موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٢

لأن طريق الشيطان إلى إفساد الإنسان هو الوسوسة ، والوسوسة إنما تفسد من يكون فارغ القلب ، وأما صاحب القلب الخاشع فإنه يكون مشغولا بربه ، فإذا أقبل الشيطان عليه ليوسوس إليه لم يجد منه سميعا ولا مجيبا ، ولا يتحقق انشغال القلب بالله جل جلاله إلا إذا كان دائم الذكر له ، دائم التعلق به ، دائم الالتجاء إليه ، دائم الاعتماد عليه ، لا يلتفت إلى سواه ؛ ولقد تكلم الإمام ابن القيم عن الخشوع كلاما أفادنا كثيرا ، وذكر فيه شيخه الإمام ابن تميمة فقال عنه انه كان يرى من لوازم الخشوع التبرؤ من نسبة أي فضل للانسان ، وتخصيص الله بالحول والطّول والقوة ، ولذلك قال ابن تيمية هذه الأبيات الخاشعة :

أنا الفقير إلى ربّ البريات

أنا المسيكين في مجموع حالاتي

أنا الظلّوم لنفسي وهي ظالمة

والخير ـ إن يأتنا ـ من عنده ياتي

لا أستطيع لنفسي جلب منفعة

ولا عن النفس لي دفع المضرات

وليس لي من دونه مولى يدبّرني

ولا شفيع إذا أحاطت خطيئاتي

إلا بإذن من الرحمن خالقنا

إلى الشفيع ، كما قد جاء في الآيات

ولست أملك شيئا دونه أبدا

ولا شريك أنا في بعض ذرّات

ولا ظهير له كي يستعين به

كما يكون لأرباب الولايات

والفقر لي وصف ذات لازم أبدا

كما الغنى أبدا وصف له ذاتي

وهذه الحال حال الخلق أجمعهم

وكلهم عنده عبد له آت

فمن بغى مطلبا من غير خالقه

فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي

والحمد لله ملء الكون أجمعه

ما كان منه ، وما من بعد قد ياتي

* * *

وبعد ، فجمّلني الله وإياك بخلق الخشوع ، وجعلنا من حزبه القائمين بأمره ، المراقبين لجلاله ، المتواضعين لعظمته ، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة.

١٨١

الحلم

الحلم خلق من أخلاق القرآن الكريم ، وقد ذكر الكتاب الإلهي المجيد مادة «الحلم» نحو عشرين مرة ، وقد عرّف العلماء فضيلة الحلم بأنها حالة يظهر معها الوقار والثبات عند الأسباب المحركة للغضب ، أو الباعثة على التعجل في العقوبة. وعرّفوه كذلك بأنه حبس النفس حتى تخضع لسلطان العقل ، وتطمئن لما يأمرها به.

وقد يعبّر بعض الباحثين في الأخلاق عن الحلم بأنه «ضبط النفس» ، وهذا غير بعيد عن الصواب ، لأن ضبط النفس هنا يعني إخضاع قوتها الغضبية لسلطة العقل المفكر المدبر ، وهذا هو مضمون الحلم ، فعلى الرغم من أن الحليم قد سمع أو رأى أو علم ما يثير غضبه نراه متحليا بالهدوء وضبط النفس ، ولذلك جاء عن بعض حكماء العرب فيما روته أمثالهم قوله : «حلمي أصمّ ، وأذني غير صمّاء» أي أنني أعرض عن الخنا بحلمي ، وإن سمعته أذني.

وقد تطلق كلمة «الحلم» على معنى العقل ، ومن ذلك قول القرآن الكريم في سورة الطور : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ). فالأحلام هنا يراد بها العقول ، وقد ورد في الحديث بشأن صلاة الجماعة : «ليلني منكم أولو الأحلام والنّهى» أي أصحاب الألباب والعقول. وليس الحلم في الحقيقة هو العقل ، ولكنهم فسروه به لكون العقل هو سبب الحلم ، فالعقل هو الذي ينصح بالأناة والتثبت في الأمور.

١٨٢

وخلق الحلم هو حالة التوسط بين رذيلتين : الغضب والبلادة فإذا استجاب المرء لغضبه بلا تعقل ولا تبصر ، كان على رذيلة ، وإن تبلّد وضيّع حقّه ، ورضي بالهضم والظلم كان على رذيلة ، وإن تحلى بالحلم مع المقدرة ، وكان حلمه مع من يستحقه كان على فضيلة.

