موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٢

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يتصبر يصبّره الله». ومن ازدان بالصبر حق الصبر ، واستكمله في نفسه عرف الطريق الى مكانة الإمامة ، فقد قال ابن تيمية : «بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين». ثم تلا قوله تعالى في سورة السجدة : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ).

اللهم هب لنا نعمة الصبر بك ولك ، واجعلنا من المتقين.

٢٠١

التقوى

التقوى كما يقول المرحوم مصطفى صادق الرافعي في كتابه «إعجاز القرآن» هي الأصل الأول لأخلاق الإسلام الفردية والاجتماعية التي أمضاها وأعلنها ، ورفع شأنها ، وجعلها من العزائم المفروضة والفضائل الواجبة.

والتقوى معناها في الأصل : جعل النفس في وقاية مما تخاف ، يقال : اتّقى فلان بكذا ، إذا جعله وقاية لنفسه ، ولذلك قيل : التقوى من الاتقاء ، وهو طلب السلامة بما يحجز عن المخافة. والتقوى في اصطلاح الشرع والعقل هي حفظ النفس عما يشينها ويعرضها للملام أو العذاب ، وذلك بترك أسباب السخط والعقوبة ، وفعل الفرائض المنجية المؤدية إلى النعيم والثواب ، وإنما يكمل ذلك ويتم بترك بعض المباحات ، وإلى هذا أشار الحديث الشريف الذي يقول : «الحلال بيّن ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن واقع الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب».

وفي هذا الحديث ما يفيد أن تمام التقوى المشار إليه بقوله : «اتق الشبهات» مرتبط بطهارة القلب ونظافته من الوساوس والهواجس ، ومن سيىء المشاعر وخبيث الخواطر ، ولا شك أن هذه الطهارة هي أمّ مكارم الأخلاق ، وأصل فروع الفضائل.

٢٠٢

وكلمة «التقوى» تذكّرنا ـ من ناحية مادتها اللغوية ، وحروفها الأصلية وهي القاف والواو والياء ، مع ملاحظة التقدم والتأخر فيما بينها ـ بثلاثة معان : الأول معنى القوة مادية كانت أم معنوية ، والثاني معنى الوقاية التي تحقق الحصانة والأمن ، والثالث معنى الاتقاء الذي هو التباعد والاجتناب. وقد تحدث القرآن الكريم عن هذه المعاني الثلاثة ، فذكر القوة المعنوية والمادية في مثل قوله : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) أي بقوة قلب ، وقيل بجد واجتهاد في العمل به. وفي مثل قوله في سورة البقرة : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وقد تحدث القرآن الكريم عن الوقاية التي تحقّق الحصانة عن طريق التقوى ، فقال في سورة غافر : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ). وقال في سورة الطور : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ، فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ). وقال أيضا على لسان المؤمنين : (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ). وقال في سورة الانسان : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً). وقد أكد الحديث الشريف معنى الوقاية التي تحقق الحصانة والصيانة عن طريق التقوى ، فجاء فيه : «فوقى أحدكم وجهه من النار» أي حفظه وصانه من عذابها بالطاعة وعمل الخير. وجاء فيه : «من عصا الله لم تقه من الله واقية» أي لم يكن من أهل السلامة والأمان. وفي كلام الإمام علي رضي الله عنه : «كنا إذا اشتد البأس واحمرّ الحدق اتقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم». أي جعلناه حصانة لنا ووقاية.

ويرى المرحوم الرافعي أن كلمة «التقوى» لا تفسرها بالتحديد والتعيين إلا كلمة «الخلق الثابت» وأن خير الأمم هي التي توطد دعائم مجتمعها بهذا الخلق الثابت «فإن مرجع التقوى في مظاهرها الاجتماعية إلى شيئين : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما المبدأ والغاية لكل قوانين الآداب والاجتماع ، ثم مرجعها في حقيقة نفسها إلى شيء واحد ، وهو الايمان بالله. فالأمة التي

٢٠٣

تكون لأفرادها فضيلة التقوى تكون لها من هذه الفضيلة صفات اجتماعية مختلفة ، يؤدي مجموعها إلى صفة تاريخية واحدة ، وهي أنها خير أمة ، على هذا جاء قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

وعلى أساس هذا التصور العميق لرسالة الاسلام ذكر الرافعي في تعريف التقوى أنها فضيلة أراد بها القرآن الكريم إحكام ما بين الانسان والناس ، وإحكام ما بين الانسان والخالق ، ولذلك كان المراد من حديث القرآن عن التقوى في أكثر الآيات أن يتقي الانسان كلّ ما فيه ضرر لنفسه ، أو مضارّة لغيره.

