موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٢

فوق درجة الخوف ، وإن قربت منها واتصلت بها.

وأما الرهبة فهي الإمعان في الهروب من المكروه ، ولذلك قيل إن الرهب والهرب بينهما تناسب في اللفظ والمعنى ، وتناسب اللفظ يأتي من ناحية الاشتقاق الأكبر ، وكل لفظين شملهما هذا الاشتقاق يكون بينهما اشتراك في المعنى العام.

وأما الوجل فهو رجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته ، والهيبة خوف يقارن التعظيم والإجلال ، وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة ، لأن الإجلال تعظيم مقرون بالحب ، ولذلك قالوا : الهيبة للمحبين والاجلال للمقربين.

والهيبة المقرونة بالحب تذكرنا بما جاء في حديث عمر رضي الله عنه ، وهو قوله : «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه». أي أنه يطيع الله حبّا له لا خوفا من عقابه فقط ، فلو لم يكن هناك عقاب يخافه ما عصى لله ، ففي الكلام محذوف تقديره : لو لم يخف الله لم يعصه ، فكيف وقد خافه؟.

*

والخوف صفة تحتاج الى «الوسطية» أي التوسط والاعتدال ، إذ لا يليق أن يقل الخوف عند الانسان حتى يقرب من درجة الغلظة أو الاستخفاف ، ولا يجوز أن يسرف فيه صاحبه حتى يقرب من اليأس أو القنوط ، والله يقول في سورة الاسراء : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً). ويقول عن بعض أنبيائه في سورة الأنبياء : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ). ويقول عن اخلاق القرآن (١١)

١٦١

المستقيم من عباده : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ). فالخائف ينبغي له ليستقيم على الصراط أن يوازن بين الخوف والرجاء.

وهذا يؤدي بنا الى بحث أمر يتعلق بموضوعنا ، ويدور حول السؤال التالي : أيجعل الانسان الخوف أكثر أم يجعل الرجاء أكثر؟. ولقد قال السلف إنه ينبغي تغليب الخوف على الرجاء ما دام الانسان يغدو ويروح في الدنيا ، فإذا خرج منها حسن به تغليب الرجاء على الخوف عند ذلك.

وقال آخرون : ينبغي أن يكون الغالب على القلب هو الخوف ، ويرى آخرون أن أكمل الأحوال هو اعتدال الرجاء والخوف ، وللامام ابن القيم عبارة جميلة في هذا المقام يقول فيها : «القلب في سيره إلى الله عزوجل بمنزلة الطائر ، فالمحبة رأسه ، والخوف والرجاء جناحاه ، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران ، ومتى قطع الرأس مات الطائر ، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر».

ويرى الامام الغزالي في المسألة رأيا آخر له وجاهته ، فهو يرى أن الخوف والرجاء دواءان يداوى بهما القلوب ، ففضلهما بحسب الداء الموجود ، فإن كان الغالب على القلب داء الأمن من مكر الله تعالى والاغترار به ، فالخوف أفضل ، وإن كان الأغلب هو اليأس والقنوط من رحمة الله فالرجاء أفضل ، وكذلك إن كان الغالب على الانسان المعصية فالخوف أفضل ، ثم يرى حجة الاسلام أن الأصلح لأكثر الناس هو الخوف لغلبة المعاصي عليهم.

وبعد ، فالخوف من الله أدب من آداب الاسلام ، وخلق من أخلاق القرآن ، وفضيلة تعلّم الانسان الخضوع لله ، والعزة على من سواه ، وتعوده المراقبة لخالقه ومولاه ، فهو يعتبر بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العبد المؤمن بين مخافتين : بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه ، وبين أجل

١٦٢

قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه ، فو الذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار». ويتعظ بما ورد عن الله جل جلاله في الحديث القدسي : «لا أجمع على عبدي خوفين ، ولا أجمع له أمنين ، فإن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ، وإن خافني في الدنيا أمّنته يوم القيامة (١)».

اللهم هبنا بفضلك فضيلة الخوف منك ، والخشوع لجلال وجهك الكريم.

__________________

(١) انظر كتابي : «أدب الأحاديث القدسية». صفحة ٢٦.

١٦٣

الاستقامة

يقول الله تبارك وتعالى في سورة الأحقاف : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وكلمة «الاستقامة» تفيد ـ كما في لسان العرب ـ معنى الاعتدال والاستواء يقال ، استقام له الأمر ، أي اعتدل ، ومن ذلك ما ورد في السنة بشأن الاصطفاف في الصلاة ، وهو : «تسوية الصف من إقامة الصلاة» أي جعلها سليمة معتدلة ، وكلمة «الاستقامة» مشتقة من مادة «القيام». وفي هذه المادة معنى الملازمة والمحافظة والثبات ، وعلى هذا جاء قوله تعالى : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) أي ملازما ومحافظا. ويقال : قام عندهم الحقّ ، أي ثبت ولم يبرح ، وكذلك جاء في كتاب الله العزيز : «من أهل الكتاب أمة قائمة» ، أي جماعة ثابتة على الدين متمسكة به.