وقد يشتبه الحلم بكظم الغيظ ، مع أن هناك فرقا بينهما ـ كما أشار حجة الاسلام الغزالي ـ فكظم الغيظ هو التحلم ، أي تكلف الحلم ، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة ، لما في الكظم من كتمان ومقاومة واحتمال ، وأما الحلم فهو فضيلة أو خلق يصبح كالطبيعة ، وهو دلالة كمال العقل واستيلائه على صاحبه ، وانكسار قوة الغضب عنده ، وخضوعها للعقل. ولكن هناك ارتباطا بين الحلم وكظم الغيظ ، لأن ابتداء التخلق بفضيلة الحلم يكون بالتحلم وهو كظم الغيظ ، ومن هنا ورد : «إنما الحلم بالتحلم». ومن دلائل المكانة السامية للحلم في نظر القرآن الكريم أنه ذكر اتصاف الله جل جلاله بصفة الحلم في جملة من الآيات فقال في سورة البقرة : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ). ويقول في السورة نفسها : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). ويقول فيها كذلك : «قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم». ويقول في سورة آل عمران : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). ويقول في سورة النساء : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ). ويقول في سورة المائدة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ، وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

ويقول في سورة الحج : (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ). ويقول في سورة الإسراء : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً).

١٨٣

ويقول في سورة الأحزاب : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً). ويقول في سورة فاطر : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً). ويقول في سورة التغابن : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ).

* * *

وقد عرفنا أن الحلم في الأصل هو الأناة وضبط النفس ، ولكن الحلم بالنسبة الى الله تعالى هو الإمهال بتأخير العقوبة على الذنب ، ولذلك قال ابن الأثير في شرح اسم «الحليم» إنه الذي لا يستخفه شيء من عصيان العباد ، ولا يستفزه الغضب عليهم. فقد جعل لكل شيء مقدارا وميقاتا فهو منته اليه. وذكر القرطبي في تفسيره «الحلم» بالنسبة الى الله سبحانه ما يفيد معنى طرح المؤاخذة ، وأنه باب رفق وتوسعة ، وقد يذكّرنا هذا بقول الله جل جلاله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

* * *

فإذا انتقلنا الى رحاب الصوفية لتبين حديثهم عن «حلم الله» لوجدنا عبد الكريم القشيري في كتابه «التحبير في التذكير» يورد هذه العبارة : «قيل : الحلم تأخير العقوبة عن المستحق لها ، فيكون من صفات فعله يوصف به في الأزل ، وقال أهل الحق : حلمه إرادته تأخير العقوبة ، فهو من صفات ذاته ، لم يزل حليما ولا يزال ، فيؤخر العقوبة عن بعض المستحقين ، ثم قد يعذبهم ، وقد يتجاوز عنهم ، ويعجل العقوبة لبعضهم ، فالأمر في ذلك على ما سبق به الحكم في الأزل ، وتعلقت به الإرادة والعلم».

وينبغي أن نلحظ في الآيات الكريمة التي وصفت الله سبحانه بصفة الحلم

١٨٤

بعض الإشارات ، فقد اقترنت صفة الحلم في أغلب هذه الآيات بصفة المغفرة أو العفو ، ويأتي هذا الاقتران في الغالب بعد إشارة سابقة الى خطأ واقع أو تفريط في أمر محمود ، وهذا أمر يتواءم مع الحلم ، لانه تأخير عقوبة ، والعقوبة توحي بوجود أمر يستدعيها.

وكذلك نلاحظ أن عددا من هذه الآيات الكريمة التي وصفت الله سبحانه بالحلم ، قد اقترن فيها ذكر الحلم بالعلم : «وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) ، (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً) ، (وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ). وكأن الحكمة في هذا ـ والله أعلم بمراده ـ هي الإشارة الى أن كمال الحلم يكون مع كمال العلم ، بأمر يجمل معه الحلم من أهل الكمال والجلال والجمال سبحانه ، وفي قول العربي الحكيم : «حلمي أصمّ وأذني غير صمّاء» ، ما يعين على فهم ذلك ، فالحليم يعلم ما يثير أو يغضب ، ولكنه مع ذلك يتمسك بالحلم.