ولو رجعنا بعد هذا التمهيد إلى القرآن المجيد لوجدناه يدعو إلى التقوى ويحث عليها ويأمر بها ، ولقد ورد قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ) عشرات المرات في كتابه العزيز ، وقال في سورة البقرة (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ). وقال في سورة الاعراف : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ). وقال عن المؤمنين في سورة الفتح : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها). وقال في سورة الأنفال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). ويحدثنا القرآن بأن دعوة الأنبياء كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب والياس لأقوامهم كانت قولهم «أَلا تَتَّقُونَ). وقد تكرر هذا التعبير القرآني ستّ مرات.

* *

والقرآن الكريم يعطينا ملامح عن صفات أهل التقوى ، فيذكر لنا ان سماتهم التذكر الذي تتبعه التوبة والعودة إلى سواء السبيل ، فيقول في سورة الأعراف : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ). ويذكر أن من سماتهم الاحسان في الطاعة ، والاتقان في العمل ،

٢٠٤

فيقول في ختام سورة النحل : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ). ويذكر أيضا ان من شأن التقوى ان يكون صاحبها يقظا فطنا ، فيقول في سورة الأحزاب مخاطبا نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً). ثم يذكر في سورة آل عمران مجموعة من علامات التقوى ، فيورد ستّ علامات أو صفات ، وهي الانفاق في حالتي الغنى والضيق ، وكظم الغيظ وهو أشد حالات الغضب ، أي إمساك ما في النفس بالصبر ، ولذلك يروى أن خادما للسيدة عائشة غاظتها يوما فقالت عائشة : «لله درّ التقوى ، ما تركت لذي غيظ شفاء». والعلامة الثالثة للمتقين العفو عن الناس ، وترك مؤاخذتهم على هفواتهم ، والعلامة الرابعة الإحسان ، والخامسة المسارعة إلى الاستغفار من الذنب ، والسادسة عدم الإصرار على المعصية ولو صغرت ، يقول الله تعالى في ذلك :

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ، وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ).

وحينما تعرض السيد رشيد رضا لهذه الآيات في تفسيره ذكر أن هناك مرتبة دنيا لعامة المؤمنين المتقين المستحقين للجنة ، وهي أن يتذكروا عند الذنب : النّهي والعقوبة ، فيسارعوا إلى التوبة ، ثم يشير إلى أن هناك مرتبة أسمى من المرتبة السابقة فيقول : «ومرتبة عليا لخواصّ المتقين ، وهي ان يذكروا إذا فرط منهم ذنب ذلك المقام الإلهي الأعلى المنزّه عن النقص الذي هو مصدر كل كمال ، وما يجب من طلب قربه بالمعرفة والتخلق الذي هو منتهى الآمال ، فإذا هم تذكروا انصرف عنهم طائف الشيطان ، ووجدوا نفس الرحمن ، فرجعوا إليه طالبين مغفرته : راجين رحمته ، ملتزمين سنته ، واردين شرعته ، عالمين

٢٠٥

انه لا يغفر الذنوب سواه ، وانه يضلّ من يدعون عند الحاجة إلا إياه ، لأن الكل منه وإليه ، وهو المتصرف بسننه فيه والحاكم بسلطانه عليه».

