، ولا أن يلقن

٢٣

شاهدا شهادته ، ولا يلقن المدعي الدعوى ، ولا يلقن المدعى عليه الإنكار أو الإقرار ... إلخ. وفي تاريخ الاسلام مواقف رائعة لدقة العدالة في الحكم.

ويأمر كتاب الله المجيد بالعدل في الكلام والمنطق ، فيقول : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى). أي يجب عليكم أن تعدلوا في قولكم ، فتكونوا صادقين إذا نطقتم بشهادة أو حكم على أحد ، ولا يجوز أن تحيدوا عن طريق الحق والعدل متأثرين بعامل القرابة ، فالله قد حرم الميل في النطق بالشهادة ، ولو كان هذا لمحاباة أحد القرباء.

ويتصل بهذا الوجه من وجوه العدل التي دعا إليها القرآن وحث عليها ، قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ، إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) ..

أي أقيموا العدل على أتمّ الوجوه وأكمل الحالات ، لأن «القوّام» هو المبالغ في القيام بالشيء ، وتحروا الحقّ في قولكم وشهادتكم ، حتى لو كانت الشهادة على أنفسكم أو على أقاربكم ، فلا تحابوا الغنيّ طمعا فيه ، ولا الفقير عطفا عليه ، فالله أولى من الجميع ، فأخلصوا الشهادة ، ولا تتبعوا أهواءكم كراهية منكم للتمسك بالعدل ، فسواء عليكم أشهدتم بالحق أم كتمتم الشهادة فان الله تعالى مطلع على أحوالكم ، عليم بدقائق أموركم.

ويأمر القرآن الكريم بالعدل في الكتابة فيقول في آية المداينة :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ، وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) .. أي ليكتب كتاب المداينة أو البيع كاتب متصف بالقسط والإنصاف ، فهو لا يزيد ولا ينقص في صفة أو مقدار ، ولا يكتب شيئا يضر بأحد المتعاقدين إلا بإذنه ، فإن الكتابة هنا أمانة يجب أن يرعاها صاحبها ، وأن يتقي الله فيها.

ويدعو كتاب الله ـ جل جلاله ـ إلى العدل في الشهادة ، فيقول القرآن عن النساء المطلقات وهن في العدة :

٢٤

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ، وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ، ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً). أي إذا شارف النساء المطلقات آخر عدتهن فراجعوهن إن أردتم العودة إلى الحياة الزوجية بحسن عشرة وجميل معاملة ، أو اقطعوا الحياة الزوجية قطعا نهائيا ، إن أردتم الانفصال ، مع الوفاء بالحقوق والابتعاد عن الأضرار ، وأشهدوا شاهدين عادلين على الرجعة ، أو على الفراق ، حتى لا تكون هناك ريبة أو تنازع ، وليكن الشهود متقين لا يدخلون على الشهادة أيّ عوج أو انحراف ، بل عليهم أن يجعلوها عادلة مستقيمة خالصة لوجه الله تعالى :

وكذلك أمر القرآن بالعدل في الشهادة على الوصية ، وذلك في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ (١) فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ).

وأوجب كتاب الله المجيد العدل حين الإصلاح بين الطائفتين المتنازعتين من المؤمنين ، فقال : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

والقرآن يوجب علينا العدل حتى مع من نبغضهم ونكرههم ، وهذه مثالية كريمة في تطبيق العدل ، وفي ذلك يقول القرآن : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى).

أي لا يحملنكم بغضكم قوما أو عداوتكم لهم على الجور عليهم ، أو الظلم

__________________

(١) سرتم وارتحلتم وسافرتم.

٢٥

لهم ، فلا يجوز أن تمنعوهم حقا من حقوقهم ، او تكتموا شيئا مما لهم ، فالعدل واجب عليكم نحوهم في كل الأوقات وسائر الأحوال ، إذ هو أقرب إلى تحقيق تقوى الله تعالى والبعد عن عقابه.

ويأمر القرآن كذلك بالعدل في تقدير الجزاء المطلوب شرعا في حالة اعتداء الحاج على الصيد وهو محرم ، وذلك حيث يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ (١) ، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ (٢) يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ).