وقد تأتي المادة بمعنى الإصلاح والنهوض بالتبعات ، ومن ذلك قول الله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ). وفي مادة الاستقامة معنى الدوام والاستمرار ، وقد جاء في الحديث «استقيموا لقريش ما استقاموا لكم» أي دوموا لهم على الطاعة ، واثبتوا عليها ، ما داموا على الدين ، وما داموا ثابتين على الإسلام. كما جاء في الحديث : «العلم ثلاثة : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة». قال العلماء : إن القائمة هي الدائمة المستمرة ، التي يتصل بها العمل ولا يترك ، وبمثل هذا فسروا قول القرآن الكريم في شأن المؤمنين : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ)

١٦٤

أي يديمونها. ولقد روى حكيم بن حزام عن نفسه فقال : «بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا أخرّ إلا قائما». أي لا أموت إلا مستقيما ثابتا على الإسلام مستمسكا به.

* * *

ومن هذا البيان نفهم أن الاستقامة في لغة القرآن هي الإقامة على الإسلام ، والدوام على هدى الله عزوجل ، والاستمرار في التقيد بقيوده ، والوقوف عند حدوده ، والاستجابة لأوامره ، والانتهاء عن محارمه ، وهذا هو عمر الفاروق يقول : «الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ، ولا تروغ روغان الثعلب». ومفهوم هذا أن خلق الاستقامة يبعد صاحبه عن التلون والتذبذب ، وعن النفاق والرياء ، فالمستقيم قد عرف طريقه ، وآمن بعقيدته ، ومضى على سبيله ، لا يميل ولا ينحرف ، ولعل هذا هو الذي جعل ابن تيمية يقول : «الاستقامة كلمة جامعة ، آخذة بمجامع الدين ، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق ، والوفاء بالعهد ، والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات». ويقول ابن القيم : «أعظم الكرامة لزوم الاستقامة» ، لأن من لازم الاستقامة فلم يخدع ولم ينافق ، يكون كريما على نفسه غاية الكرامة ، إذ لم يقبل لها أن تنحط إلى درك التلون أو التذبذب ، ويكون كريما على ربه ، لأن الله جل جلاله يختص برحمته ونعمته ومرضاته أولئك الذين يخلصون أعمالهم وأقوالهم وأحوالهم لوجه ربهم سبحانه.

ولا عجب في ذلك ، لأن فضيلة الاستقامة هي التي تجعل صاحبها على الدوام يحاسب نفسه ، ويراقب ربّه ، ويلتزم صراطه ، ويعمر سلوكه وتصرفه بخلوص النية لله ، وصدق التوجه إلى الله ، فتكون استقامته نورا يسعى بين يديه فيهديه الطريق ، وروحا يضيء جوانب الانسان المستقيم ويصرّفه التصريف القويم ، ومن هنا قال الهروي : «الاستقامة روح تحيا به الأحوال».

١٦٥

وأساس الاستقامة في الاسلام ـ كما يصورها القرآن المجيد ـ هو الاهتداء إلى طريق الله سبحانه ، والايمان به موجدا وربا ، وإفراده بالعبودية له ، والعبادة لوجهه ، وعدم الانصراف إلى سواه ، لأنه : لا إله إلا الله ، هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، ومهما تعددت الطرق ، أو تكاثرت السبل ، أو ضل في الكون ضالون ، فافتروا آلهة أو معبودات ، من إنس أو جن أو نبات أو جماد ، فالمؤمن المستقيم ثابت على طريق الوحدانية ، دائم في إخلاص العبادة لربه ، ملازم طريقه وحده ، لا يحيد عنه ، وقد أشار القرآن الحكيم إلى ذلك حين قال : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وحين قال : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). وحين قال : (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). وحين قال : (إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وهذا هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول : «الاستقامة ألا تشرك بالله شيئا». وقد قال العلماء إنه يريد بذلك الاستقامة على محض التوحيد ، لأن من استقام على صدق التوحيد لله استوى على الصراط المستقيم في أعماله وأقواله ، وفي أفكاره وخواطره «صبغة الله (١) ، ومن أحسن من الله صبغة ، ونحن له عابدون».

