موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٢

المسارعة الى الخير

«المسارعة» من «السرعة» ، ومادة «سرع» لها أصل يدل على خلاف البطء ، فالسريع ضد البطيء ، وسرعان الناس : هم أوائلهم الذين يتقدمون سراعا ، والمساريع في الحرب : جمع مسراع ، وهو الشديد الإسراع في الامور مثل مطعان ومطاعين ، فهو من أبنية المبالغة ، والمسارعة هي المبادرة ، والفرق بين السرعة والعجلة أن السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه ، وهي صفة محمودة وفضيلة مشكورة ، وضدها الابطاء وهو مذموم ، والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه ، وضدها الأناءة وهي محمودة.

وقد جاء في القرآن الكريم نسبة السرعة إلى الله عزوجل ، فقال عنه تعالى : «سَرِيعُ الْحِسابِ) ثماني مرات ، وقال : (سَرِيعُ الْعِقابِ) مرتين ، وقال : (أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) مرة ، وقال : (أَسْرَعُ مَكْراً) مرة. ونسبة السرعة إلى الله في الحساب أو العقاب تنبيه على ما قال : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ).

والمراد بالمسارعة إلى الخير هو الارتياح لعمل الخير ، وسرعة التفتح النفسي له والاقبال الروحي والعملي عليه ، والفرح بالدعوة إليه والتذكير به ، وهذه فضيلة من أكرم الفضائل الانسانية التي تدل على المعدن الاصيل الطيب عند الانسان ، والاستعداد القوي النبيل للاستجابة في كل موطن من مواطن الخير والبر ، وكأن صاحب هذه الفضيلة يجد متعته النفسية ولذته الروحية في السبق إلى الطيب من القول والعمل بلا تردد أو إبطاء.

٢٤١

وقد ذكر القرآن الكريم هذا الخلق الحميد في أكثر من موضع ، فقال في سورة آل عمران : (لَيْسُوا سَواءً ، مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ ، يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ ، وَهُمْ يَسْجُدُونَ ، يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ، وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ).

وقد روى المفسرون أن هذه الكلمات نزلت في جماعة آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره ، وقوله : (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) معناه : يبادرون إلى فعل الخيرات والطاعات ، خوف الفوات بالموت. وقيل : معناه أنهم يعملون الاعمال الصالحة ، غير متثاقلين أو متوانين فيها ، بل يجتهدون وينشطون لعلمهم بجلالة موقعها وحسن عاقبتها ، وهذه المسارعة صفة من صفات المدح ، لأن المسارعة في الخير دليل على فرط الرغبة فيه والحب له ، والحرص على ألا يفوت لعارض من العوارض أو حائل من الحوائل ، ومن فعل تلك المنزلة صار من خيار المتحلين بمكارم الأخلاق.

وشأن المؤمن المخلص أنه لا يتباطأ عن مواطن الخير ، وفي طليعتها مواطن العبادة ، لأن التباطؤ في الخير هو شأن الذين في قلوبهم مرض ، كما قال الله تعالى في شأن المنافقين في سورة النساء : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ، وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً ، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً).

ولأن المؤمنين الصادقين من شأنهم أن يسارعوا إلى الطاعات والقربات ، قالت الآية بعد وصفهم بهذه المسارعة : (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي الذين صلحت نفوسهم ، فاستقامت أحوالهم ، وحسنت أعمالهم.

ويقول الله تبارك وتعالى في سورة آل عمران : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ). والمسارعة إلى المغفرة والجنة هي المبادرة إلى أسبابهما ، وما يعد الانسان لنيلهما والفوز بهما ، أي سارعوا إلى ما يوجب لكم مغفرة ربكم ونعيم جنته.