فالمحرم بالحج يحرم عليه أن يقتل صيدا يؤكل لحمه ، فإذا فعل ذلك متعمدا كان عليه أن يدفع جزاء مقابلا لما فعل ، وهو أن يقدّم ذبيحة تماثل هذا الصيد في القيمة أو الهيئة ، والذي يقدّر ذلك شخصان يكونان عادلين في حكمهما وتقديرهما.

والقرآن يشير إلى أن العدل قد يكون في بعض الأحيان شاقا مرهقا ، يحتاج إلى قوة إرادة وشدة عزيمة ، وذلك كالعدل بين الزوجات إذا تعددن ، لأن العواطف والمشاعر والانفعالات المختلفة تتدخل هنا ، وهي عرضة للجموح والتقلب والتأثير ، ولذلك يقول القرآن الكريم عن تعدد الزوجات : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً). ثم يعود في موطن آخر فيقول : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) ..

وهذه إشارة إلى ما عليه طبيعة الناس من الاستعداد للجور والظلم في هذا المجال ، لأن المرء لا يستطيع مثلا أن يسوّي بين الزوجتين في المحبة ..

وقد ينوي الرجل العدل بين الزوجتين ويحاول ذلك ، ولكن يتعذر عليه بلوغه ، لتأثر الإنسان بوجدانه وميله القلبي ، وهو لا يملك السيطرة على قلبه ، فالعدل الكامل هنا لا يتحقق ، فلا أقلّ من التأبي على الجور الواضح والميل الشديد ، حتى لا تتركوا الزوجة التي لا تميلون إليها كأنها غير متزوجة وغير

__________________

(١) محرمون بالحج.

(٢) البهائم.

٢٦

مطلقة ، ولذلك قال الفقهاء إن العدل المأمور به هنا هو العدل في النفقة والقسمة ما يستطيعه الإنسان.

وهكذا نرى القرآن الكريم قد دعا إلى الاستمساك بالعدل في شتى مناحي الحياة ، وأعلمنا أولا أن العدل هو صفة الله جل جلاله ، وهو مهمة رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم أمرنا بالعدل في الحكم والعمل والقول والكتابة والشهادة والإصلاح بين المتنازعين وتقدير الجزاء ، ومع الزوجة ومع الذين توجد بيننا وبينهم عداوة ، وبهذا تكون دعوة الاسلام إلى العدل دعوة شاملة واسعة النطاق.

ولأن العدل يحتاج إلى دقة ويقظة وتقدير عبّر القرآن الكريم عن العدل بكلمة «الْمِيزان» ، فقال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) وقال (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ).

وقد جاء في «تفسير المنار» العبارة التالية تعليقا على هذه الآية الكريمة : «خير الناس من يصدهم عن الظلم والعدوان هداية القرآن ، ويليهم من يصدهم العدل الذي يقيمه السلطان ، وشرّهم من لا علاج له إلا السيف والسّنان ، وهذا هو المراد بالحديد ، فقوام صلاح العالم بالايمان بالكتاب الذي يحرّم الظلم وسائر المفاسد ، فيتجنبها المؤمن خوفا من عذاب الله في الدنيا والآخرة ورجاء في ثوابه فيهما ؛ وبالعدل في الأحكام الذي يردع الناس عن الظلم بعقاب السلطان.

ويؤيد قاعدة إقامة العدل ما ورد في تحريم الظلم والوعيد الشديد عليه ، فقد ذكر الظلم في مئات من آيات القرآن أسوأ الذكر ، وقرن في بعضها بأسوأ العواقب في الدنيا والآخرة ، وأن الجزاء عليه فيهما أثر لازم له لزوم المعلول للعلة ، والمسبب للسبب ، وأن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ، ومن أثره وعاقبته في الدنيا أنه مهلك الأمم ومخرّب العمران ، قال تعالى :

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ). أما ما كان من

٢٧

شأنه ولا من سنته في نظام الاجتماع أن يهلك الأمم بظلم منه لهم ، أو بشرك يقع منهم وهم مصلحون في سيرتهم وأعمالهم ، وإنما يهلكهم بظلمهم وإفسادهم ، كما قال : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) ، وقال في الاحكام (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

وإذا كان القرآن الكريم قد استعمل كلمة «الميزان» بمعنى العدل ، فإنه قدر كرر الدعوة إلى العدل في الوزن الحسي المعروف فقال : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ). وقال : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ). وقال : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ). وقال (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ). وقال : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ). وقال : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ).