وفي هذا الفلك يدور قول ابن تيمية عن أهل الاستقامة «استقاموا على محبة الله وعبوديته ، فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة».

* * *

وإذا كانت الاستقامة اعتدالا واستواء ، وحفظا للحقوق ، والتزاما

__________________

(١) صبغة الله : المراد طريق الله وشريعته المطهرة.

١٦٦

بالواجبات ، وتقيدا بالحدود ، فإن ضد الاستقامة يكون هو الطغيان ، وقد استدلوا على ذلك بقول الله عز من قائل : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). وكلمة (فَاسْتَقِمْ) في هذه الآية الكريمة كلمة جامعة ، تشمل العقيدة والعمل والقول والسلوك ، فالله جل جلاله يطلب إلى نبيه صلوات الله وسلامه عليه ، ومن ورائه أتباعه ، أن يكونوا معتدلين مستقيمين على الصراط ، بحيث لا يميل الانسان إلى أحد الجانبين قيد شعرة ، ولا شك أن هذا الاعتدال ليس بالأمر السهل أو اليسير ، بل يحتاج إلى مجاهدة ومعاناة ، ولذلك ذكر بعض المفسرين للآية أن تحقيق الاستقامة المطلوبة هنا أمر صعب ، والبقاء عليه مع العمل بمقتضاه أشدّ وأصعب ، وهذا هو عبد الله بن عباس رضوان الله عليهما يقول : «ما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية أشد ولا أشق عليه من هذه الآية» ، ولعل هذا يذكّرنا بقول الرسول عليه الصلاة والسّلام : «شيبتني هود وأخواتها».

ويروي بعض الصالحين أنه رأى النبي في النوم ، فقال : يا رسول الله ، روي عنك أنك قلت : شيبتني هود وأخواتها. قال النبي : نعم. فقال الرجل : وبأي آية؟. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «فاستقم كما أمرت» ...

* *

وإذا كان تحقيق الاستقامة المثالية أمرا صعبا وشاقا ، فإن هذا لا يسوّغ التقاعس عن طلب الاستقامة ، بل واجب الانسان المؤمن أن يتلمس إليها الوسائل ، وأن يتابع نحوها الخطوات ، وأن يستعين على ذلك بالطاعات والقربات ، وقد أشار إلى ذلك رسول الله صلوات الله وسلامه عليه حين قال :

«استقيموا ولا تحصوا : واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ، ولا يحافظ على الوضوء إلا مسلم». ونفي الاحصاء في هذا الحديث يراد به عدم الاطاقة لتحقيق كمال الاستقامة عند كل الناس ، فلا أقل من السعي نحوها ، ومحاولة القرب

١٦٧

منها ، والاستعانة على تحقيقها ـ كما ينبغي ـ بما يوصّل إليها من عبادة وتقوى.

ولقد فسر الإمام جعفر الصادق كلمة (فَاسْتَقِمْ) في الآية بقوله : «افتقر إلى الله بصحة العزم» يعني الوثوق به والتوكل عليه ، والالتجاء إليه. وإذا وجدت العزيمة في نفس الانسان ، وتبعتها مواصلة الخطوات على طريق الحق والعدل ، كان بلوغ القصد ميسورا بفضل الله وعونه ، ولذلك قال الامام علي رضي الله عنه : «من سلك الطريق الواضح ورد الماء ، ومن خالف وقع في التّيه». والظاهر أن الامام رضوان الله عليه قد قصد بالطريق الواضح الصراط المستقيم الذي ذكره الله عزوجل في كتابه مرات كثيرة ، والذي جعله الله سبحانه مطلبا للمؤمنين ، يرجون ربهم في تحقيقه لهم ، فيدعونه بذلك في كل ركعة من صلواتهم حينما يقولون : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

* *

وإذا كان الانسان محتاجا ـ دون شك ـ إلى دليل يدله على طريق الاستقامة وإلى رائد يروده على ذلك الطريق ، فإن خير دليل وأصدق رائد في هذا المجال هو كتاب الله الذي يقول في شأنه رب العزة : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) فالآية تخبرنا ـ وهي قول أصدق القائلين ـ بأن كتاب الله تعالى يهدي إلى الحالة التي هي أقوم الحالات ، وإلى الطريقة التي هي أعدل الطرق ، وهي طريقة الايمان بالله ، وشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، والايمان برسله ، والعمل بطاعته.

وقد أكّد الله تبارك وتعالى لعباده هذا المعنى حين قال عن كتابه : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ). فهذا القرآن بيان وهداية للناس جميعا ، إذا أرادوا الهداية والرشاد ، وإنما ينتفع بهداية القرآن الكريم

١٦٨

من شاء من هؤلاء أن يستقيم : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ).