٢٤٢

ولقد ورد في إيضاح ما يسارع إليه هؤلاء أقوال ، فقيل : سارعوا إلى اجتناب معاصي الله ، وقيل : سارعوا إلى الاسلام ، وقيل : سارعوا إلى أداء الفرائض ، وقيل : سارعوا إلى الهجرة ، وقيل : سارعوا إلى التكبيرة الأولى ، وقيل : سارعوا إلى أداء الطاعات ، وقيل : سارعوا إلى الصلوات ، وقيل : سارعوا إلى الجهاد ، وقيل : سارعوا إلى التوبة ... هذه أقوال تقارب العشرة ، وقد يكون هناك غيرها في تضاعيف التفاسير العديدة ، وأكاد أفهم ـ والله أعلم بمراده ـ أن هذه الاقوال قد ذكرت ألوانا من مواطن المسارعة ، والمفهوم العام للمسارعة يضمها ويشملها ، ولذلك أميل إلى ما رواه النيسابوري في «غرائب القرآن» ونسبه الى عكرمة ، وهو قوله : «ليس ذلك إلا المغفرة الحاصلة بسبب الاسلام ، والإتيان بجميع الطاعات ، والاجتناب لكل المنهيات» فكأن الأمر بالمسارعة في الآية الكريمة هو دعوة الى التحلي بفضيلة المسارعة الى الخير ، على الدوام وفي كل الأحوال.

ويقول القرآن الكريم في سورة الأنبياء : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ : رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ ، وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ، وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ ، إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ). ومعنى المسارعة هنا ـ كما ذكر المفسرون ـ أنهم كانوا يبادرون الى الخيرات طاعة لله ، ويعملون ما يقرّبهم الى الله ، والمسارعة في طاعة الله ـ كما يذكر الرازي ـ من أكبر ما يمدح به المرء ، لأنه يدل على حرص عظيم على الطاعة ، ولذلك أكرم الله جل جلاله هؤلاء المسارعين في الخيرات ، فاستجاب لهم ، وحقق ما أرادوه ورغبوا فيه ، ووهب لزكريا الولد بعد طول سنين ، وأصلح له أمر زوجته ، وهذا فضل عميم من صاحب الفضل العظيم ، يذكّر كلّ مؤمن بأنه إذا أخلص في المسارعة الى الخير لوجه الله أوسع له العطاء والجزاء.

ومما يؤكد هذا الفهم ويزكيه أننا نجد القرآن الكريم يقول في سورة

٢٤٣

المؤمنون : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ ، أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ).

وكأن المسارعة إلى الخيرات تكون ثمرة طيبة وتاجا رفيعا لهؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات المجيدة ، فهم يخشون الله حق خشيته ، وهم يصدقون بآياته وكلماته ، وهم لا يشركون به أحدا ، وهم يقدمون ما يستطيعون من طاعة وجهد ، دون اغترار بما قدموا ، بل يظل الوجل مسيطرا عليهم خوفا من تقصير أو تغرير ، وهم يخشون يوما يرجعون فيه إلى الله ، فتكون الثمرة الطيبة العظيمة لهذه الصفات أن تتوج رؤوسهم فضيلة سامية نبيلة ، هي الانطباع على الإسراع إلى كل خير وكل بر ، فيكونون دائما أهل السبق ، وهم الجديرون أيضا بأن يخصهم ربهم بالنعيم المقيم.

* *

وإذا كان الحق جل جلاله قد مجّد في كتابه المجيد ذكر المسارعين الى الخيرات ، ووعدهم أجمل الوعد وأصدقه ، فانه قد حمل حملته الصارمة على أولئك الذين فسدت طبائعهم ، وانحرفت أخلاقهم ، وانقلبت أوضاعهم ، فهم يسارعون الى المآثم والمقابح ، وبذلك يخسرون الخسران المبين ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون هذا هو كتاب الله الحكيم يقول في سورة آل عمران : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ، إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً ، يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ، إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). والمسارعة في الكفر هي الوقوع في ظلماته بسرعة ، والمبادرة إلى مناصرة أهله مع ضلالهم وخبالهم.