* *

وبتدبرنا في آيات القرآن المجيد نفهم أن التقوى هي التي تحقق جمال الصداقة وبقاءها وحسن ثمرتها ، فالقرآن يقول في سورة الزخرف : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي ان كل صداقة او صحبة لغير الله تعالى فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة ، واما الصداقة المخلصة فإنها باقية دائمة في الدنيا والآخرة. وقد يتضح هذا في عقولنا اكثر إذا تذكّرنا أن التقوى تستلزم صيانة الإنسان حرمات سواه ، فكيف بصيانة الإنسان لحرمات صديقه ، وهذا أبو العباس الطوسي يقول : «تعظيم حرمات المؤمنين من تعظيم حرمات الله تعالى ، وبه يصل العبد إلى مجمل حقيقة التقوى».

وبهذا التدبر نفهم أيضا أن انعدام التقوى من الإنسان يؤدّي إلى فساده في ذاته ، وإلى إفساده لغيره ، فالمحروم من التقوى يستبيح لنفسه الادعاء والكذب والنفاق ، ويستبيح لنفسه التوسع في الإفساد وعمل الشر ، وإذا نصحه مذكّر بأن يتقي الله تعالى تكبر وتجبر. فلننظر إلى القرآن الكريم وهو يقول في سورة البقرة : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ : وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ، وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ، وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

ولله درّ الصوفي المشهور «شاه الكرماني» حيث يقول : «علامة التقوى الورع ، وعلامة الورع الوقوف عند الشبهات». ولا شك أن الوقوف عند الشبهات نتيجة لصدق خوف الإنسان من الله جل جلاله ، والذي يخاف ربه

٢٠٦

يمنع نفسه أن تهضم حقا ، أو تظلم إنسانا ، أو تأتي فسادا ، ومن هنا قد يسمى الخوف تقوى ، كما قد تسمى التقوى خوفا ، لما بينهما من ارتباط ، فمن أراد التقوى خاف مقارفة الإثم وبعد عنه ، ومن خاف الشيء اتقاه وتجنبه.

ومما يتصل بأثر التقوى في العلاقات بين الناس أنها باب لتوطيد المساواة الحقيقية القويمة بين الناس ، ولذلك يرى المرحوم الرافعي أن التقوى هي مصدر النية في المؤمنين بالله ، فإذا اعتدوا أو ظلموا أو انحرفوا بأهوائهم وشهواتهم ، كان ذلك انصرافا منهم عن الله تعالى ، وإهمالا لتقواه ، واستخفافا بزجره ووعيده ، وكأن ضمير أحدهم ـ إذا لم يحفل بتقوى الله ـ لا يحفل بالله جل جلاله وعز شأنه وعلا سلطانه ، ومتى بلغ الإنسان هذا الدرك الوبيء الدنيء ، فقد تكبر وتجبر وتعجرف ، وكان عدوا للمساواة بين الناس ، وكأننا بالقرآن المجيد يشير إلى ذلك حين يقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). فالآية الكريمة تقرر المساواة الطبيعية حين تذكر أن الجميع مخلوقون من ذكر وانثى ، وأشارت إلى أن الغاية الاجتماعية للناس بشعوبهم وقبائلهم هي التعارف ، والتعارف السليم مجمع للفضائل ، وهو يؤكد المساواة والأخوة الإنسانية ، وأساس التفضيل هو التقوى ، فأكرم الناس الذين تساووا في الحالتين الفردية والاجتماعية هو أتقاهم ، أي أحسنهم أخلاقا ، لا أوفرهم مالا ، ولا أحسنهم حالا ، ولا أكثرهم رجالا ، ولا أثقبهم فهما ، ولا أوسعهم علما ، ولا أشدهم قوة.

* *

والتقوى تستلزم الإيمان بالله ، وفهم كتاب الله ، ومعرفة هدي رسول الله ، ودراسة سير الصالحين من عباد الله ، والاهتداء بهذا كله لوجه الله. ولذلك يقول الإمام محمد عبده : «التقوى أن تقي نفسك من الله : أي من غضبه وسخطه

٢٠٧

وعقوبته ، ولا يمكن هذا إلا بعد معرفته ، ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه ، ولا يعرف هذا إلا من فهم كتاب الله تعالى ، وعرف سنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسيرة سلف الأمة الصالح ، مطالبا نفسه بالاهتداء بذلك كله ، فمن صبر وصابر ورابط ، لأجل حماية الحق وأهله ، ونشر دعوته ، واتقى ربه في سائر شؤونه ، فقد أعد نفسه بذلك للفلاح والفوز بالسعادة عند الله تعالى».