وحذّر القرآن الكريم من الظلم في الكيل والوزن فقال : «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ»؟ .. وفي هذا اليوم الخطير يضرب الله المثل الأعلى للعدل حيث يقول : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ).

ولا شك أن ضبط الكيل والوزن مظهر جليل من مظاهر العدل تصان به الحقوق بين العباد.

* * *

ولقد عبّر القرآن الكريم عن العدل بثلاث كلمات هي : العدل ، والقسط والميزان ؛ وقد استعرضنا مواطن لاستعمال مادة «الوزن» بمعنى العدل في القرآن الكريم ، وأما القسط فهو النصيب الذي يعطى بالعدل والحق ، وقد جاء في القرآن قوله تعالى : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ). وقوله : (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ، وقوله : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ). وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ).

٢٨

ومن مادة «القسط» جاءت كلمة «القسطاس» بمعنى الميزان ، وفي الميزان معنى العدل كما عرفنا ، وقد يعبّر بكلمة القسطاس عن العدالة ، كما يعبّر عنها بكلمة الميزان ، ولذلك قال القرآن الكريم : «وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ».

وضد العدل هو الظلم ، والظلم في الأصل هو وضع الشيء في غير موضعه المختص به ، إمّا بنقصان منه ، أو بزيادة عليه ، وإما بعدول عن وقته أو مكانه ، والظلم أيضا هو مجاوزة الحق والعدل ، سواء أكانت المجاوزة قليلة أو كثيرة فارتكاب الذنب الصغير يسمّى ظلما ، وارتكاب الكبيرة من الكبائر يسمّى ظلما كذلك ، وقد قسم بعض الحكماء الظلم إلى ثلاثة أنواع ، فهناك ـ كما يروي الأصفهاني ـ ظلم يقع من الانسان فيما بينه وبين ربه عزوجل ، وأعظم الظلم الذي يقع من الانسان هنا هو الكفر ، ولذلك قال القرآن الكريم : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وهناك ظلم بين الانسان والناس ، وهو الإساءة اليهم ، أو الاعتداء عليهم ، أو هضم حق من حقوقهم ، وفي القرآن المجيد : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ).

وهناك ظلم بين الانسان ونفسه ، وهو دفعها إلى ارتكاب الإثم ، والقرآن يقول : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). والظلم يأتي بمعنى الميل والجور عن الصراط المعتدل المستقيم ، كما جاء في الحديث : «لزموا الطريق فلم يظلموه» أي لم يعدلوا عنه ، ويقال : أخذ فلان في الطريق فما ظلم يمينا ولا شمالا ، أي لم يمل. وفي لفظ الظلم اشتراك مع لفظ الظلام ، والظلام سبب حيرة وضلال ، وهذا يذكّرنا بقول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه : «الظلم ظلمات يوم القيامة».

ولقد تكرر ذكر الظلم في القرآن عشرات المرات في مواطن التحذير منه والتهديد لأهله ، والأمر بالابتعاد عنه ، فيقول : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) ويقول : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ). وقد نفى الله تبارك وتعالى الظلم عن ذاته فقال سبحانه : (وَما كانَ اللهُ

٢٩

لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

* * *

وربما تخيل بعض الناس أن تحقيق العدل أمر ميسور خفيف ، وهذا بعيد عن الحقيقة والواقع ، والسيد محمد رشيد رضا يقرر أن العدل من المعاني الدقيقة التي يشتبه الحدّ الأوسط منها بما يقاربه من طرفي الإفراط والتفريط ، ولا يسهل الوقوف على حدّه والإحاطة بجزئياته ، ولا سيما الجزئيات المتعلقة بوجدانات النفس ، كالحب والكره ، وما يترتب عليهما من الأعمال ، وهذا هو سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسّلام. كان يبذل غاية جهده ليحقق العدل اللائق به بين زوجاته ، في كل ما يتعلق بأمور المعيشة والحياة ، ولكنه كان بعد ذلك يناجي ربّه عزوجل ويقول له : «اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فاغفر ما تملك ولا أملك». وهو يقصد بذلك ميل القلب الذي لا يستطيع المرء أن يتحكم فيه ، لأن الانسان لا يستطيع أن يتحكم في حبه أو بغضه ، ولذلك كان من دعوات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم يا مقلّب القلوب ، ثبّت قلبي على دينك». وجاء في الحديث : «القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبهما كيف يشاء». وهذا يذكّرنا بقول الله تعالى في سورة الأنفال : (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