ويقول القرآن المجيد في سورة المائدة : «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ ، يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ، فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ

٢٤٤

أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ، فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ» أي يسارعون الى موالاة غير المسلمين ومعاونتهم ، وهذه جريمة تقابلها فضيلة هي موالاة المؤمنين ، ولقد اتفق رواة التفسير بالمأثور ـ كما جاء في تفسير المنار ـ على نزول هذه الآية في المنافقين ، فهم الذين في قلوبهم مرض ، أي ان إيمانهم عليل غير صحيح ، إذ لم يبلغوا فيه مستقر اليقين ، وكان عبد الله بن أبيّ زعيم المنافقين ذا ضلع مع يهود بني قينقاع ، وكان غيره من المنافقين يمتّون الى اليهود بالولاء والعهود ، ويسارعون في هذه السبيل التي سلكوها ، كلما سنحت لهم فرصة لتوثيق ولائهم وتأكيده ابتدروها ، فهم يسارعون في أعمال موالاتهم مسارعة الداخل في الشيء الثابت عليه ، الراغب فيما يزيده تمكنا وثباتا ، ولذلك قالت الآية : (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) ولم تقل : يسارعون اليهم.

ويقول القرآن أيضا في سورة المائدة : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ ، يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ، وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ). والمسارعة في الكفر فيها ـ كما سبق ـ معنى الجد والاجتهاد في أعمال الكافرين ، فهؤلاء الذين نزلت فيهم الآية لم يكونوا مؤمنين ، حتى يكون ما عملوا من أعمال الكفر انتقالا من الايمان الى الكفر ، بل كانوا داخلين في حمأة الكفران ، بل انتقلوا سراعا من حيّز الإخفاء للكفر وكتمانه إلى حيز التصريح به وإعلانه.

ويقول القرآن كذلك في سورة المائدة : «قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ ، مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ، أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ، وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ ، وَتَرى

٢٤٥

كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».

فالآية تخبرنا بأن شر الناس جزاء وعقوبة ، وأسوأهم مكانا ، وأبعدهم عن الطريق المستقيم وهو الإسلام ، هم أولئك اليهود المذبذبون والمخادعون الذين يسارعون الى الآثام ، ويتسابقون الى أكل الحرام وارتكاب المظالم.

ومن هذا البيان القرآني عن المسارعين الى الشر نفهم أن هؤلاء إما أن يكونوا من الكافرين ، وإما أن يكونوا من المنافقين ، وإما أن يكونوا من اليهود ، وكل صنف من الأصناف الثلاثة مذؤوم مذموم أشد الذم في بيان القرآن الكريم.

* *

وإذا كان كتاب الله تعالى قد عني بفضيلة المسارعة الى الخير كل هذه العناية ، فقد جاءت السنة المطهرة من وراء القرآن تتابعه وتشايعه ، فإذا هي تزكّي أقوى التزكية المسارعة الى الخير ، والمبادرة إلى الطاعات ، فهذا هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنكبي فقال : «كن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل وعدّ نفسك من أهل القبور».

والمعنى : كن كشخص اغترب لحاجة ، فإذا قضاها سارع بالعودة الى وطنه أو كن في الدنيا كالمار في الطريق لا يتلبث ولا يتوقف ، واعدد نفسك ضمن الذين ماتوا ورحلوا ، والمراد من الحديث هو الحث على المسارعة بالأعمال الصالحة فالمستقبل مجهول : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

ولذلك كان ابن عمر يروي هذا الحديث ثم يقول : «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ،

٢٤٦

ومن حياتك لموتك».

وروى مسلم والترمذي أن رسول الله عليه الصلاة والسّلام قال : «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمنا ، ويمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا». ولقد تكررت عبارة : «بادروا بالأعمال» ثلاث مرات فيما قرأنا من الحديث النبوي الشريف.

وفي الحديث أيضا : «من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل». والإدلاج هنا يفيد معنى السير أول الليل ، وفي هذا معنى المسارعة ، لأن المراد من الحديث توجيه الإنسان الى المبادرة بعمل الطاعات قبل فوات الأوان. وكذلك يقول الحديث : «اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك». وفي الاغتنام معنى المسارعة والمبادرة.

وكرام الناس يوصون أنفسهم وغيرهم بأن يتعجلوا خطواتهم نحو عمل الخير قبل أن تعوق العوائق ، فهذا الامام جعفر بن محمد رضي الله عنه يقول : «إن الحاجة تعرض للرجل قبلي (أي جهتي وعندي) فأبادر بقضائها ، مخافة أن يستغني عنها ، أو تأتيه وقد استبطأها ، فلا يكون لها عنده وقع».