وهناك صلة بين التقوى والبر الذي هو جماع الفضائل ومجموعة أعمال الخير ، ولذلك يقول القرآن الكريم في سورة البقرة : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى). وكذلك أشار القرآن إلى الصلة الوثيقة بين التقوى والإيمان ، حتى قال بعض المفسرين إنه لا اعتداد بالإيمان في الآخرة إلا إذا صحبته التقوى ، وكانت أثرا له في النفس والعمل الصالح ، وهناك آيات كثيرة تشير إلى ارتباط الإيمان بالتقوى ، فالله تعالى يقول في سورة البقرة : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ). ويقول في سورة المائدة : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ). ويقول في سورة الأعراف : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ). ويقول في سورة آل عمران : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ). ويقول في سورة يونس : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). ويقول في سورة يوسف : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ). ويقول في سورة النمل : (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ).

ويصل القرآن بين التقوى والأمانة ، فيقول في سورة البقرة : (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) ويصل بينها وبين الوفاء فيقول في سورة آل عمران : (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ). ويصل بينها وبين الصبر ، فيقول في سورة يوسف : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). ويقول في سورة آل عمران : «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ

٢٠٨

فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» (١). ويقول فيها أيضا : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

* *

وإذا كان معنى قول الله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ) هو اتقوا عذابه وعقابه ، وإنما تضاف التقوى إلى الله تعظيما لأمر عذابه وعقابه ، إذ لا يمكن لأحد أن يتقي ذات الله ، أو يتأبى على مشيئته ، فقد ينبغي لنا أن نتدبر فيما جاء في «تفسير المنار» وهو : «إن العقاب الإلهي الذي يجب على الناس اتقاؤه قسمان : دنيوي وأخروي ، وكل منهما يتّقى باتقاء أسبابه ، وهي نوعان : مخالفة دين الله وشرعه ، ومخالفة سننه في نظام خلقه فأما عقاب الآخرة فيتّقى بالإيمان الصحيح والتوحيد الخالص والعمل الصالح ، واجتناب ما ينافي ذلك من الشرك والكفر والمعاصي والرذائل ، وذلك مبيّن في كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأفضل ما يستعان به على فهمهما واتباعهما سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأولين من آل الرسول وعلماء الأمصار

وأما عقاب الدنيا فيجب أن يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله تعالى في هذا العالم ، ولا سيما سنن اعتدال المزاج وصحة الأبدان ، وأمثلتها ظاهرة ، وسنن الاجتماع البشري ، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال يتوقف على معرفة نظام الحرب وفنونها ، وإتقان آلاتها وأسلحتها التي ارتقت في هذا العصر ارتقاء عجيبا.

والواجب على الأمة المؤمنة في مجال هذا الاتقاء أن تبذل غاية وسعها ،

__________________

(١) مسومين : معلمين بعلامات ، من التسويم وهو إظهار سيما الشيء ، ويروى أن الرسول قال لأصحابه : «تسوموا فان الملائكة قد تسومت». أو مرسلين من التسويم بمعنى الاسامة ، وهو الإرسال.

٢٠٩

وتستوعب طاقتها وجهدها ، لأن ربها تبارك وتعالى يقول لها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ). وقد قيل إن التقوى حق التقوى هي أن يطاع الله فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وقيل هي أن يجاهدوا في الله حقّ جهاده ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم ، وقيل هي أن يؤدوا واجبات التقوى حتى لا يتركوا أيّ جزء يحق فيها ويوضّح هذا القول ويؤكده قول الله تعالى ، (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي بالغوا في التقوى ، حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئا.

وإذا تحققت التقوى من عباد الله المؤمنين حققت لهم ثمراتها العظيمة المتمثلة في الثواب الجزيل والأجر العظيم ، وقد تحدث القرآن عن ذلك بتوسع وتأكيد فقال في سورة الأعراف : (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). وقال في سورة هود : (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) وقال في سورة آل عمران : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ). وقال في سورة الزمر : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ). وقال فيها أيضا : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). ولعل أوسع الآيات وعدا للمتقين قول القرآن في سورة الطلاق : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ، إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً).