* * *

والعدل كما يكون في الأمور المادية التي يسهل ضبطها وتحديدها ، يكون في الأمور العقلية والمعنوية التي يدقّ وزنها ، ويحتاج ضبطها إلى معاناة ومشقة ؛ وهذا مثلا الإمام الرازي يقول إن من العدل المطلوب عدل العلماء مع العوام ، بأن لا يحملوهم على التعصب الباطل ، بل يرشدونهم إلى الأعمال التي تنفعهم في

٣٠

دنياهم وأخراهم ؛ وهذا العدل المعنوي الذي يشير إليه يتطلب من العلماء أن يتعرفوا إلى الحاجات العقلية والنفسية والدينية التي يحتاج إليها هؤلاء العوام ، ليستقيم أمرهم ويعتدل حالهم ، فلا يقدّموا إليهم إلا ما يزيدهم توفيقا ورشدا في أمور دينهم ودنياهم.

ويرى الإمام الغزالي أن قوة العدل الحقيقي هي ضبط الشهوة والغضب ، وإخضاعهما تحت إشارة العقل والشرع ، وهو يرى أن العدل حالة للنفس ، وقوة بها تسوس الغضب والشهوة ، وتحملهما على مقتضى الحكمة ، وتضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها.

وكلما علت منزلة الانسان بين قومه ، أو إتسعت تبعته نحوهم ، أو انفسحت اختصاصاته معهم ، زادت مطالبتهم له عقلا وشرعا بالحرص على العدل والاستمساك بالقسطاس ، ولعل هذا بعض السر في إخبار الرسول لنا بأن الإمام العادل أحد سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله ، وإخباره أن ذا السلطان المقسط العادل أحد ثلاثة هم أهل الجنة.

والعدل نوعان : نوع يقتضي العقل حسنه دائما ، وهو الإحسان إلى من أحسن إليك ، لأن الله تعالى يقول : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) ويقرب من معنى هذا قوله : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) وكذلك كفّ الاذى عمن كف أذاه عنك : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).

ونوع آخر يبيحه الشرع ، لأنه عدل يقتضيه التقابل والتماثل ، كالقصاص في قوله تعالى :

(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ). وقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها). وقوله : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً). وقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

فالاعتداء على المعتدي ، ومقابلة المسيء بالإساءة من قبيل العدل ، وبهذا

٣١

المعنى يقال إن العدل هو المساواة في المكافأة والمجازاة ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر.

وكأن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه كان يستحضر في ذهنه هذه المعاني حين قال في أول خلافته : «إن الله تعالى أنزل كتابا هاديا ، بيّن فيه الخير والشر ، فخذوا نهج الخير تهتدوا ، واصدفوا عن سمت تقصدوا (أي أعرضوا عن الميل إلى جهة الشر تستقيموا) الفرائض الفرائض ، أدّوها إلى الله تؤدّكم إلى الجنة ، إن لله حرّم حراما غير مجهول ، وأحلّ حلالا غير مدخول (غير معيب) ، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلّها ، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين ومعاقدها (أي مواضعها من الذمم) فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، إلا بالحق ، ولا يحق أذى المسلم إلا بما يجب ، بادروا أمر العامة وخاصة أحدكم وهو الموت ، فإن الحساب أمامكم ، وإن الساعة تحدوكم من خلفكم ، تخفّفوا تلحقوا ، فإنما ينتظر بأولكم آخركم. اتقوا الله في عباده وبلاده ، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم ، وأطيعوا الله ولا تعصوه ، وإذا رأيتم الخير فخذوا به ، وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه».

ولقد تعرض الإمام الشيخ محمد عبده لقول الإمام علي : «بادروا أمر العامة وخاصة أحدكم وهو الموت» ، فعلق عليه بقوله : «أي عاجلوا أمر العامة بالإصلاح ، لئلا يغلبكم الفساد فتهلكوا ، فإذا انقضى عملكم في شؤون العامة فبادروا الموت بالعمل الصالح ، كيلا يأخذكم على غفلة ، فلا تكونوا منه على أهبة ، وفي تقديم الإمام أمر العامة على أمر الخاصة دليل على أن الأول أهم ، ولا يتم الثاني إلا به ، وهذا ما تضافرت عليه الأدلة الشرعية ، وإن غفل عنه الناس في أزماتنا هذه».