وهذا أحد الشعراء يقول في مبادر الى معاونة الأصدقاء :

بدا حين أثرى بإخوانه

ففلّل عنهم شباة العدم

وذكّره الحزم غبّ الأمور

فبادر قبل انتقال النّعم

فهذا الممدوح النبيل قد بدأ حين تحقق له الثراء بمعاونة من له من الأصدقاء ، وسارع الى إزالة الفقر عنهم ، فكأنه قد حطم شدة الفقر وأذى العدم عنهم ، وذلك لأن الحزم قد الهمه بأن يتذكر أن العواقب غير مضمونة ، ولذلك بادر بإكرام إخوانه قبل ان تزول من يديه النعم.

وللصوفية حديثهم حين تعرض فضيلة المسارعة الى الخير ، فهذا هو القشيري

٢٤٧

في تفسيره «لطائف الاشارات» يتحدث عن قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ...) فيقول : «الناس في المسارعة على أقسام : فالعابدون يسارعون بقدمهم في الطاعات ، والعارفون يسارعون بهممهم في القربات ، والعاصون يسارعون بندمهم بتجرع الحسرات ، فمن سارع بقدمه وجد مثوبته ، ومن سارع بهممه وجد قربته ، ومن سارع بندمه وجد رحمته».

وحينما يتعرض القشيري للتعليق على قوله تعالى : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) يقول : «مسارع بقدمه من حيث الطاعات ، ومسارع بهممه من حيث المواصلات ، ومسارع بندمه من حيث تجرع الحسرات ، والكلّ مصيب ، وللكل من إقباله ـ على ما يليق بحاله ـ نصيب».

هذا وينبغي أن نتذكر أن المسارعة إلى الخير فيها سبق ، وقد تحدث القرآن الكريم عن السبق في الخيرات ، وعن السابقين الى الطاعات ، فقال عز من قائل في سورة البقرة : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ). وقال في سورة التوبة : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). وقال في سورة الواقعة : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ). وقال في سورة الحديد : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ، ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

نسأل الله عزت قدرته أن يجعلنا من المسارعين الى الخير ، السابقين الى البر ، إنه الرؤوف الرحيم.

٢٤٨

الانابة

«الإنابة» كلمة تفيد معنى الرجوع والاقبال ، يقال : أناب ينيب إنابة فهو منيب ، إذا أقبل ورجع ، والإنابة الى الله جل جلاله هي الرجوع اليه بالاستغفار والمتاب ، وإخلاص العمل لوجهه ، والتزام بابه ، وفي الإنابة أيضا معنى المسارعة بالعودة الى الله ، والثبات على كلمته كلما همّ الشيطان أن يوسوس للانسان ، بالإعراض عنه أو النسيان له ، ولذلك قال السلف : المنيب هو الذي يعود سريعا الى ربه. وكأن معنى الإنابة سيتجدد ويتأكد ويتكرر ، لأن الوسوسة مستمرة ، فلا بد من استمرار الاعتصام بباب الله واللجوء الى الانابة في كل وقت ، وبهذا تكسب الانابة صفة الفضيلة الأصيلة والخلق الكريم ، فالمنيب هو الذي يسارع إلى طاعة الله ومواطن مرضاته ، ويرجع اليه في كلّ وقت ، ويبذل طاقته ليلتزم طاعته.

وها هو ذا أحد أعلام الصوفية ، وهو الهروي ، يقول في كتابه «منازل السائرين» حين حديثه عن فضيلة الانابة عند أهل التصوف : «الانابة في اللغة الرجوع ، وهي هاهنا الرجوع الى الحق. وهي ثلاثة أشياء : الرجوع الى الحق إصلاحا ، كما رجع اليه اعتذارا والرجوع اليه وفاء ، كما رجع اليه عهدا والرجوع اليه حالا ، كما رجع اليه إنابة». أي أن الإنابة تقتضي اعتذارا عن الهفوة إن وقعت ، وإصلاحا لها بالحسنة ، ومحوا لها بالطاعة. وتقتضي الوفاء

٢٤٩

التطبيقي للعهد الذي أخذه المنيب على نفسه بأن يستقيم ويلتزم ، وتقتضي أن تكون أحوال الانسان وتصرفاته وسلوكه عنوانا عمليا لخلق الانابة. ومن هنا حسن للامام ابن القيم أن يقول : «فما أناب إلى الله من خان عهده وغدر به ، كما أنه لم ينب اليه من لم يدخل تحت عهده ، فالانابة لا تتحقق إلا بالتزام العهد والوفاء به».