* *

ثم يحدثنا القرآن الكريم بأن الحلم خلق من أخلاق النبوة والرسالة ، فيقول في سورة التوبة عن أبي الأنبياء إبراهيم : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ). ويقول عنه في سورة هود : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ). والأوّاه هو كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس ، وهذا كناية عن فرط ترحمه ورقة قلبه ، والحليم : غير العجول على الانتقام من المسيء اليه ، والمنيب : الراجع الى الله. ويقول القرآن الكريم في سورة هود أيضا على لسان قوم شعيب : (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ). ويقول في سورة الصافات متحدثا عن إبراهيم ومشيرا الى ابنه إسماعيل : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ).

والانبياء والرسل هم النماذج العليا بين البشر ، فإذا أخبرنا كتاب الله تعالى بأن الحلم صفة من صفاتهم كان ذلك إشعارا أيّ إشعار بسمو هذه الفضيلة ، ولقد

١٨٥

جاء في بعض الأحاديث أن الحلم من سنن المرسلين ، ولما كان سيدنا رسول الله محمد هو إمام النبيين وخاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، كان من الطبيعي أن يوضع في يده زمان الامامة الخلقية بين هؤلاء الكرام ، فلم يكن غريبا أن يوجهه ربه تعالى الى قمة هذه الزعامة حين يقول له : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). ثم يمن عليه بما يسر له من أسباب هذه الزعامة الخلقية فيقول له : «فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك».

ولقد بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حلمه الغاية المثالية ، والدلائل على ذلك كثيرة وفيرة ، منها أن أعرابيا جاءه يوما يسأله شيئا من المعونة ، فأعطاه ، ثم قال له : هل أحسنت اليك يا أعرابي؟ فاندفع الأعرابي بجهالة يقول : لا أحسنت ولا أجملت. فهمّ الصحابة يريدون البطش بالأعرابي ، فمنعهم الرسول ، وأخذ الأعرابيّ الى بيته ، وزاده في العطاء ، ثم قال له : هل أحسنت اليك؟. قال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال له النبي : إنك قلت ما قلت ، وفي نفس أصحابي شيء من ذلك ، فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ ، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك. قال : نعم.

فلما كان الغداة ـ أو العشي ـ جاء الأعرابي فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه ، فزعم أنه رضي ، أكذلك؟. فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال النبي : «إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه ، فتبعها الناس ، فلم يزيدوها إلا نفورا ، فناداهم صاحب الناقة : خلّوا بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها وأعلم ، فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها ، فأخذ لها من قمام الأرض (١) فردها هونا هونا ، حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها ،

__________________

(١) أي من حشائشها.

١٨٦

واستوى عليها ، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار».

ومن روائع حلمه كذلك أن رجلا كافرا دنا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو نائم ، ورفع الرجل السيف فوق النبي ، فانتبه فقال له الرجل : من يمنعك مني؟. فقال الرسول بكل ثبات وطمأنينة : الله. فارتعد الرجل ، وسقط السيف من يده ، فأخذه النبي وقال : من يمنعك مني؟. فقال الرجل في ضعف : كن خير آخذ. فقال له النبي : قل أشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فقال الرجل : لا ، غير أني لا أقاتلك ، ولا أكون معك ، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فعفا النبي عنه ، وأطلق سبيله ، فعاد الرجل الى قومه يقول لهم : جئتكم من عند خير الناس.

* *

ومن وراء الأنبياء والمرسلين يأتي الصالحون من العباد ، وإذا كان الله جل جلاله قد جعل رسوله محمدا مثلا عاليا في الحلم ، فقد أراد لأتباع محمد عليه الصلاة والسّلام أن يسيروا على نهجه وسنته ، ولذلك يقول القرآن الكريم عن الأخيار من هؤلاء في سورة الفرقان : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) وقد علق الحسن على هذه الآية فقال عن أصحابها : حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا.

وقد عني رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بالتوجيه الى الحلم ، والحث على الاتصاف به ، فقال من حديث له : «إن الله يحب الحليم الحييّ ...». ولقد جاء الأشج الى الرسول فقال له النبي : إن فيك يا أشج خلقين يحبهما الله ورسوله. قال : وما هما بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ فقال النبي : الحلم والأناة. فسأله الأشج قائلا : خلقان تخلقتهما أو خلقان جبلت عليهما؟. فقال النبي : بل خلقان جبلك الله عليهما. فقال : الحمد لله الذي جبلتي على

١٨٧

خلقين يحبهما الله ورسوله.

