مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

والمراد ب «آيات الله» هي جميع الآيات في عالم الوجود والتشريع.

(فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧)

اسلوب المستكبرين في جوابهم لإبراهيم : والآن علينا أن نعرف ماذا قال هؤلاء القوم الضالون لإبراهيم عليه‌السلام ردّاً على أدلته الثّلاثة في مجال التوحيد والنبوة والمعاد؟!

إنّهم ـ قطعاً ـ لم يكن لديهم جواب منطقي وكجميع الأقوياء المستكبرين فقد توسلوا بقدراتهم الشيطانية وأصدروا أمراً بقتله ، حيث يصرّح بذلك القرآن الكريم فيقول : (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ).

وأخيراً رُجح الرأى الأوّل ، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ أشدّ حالات الإعدام هو الإحراق بالنار.

وفي هذه الآية الكريمة لم يرد كلام عن كيفية إحراق إبراهيم عليه‌السلام بالنار سوى هذا المقدار الذي استكملت به الآية الكريمة ، وهو (فَأَنجهُ اللهُ مِنَ النَّارِ).

غير أنّ تفصيل ما جرى عليه من الإحراق ورد في سورة الأنبياء الآيات (٦٨ ـ ٧٠) وقد بيّنا ذلك هناك ، فلا بأس بمراجعته.

ويضيف القرآن في الختام : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

إنّ ابراهيم عليه‌السلام نجّي من النار بصورة خارقة للعادة وبلطف الله سبحانه ، غير أنّه لم يترك أهدافه .. بل نهض بالأمر وازداد همّة وأعطى لأهدافه حرارة أكثر.

ثم توجه إبراهيم إلى المشركين ، (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى

٥٤١

الْحَيَوةِ الدُّنْيَا). ولكن هذه المودة والمحبة تتلاشى في الآخرة ، (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَيكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نصِرِينَ).

إنّ عبادة الصنم أو الوثن كانت رمزاً للوحدة لكل قوم ولكل قبيلة ، كما تربط بينهم وبين اسلافهم. ثم بعد هذا كلّه فإنّ سراة الكفار كانوا يدعون أتباعهم إلى عبادة الأوثان ، وكان هذا الأمر بمثابة «حلقة الاتصال» بين السراة والأتباع.

ولكن هذه العلائق والوشائج والإرتباطات الخاوية تتقطع جميعها يوم القيامة.

وفي الآية التي بعد تلك الآية إشارة إلى إيمان لوط وهجرة إبراهيم ، إذ تقول : (فَامَنَ لَهُ لُوطٌ).

«لوط» نفسه من الأنبياء العظام ، وكانت له مع إبراهيم علاقة قربى «يقال إنّه كان ابن أخت ابراهيم عليه‌السلام» وحيث إنّ اتّباع شخص عظيم ـ لإبراهيم ـ بمنزلة أفراد امة كاملة فقد تحدث سبحانه ـ خاصةً ـ عن إيمان «لوط» وشخصيته الكبرى المعاصرة لإبراهيم عليه‌السلام ، ليتّضح أنّه إذ لم يؤمن الآخرون ، فإنّ ذلك ليس مهماً.

ثم تضيف الآية عن هجرة إبراهيم عليه‌السلام ، فتقول : (وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبّى إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

فلذلك تحرك ابراهيم عليه‌السلام وزوجه سارة ـ بمعيّة لوط ـ من بابل إلى أرض الشام مهد الأنبياء والتوحيد ، ليستطيع أن يكتسب جماعة هناك ويوسع دعوة التوحيد.

وفي آخر آية من هذا المقطع يقع الكلام على المواهب الأربع التي منحها الله لإبراهيم عليه‌السلام بعد الهجرة العظيمة :

الموهبة الاولى : الأبناء الصالحون ، من أمثال إسحاق ويعقوب ، ليسرجوا مصباح الإيمان والنبوة في بيته وأسرته ويحافظوا عليه ، إذ يقول القرآن : (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحقَ وَيَعْقُوبَ). وهما نبيّان كبيران واصل كل منهما السير على منهاج إبراهيم محطم الأصنام.