وما دام تحقيق الاستقامة المثالية أمرا شاقا متعبا صعبا ، فلا بد أن يكون الثواب عليه جزيلا عظيما ، وقد تكفل القرآن الكريم بتجلية هذا الثواب الجليل حينما قال في سورة فصلت : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ، ثُمَّ اسْتَقامُوا ، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (١) ، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ : إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

ولنلاحظ معا أن الآيات الكريمة قد جمعت لنا بين مفتاح الطريق إلى الاستقامة ، والواجب على أهل الاستقامة ، والثواب العظيم الذي ينتظره أهل الاستقامة في الدنيا وفي الآخرة ، فهي قد دلتنا على أن مفتاح باب الاستقامة هو الايمان بالله ، والدخول في الاسلام ، والعمل بأوامره وتعاليمه ، والدعوة إليه ، فذكرت أن أهل الاستقامة هم الذين قالوا : ربنا الله ، وهم الذين التزموا الصراط المستقيم ، وهم الذين دعوا إلى صراط ربهم ، وهم الذين عملوا الصالحات ، وهم الذين اعتزوا بأنهم من عباد الله المسلمين.

وذكرت لنا الآية ثواب هذه الفضائل التي يتحلى بها المستقيمون ، وهذا الثواب هو أن الملائكة تتنزل عليهم لتخبرهم بأن شأنهم ألا يخافوا ولا يحزنوا ، ولتخبرهم ببشرى دخولهم الجنة ، ولتخبرهم بالولاية الالهية لهم في الدنيا والآخرة ، ولتخبرهم بأن لهم من الله ما تشتهي أنفسهم وما يدّعون في جنات النعيم.

ولا ريب في أن هذا حث قوي وتحريض بليغ على الاتجاه إلى فضيلة الاستقامة والاستمساك بها.

__________________

(١) ما تدعون : أي تريدون أو تطلبون. ونزلا : أي منزلا وضيافة.

١٦٩

ولقد ذكر بعض المفسرين عند تعرضه لتفسير الآيات السابقة أن كمال الانسان في هذه الحياة يتحقق بأمرين : أولهما العلم الصحيح ، والآخر العمل الصالح ، ورأس العلم الصحيح هو معرفة الله تعالى ، ورأس العمل الصالح هو الاستقامة ، أي الدوام على حالة «الوسطية» التي لا إفراط فيها ولا تفريط.

ولقد جاء في بعض الروايات أن هذه الآيات نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، لأنه وقع في أنواع شديدة من البلاء والمحنة ، ولم يتغير ألبتة عن دينه ، فهو الذي قال : ربنا الله ، وبقي مستقيما لم يتغير لسبب من الأسباب ، وإذا صحت هذه الرواية فإنها لا تمنع أن تكون الآيات شاملة كل من استقام على الإيمان ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول العلماء.

* * *

ويقول القرآن الكريم في سورة الجن : (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) (١). أي لو اعتدلوا وساروا على الطريقة المثلى لأسقيناهم الغيث الكثير ، وهذا السقي كناية عن الإنعام عليهم.

وكذلك يقول : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ). ويعود القرآن بعد ما ذكره في سورة هود من مطالبة النبي وأتباعه بالاستقامة ، فيقول في سورة الشورى : (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ، اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ ، اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ).

ولقد استجاب سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل استجابة لهذا الأمر الإلهي ، فكان رسول الله هو المثل الأعلى في الاستقامة ، استقام في حسه ونفسه ، وفي قوله وعمله ، وفي ظاهره وباطنه ، وفي أمره كله. وبعد أن

__________________

(١) غدقا : كثيرا غزيرا.

١٧٠

ضرب القدوة السامية في الاستقامة لأتباعه ، أخذ يحثهم على الاقتداء به ، والسير على سنته ، فقد روت السنة أن سفيان بن عبد الله قال : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. فقال له : قل آمنت بالله ثم استقم.

وقد ذكر العلماء للاستقامة في هذا الحديث معنيين : أولهما المداومة على ترك الشّرك ، والآخر المداومة على الطاعة ، ولو تدبرنا المعنيين لوجدناهما يكمل أحدهما الآخر ويقتضيه ، لأن من داوم على ترك الشرك فقد داوم على الإيمان بالله الواحد الأحد ، ومن أخلص في إيمانه بالله الواحد الأحد داوم على طاعته ، فالاستقامة هنا صفة بعضها سلبي وبعضها إيجابي ، فالسلبي فيها هو البعد عن الاشراك ، والإيجابي منها هو استمرار طاعة الله عزوجل.