وفضيلة الانابة تنبثق من خلال المعرفة ، فاذا عرف الانسان ربّه ، واستحضر جلاله في صدره ، وتدبر آياته ، دخل باب الانابة ، ولذلك قال الحارث المحاسبي : «المعرفة تورث الإنابة». وقد يؤكد لنا هذا ما روته السنة بشأن حارثة بن سراقة الانصاري ، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقي حارثة هذا ، فقال له : كيف أصبحت يا حارثة؟ فأجابه : أصبحت مؤمنا بالله حقا. فقال الرسول : انظر ما ذا تقول ، فان لكلّ قول حقيقة. فقال حارثة : يا رسول الله ، عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، وكأني بعرش ربي عزوجل بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر الى أهل النار يتعاوون فيها. فقال عليه الصلاة والسّلام : يا حارثة ، عرفت فالزم. ثم قال النبي معجبا به : «عبد نوّر الله الايمان في قلبه».

* *

ولقد جاء ذكر الانابة في خمسة عشر موضعا من القرآن الكريم ، والله تبارك وتعالى يدعو اليها عباده وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون ، فيقول لرسوله صلوات الله وسلامه عليه ومن ورائه أتباعه في سورة الروم : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ، فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). ويقول في سورة الزمر : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ). وفي سورة لقمان :

٢٥٠

(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فالله جل جلاله يأمر عبده المستجيب بأن يسلك طريق من رجع إلى الله بالتوحيد والاخلاص في الطاعة ، ومن سلك طريق المنيب فقد صار مثله منيبا ، فكأنه قال له اسلك طريق الانابة وكن منيبا. ومن سمو فضيلة الانابة جعلها الله عزّ شأنه صفة لأنبيائه ورسله ، فقال عن خليل الرحمن إبراهيم في سورة هود : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ). والحليم هو غير العجول على الانتقام من المسيء ، والأواه هو كثير التأوه من الذنوب ، والتأسف على الناس ، والتضرع الى الله ، وكان إبراهيم عليه‌السلام منيبا ، أي كثير الرجوع الى الله ، يرجع إليه في كل أمر.

وكذلك قال الله تعالى عن نبيه شعيب عليه‌السلام في سورة هود : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ، وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ، وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) اي أقبل عليه بكل حسي ونفسي ، واليه وحده أرجع في كل ما نابني من الأمور في الدنيا ، ومنه وحده اطلب ثوابي على اعمالي ، فأنا لا ارجو منكم اجرا ، ولا اخاف منكم ضرّا وعلى ربي أقبل بطاعتي ، كما أرجع اليه بتوبتي.

ويقول القرآن الكريم عن سليمان في سورة ص : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ). ويأمر الله تعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبلّغ عباده قوله في سورة الشورى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ). أي عليه توكلت واعتمدت في مجامع الأمور ، وإليه أرجع في كل الشؤون.

وقد جعل القرآن الكريم فضيلة الانابة علامة الاهتداء وعنوان الاستقامة على الطريق وشارة الذين يتفكرون ويتدبرون فيعرفون ، فيستجيبون لنداء الحق ودعوة الصدق ، فيقول في سورة الرعد : «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ، قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ، الَّذِينَ آمَنُوا

٢٥١

وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ». وأكّد كتاب الله هذا المعنى حين قال في سورة الشورى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ). أي من يتقبل الحقّ ويرفض العناد ، ولهذا كانت الانابة من فضائل الانسان المتدبر المتذكر المعتبر ، فقال القرآن المجيد في سورة غافر : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ). ويقول في سورة ق : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ ، وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (١)». فكأن الانابة معوان على استجلاء الدلائل المثبوتة في آيات الله الكونية الدالة على جلاله وسلطانه.