الموهبة الثانية : (وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتبَ).

الموهبة الثالثة : (وَءَاتَيْنهُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا). فما هو هذا الأجر الذي لم يوجهه القرآن؟ لعلّه إشارة إلى امور مختلفة مثل الاسم الحسن ، ولسان الصدق والثناء بين جميع الامم ، لأنّ الامم كلها تحترم إبراهيم عليه‌السلام على أنّه نبي عظيم الشأن ، ويفتخرون بوجوده ويسمونه «شيخ

٥٤٢

الأنبياء».

الموهبة الرابعة ، هي : (وَإِنَّهُ فِى الْأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). وهكذا تشكّل هذه المواهب مجموعة كاملة من المفاخر.

(وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) (٣٠)

المنحرفون جنسياً : بعد بيان جانب مما جرى لإبراهيم عليه‌السلام يتحدث القرآن عن قسم من قصة حياة النبي المعاصر لإبراهيم «لوط عليه‌السلام» فيقول : (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ). «الفاحشة» : مشتقة من مادة «فَحَشَ» وهي في الأصل تعني كل فعل أو كلام سيء للغاية ، والمراد بها هنا الانحراف الجنسي. (اللواط).

لوط عليه‌السلام هذا النبي العظيم ، كشف أخيراً ما في نفسه وقال لقومه : (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ). أفتريدون أن تقطعوا النسل (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ).

ولا ترعوون عن الأعمال المخزية في مجالسكم العامة (وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ).

«النادي» : مشتق من «النداء» وهو يعني المجلس العام ، كما يأتي أحياناً بمعنى مكان التنزّه ، لأنّ الأفراد هناك ينادي بعضهم بعضاً وترتفع أصواتهم.

ورد في التواريخ : إنّهم كانوا يتسابون بكلمات الفحش والإبتذال ، أو يضرب أحدهم الأخر على ظهره ، أو يلعبون القمار ، ويستعملون أنواع الآلات الموسيقية ، ويكشفون عوراتهم في مجتمعهم ويغدون عراة ... الخ (١).

والآن فلنلاحظ ماذا كان جواب هؤلاء القوم الضالين المنحرفين ، على كلمات النبي لوط عليه‌السلام المنطقية. يقول القرآن : (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِن كُنتَ مِنَ الصدِقِينَ).

وهنا لم يكن للوط عليه‌السلام بدّ إلّاأن يلتفت إلى الله بقلب حزين مهموم ... و (قَالَ رَبّ انصُرْنِى

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

٥٤٣

عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ). القوم المنحرفين ، المتمادين في الأرض فساداً ، والذين تركوا تقواهم وأخلاقهم الإنسانية وألقوا العفة والطهارة خلف ظهورهم ، ومزجوا عبادة الأوثان بفسد الأخلاق والظلم ، وهددوا نسل الإنسان بالفناء والزوال.

(وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (٣١) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣٥)

وهذه هي عاقبة المنحرفين : لقد استجيب دعاء لوط أخيراً ، وصدر الأمر من الله تعالى بالعقاب الصارم والشديد لهؤلاء القوم المنحرفين والمفسدين ، فمرّ الملائكة المأمورون بعذاب قوم لوط بالأرض التي فيها إبراهيم عليه‌السلام لأداء رسالة اخرى قبل أن ينزلوا العقاب بقوم لوط ، وهذه الرسالة التي سبقت العذاب ، هي بشارتهم لإبراهيم عليه‌السلام بالولد : «بشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب».

والآيات المتقدمة تذكر أوّلاً قصة مرورهم بإبراهيم عليه‌السلام فتقول : (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ).

والتعبيرب «هذه القرية» يدل على أنّ مُدن قوم لوط كانت قريبة من أرض إبراهيم عليه‌السلام.

والتعبير ب «الظالمين» هو لأجل كونهم يظلمون أنفسهم باتخاذهم سبيل الشرك والفساد الأخلاقي وعدم العفة ، وظلمهم الآخرين حتى شمل العابرين والقوافل التي كانت تمرّ على طريقهم.