* * *

ولقد تكلم الصوفية عن الاستقامة ، ومما قالوه فيها ما روي عن حاتم الأصم : «من أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلب في رضا الله ، أولها الثقة بالله ، ثم التوكل ، ثم الإخلاص ، ثم المعرفة ، والأشياء كلها تتم بالمعرفة».

فليمض المؤمن المستقيم في طريقه ، جاعلا نصب عينيه على الدوام قول ربه عزوجل : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها : لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ : ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). صدق الله العظيم.

١٧١

الخشوع لله

تكرر ذكر مادة «الخشوع» في كتاب الله عزوجل أكثر من خمس عشرة مرة ؛ ومعنى الخشوع في الأصل هو الانخفاض والسكون والتطامن ، وكل ساكن خاضع فهو خاشع ، ويقال للأرض المتهشمة النبات التي يبست ولم تمطر : إنها خاشعة ، وعلى هذا جاء قول القرآن الكريم : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ).

ويقال : خشع الرجل يخشع خشوعا ، إذا رمى ببصره إلى الأرض ، واختشع : إذا طأطأ رأسه وتواضع ، وخشوع الصوت خفضه وغضه ، وقيل إن الخشوع قريب من الخضوع ، إلا أن الخضوع يكون في البدن ، والخشوع يكون في البدن والصوت والبصر ، والخشوع أيضا هو الضراعة ، ولكن أكثر استعمال الخشوع فيما يوجد على الجوارح ، وأكثر استعمال الضراعة فيما يوجد في القلب ، ولذلك قيل فيما يروى : «إذا ضرع القلب خشعت الجوارح». وقيل إن التخشع هو تكلف الخشوع.

هكذا تحدث أهل اللغة عن «الخشوع». وأما العلماء والفقهاء وأهل الأخلاق فقد قالوا إن الخشوع هو هيئة في النفس يظهر منها على الجوارح سكون وتواضع ، ولذلك قال قتادة : الخشوع في القلب ، وقيل : إن الخشوع هو الخوف وغض البصر في الصلاة ، كما قيل إنه انقياد المؤمن للحق ، فإذا ذكّره مذكّر بالحق تقبله ، وانقاد إليه ، وخضع له ؛ ولعل هذا قريب في معناه مما أشار إليه الجنيد حين قال : «الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب».

ومن هذا نفهم أن موطن الخشوع الأساسي هو القلب ، وتظهر آثاره عادة

١٧٢

على الأعضاء ، ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمن عبث بلحيته في صلاته : «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه». ولقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يطأطىء رقبته في الصلاة تخشعا ، فقال له : «يا صاحب الرقبة ، ارفع رقبتك ، ليس الخشوع في الرقاب». وزاد حذيفة بن اليمان هذه التفرقة بين الخشوع والتخشع إيضاحا حين قال : «إياكم وخشوع النفاق ، وهو أن ترى الجسد خاشعا ، والقلب ليس بخاشع».

وكأن معنى هذا أنه لا ارتباط بين الخشوع والتماوت في الحركة ، فقد يكون الإنسان مقبلا على عمله ، جادّا فيه ، سريع الخطوة ، بادي النشاط ، ومع ذلك يظل قلبه خاشعا خاضعا ، منقادا لله ، متقيدا بالحق ، ولقد رأت الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر رضوان الله عليهما شبابا يتماوتون في مشيتهم ، ويقال عنهم إنهم نسّاك ، فقالت : «كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع ، وإذا قال أسمع ، وإذا ضرب أوجع ، وإذا أطعم أشبع ، وكان هو الناسك حقا». ويؤكد القرطبي هذا حين يورد في تفسيره هذا التعبير عن عمر : «كان عمر ناسكا صدقا ، وخاشعا حقا».

ويروي لنا سفيان الثوري عن نفسه ما يلي : «سألت الأعمش عن الخشوع ، فقال : يا ثوري ، أنت تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع؟ سألت إبراهيم النخعي عن الخشوع فقال لي : يا أعيمش ، تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع؟ ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطؤ الرأس ، لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء ، وتخشع لله في كل فرض افترضه عليك».

وبهذا ندرك أن الخاشع الصادق لا بد أن يكون صاحب إيمان عميق ويقين راسخ ، غير متأثر بالأهواء أو الرغبات ، بل الحقّ طلبته ، والله الحق غايته ، فلا عجب بعد هذا إذا جعل القرآن الكريم صفة الخشوع في منزلة التقدير والتوقير ، فإنه بلا ريب من مكارم الأخلاق.