ويعود الإمام علي رضي الله عنه ليقول لاحد الولاة : «أما بعد ، فإن الوالي إذا اختلف هواه (أي جرى مع شهواته) منعه ذلك كثيرا من العدل ، فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء ، فانه ليس في الجور عوض من العدل ، فاجتنب ما تنكر أمثاله (أي ما لا تستحسن صدور مثله من غيرك) ،

٣٢

وابتذل نفسك فيما افترض الله عليك ، راجيا ثوابه ، ومتخوفا عقابه.

واعلم أن الدنيا دار بلية ، لم يفرغ صاحبها فيها قطّ ساعة إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة (لخلو هذا الفراغ من عمل طيب) وإنه لن يغنيك عن الحق شيء أبدا ، ومن الحق عليك حفظ نفسك ، والاحتساب على الرعية بجهدك (أي التطوع بالجهد لخدمة الأمة) فإن الذي يصل إليك من ذلك أفضل من الذي يصل بك».

ويعود ليقول للاشتر النخعي وقد ولّاه على مصر : «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ، ومن لك هوى فيه من رعيتك ، فإنك إن لا تفعل تظلم ، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ، ومن خاصمه الله أدحض حجته (أبطلها) وكان لله حربا حتى ينزع أو يتوب. وليس شيء أدعى إلى تغير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم ، فإن الله يسمع دعوة المضطهدين ، وهو للظالمين بالمرصاد. وليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحق ، وأعمّها في العدل ، وأجمعها لرضا الرعية».

هذا ولقد ضرب السلف الصالح من هذه الأمة المؤمنة أروع الأمثال في العدل ، وناهيك بما كان من الفاروق عمر بن الخطاب ، وخامس الراشدين الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز وأضرابهما الذين علّموا الدنيا كيف يكون الحكم بالعدل ، والوزن بالقسط ، والقضاء بإنصاف ، مهتدين في ذلك كلّه بالنور الذي يهدي للتي هي أقوم ، والذي يدعو إلى العدل ويأمر به ، ويجعل سبب الفوز فيه وعماد التقوى عليه : «اعدلوا هو أقرب للتقوى».

٣٣

العفو

«العفو» كلمة يدل أصل معناها على المحو والطمس ، يقال : «عفت الريح الأثر إذا محته وطمسته ، وعفا الشيء امتحى ولم يبق له أثر ، والعفو اصطلاحا هو محو الذنوب ، وكل من استحق عقوبة فتركته فقد عفوت عنه .. ويقال : عفا الله عنك ، أي محا الله عنك ؛ فعفو الله هو محوه الذنوب عن العبد. وقيل إن العفو معناه الترك ، فعفو الله إذا هو تركه العقوبة على الذنب ، وفي الدعاء المأثور : «أسألك العفو والعافية» أي أسألك ترك العقوبة وتحقيق السلامة ، لأن العافية هي الصحة ، وهي أن تسلم من الأسقام والبلايا.

و «العفوّ» ـ بضم الفاء وتشديد الواو ـ هو الكثير العفو ، فالكلمة صيغة مبالغة على وزن فعول ، وهي اسم من أسماء الله ـ عزوجل ـ التي تكرر ذكرها في القرآن الكريم. و «المعافاة» مفاعلة من العفو ، بأن يعفو الإنسان عن الناس ، ويعفو الناس عنه. وقيل هي أن يعافيك الله من الناس ، ويعافيهم منك ، أي يغنيك عنهم ، ويغنيهم عنك ، ويصرف أذاهم عنك ، وأذاك عنهم.

وحقيقة العفو أن يخطيء معك إنسان ، وتكون قادرا على معاقبته ومؤاخذته ، ولكنك تعرض وتصفح ، ولذلك قيل : العفو عند المقدرة. وقيل : لا يظهر العفو إلا مع الاقتدار. وقيل : ما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم ، ومن عفو إلى قدرة.

والعفو خلق من أخلاق القرآن الكريم التي كرر ذكرها ، ورفع قدرها ،

٣٤

ولعل مما يبيّن هذا القدر الرفيع للعفو أن القرآن المجيد جعله صفة من صفات الله ـ عزوجل ـ وأشار إلى ذلك في طائفة من الآيات ، ففي سورة البقرة يقول الله تعالى :

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). وفيها أيضا يقول : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ). وفي سورة آل عمران : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). وفيها أيضا : (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). وفي سورة النساء : (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ). وفي سورة التوبة : (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً). وفيها أيضا : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ). وفي سورة الشورى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ). وفيها : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ). وفيها : (أَوْ يُوبِقْهُنَ (١) بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) .. إلخ.