فلمّا سمع «إبراهيم» هذا النبأ حزن على لوط النبي العظيم و (قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا).

٥٤٤

فما عسى أن تكون عاقبته؟

إلّا أنّهم أجابوه على الفور : (قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا) فلا تحزن عليه ، لأنّنا لا نحرق «الأحضر واليابس» معاً ، وخطتنا دقيقة ومحسوبة تماماً ... ثم أضافوا : (لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ).

إنتهى كلام الملائكة مع إبراهيم هنا ، وتوجهوا إلى ديار لوط عليه‌السلام وقومه ، يقول القرآن في هذا الشأن : (وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا).

فقد جاؤوا إليه بهيئة فتيان ذي وجوه مليحة ، ومجيء أمثال هؤلاء الضيوف في مثل هذا المحيط الملوّث ، ربّما كان يجرّ على لوط الوبال.

«سيء» : مشتقة من «ساء» ومعناه سوء الحال ؛ و «الذرع» : معناه «القلب» «الخلق» ، فعلى هذا يكون معنى (ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) أي ضاق قلبه وانزعج.

إلّا أنّ الضيوف حين أدركوا عدم إرتياحه كشفوا عن «هويّتهم» وعرفوا أنفسهم ورفعوا عنه الحزن : (وَقَالُوا لَاتَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ).

وبعد هذا ، ولكي تتضح خطة عملهم في شأن عاقبة هؤلاء القوم المنحرفين أكثر ، أضافوا : (إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).

والمراد ب «القرية» هي «سدوم» من قرى قوم لوط عليه‌السلام.

والمراد من «الرجز» هنا هو العذاب.

وهنا لم يذكر القرآن كيفية العذاب الأليم ، سوى أنّه قال : (وَلَقَدْ تَّرَكْنَا مِنْهَاءَايَةً بَيّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

إلّا أنّ في سورة هود الآية (٨٢) منها وكذلك سورة الأعراف الآية (٨٤) منها ، تفصيلاً في بيان العذاب ، وهو أنّه أصابت قراهم في البداية زلزلة شديدة فجعلت عاليها سافلها ، ثم أمطرت عليها حجارة من السماء.

* * *

٥٤٥

(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٣٧) وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (٣٩) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٠)

تنوع العذاب للظالمين : بعد بيان قصّة لوط وقومه يقع الكلام عن أقوام آخرين أمثال قوم شعيب وعاد وثمود ، وقارون وفرعون ، وقد أشير في هذه الآيات ـ محل البحث ـ إلى كل منهم إشارة موجزة «مكثفة» للإستنتاج والعبرة. في البداية تقول الآية : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا).

والتعبير بكلمة «أخاهم» ، هو إشارة إلى منتهى محبّة هؤلاء الأنبياء إلى اممهم ، وإلى عدم طلبهم السلطة ، وبالطبع فإنّ هؤلاء الأنبياء كانت لهم علاقة قرابة بقومهم أيضاً.

و «مدين» مدينة واقعة جنوب غربي الأردن ، وتدعى اليوم ب «معان» وهي في شرق خليج العقبة ، وكان شعيب عليه‌السلام وقومه يقطنون فيها.

وشعيب كسائر أنبياء الله العظام ، بدأ بالدعوة إلى الاعتقاد بالمبدأ والمعاد ، وهما أساس كل دين وطريقة : (فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْأَخِرَ).

فالإيمان بالمبدأ يكون سبباً لإحساس الإنسان بأنّ الله يراقبه مراقبةً دقيقةً بشكل دائم ويسجّل أعماله ؛ والإيمان بالمعاد يذكّر الإنسان بمحكمة عظيمة يحاسب فيها عن كل شيء وكل عمل مهما كان تافهاً ...