* *

١٧٣

والعلماء الخبراء بطبائع النفوس ومنازع الخصال يجعلون الخشوع درجات ، فالدرجة الأولى منه هي خشوع الامتثال لأمر الله تعالى ، والافتقار إلى هداه ، والرضا بقضائه ، مع الاستسلام لأحكامه وتقبلها بالتنفيذ ، مع استحضار جلال الله وعظمته ومراقبته.

والدرجة التي تليها هي خشوع الهيبة والخوف من وقوع الإنسان في نقص أو ذنب أو تفريط ، أو قلة توفيق في بلوغ المأمول من رضا الله سبحانه.

والدرجة الثالثة هي تصفية النفس من شوائب الرياء ، مع إخلاص العمل كله لله ، والإقرار بالفضل على كل حال لله ، فإذا أفلح المؤمن في تحقيق ذلك كاملا بلغ من الخشوع غايته ومنتهاه.

* *

ونجلس إلى مائدة القرآن ليحدّثنا عن الخشوع والخاشعين ، فنجده يخبرنا بأن الخشوع صفة أساسية من صفات المسلم المؤمن ، فذلك حيث يقول في سورة الأحزاب : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ، وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ، وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ ، وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ ، وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ ، وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ، وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ ، أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً). ويراد بالخاشعين في الآية ـ كما ذكر المفسرون ـ أولئك الذين يتواضعون لله تعالى بقلوبهم وجوارحهم.

ويعود القرآن الكريم إلى الحديث عن الخشوع في لون من التعريض بالذين يفرّطون في أمره ، أو يقصّرون في شأنه ، فيقول في سورة الحديد : «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ

١٧٤

فاسِقُونَ). ولقد قيل في سبب نزول هذه الآية الكريمة أنها نزلت حينما نال المسلمون رزقا ونعمة ، ففتر بعضهم عما كان عليه ، ويروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال : «ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين». ويا لها من تربية سامية عالية صارمة ، تقوم على أساس القول المأثور : «حسنات الأبرار سيئات المقربين». وكذلك يروى أن عبد الله بن عباس قال في شأن هذه الآية : «إن الله استبطأ قلوب المؤمنين ، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن».

وحينما أمر الله عباده بأمرين جليلين عظيمين هما الصبر والصلاة ، أتبع أمره بالإشارة إلى أن التخلق بهما منزلة عالية ومهمة شاقة ، لا تتيسر إلا للمتخلقين بخلق الخشوع الصادقين فيه ، فقال في سورة البقرة : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ).

والمراد بالخاشعين هنا ـ والله أعلم بمراده ـ هم المتواضعون لله الخائفون منه ، فإنهم ـ كما في «مجمع البيان» للمفسّر الطبرسي ـ قد وطّنوا أنفسهم على الصبر وإقام الصلاة ، وقال مجاهد : أراد بالخاشعين المؤمنين ، فإنهم إذا علموا ما يحصل لهم من الثواب بفعل الصبر والصلاة لم يثقل عليهم ذلك ، كما أن الإنسان يتحمل مرارة الدواء لما يرجو به من نيل الشفاء.

وهذا هو «تفسير المنار» يتعرض للجملة القرآنية الكريمة : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) فيقول : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) أي لثقيلة شديدة الوقع ، كقوله : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) إلا على المخبتين المتطامنة قلوبهم وجوارحهم لله تعالى ، فهؤلاء هم الذين يستفيدون بالصلاة والصبر كلّ الخلائق الحسنة ، لما تعطيه الصلاة من مراقبة الله تعالى ، كما قال عزوجل : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ، إِلَّا الْمُصَلِّينَ). فمن خواص الصلاة الصبر ونفي الجزع ، ومن خواصها النهي عن الفحشاء والمنكر ، ومن خواصها الجود والسخاء ، فالمصلّي الحقيقي

١٧٥

هو البارّ الحقيقي ، الذي لا يترك الحقّ لأجل شهوة ، ولا لما يعرض له في معاملاته مع الخلق من خوف وخشية.

هذا أثر صلاة الخاشعين بالإجمال ، ولذلك قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ). ثم وصف الخاشعين وصفا يناسب المقام ، ويظهر وجه الاستعانة به فقال : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، أي الذين يتوقعون لقاء الله تعالى يوم الحساب والجزاء ، وأنهم إليه راجعون بعد البعث ، لا مرجع لهم إلى غيره».