وجاء في حديث آخر : «أشدكم من غلب نفسه عند الغضب : وأحلمكم من عفا عند المقدرة». وكذلك جعل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الحلم أحد أسباب ثلاثة يبتغي بها الانسان الرفعة عند الله ، وهي وصل من قطعك ، وإعطاء من حرمك ، والحلم عمن جهل عليك.

ولقد تألق في تاريخ هذه الأمة أفراد أعلام ضربوا القدوة في الحلم ، وعلى رأسهم قيس بن عاصم المنقري ، الذي يروون عنه أنه كان جالسا ذات يوم بفناء داره ، وهو محتب بكسائه ، فدخل عليه جماعة يحملون شخصا مقتولا ، ويقودون شخصا مكتوفا ، فقالوا له : هذا ابنك قد قتله ابن أخيك ، فلم يضطرب ولم يفك حبوته ، بل التفت الى أحد أبنائه وقال له : قم فأطلق عن ابن عمك ، ووار أخاك ، واحمل الى أمه مائة من الإبل ، فإنها غريبة. ثم أنشأ يقول :

إني امرؤ لا يعتري خلقي

دنس يغيّره ولا أفن

من منقر في بيت مكرمة

والغصن ينبت حوله الغصن

خطباء حين يقوم قائلهم

بيض الوجوه أعفّة لسن

لا يفطنون لعيب جارهم

وهم لحفظ جواره فطن

ثم أقبل على ابن أخيه ـ وهو القاتل ـ فقال له : قتلت قرابتك ، وقطعت رحمك ، وأقللت عددك ، لا يبعد الله غيرك. وفي قيس هذا يقول الشاعر عبدة بن الطبيب :

عليك سلام الله قيس بن عاصم

ورحمته ما شاء أن يترحما

تحية من ألبسته منك نعمة

إذا زار عن شحط بلادك سلّما

وما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنه بنيان قوم تهدما

* *

وجاء من بعده الأحنف بن قيس الذي ضربوا به المثل فقالوا ، «أحلم من

١٨٨

الأحنف». جاء فتعلم الحلم من قيس ، حتى قال : «لقد اختلفنا إلى قيس بن عاصم في الحلم كما نختلف الى الفقهاء في الفقه». وقيل للأحنف : هل رأيت أحلم منك؟. فقال : نعم ، وتعلمت منه الحلم. قيل : ومن هو؟. قال قيس بن عاصم المنقري ، وقص القصة السابقة.

ومن الحلم المثالي للأحنف أن رجلا تبعه بالشتم حتى بلغ الأحنف حيّه ، فقال للرجل السباب : يا هذا ، إن كان بقي في نفسك شيء فهاته وانصرف لا يسمعك بعض سفهائنا فتلقى ما تكره.

* *

ولقد عرف الحكماء منذ أقدم الأزمان مكانة الحلم وفضله ، فقالوا فيه كثيرا ، وهذا لقمان الحكيم يقول : «ثلاث من كن فيه فقد استكمل الايمان : من إذا رضي لم يخرجه رضاه الى الباطل ، وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق ، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له». واتفق سفيان الثوري وأبو خزيمة اليربوعي والفضيل بن عياض على أن أفضل الأعمال الحلم عند الغضب ، والصبر عند الجزع.

ولعل أوضح ثمرات الحلم هو تجنب الظلم ولو قلّ ، والتباعد عن الاستجابة لهوى النفس الغاضبة ، ولقد روي عن خامس الراشدين الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليه أنهم جاءوا اليه برجل قد ارتكب خطأ ، وكان عمر غاضبا ، فقال له عمر : لو لا أني غضبان لعاقبتك. وكان خامس الراشدين إذا أراد معاقبة رجل حبسه ثلاثة أيام ، فإن أراد بعد ذلك أن يعاقبه عاقبه ، كراهة أن يعجل عليه في أول غضبه.

وليس الحلم رضى بالذل ، أو تقبلا للهوان ، وإنما هو ترفع عن الاستجابة للنزوة ، أو التأثر بالوسوسة أو مقابلة السوء بمثله ، وإلى ذلك أشار الغزالي حين قال إنه لا تجوز مقابلة الغيبة بالغيبة ، ولا مقابلة التجسس بالتجسس ، ولا السب

١٨٩

بالسب ، وكذلك سائر المعاصي ، وإنما الجائز هو القصاص على ما ورد به الشرع.