٥٤٦

والمبدأ الثالث هو بمثابة خطّة عمل جامعة ، تحمل بين طياتها جميع الخطط الإجتماعية ، إذ قال : (وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

وللفساد مفهوم واسع يشمل كل نقص انحراف ، وتدمير ، وظلم .. الخ .. ويقابله الصلاح والإصلاح ، ومفهومهما يشمل جميع الخطط البنّاءة.

«تعثوا» : من مادة «عثى» ومعناه إحداث الفساد أو الإفساد ، غاية ما في الأمر أنّ هذا التعبير كثيراً ما يستعمل في الموارد التي تكون فيها «مفاسد أخلاقية» ، فعلى هذا يكون ذكر كلمة «مفسدين» بعدها تأكيداً على هذا المفهوم.

إلّا أنّ تلك الجماعة بدلاً من أن تصغي لمواعظه ونصائحه بآذان القلوب ، خالفته ولم تصغ إليه «فكذبوه».

وكان هذا التكذيب سبباً في أن تصيبهم زلزلة شديدة (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جثِمِينَ). أي مكبوبين على وجوههم ميتين.

«الجاثم» : مشتق من «جثم» ومعناه الجلوس على الركبة والتوقف في مكان ما ... ولا يبعد أن يكونوا نائمين عند وقوع هذه الزلزلة الشديدة .. فهذا التعبير إشارة إلى أنّهم عند وقوع هذه الحادثة نهضوا وجثوا على الركب ، إلّاأنّ الحادثة لم تمهلهم حيث انهارت الجدران عليهم ونزلت عليهم الصاعقة التي تزامنت معها فماتوا.

أمّا الآية التي بعده فتتحدث عن «عاد» و «ثمود» قومي (هود وصالح) ، دون أن تذكر ما قاله نبيّاهما لهما ، وما ردّ عليهما قومهما المعاندون ، لأنّهما مذكوران في آيات عديدة من القرآن ، وهما أي قوم هود وقوم صالح معروفان ، فلذلك ، تقول الآية : (وَعَادًا وَثَمُودَا).

ثم تضيف الآية : (وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ) المتهدمة والتي هي على طريقكم في منطقة الحجر واليمن.

ثم تشير الآية إلى السبب الأصلي لشقائهم وسوء حظّهم ، إذ تقول : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطنُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ).

وكانت فطرتهم على فطرة الله وتقواه ، ولم يأل الأنبياء جهداً في هدايتهم ، وبذلوا قدراً كافياً من النصح والإرشاد لهم ، لكنّهم حادوا (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ).

والآية الاخرى تذكر أسماء ثلاثة من الجبابرة الذين كان كل واحد منهم بارزاً للقدرة الشيطانية ، فتقول : (وَقرُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهمنَ).

فقارون كان مظهر الثروة المقرونة بالغرور وعبادة «الذات» والأنانية والغفلة.

وفرعون كان مظهر القدرة الإستكبارية المقرونة بالشيطنة.

٥٤٧

وأمّا هامان ، فهو مثل لمن يعين الظالمين المستكبرين.

ثم يضيف القرآن : (وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَى بِالْبَيّنَاتِ) والدلائل (فَاسْتَكْبَرُوا فِى الْأَرْضِ). فاعتمد قارون على ثروته وخزائنه وعلمه ، واعتمد فرعون وهامان على جيشهما وعلى القدرةالعسكرية ، وعلى قوّة إعلامهم وتضليلهم لطبقات الناس المغفّلين الجهلة. لكن .. برغم كل ذلك لم يفلحوا (وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ).

كلمة «سابقين» تعني من يتقدم ويكون أمام الآخرين ، فمفهوم قوله تعالى : (وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ). أي إنّهم لم يستطيعوا أن يهربوا من سلطان الله برغم ما كان عندهم من إمكانات ، بل أهلكهم الله في اللحظة التي أراد ، وأرسلهم إلى ديار الفناء والذلة والخزي.

كما يذكر في الآية التي بعدها : (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ).

فإنّه يذكر في هذه الآية بحسب الترتيب أنواع عذابهم فيقول : (فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا). «الحاصب» : معناه الاعصار الذي يحمل حصى كثيرة معه.