ومن المواطن التي تستلفت الأنظار وتثير الاعتبار أن القرآن جعل الخشوع في الصلاة أول صفة يذكرها لعباده المؤمنين المفلحين ، ثم يذكر بعدها جملة صفات ذات شأن ومكانة ، فيقول : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) أي قد فازوا بمأمولهم عند ربهم ، لأنهم خائفون متذللون لله ، مخلصون في الاتجاه إلى حماه ، والخشوع في الصلاة يتحقق ـ كما أشار ابن كثير ـ لمن فرغ قلبه لها ، واشتغل بها عما عداها ، وآثرها على غيرها ، وحينئذ تكون له راحة وقرة عين ، والرسول عليه الصلاة والسّلام يقول : «وجعلت قرة عيني في الصلاة». وكان إذا اشتد به أمر يقول لبلال مشيرا إلى الصلاة : «أرحنا بها يا بلال».

ولقد اختلف العلماء في تحديد الخشوع المطلوب في الصلاة : أهو الشعور الداخلي القلبي المسيطر ، المولّد للخوف والرهبة والهيبة من الله ، أم هو السكون الخارجي الذي يظهر في تطامن الأعضاء وانقطاع حركتها أثناء الصلاة؟. والصواب أن الخشوع يشمل الأمرين معا ، فهو فضيلة منبثقة من داخل الإنسان ، تتمثل في آثار تظهر على الأعضاء ، ولذلك يقول المفسر الرازي : «واختلفوا في الخشوع ، فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف

١٧٦

والرهبة ، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات ، ومنهم من جمع بين الأمرين ، وهو الأولى ، فالخاشع في صلاته لا بد أن يحصل له مما يتعلق بالقلب من الأفعال نهاية الخضوع والتذلل للمعبود ، ومن المتروك أن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سوى التعظيم ، ومما يتعلق بالجوارح أن يكون ساكنا مطرقا ناظرا إلى موضع سجوده ، ومن المتروك ألا يتلفت يمينا ولا شمالا».

ولقد عني الفقهاء والمفسرون بمسألة الخشوع في الصلاة ، لأن الصلاة مناجاة لله ، وإقبال على حماه ، ولأنها أهم عبادة في دين الله. ولذلك أطالوا الحديث عن وجوب التحلي بفضيلة الخشوع في الصلاة ، واستدلوا على هذا الواجب بأدلة كثيرة منها ، أن الله تعالى يقول : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي). والغفلة تناقض الذكر ، فمن غفل في جميع صلاته لا يكون قد أقام الصلاة لذكر الله تعالى. ومنها أن الله تعالى يقول : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) ، وظاهر هذا النهي هو التحريم ، ومنها أيضا أن الله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) ، والغافل غير الخاشع لن يعرف معنى ما يقوله في الصلاة ، لأنه منصرف عنه مشغول بسواه.

ومنها أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«إنما الخشوع لمن تمسكن وتواضع». ولا يتحقق التمسكن والتواضع مع الغفلة. ومنها أن الرسول يقول : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا». وصلاة الغافل لن تمنعه عن الفحشاء والمنكر. ومنها أيضا أن النبي قال : «كم من قائم حظّه من قيامه التعب والنّصب». وهو يعني بذلك الغافل في الصلاة. ومنها أنه قال : «ليس لعبد من صلاته إلا ما عقل» والغافل لا يعقل صلاته.

ونرى صاحب «مفاتيح الغيب» يد لي بدلوه في هذا الموضوع ثم يعقب قائلا : «ولا شك أن المقصود من القراءة والأذكار : الحمد والثناء والتضرع والدعاء ، والمخاطب هو الله تعالى ، فإذا كان القلب محجوبا بحجاب أخلاق القرآن (١٢)

١٧٧

الغفلة ، وكان غافلا عن جلال الله وكبريائه ، ثم إن لسانه يتحرك بحكم العادة ، فما أبعد ذلك عن القبول.

وبالجملة فكلّ عاقل يقطع بأن مشاهدة الخواص العظيمة ليس أعمالها الظاهرة ، إلا أن ينضاف إليها مقصود هذه المناجاة ، فدلت هذه الاعتبارات على أن الصلة لا بد فيها من الحضور».

وكذلك تحدث الفقهاء والعلماء عن مصير الصلاة التي تؤدّى بلا خشوع ، ومن بينهم ابن القيم الذي ذكر أن المرء لا يكون له من الثواب على صلاته إلا بقدر ما عقل منها ، وخشع لله فيها ، لأن ابن عباس يقول : «ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها» ولأن الله جل جلاله يقول : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ). ومعنى هذا أن من لم يخشع لم يكن من المفلحين ، ولو كان له ثواب عليها لأفلح.

وأما الاعتداد بها في الدنيا من ناحية سقوط الفرض عن صاحبها فقالوا : إن غلب عليها الخشوع وتعقلها اعتد بها إجماعا ، وتكون النوافل والأذكار بعدها جابرة لما فيها من نقص ، وإن غلب عليها عدم الخشوع فيها وعدم تعقلها ، فإن فريقا من الفقهاء يوجب إعادتها لأنها صلاة لا يثاب عليها ، ولم يضمن له فيها النجاح أو الفلاح ، فلم تبرأ ذمته منها.