* *

وينبغي أن نشير إلى أن كثيرا من الناس يظنون أن التقوى معناها مقصور على الانكسار والذل والمسكنة والانطواء ، وقد فهمنا من سابق القول أن هذا الوهم لا نصيب له من الصحة ، فالتقوى حصانة وصيانة ، والتقوى رعاية

٢١٠

ووقاية ، والتقوى قوة وفتوة ، والتقوى بر وخير ، والتقوى إحسان وإتقان ، والتقوى وفاء وصبر.

وكيف يظن ظان بالتقوى ذلك والقرآن يعلّمنا أن التقوى إنما تكون لله وحده ، لأن الله تعالى يقول : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) اي اتقوني وحدي دون غيري ، فالخوف إذن لا يكون إلا لله وحده ، وهذا خلق يورث العزة ، فما دمت لا تخاف إلا الله ، ولا تتقي سواه ، فأنت اذن لن تخاف من عداه ، وهذا كمال العزة ، ولذلك قال القرآن : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وكذلك ينبغي أن نفهم أن التقوى لا تعارض التمتع بزينة الله تعالى التي اباحها لعباده ، وقد كان خيار السلف يتمتعون بها ويضربون مع ذلك أمثلة للتقوى ، وحسبك بالإمام مالك بن أنس قدوة في ذلك ، فقد كتب إليه يحيى ابن يزيد النوفلي يقول : «بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلّى الله على رسوله محمد في الأولين والآخرين ، من يحيى بن يزيد بن عبد الملك إلى مالك بن أنس : أما بعد ، فقد بلغني أنك تلبس الدّقاق ، وتأكل الرّقاق ، وتجلس على الوطيء ، وتجعل على بابك حاجبا ، وقد جلست مجلس العلم وقد ضربت إليك المطيّ ، وارتحل إليك الناس ، واتخذوك إماما ، ورضوا بقولك ، فاتق الله تعالى يا مالك ، وعليك بالتواضع. كتبت إليك بالنصيحة مني كتابا ما اطلع عليه غير الله سبحانه وتعالى ، والسّلام».

فرد عليه الامام مالك يقول : «بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلّى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. من مالك بن انس إلى يحيى بن يزيد. سلام الله عليك.

اما بعد ، فقد وصل إليّ كتابك ، فوقع مني موضع النصيحة والشفقة والأدب ، امتعك الله بالتقوى ، وجزاك بالنصيحة خيرا ، واسأل الله تعالى التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اما ما ذكرت لي اني آكل الرّقاق ، والبس الدّقاق ، واحتجب ، وألبس الوطيء ، فنحن نفعل ذلك ، ونستغفر الله تعالى ، قد قال الله تعالى : «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ

٢١١

الرِّزْقِ). وإني لأعلم أن ترك ذلك خير من الدخول فيه ، ولا تدعنا من كتابك ، فلسنا ندعك من كتابنا ، والسّلام».

* *

نسأل الله جل جلاله أن يزيننا بفضيلة التقوى ، وأن يبعث بها في نفوسنا روح المراقبة له سبحانه ، حتى تصير نفوسنا بذلك تقية راضية مرضية : «والعاقبة للتقوى».

٢١٢

الحمد

«الحمد» فضيلة من الفضائل تدل على الشكر والرضا ، والتقدير الجميل والفضل ، وتظهر في الثناء الكامل والذكر الحسن ، ولذلك قالوا إن حقيقة الحمد هي الثناء على المحمود بذكر نعوته الجليلة وأعماله الجميلة ، وقالوا «إن الحمد لله تعالى هو الثناء عليه بالفضيلة ، وجميع المحامد مستحقة لله جل جلاله ، فأي حمد يتوجه إلى محمود ما فهو لله تعالى ، سواء لاحظه الحامد أم لم يلاحظه ، لأن مستحق الحمد هو الله سبحانه.