والمقصود ب «منهم» هنا هم «عاد» قوم هود.

(وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) وهذا هو العذاب الذي عذب الله به ثمود «قوم هود» كما عذب آخرين ...

(وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ). وهذا هو عقاب قارون الثري المغرور المستكبر من بني إسرائيل.

(وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا). وهذا الكلام إشارة إلى عقاب فرعون وهامان وجنودهما.

ويبيّن في ختام الآية التأكيد على هذه الحقيقة ، وهي أنّ ما أصابهم هو بسبب أعمالهم ، (وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

أجل ، إنّ عقاب هذه الدنيا والآخرة هو تجسيد أعمالهم ، حيث يغلقون جميع طرق الإصلاح في وجوههم ، فالله أكثر عدلاً وأسمى من أن يظلم الإنسان أدنى ظلم.

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ) (٤٤)

٥٤٨

دعامة واهية كبيت العنكبوت : بيّنت الآيات السابقة ما آل إليه المشركون والمفسدون الظلمة والأنانيون من مصير وخيم وعاقبة سوداء وعذاب أليم ... وبهذه المناسبة ، ففي الآيات التي بين أيدينا ، يبيّن القرآن الكريم مثالاً بليغاً ومؤثراً يعبدون غير الله ويتخذون من دونه أولياء ، وكلّما أمعنا النظر في هذا المثال وفكرنا فيه مليّاً انقدحت في أذهاننا منه لطائف دقيقة ، يقول تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).

والجدير بالذكر ، أنّ بيت العنكبوت ونسيج خيوطه المضروب به المثل ، هو نفسه من عجائب الخلق ، والتدقيق فيه يعرف الإنسان على عظمة الخالق أكثر.

فلو دققنا النظر في بيوت العنكبوت لرأينا منظراً طريفاً مثل الشمس وأشعتها مستقرةً على قواعد هذا «البناء النسيجي» ، وبالطبع فإنّ هذا البيت مناسب للعنكبوت وكاف ، ولكنه في المجموع لا يمكن تصور بيت أوهن منه ، وهكذا بالنسبة إلى آلهة الضالين ومعبوديهم ، إذ تركوا عبادة الله والتجأوا إلى الأصنام والأحجار والأوثان.

أمّا الآية التالية ففيها تهديد لهؤلاء المشركين الغفلة الجهلة .. إذ تقول : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ) ولا يخفى على الله شركهم الظاهر ولا شركهم الخفي (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) على الإطلاق.

وإذا أمهلهم ، فليس بسبب العجز والضعف ، أو عدم العلم ، أو أنّ قدرته محدودة ، بل كل ذلك من حكمته التي توجب أن يمنحوا الفرصة الكافية لتتم الحجة البالغة لله عليهم ، فيهتدي من هو جدير بالهدى.

والآية الثالثة ـ من الآيات محل البحث ـ لعلها تشير إلى ما استشكله أعداء الإسلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الأمثلة التي ضربها الله ، وكانوا يقولون : الله الذي خلق السماوات والأرض كيف يضرب الأمثال بالعنكبوت والذباب والحشرات وما شاكلها؟

فيردّ القرآن بقوله : (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ).

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يضيف القرآن الكريم : (خَلَقَ اللهُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ). ليس في عمل الله باطل أو عبث ... فإذا التشبيه بالعنكبوت وبيته الخاوي هو أمر محسوب بدقّة ، وإذا ما إختار موجوداً صغيراً للتمثيل به فهو لبيان الحق ، وإلّا فهو خالق أعظم المجرّات والمنظومات الشمسية وغيرها.

٥٤٩

(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (٤٥)

إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر : بعد الفراغ من بيان أقسام مختلفة من قصص الامم السابقة وأنبيائهم العظام ، يتوجه الخطاب ـ على سبيل تسلية الخاطر ، وإراءة الخط الكلي أو الخطوط العامة ـ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويأمره بما ينبغي عليه أن يفعل. فيبدأ أوّلاً بقوله : (اتْلُ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتبِ) ... أي إقرأ هذه الآيات فسوف تجد فيها ما تبتغيه وتطلبه من العلم والحكمة والنصح ، ومعيار معرفة الحق من الباطل.