وهذا يذكّرنا بقول الله سبحانه : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أي لا يخشعون فيها. ورضوان الله على حذيفة بن اليمان حين قال : «أول ما تفقدون من دينكم الخشوع ، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة ، وربّ مصلّ لا خير فيه ، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعا». ولعل السر في هذا القول هو أن الخشوع أمر باطني لا يراه الناس ، فما أسرع المضيّعين إلى إضاعته ، وأما الصلاة فعبادة بادية للعيان ، فقد يأتيها أناس رياء أو اتقاء ، بلا خشوع ولا اطمئنان.

* *

والقرآن الكريم يجعل الخشوع صفة المؤمنين المتدبرين المميزين بين الحق

١٧٨

والباطل ، فيقول في سورة الإسراء : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ، وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً ، وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً). أي يزيدهم القرآن خشوعا ، لأنه يزيدهم علما ويقينا بالله تعالى.

كما يجعل القرآن الكريم الخشوع من أخلاق المؤمنين الذين يعرفون الحق فيتبعونه ، ولا يرضون به بديلا ، فيقول في سورة آل عمران : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً : أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

كما يخبرنا كتاب الله العزيز أن الخشوع من أخلاق الأنبياء وآلهم ، فيقول في سورة الأنبياء : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ : رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ ، وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ، وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ). وكأن القرآن يريد أن يقول إن الخشوع ثمرته تحقيق المراد ونيل المأمول ، فهو يشعرنا بأن هؤلاء الأكرمين قد نالوا ما نالوه بفضل هذا الخلق العظيم : خلق الخشوع.

* * *

وإذا كان القرآن المجيد قد حدثنا هذا الحديث الواعظ عن خلق الخشوع الحميد ، فإنه إلى جوار ذلك قد حدثنا عن لون من الخشوع تأبى عدالة الله إلا أن تلجىء إليه الأشرار إلجاء ، ليكون إشعارا بذلهم وهوانهم على الله جل جلاله ، فيقول عن المشركين مثلا في سورة القلم : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ، خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ). أي يوم يشتد الأمر ، ويصعب الخطب ، لأن كشف الساق كناية عن شدة الهول ، ويدعى هؤلاء المشركون إلى السجود ، فلا يستطيعون لزوال القدرة منهم ، أو لفوات وقت السجود ، ويبدو عليهم خشوع وخضوع يظهران في أبصارهم ، وتلحقهم ذلة وهوان.

١٧٩

ويقول في سورة القمر : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ ، خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ (١) كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ). أي أعرض عن هؤلاء الكافرين الذين لا يفيد فيهم الإنذار ، فإن الداعي سيدعوهم يوم القيامة إلى شيء فظيع لم تعهد مثله النفوس ، وسيخرجون من قبورهم ذليلة أبصارهم خاشعة.

ويقول في سورة النازعات : (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ ، أَبْصارُها خاشِعَةٌ). أي ان قلوب هؤلاء الكافرين ستكون شديدة الاضطراب من الوجيف ، وأبصارهم ستكون ذليلة من الخوف ، وأضاف الأبصار إلى ضمير القلوب في قوله : (أَبْصارُها) لأنه أراد من وجيف القلوب شدة الخوف الواقع بأصحابها ، فهي كناية عنهم.

ويقول في سورة الغاشية : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ، تَصْلى ناراً حامِيَةً). أي هل جاءك خبر الداهية التي تغشى الناس؟ سترى في يومها وجوه الكافرين ذليلة ، تتعب حين تجر سلاسلها ، وتخوض نارها ، فهي تستقر في نار متناهية الحر.

ولنلاحظ أن أغلب استعمالات القرآن للخشوع الحسي الدال على الذل والهوان ، والخوف والحسرة ، قد نسبها إلى الكافرين والمجرمين والفاسقين.

وهناك خشوع حسي مادي آخر تحدث عنه القرآن الكريم ، ليصوّر به عظمة الله وجلاله ، فيقول في سورة طه : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً). أي انخفضت الأصوات لمهابة الله جل جلاله ، فلا تسمع إلا صوتا خفيا ، ويقول في سورة الحشر : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). وإنما يكون هذا التشقق تمثيلا وتخييلا لجلال القرآن وعظمته.

هذا ، ولقد قال سهل : «من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان». وذلك

__________________

(١) الأجداث : جمع جدث ، وهي القبور.

١٨٠