وقد فرق بعض العلماء بين معاني الحمد والشكر والمدح ، ولكن آخرين قالوا إن المعاني هنا متقاربة ، وهذا هو الطبرسي يقول : «الحمد والمدح والشكر متقاربة المعنى ، والفرق بين الحمد والشكر أن الحمد نقيض الذم ، كما أن المدح نقيض الهجاء ، والشكر نقيض الكفران ، والحمد قد يكون من غير نعمة ، والشكر يختص بالنعمة ، إلا أن الحمد يوضع موضع الشكر».

ويفرق ابن القيم بين الحمد والشكر بقوله : «والفرق بينهما أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه ، وأخص من جهة متعلقاته ، والحمد أعم من جهة المتعلقات ، وأخص من جهة الأسباب. ومعنى هذا أن الشكر يكون بالقلب خضوعا واستكانة ، وباللسان ثناء واعترافا ، وبالجوارح طاعة وانقيادا ، ومتعلقه النعم دون الأوصاف الذاتية ، فلا يقال شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه ، وهو المحمود عليها ، كما هو محمود على إحسانه وعدله ، والشكر يكون على الإحسان والنعم.

٢١٣

فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد ، من غير عكس ، وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر ، من غير عكس ، فإن الشكر يقع بالجوارح ، والحمد يقع باللسان».

وسواء أكان هناك بين الحمد والشكر هذا الفرق أو ذاك ، نجد الحمد عماد الشكر ، لأن الحديث يقول : «الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله عبد لا يحمده» وفي رواية أخرى : «الحمد رأس الشكر ، فمن لم يحمد الله لم يشكره». ويقول عبد الله بن عباس : «الحمد كلمة كل شاكر».

وقد يخيل إلى بعض الناس في فهمهم لمعنى الحمد أنه مقصور على ترديد كلمة «الحمد» وما تصرف من مادتها باللسان فقط ، ولكن الحمد عند فقهاء الأخلاق ، وفي مجال الحديث عن أخلاق القرآن هو أن يدرك الإنسان مكانة النعمة ، فيستريح إليها ، ويعرف لها حقها ، فيقدرها قدرها ، ويشعر في قلبه وعقله بالفضل فيها ، ويترجم عن هذا بلسانه مثنيا ، وبأعماله عابدا طائعا ، ولذلك يقول الرازي : «الحمد عبارة عن صفة القلب ، وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلا منعما ، مستحقا للتعظيم والإجلال ؛ فإذا تلفظ الإنسان بقوله : أحمد الله ، مع أنه كان قلبه غافلا عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذبا ، لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامدا ، مع أنه ليس كذلك». بل كأن الرازي يرى أن الإنسان إذا لم يحقق الشعور بالحمد في نفسه كان كالحيوان غير المكلّف ، فيقول فيما يقول : «وما لم يحصل شعور الإنسان بوصول النعمة إليه امتنع تكليفه بالحمد والشكر». ويضيف : «حمد المنعم عبارة عن كل فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعما ، وذلك الفعل إما أن يكون فعل القلب ، أو فعل اللسان ، أو فعل الجوارح. أما فعل القلب فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفا بصفات الكمال والإجلال ، وأما فعل اللسان فهو أن يذكر ألفاظا دالة على كونه موصوفا بصفات الكمال ، وأما فعل الجوارح فهو أن يأتي بأفعال دالة على كون

٢١٤

ذلك المنعم موصوفا بصفات الكمال والإجلال».

* *

ومن السهل علينا بعد ذلك أن ندرك أن فضيلة الحمد صفة نفسية قلبية عقلية ، تظهر آثارها على اللسان أو الجوارح بالأقوال والأعمال ، وإذا كان من طبيعة الفضيلة الأخلاقية أن تستقر وتستمر وتدوم ، فإن فضيلة الحمد إذا تحققت في الإنسان كان لها هذا الاستمرار والاستقرار. لأن نعم الله تعالى كثيرة موصولة ، لا يستطيع عقل الإنسان أن يحيط بها : «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» والإنسان منا إذا حمد ربه جل جلاله ، فإنما يحمده بتوفيق من الله وإعانة ، وهذا التوفيق والإعانة نعمتان من الله تستحقان أيضا الحمد ، فكأن الإنسان لا يستطيع القيام بشكر ربه إلا عن طريق نعمة أخرى ، وهذه النعمة الأخرى تستحق الحمد ، وهكذا تتوالى النعم فيستمر الحمد.