وهكذا نجد أن كتاب الله تبارك وتعالى قد نسب صفة «العفو» إلى رب العزة والجلال أكثر من عشر مرات ، ونرى أن الله تعالى يعفو وفي الوقت نفسه يهدد بالمؤاخذة من يعود أو يصرّ ، وهو يعفو عن طائفة تستحق العفو ، ويعاقب من لا يستحق العفو ، وهو يحث على الاتجاه إلى الأسباب التي تجعل الإنسان مستحقا لعفو ربه. ونجد أكثر من هذا وهو أن القرآن الكريم يصف الله ـ عزوجل ـ بأنه «العفو» في مواطن ، فيقول في سورة النساء : (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً). وفيها أيضا : (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) وفيها كذلك : (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) .. وفي سورة الحج : (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ). وفي سورة المجادلة : (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ).

وما دام العفو صفة من صفات الله التي تؤكدها آيات القرآن ، فإنه مما يزكّي الإنسان ، ويسمو بقدره عند الله وعند الناس أن يتخلق بهذا الخلق

__________________

(١) يوبقهن : يهلكهن.

٣٥

الكريم النبيل ، ولذلك دعا القرآن إلى العفو وحث عليه ، ونوّه به في أساليب مختلفة ، فنراه مثلا في سورة البقرة يقول : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) فيذكّر بأن العفو يكون معوانا على تحقيق التقوى عند الإنسان ، وعلى تجنب الحيف والظلم.

ويقول في سورة الشورى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ، فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).

فليس هناك مانع من مقابلة السيئة بجزائها ، ومواجهة التطاول بمثله ، ولكن العفو المؤدي إلى الإصلاح والخير أجمل وأكمل ، وثواب هذا العفو النبيل لا يضيع عند الله الذي يقول : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).

ويقول في سورة التغابن : (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ويقول في سورة النساء : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً).

وهذا تأكيد للحث على التجمل بالعفو ، وتذكير بأن ثوابه إذا أحسن صاحبه التحلي به ، ولم يخرج فيه عن مواطنه ـ لا يضيع عند الله عزوجل.

والقرآن الكريم يحرّض الناس على الترقي في درجات الصفح والعفو والغفران والتسامح مع الناس فيقول في سورة آل عمران :

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ..

وكظم الغيظ هو كتم الغضب وعدم العمل بمقتضاه ، والعفو هو ترك العقوبة ، والإحسان هو التفضل بالخير.

* * *

٣٦

ولقد روى الإمام الغزالي أن ميمون بن مهران جاءته جارية له بطعام ساخن ، فوقع إناء الطعام من يدها ، فأصاب سيدها شيء منه ، فقال لها غاضبا : أحرقتني. فأجابته : يا معلّم الخير ومؤدب الناس ، ارجع إلى ما قال الله تعالى. فقال : وما قال الله تعالى؟ : قالت : لقد قال (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ). فقال كظمت غيظي. قالت : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ). قال : قد عفوت عنك قالت : زد فإن الله تعالى يقول : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). قال : أنت حرة لوجه الله تعالى.

وإذا كان الرسول الأعظم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هو المثل الأعلى لكل مسلم ، فان أخلاقه كذلك هي القدوة السامية التي لا تشبهها قدوة في مكارم الأخلاق وفضائل الشيم. ولقد سئلت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن أخلاقه ، فأجابت : كان خلقه القرآن. والقرآن يطلب إلى الرسول الكريم أن يستمسك بخلق العفو ، فيقول له في سورة آل عمران :

(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ). ويقول في سورة المائدة : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). ويقول في سورة الأعراف : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ).

وإذا كان بعض المفسرين قد فسر قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) ، بقوله : اقبل السهل الميسور منهم ، فان كثيرا من المفسرين قد قالوا إن معنى ذلك هو تعاطي العفو عن الناس ، أي اعف عمن يليق به العفو منهم.