* * *

والإنابة تقارن الخشية لله تعالى ، وهذا هو القرآن يتحدث عن ثواب المتقين الذين خشوا ربهم بالغيب ، وكانت قلوبهم قلوبا رجّاعة إلى الله موصولة الأسباب على الدوام بحماه ، فيقول في سورة ق : (واُزلفت الجنة للمتقين غير بعيد ، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب) (٢). وإذا عمرت الإنابة قلب صاحبها وكانت نتيجة لما تقدّمها من تذكر ، فإنها تقيم الانسان على صراط العدل ، وتغرس فيه نزعة الرجوع السريع إلى الحق ، ولقد أعطانا القرآن المجيد في هذا مثلا كريما يتعلق بنبيّ الله داود عليه‌السلام ، حيث يقول القرآن في سورة ص : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ،

__________________

(١) فروج : فتوق وشقوق. ورواسي : جبالا ثوابت. وزوج بهيج : صنف حسن نضر.

(٢) أزلفت : أدنيت وقربت. وأواب : رجاع الى الله. وبقلب منيب : مقبل على طاعة الله.

٢٥٢

إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ ، إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً. وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ ، قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ ، وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ : فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (١).

والله جل جلاله يبشر عباده المنيبين أحسن البشرى فيقول في سورة الزمر :

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى ، فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ ، وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ).

* *

وقد يظن البعض ان الإنابة والتوبة شيء واحد ، ولكن الانابة منزلة تأتي بعد منزلة التوبة ، فالتوبة هي مفتاح الانابة ، وفي هذا يقول ابن القيم : «من نزل في منزل التوبة وقام في مقامها نزل في جميع منازل الاسلام ، فإن التوبة الكاملة متضمنة لها ، وهي مندرجة فيها .. فإذا استقرت قدمه في منزل التوبة نزل بعده منزل الانابة».

ويرى ابن القيم أن الانابة إنابتان ، ويوضح ذلك بقوله : «الانابة إنابتان : إنابة لربوبيته ، وهي إنابة المخلوقات كلها : يشترك فيها المؤمن والكافر ، والبرّ والفاجر ، قال الله تعالى : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) فهذا عام في حق كلّ داع أصابه ضر ، كما هو الواقع ، وهذه الانابة لا تستلزم

__________________

(١) تسوروا المحراب : علوا سوره ونزلوا إليه. ولا تشطط : لا تكن جائرا في حكمك. وسواء الصراط : وسط الطريق المستقيم. وأكفلنيها : انزل لي عنها. وعزني : غلبني. والخلطاء : الشركاء. وفتناه : امتحناه.

٢٥٣

الاسلام ، بل تجامع الشرك والكفر ، كما قال تعالى في حق هؤلاء : (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) فهذه حالهم بعد إنابتهم.

الانابة الثانية إنابة أوليائه ، وهي إنابة لالهيته إنابة عبودية ومحبة ، وهي تتضمن أربعة أمور : محبته ، والخضوع له ، والاقبال عليه ، والاعراض عما سواه ، فلا يستحق اسم المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الاربعة ، وتفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك.

ويمكن أن نقول بتعبير آخر إن هناك إنابة حقيقية صادقة ، يستجيب صاحبها ويلتزم ويستقيم ، وهناك إنابة ظاهرية قائمة على الكذب والغدر ، وهي الانابة الشكلية التي يلتزم بها لئيم الطبع ، فإذا وجد نفسه في ضيق أو شدة لجأ إلى ربه ، لعلمه بالفطرة أنه الخالق الرازق المعين ، فإذا بلغ اللئيم مأربه ونال مطلبه ، انقلب على وجهه فكان من الخاسرين ، وقد أشار القرآن إلى هذا أيضا في سورة الزمر فقال : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ، ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ، وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ، قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) (١) وهذا الصنف اللئيم يذكرنا بمن قيل فيه :

صلّى وصام لأمر كان يطلبه

فلما انقضى الأمر لا صلّى ولا صاما

وكأن القرآن الكريم قد أشار إلى أهل الانابتين : الصادقة والكاذبة بقوله في سورة لقمان : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ). والختار هو الغدار الجحود.

ويقول مشيرا إلى أهل الانابة الكاذبة في سورة يونس : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ

__________________

(١) خوله نعمة : أعطاه نعمة. وأندادا : أمثالا يعبدها من دون الله تعالى.