والإنسان المتحلي بفضيلة الحمد لا يحمد ربّه على النعم التي تصله فقط ، بل هو يحمد الله تعالى لأنه المنعم ، سواء أكان إنعامه عليه أم على سواه ، فالحمد فيه معنى التقدير للنعمة ، سواء أكانت هذه النعمة قد وصلت الحامد نفسه أو وصلت غيره ، ونعم الله موصولة عامة شاملة لهذا وذاك وذلك ، وهي من قديم كانت ، وفي الحاضر تكون ، وفي المستقبل ستكون ، ولذلك عاد الرازي يقول : «الحمد لله له تعلق بالماضي ، وتعلق بالمستقبل ، أما تعلقه بالماضي فهو أنه يقع شكرا على النعم المتقدمة ، وأما تعلقه بالمستقبل فهو أنه يوجب تجدد النعم في الزمان المستقبل ، لقوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ). والعقل أيضا يدل عليه ، وهو أن النعم السابقة توجب الإقدام على الخدمة والقيام بالطاعة ، ثم إذا اشتغل بالشكر انفتحت على العقل والقلب أبواب نعم الله تعالى وأبواب معرفته ومحبته ، وذلك من أعظم النعم ، فلهذا كان الحمد بسبب تعلقه بالماضي يغلق عنك أبواب النيران ، وبسبب تعلقه بالمستقبل يفتح لك أبواب الجنان ؛

٢١٥

فتأثيره في الماضي سدّ أبواب الحجاب عن الله تعالى ، وتأثيره في المستقبل فتح أبواب معرفة الله تعالى.

ولما كان لا نهاية لدرجات جلال الله ، فكذلك لا نهاية للعبد في معارج معرفة الله ، ولا مفتاح لها إلا قولنا : الحمد لله».

وقد يزكي هذا ما روي من أن أول كلمة نطق بها آدم أبو البشر هي : «الحمد لله رب العالمين» وأن هذه الكلمة هي آخر كلمة يذكرها أهل الجنة بدليل قول الله تعالى عنهم : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

* *

ومما يدل على مكانة الحمد في حديث القرآن الكريم أن الله تبارك وتعالى افتتح به أول سورة من سور القرآن ، فقال تعالى في بداية سورة الفاتحة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وافتتح به سورة الأنعام فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ). وافتتح به كذلك سورة الكهف فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) وافتتح به سورة سبأ فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ). وافتتح به سورة فاطر فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وهذا الافتتاح المتكرر بالحمد في هذه السور الكريمة يذكرنا بما رواه أبو داود وابن ماجه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع». وفي رواية : «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم». والأقطع هو الناقص قليل البركة ، والأجذم مثله.

وقد وصف الله تعالى ذاته القدسية بصفة الحمد ، فجاء في القرآن قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ). وقوله : (إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ). وقوله : (فَإِنَ

٢١٦

اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) وقوله : (إِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ، وقوله : (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) ، وقوله : (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً ...) إلخ. والحميد هو المحمود أو الحامد ، أي المحمود على كل حال ، والحامد لعباده أي الشاكر لهم ما يعملون من حسنات ، بإثابتهم عليه.

وقد سمّي خاتم الأنبياء محمد صلوات الله وسلامه عليه بعدة أسماء تدل على معنى الحمد ، فهو : محمد وأحمد ومحمود وحامد.

وقد أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحرص على حمد ربه ليكون قدوة لقومه ، فقال تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ). أي سبّح حامدا ربّك مثنيا عليه بتمجيده وتعظيمه. وقال تعالى للنبي في سورة لإسراء : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً).

كما أمر الله تعالى نبيه نوحا عليه‌السلام بأن يحمد ربه فقال : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

والقرآن الكريم يخبرنا بأن الحمد كان من شأن خليل الرحمن إبراهيم عليه‌السلام ، فالقرآن يقول على لسانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ). وكذلك كان الحمد من شأن داود وسليمان ، فالقرآن يقول : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ).