وإنما يقال للحلم إنه ذلّ أو شبيه به إذا كان عن عجز ، ولكن الحلم المحمود هو ما كان عن قدرة ، ولذلك قال الشاعر :

«والحلم عن قدرة فضل من الكرم»

وقال ابن زيدون مادحا :

عطاء ولا منّ ، وحكم ولا هوى

وحلم ولا عجز ، وعزّ ولا كبر

ولذلك كانت أجمل مواقف الحلم هي مواقف الحلم من أهل السلطان على غيرهم ، كحلم الحاكم على المحكوم ، وحلم المعلم على التلميذ ، وحلم المخدوم على الخادم ، وحلم الرئيس على المرؤوس ، وحلم العالم على الجاهل ، وهكذا.

جمّلنا الله تعالى بفضيلة الحلم ، وجنّبنا رذيلة الغضب ، إنه ولي التوفيق.

١٩٠

الصبر

الصبر في اللغة معناه الحبس والكف ، يقال : صبرت نفسي على ذلك الأمر أي حبستها ، وصبرت نفسي عن ذلك الشيء ، أي كففتها ، والصبير هو الكفيل ، لأنه يصبر نفسه على دفع الغرم ، وصبير القوم هو الذي يصبر لهم ومعهم في أمورهم. والصبر في الاصطلاح الأخلاقي الديني هو حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع ، أو عما يقتضيان حبسها عنه ، وضد الصبر هو الجزع ، ولذلك جاء في القرآن الكريم : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ).

والصوم يسمى صبرا لما فيه من حبس النفس عن الطعام والشراب والشهوة ، ويسمى رمضان شهر الصبر ، لأنه شهر الصوم. و «المصابرة» هي مطاولة الغير في الصبر ، والتصبر : هو تكلف الصبر ، والاصطبار زيادة الاحتمال في مجال الصبر ، وقد جاء في سورة مريم : (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ). وفي سورة طه : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها). وفي سورة القمر : (فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ). والصبّار ـ بتشديد الباء ـ والصبور : من صيغ المبالغة في الصبر وحبس النفس ومجاهدتها ، والفرق بينهما هو أن الصبار الكثير الصبر ، أي الذي يتكرر منه الصبر ويكثر ، وأما الصبور فهو الشديد الصبر القوي في صبره وقال الأصفهاني إن الصبور هو القادر على الصبر ، والصبار هو الذي عنده ضرب من التكلف والمجاهدة في الصبر ، وقد جاءت كلمة «الصبّار» في القرآن أكثر من مرة.

١٩١

وكلمة الصبر فيها معنى الانتظار ، وعلى هذا جاء قول الله تعالى : «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي انتظر ، وفيها معنى الاستقامة والمداومة ، وعلى هذا جاء قول القرآن : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) أي احبس نفسك معهم ، واستقم على ملازمتهم ، ولعل هذا المعنى موجود في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). أي قاموا بالعمل الصالح ، وداوموا عليه ، وصبروا فيه ، حتى تمام العمل.

* * *

والصبر فضيلة تتعدد مجالاتها ، فهناك صبر على الطاعة ، أي استمساك بأدائها ، وصبر على المعصية أي حرص موصول على تجنبها ، وصبر في الابتلاء ، أي حسن احتمال له ، فلا بد للمؤمن من صبر على أداء الواجب ، وصبر عن الآثام والخطايا. وصبر بحفظ اللسان عن الخنا والفحش ، وصبر بحرص اللسان على النطق بكلمة الحق حينما تجب ، وصبر بصيانة القلب والعقل من خواطر السوء ، وصبر بحفظ الجوارح والأعضاء من سوء الاستخدام ، وصبر عند الشدائد والنوازل ، وصبر في مواطن الجهاد والنضال بالإقدام والثبات وعدم الفرار أو التولي من الزحف ، والله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ). فتولية الأدبار ضد الصبر.

والصبر لفظ عام ينتظم جملة فضائل ، وقد يسمى بأسماء كثيرة لكثرة مواطنه ومظاهره ، فالصبر في الحرب يسمى شجاعة ، والصبر في النوائب قد يسمى برحابة الصدر ، والصبر مع السر قد يسمى بالكتمان ، وقد تعرض الإمام الغزالي لكثرة أنواع الصبر وألوانه واختلاف اسمائه باختلاف متعلقاته ، فقال :

«إن كان صبرا على شهوة البطن والفرج سمي عفة ، وإن كان عن احتمال

١٩٢

مكروه اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي غلب عليه الصبر ، فإن كان في مصيبة اقتصر على اسم الصبر ، وتضاده حالة تسمى الجزع والهلع ، وهو إطلاق داعي الهوى ليسترسل في رفع الصوت وضرب الخدود وشقّ الجيوب وغيرها ، وإن كان في احتمال الغنى سمي ضبط النفس ، وتضاده حالة تسمى البطر ، وإن كان في حرب ومقاتلة سمي شجاعة ويضاده الجبن ، وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمي حلما ويضاده التذمر.