٢٥٤

فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ، دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ : لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

* *

ويرى الصوفية أن الانابة تستلزم ثلاثة أشياء : أولها : الخروج من التبعات» ، وذلك يكون بالتوبة من الذنوب التي تكون بين العبد وربه ، وبأداء الحقوق التي تكون عليه للخلق ، وثانيها «التوجع للعثرات» ومعناه أن يتوجع قلبه ويتصدع إذا أذنب أو هفا ، لأن هذا الألم هو برهان الانابة والرجوع ، وأما جامد القلب الذي لا يتألم من ذنبه فإنه فاسد الطبع ميت القلب ، وكذلك يتوجع ويتألم إذا رأى أخاه المؤمن قد وقع في إثم ، حتى كأن الشخص المنيب هو الذي ارتكب الإثم ، وثالثها «استدراك الفائتات» أي تدارك ما فاته من قربات وطاعات ، بأن يجتهد في أداء الأعمال الصالحة ، وبذلك الاجتهاد يستدرك ما فات ، ويحيي ما أمات.

ويقول هنا ابن القيم : «ومن علامات الانابة ترك الاستهانة بأهل الغفلة والخوف عليهم ، مع عدم فتح باب الرجاء لنفسك ، فترجو لنفسك الرحمة ، وتخشى على أهل الغفلة النقمة ، ولكن ارج لهم الرحمة ، واخش على نفسك النقمة ، وإن كنت لا بد مستهينا بهم ماقتا لهم ، لانكشاف أحوالهم لك ، ورؤية ما هم عليه ، فكن لنفسك أشدّ مقتا منك ، وكن أرجى لهم لرحمة الله منك لنفسك».

قال بعض السلف : «لن تفقه كلّ الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله ، ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أشدّ مقتا. وهذا الكلام لا يفقه معناه إلّا الفقيه في دين الله ، فإن من شهد حقيقة الخلق وعجزهم وضعفهم وتقصيرهم ، بل

٢٥٥

تفريطهم وإضاعتهم لحق الله ، وإقبالهم على غيره ، وبيعهم حظّهم من الله بأبخس الثمن من هذا العاجل الفاني ، لم يجد بدا من مقتهم ، ولا يمكنه غير ذلك البتة ، ولكن إذا رجع إلى نفسه وحاله وتقصيره وكان على بصيرة من ذلك ، كان لنفسه أشدّ مقتا واستهانة ، فهذا هو الفقيه».

نسأل الله جل جلاله أن ييسر لنا أسبابه ، وأن يجعلنا من أهل الانابة.

٢٥٦

أما بعد

فيا أخي القارىء

إن القرآن الكريم كنز نعرف أوله ، ولكننا لا نبلغ بجهدنا القليل غايته ، فهو واسع فسيح ، وما سبق من حديث عن «أخلاق القرآن» لم يستوعب كلّ ما تحدث عنه كتاب الله من فضائل ومكارم ، والرجاء في عون الله كبير ، والأمل في عودة إلى مواصلة الحديث عن «أخلاق القرآن» قريب غير بعيد ، فالى لقاء بمشيئة الله ...

٢٥٧
٢٥٨

الفهرست

الموضوع

الصفحة

مقدمة المؤلف

العفة

١

المراقبة

٨

العزة

١٦

العدل

٢٢

العفو

٣٤

الصدق

٤٠

الايثار

٥٢

الرضى

٦١

التواضع

٦٨

الطمأنينة

٧٩

الحياء

٨٧

الثبات

٩٦

السكينة

١٠٤

الشكر

١١٢

الرحمة

١٢٢

٢٥٩

الموضوع

الصفحة

الاعتبار

١٣٠

التذكر

١٣٩

العبودية لله

١٤١

الخوف من الله

١٥٤

الاستقامة

١٦٤

الخشوع لله

١٧٢

الحلم

١٨٢

الصبر

١٩١

التقوى

٢٠٢

الحمد

٢١٣

التدبر

٢٢٠

التفكر

٢٢٦

البر

٢٣٤

المسارعة الى الخير

٢٤١

الإنابه

٢٤٩

٢٦٠