والحمد من صفات الملائكة الذين هم عباد مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فالقرآن يقول في سورة غافر : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ). ويقول في سورة الشورى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

والقرآن يجعل «الحمد» إحدى خصال المؤمنين الذين باعوا لله أنفسهم

٢١٧

وأموالهم بالجنة ، فيقول عنهم في سورة التوبة : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

ويشير كتاب الله تعالى إلى تعدد مواطن الحمد ، وتوالي الإتيان به ، فيقول في سورة طه : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى). ويقول في في سورة غافر : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي دائما أو في طرفي النهار.

والموفقون من عباد الله تبارك وتعالى يحرصون على فضيلة الحمد ، فطائفة يحمدونه على ما أولاهم من إنعامه وإكرامه ، وطائفة يحمدونه على ما أذهب عنهم من الحزن والهم ، وطائفة يحمدونه على ما لاح لقلوبهم وعقولهم من عجائب لطائفه ، وطائفة يحمدونه لانكشاف صفات الجلال والجمال والكمال لذاته القدسية ؛ وهكذا ...

ومن فضل الله تعالى على عباده الحامدين أن دعاهم إلى شكر الناس وحمدهم على ما يصنعون من خير أو معروف ، وجعل هذا الحمد للناس المستحقين إياه كجزء تابع لحمد الله سبحانه ، ولذلك جاء في الحديث : «من لم يحمد الناس لم يحمد الله».

والحمد لله فضيلة تسمو بصاحبها الحقيقي فوق الأثرة والأنوية وحب الذات ، فالمتحلي بصفة الحمد يذكرها في موطن النعمة على غيره كما يذكرها في موطن النعمة عليه ، ومما يذكرونه في هذا المجال للعبرة أن السري السقطي قال : أنا منذ ثلاثين سنة أستغفر الله من قولي مرة واحدة : الحمد لله ، فقيل له : وكيف ذلك؟. فقال : وقع الحريق في بغداد ، واحترقت الدكاكين والدور ، فأخبروني أن دكاني لم يحترق ، فقلت : الحمد لله ، وكان معناه أني فرحت ببقاء دكاني حال احتراق دكاكين الناس ، وكان حق الدّين والمروءة ألا أفرح بذلك ، فأنا في الاستغفار من ثلاثين سنة عن قولي : الحمد لله!.

٢١٨

والمتحلي بفضيلة الحمد ينبغي له أن يتذكر دائما أن الله وهبه خيرا كثيرا حينما زانه بهذا الخلق الجليل النبيل ، وها هو ذا الحسن يقول : «ما من نعمة إلا والحمد أفضل منها».

اللهم لا تحرمنا نعمة الحمد لك ، والرضى بك ، والإنابة إليك ، إنك رؤوف رحيم.

٢١٩

التدبر

التدبر هو النظر في أدبار الأمور ، أي أواخرها ونتائجها وعواقبها ؛ وتدبر الكلام هو النظر والتفكر في غاياته ومقاصده التي يرمي إليها ، وعاقبة العامل به والمخالف له ، وقد استعملت كلمة «التدبر» في كل تأمل ، سواء أكان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه ، أم في سوابقه وأسبابه ، أم في لواحقه وأعقابه. وتدبر فلان الأمر ودبّره تدبيرا : نظر في عواقبه وأدباره ليقع على الوجه المحمود ، ولذلك يقال : التدبير هو النظر في عواقب الأمور ، أو التفكير في دبر الأمور.

وقد وردت مادة «التدبير» في طائفة من آيات القرآن الكريم ، فجاء في سورة يونس : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ). وقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي يقضي ويقدر على حسب ما تقتضيه الحكمة والكمال. وجاء في «تفسير المنار» عن هذه الآية قوله : التدبير في أصل اللغة التوفيق بين أوائل الأمور ومباديها ، وأدبارها وعواقبها ، بحيث تكون المبادي مؤدية إلى ما يريد من غاياتها ، كما أن تدبر الأمر أو القول هو التفكر في دبره ، وهو ما وراءه وما يراد منه وينتهي إليه.

وجاء في سورة الرعد : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ). وجاء في سورة السجدة : (يُدَبِّرُ

٢٢٠