وإن كان في نائبة من نوائب الزمان مضجرة سمّي سعة الصدر ، ويضاده الضجر والتبرم وضيق الصدر ، وإن كان في إخفاء كلام سمي كتمان السر ، وسمي صاحبه كتوما ، وإن كان عن فضول العيش سمي زهدا ، ويضاده الحرص ، وإن كان صبرا على قدر يسير من الحظوظ سمي قناعة ويضاده الشره.

فأكثر أخلاق الايمان داخلة في الصبر ، ولذلك لما سئل عليه‌السلام مرة عن الايمان قال : «هو الصبر» ، لأنه أكثر أعماله وأعزها ، كما قال : «الحج عرفة» وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك ، وسمى الكل صبرا ، فقال تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ) (أي في المصيبة) والضراء (أي الفقر) وحين البأس (أي المحاربة) أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون».

وقد رأينا الغزالي يذكر في صدر حديثه هنا أن الصبر عن شهوة البطن والفرج يسمى عفة ، وشهوة الفرج أطغى من شهوة البطن عند ثوران الرغبة في الرذيلة وتوافر القدرة عليها ، ولذلك نقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية أن صبر يوسف الصديق على اجتناب الفاحشة مع امرأة العزيز كان أكمل من صبره على إلقاء أخوته له في الجب ، وبيع من وجدوه له ، وافتراقه عن أبيه ، لأن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره ، وأما صبره عن الفاحشة فكان باختياره ورضاه ، وقد حارب الاستجابة للفاحشة بالصبر الجميل والتعفف النبيل ، مع وجود الكثير من الأسباب الداعية الى المسارعة بالإقبال على المعصية ، فهو شاب والشباب كما قيل شعلة من الهوى والرغبة ، وهو حينئذ غريب ، والغريب ، أخلاق القرآن ـ (١٣)

١٩٣

لا يستحي في بلد غربته كما يستحي إذا كان بين أهله ومعارفه ، وهو حينئذ مملوك ، والمملوك لا يكون له في العادة ما للحر من وازع ، والتي تغريه بالفاحشة امرأة ذات جمال وإغراء ، وهي سيدته التي تأمره ، وعليه في عرف الناس أن يطيع ، وهي التي تدعوه وتحرّضه في حرص وشغف ، وهي تتوعده وتنذره بالعذاب إن لم يستجب لهواها ، ومع ذلك أبى وأعرض ، وصبر اختيارا وإيثارا لما عند الله : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ ، قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ، كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)

* *

وكثير من الناس يظنون أو يزعمون أن الصبر خلق سلبي ، وأن معناه الاستسلام والرضى بالواقع والكف عن معالجة الأمور والاحتيال للخروج من الشدائد والأزمات ، وهذا فهم خاطىء ووهم فاسد ، فالصبر كما يكون جهدا نفسيا للتأبي على المعاصي والابتعاد عن السيئات ، يكون في كثير من الأحيان جهدا عمليا إيجابيا ، فيه حركة ، وفيه سعي ، وفيه انتاج ، وفيه تحمل للتبعات وتعرض لجلائل الأعمال ومواقف الأبطال ، وقد فهم ذلك البصراء من أعلام هذه الأمة ، حتى في المجال الصوفي الذي يقال عنه إنه يميل الى السلبية والرضى بالواقع ، ففي الأدب الصوفي جاء قولهم : «الصبر تعويد النفس الهجوم على المكاره». وجاء فيه أيضا قولهم : «تجرّع الصبر (احتمله) فإن قتلك قتلك شهيدا ، وإن أحياك أحياك عزيزا». وكذلك قال عمرو بن عثمان : «الصبر الثبات مع الله ، وتلقّي بلانه بالرحب والدعه».