ولقد ضرب رسول الله ـ عليه صلوات الله وسلامه ـ أروع المثل في الحلم والصفح ، حتى رووا أنه كان أحلم الناس وأرغبهم في العفو مع القدرة ، ولقد جاء في سيرته العاطرة أنه كان يقسم للناس ذات يوم ، فقال رجل من أهل البادية فيه فظاظة : يا محمد ، والله لئن أمرك الله أن تعدل ، فما أراك تعدل ، فأجاب النبي : ويحك ، فمن يعدل عليك بعدي؟. وانصرف الرجل ، فقال الرسول في عفو رائع : ردّوه عليّ رويدا.

٣٧

وقسم النبي ذات يوم قسمة ، فقال رجل ، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. ولما سمع النبي ذلك قال : رحم الله أخي موسى ، فقد أوذي بأكثر من ذلك فصبر.

وجاءه أعرابي يطلب منه شيئا فأعطاه ، ثم قال له : أأحسنت إليك يا أعرابي؟ قال : لا ، ولا أجملت. فغضب المسلمون ، وهموا بالرجل ، فقال لهم النبي : كفّوا عنه. ثم دخل النبي بيته ، ودعا بالأعرابي فأعطاه عطاء آخر حتى رضي ، ثم قال له النبي : أأحسنت إليك؟. قال : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا ..

فقال له النبي : إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك ، فان أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ ، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك. ففعل الرجل ، وهنا قال النبي لأصحابه : إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه ، فاتبعها الناس (أي جروا وراءها) فلم يزيدوها إلا نفورا ، فناداهم صاحب الناقة : خلّوا بيني وبين ناقتي ، فاني أرفق بها وأعلم ، فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها ، فأخذ لها من قمام الأرض (أي حشيشها) فردّها هونا هونا ، حتى جاءت واستناخت ، وشد عليها رحلها واستوى عليها ؛ وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار.

وفي تاريخ عفو الرسول موقف لا ينسى ولا يبلى ، فذلك يوم فتح الله عليه مكة ، وانتصر على أعدائه الذين آذوه واضطهدوه وأخرجوه ، فانه قال لهم ما تظنون أني فاعل بكم؟. فأجابوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء.

ولم يكتف القرآن الكريم بتعطير سيرة العفو فيه ، ولا بطلبه من الرسول ليكون قدوة ، بل طلبه أيضا من العباد. فقال تعالى في سورة النور : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ).

٣٨

هذا ولقد قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في العفو : «ما زاد الله رجلا بعفو إلا عزا». وتابع ابن عباس خطوات الرسول فقال : «ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله عزا». ومن القول المنسوب إلى معاوية : «إني لأستحيي من ربي أن يكون ذنب أعظم من عفوي ، أو جهل أكبر من حلمي ، أو عورة لا أداريها بستري» ..

إن العفو خلق من أخلاق القرآن ، فليحرص عليه أبناء القرآن ، ليستحقوا عفو الرحمن.

٣٩

الصدق

الصدق في الاستعمال الشائع هو الإخبار بالحق الذي يعلمه الانسان ولا يعلم غيره ، ومادة «الصدق» في لغة العرب ـ وهي لغة القرآن الكريم ـ تدل على قوة في الشيء ، سواء أكان الشيء قولا أم غيره ، وسمّي الصدق القولي صدقا لقوته في نفسه ، ولأن الكذب لا قوة له ، والأصل في هذا قول العرب : رمح صدق أي صلب.

وقد عرّفوا الصدق بأنه مطابقة القول الضمير والشيء المخبر عنه معا ، ودون ذلك لا يكون القول صدقا تاما ، فلو قال المنافق : محمد رسول الله ، كان ذلك صدقا في الحقيقة لمطابقته الواقع ، ولكنه في الوقت نفسه كذب بالنسبة إلى هذا المنافق ، لأنه يخالف ما في ضميره ؛ ولذلك قال القرآن الكريم يخاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ). فهم قد قالوا : نشهد إنك لرسول الله ، وهذا صدق من جهة الواقع ، ولكنهم كاذبون ، وليس كذبهم من جهة النطق باللسان ، بل من جهة ما تضمره قلوبهم الخبيثة عليهم اللعنة.

وقد ذكر الإمام الأصفهاني أن الصدق والكذب أصلهما في القول ، ماضيا كان أو مستقبلا ، وعدا كان أو غيره ، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في القول ، ولا يكونان في القول إلا في الخبر دون غيره من أنواع الكلام ، وقد يكونان

٤٠