والصبر لا يناقض الإحساس بالألم ، لأن هذا الاحساس أمر طبيعي ليس معيبا ، وإنما المعيب هو الخضوع لهذا الإحساس والرضا به ، أو الاستجابة

١٩٤

لداعيه الذي يغرق صاحبه في الجزع والهوان ، واللائق بصاحب الصبر أن يحاول كي يجعل صبره صبرا جميلا ، وهو الصبر الذي لا شكوى معه ، وإن كان هناك شعور بالألم أو إحساس بالأذى ، ولذلك أمر الله تعالى رسوله بهذا اللون من الصبر ، فقال له في سورة المعارج : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) ، وقد جاء في سورة يوسف ذكر الصبر الجميل مرتين على لسان أحد الأنبياء وهو يعقوب ، وذلك في قوله تعالى : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ، في الآية الثامنة عشرة ، ثم في الآية الثالثة والثمانين من السورة.

والصبر يكون عميقا مثمرا إذا صار كالطبع للانسان ، وقد يساعد على هذا الفهم أننا نلاحظ في حديث القرآن الكريم عن الصبر أن «مفعول الصبر» يحذف غالبا للدلالة على أنه صار كالطبع للفاعل ، ولم ترد مادة «الصبر» في القرآن مع ذكر مفعول إلا في آية واحدة ، وهي قوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ).

وقد نوه رسول الله عليه الصلاة والسّلام بشأن الصبر ومكانته ، فقال : «الصبر ضياء». وقال : «ما أعطي أحد عطاء خيرا له وأوسع من الصبر». كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «خير عيش أدركناه بالصبر».

ولعل القرآن الكريم لم يكثر من ذكر خلق من أخلاقه كما فعل في شأن الصبر ، حتى قال الإمام أحمد : الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعا. وقد كرر القرآن الأمر بالصبر ، فتكررت كلمة «اصبر» تسع عشرة مرة ، كقوله تعالى : (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). وقوله : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ). : وقوله : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) ، وتكررت كلمة «اصبروا» ست مرات كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وقوله : (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) ولذلك قال العلماء إن الصبر واجب بإجماع الأمة ، ولا عجب فهو نصف

١٩٥

الايمان ، لأن الايمان شطران ، فنصفه صبر ، ونصفه شكر.

* * *

ومما يجلو مكانة الصبر وشأنه أن الله تبارك وتعالى جعله صفة من صفاته ، فالله جل جلاله هو «الصّبور» ، أي الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام والعقاب ، وفي الحديث القدسي الذي رواه النبي عن ربه : «إني أنا الصبور». وفي الحديث النبوي : «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عزوجل».

ومعنى «الصبور» قريب من معنى «الحليم» ، والفرق بينهما أن المذنب لا يأمن العقوبة في صفة «الصبور» كما يأمنها في صفة «الحليم».

* * *

والقرآن المجيد يحدثنا بأن الصبر صفة الأنبياء والمرسلين ، فهو يقول في سورة «ص» عن أيوب : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). ويقول في سورة الأنبياء : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ). ويقول في سورة يونس لرسول الله محمد عليه الصلاة والسّلام : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ). ويقول في سورة الأحقاف مخاطبا إياه أيضا : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). ويقول في سورة الأنعام : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا).

والصبر هو ـ كما يحدثنا القرآن الكريم ـ خلق أهل العزيمة القوية ، وأصحاب الإرادة الماضية ، الذين يعرفون الخير ، ويعزمون عليه ، ويمضون فيه ، لا ينثنون عنه مهما كلفهم من تعب أو مشقة ، ومن هنا جعل القرآن الصبر من «عزم الأمور» ، والعزم هو عقد القلب على إمضاء الأمر ، وهو أيضا المحافظة على ما يؤمر الانسان به ، وقيل إن عزم الأمور هو محكم

١٩٦

الأمور. وقيل إن عزم الأمور معناه معزومات الأمور التي يجب العزم عليها ، أو مما عزم الله تعالى أن يكون ، أي من عزمات أموره التي لا بد من وقوعها ، فهي مطلوبة مأمور بها.

يقول الله تبارك وتعالى في سورة الشورى ، : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ، ويقول في سورة لقمان : (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). ويقول في سورة آل عمران : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

ويعلّق الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده على هذه الآية فيقول : «الصبر هو تلقي المكروه بالاحتمال وكظم النفس عليه ، مع الروية في دفعه ، ومقاومة ما يحدثه من الجزع ، فهو مركب من أمرين : دفع الجزع ومحاولة طرده ، ثم مقاومة أثره حتى لا يغلب على النفس ، وإنما يكون ذلك مع الإحساس بألم المكروه ، فمن لا يحس لا يسمّى صابرا ، وإنما هو فاقد الإحساس ، يسمّى بليدا ، وفرق بين الصبر والبلادة ، فالصبر وسط بين الجزع والبلادة ، وما أحسن قرن التقوى بالصبر في هذه الموعظة ، وهي أن يمتثل ما هدى الله اليه فعلا وتركا ، عن باعث القلب ، وذلك من عزم الأمور ، أي التي يجب أن تعقد عليها العزيمة ، وتصح فيها النية وجوبا محتما لا ضعف فيه».

ومن هنا نفهم أن من شأن الصبر أن يكون في مواطن الشدة والتعب التي يحتاج احتمالها الى عزيمة وإرادة وتصميم ، ولذلك قرن كتاب الله تعالى بين ذكر الجهاد وذكر الصبر ، لأن في الجهاد مشقة تستلزم العزيمة ، فجاء في سورة البقرة قوله : (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ). وجاء في سورة آل عمران : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ). وجاء في سورة الأنفال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ

١٩٧

كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ، الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). وجاء في سورة النحل : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ، ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). وجاء في سورة محمد : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ).

* *

كما قرن الله تعالى الصبر في مواطن كثيرة بالأذى الذي يحتاج تحمله الى عزيمة وإرادة ، فقال في سورة إبراهيم : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ). وقال في سورة البقرة : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ). وقال في سورة البقرة أيضا : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). وقال في سورة الحج : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

وقد جاء الحديث النبوي مؤكدا هذا المعنى فقال : «الصبر عند الصدمة الأولى» وقال : «في الصبر على ما تكره خير كثير». وقال «عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر. فكان خيرا له ، وإن أصابته ضرّاء صبر ، فكان خيرا له».

وكأن خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليه قد استمد من هذا الهدي حينما أشار إلى أن الصبر من شأنه أن يكون في الشدائد

١٩٨

والمتاعب ، فقال «أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس».

* *

ولما كان الصبر بهذه المنزلة جعل الله تعالى جزاءه عظيما جليلا ، فالقرآن الكريم يخبرنا أولا بأن أهل الصبر يستحقون البشرى ، فقال : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). كما أخبرنا بأن الصبر هو طريق الخير ، فقال في سورة النحل : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ). وقال في سورة النساء : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). كما أخبرنا بأن الله جل جلاله يحب أهل الصبر ، فقال في سورة آل عمران : (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ). كما أخبرنا بأنه تبارك وتعالى مع الصابرين ، ومعية الله هنا معية محبة وتأييد ، ونصر وتكريم ، ومعونة ومثوبة ، فقال في سورة البقرة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). وقال فيها أيضا : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). وقال في سورة الأنفال : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

ولعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أشار إلى مثل هذا حين قال : «واعلم أن النصر مع الصبر». لأن الصبر يستدعي معية الله تعالى ، ومعية الله تستوجب النصر لأهل الصبر.

وقد أوسع القرآن الكريم الثواب للصابرين ، فبعد أن ذكر في سورة البقرة التبشير للصابرين ، لأنهم يقولون إذا أصابتهم مصيبة : إنا لله وإنا اليه راجعون ، تحّدث عن ثوابهم الجزيل فقال : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). ووعد القرآن الكريم الصابرين بمضاعفة الأجر فقال في سورة القصص :

١٩٩

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

وذكر القرآن أكثر من مرة أن عاقبة الصابرين هي نعيم الجنة العظيم ، فقال عن عباد الرحمن : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً). وقال في سورة الانسان : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً). وقال في سورة الرعد : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ، وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).

ويؤكد القرآن عظم الثواب للصابرين وضمانه لهم ، فيقول في سورة النحل : (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). ويقول في سورة المؤمنون : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ). ويقول في سورة يوسف : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

وينتهي بنا القرآن في تكريم الصابرين إلى أن ثوابهم غير محدود ، بل هو موكول لفضل الله العظيم الذي لا حدود له ولا قيود ، فيقول : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ).

والانسان يمكنه أن يعرف طريقه الى فضيلة الصبر باستعانته بالله في تعوده الصبر واستمساكه به ، وهذا هو ما يعبر عنه أهل التصوف بقولهم ، «الصبر بالله» ، ولعل القرآن الكريم قد أشار الى ذلك حين قال ، (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ). فهو سبحانه الذي يهب عبده نعمة الصبر إذا عاناه الانسان وحاول التزين به ولذلك قال رسول

٢٠٠