وبعد بيان هذا الأمر الذي يحمل طابعاً تعليمياً ، يأتي الأمر الثاني الذي هو محور أصيل للتربية فيقول تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلَوةَ).

ثم يبيّن فلسفة الصلاة الكبرى فيقول : (إِنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) (١).

طبيعة الصلاة ـ حيث إنّها تذكر بأقوى رادع للنفس ، وهو الإعتقاد بالمبدأ والمعاد ـ فإنّها تردع عن الفحشاء والمنكر.

إنّ النهي عن الفحشاء والمنكر له سلسلة درجات ومراتب كثيرة ، وكل صلاة مع رعاية الشروط لها نسبة من هذه الدرجات.

في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من أحبّ أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل ، فلينظر هل منعت صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فبقدر ما منعته قبلت منه».

ويقول القرآن تعقيباً على ما ذكره ومن شأن الصلاة : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ).

وظاهر الجملة هو بيان غاية وحكمة اخرى في الصلاة ، أي أنّ أثراً آخر من آثار الصلاة وبركاتها أهم من كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر هو تذكير الإنسان بربّه ، هذا الذكر هو أساس السعادة والخير ، بل العامل الأصلي للنهي عن الفحشاء والمنكر أيضاً هو ذكر الله ، وكونه أكبر لأنّه العلة والأساس للصلاة.

وحيث إنّ نيّات الناس ، وميزان حضور القلب منهم في الصلاة وسائر العبادات ، كل ذلك متفاوت جدّاً ، فإنّ الآية تختتم بالقول : (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ). أي يعلم ما تصنعون

__________________

(١) إنّ الفحشاء هي إشارة للذنوب الكبيرة الخفية ، وأمّا المنكر فهو الذنوب الكبيرة الظاهرة ، أو أنّ الفحشاء هي الذنوب التي تنتج بغلبة القوى الشهوانية ، والمنكر من أثر القوى الغضبية.

٥٥٠

من أعمال في الخفاء أو العلن ، والنيّات التي في قلوبكم أو الكلمات التي تجري على ألسنتكم.

(وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنَا وَإِلهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (٤٧) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) (٤٩)

اتّبعوا أحسن الأساليب في البحث والجدال : كان أكثر الكلام في الآيات المتقدمة في كيفية التعامل مع المشركين المعاندين وكان مقتضى الحال أن يكون الكلام شديد اللهجة حادّاً ، أمّا في هذه الآيات ـ محل البحث ـ فيقع الكلام في شأن مجادلة أهل الكتاب الذين ينبغي أن يكون الكلام معهم لطيفاً ، فيقول القرآن في هذا الصدد : (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتبِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ). «تجادلوا» : مشتق من «جدال» ومعناه في الأصل فتل الحبل وإحكامه ، كما تستعمل هذه المفردة في البناء المحكم وما أشبهه ، وحين يتناقش اثنان في بحث معين فكل واحد منهما يريد أن يلوي صاحبه عن عقيدته وفكرته .. لذا فقد سمّي هذا النقاش جدالاً.

والمراد من قوله (وَلَا تُجَادِلُوا) ، المناقشات المنطقية.

والتعبير ب (الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ) تعبير جامع يشمل الأساليب والطرق الصحيحة والمناسبة للتباحث أجمع.

فعلى هذا إنّ ألفاظكم ينبغي أن تكون بطريقة مؤدّبة ، والكلام ذا مودّة ، والمحتوى مستدلاً ، وصوتكم هادئاً غير خشن.

وبالطبع فإنّ هذا الأصل الكلي في البحث والمجادلة الإسلامية ، فقد يُعدّ في بعض الموارد ضعفاً ، أو يكون الطرف الآخر مغروراً إلى درجة أنّ هذا التعامل الإنساني يزيده جرأة وعدواناً وتكبراً ، لذلك فإنّ القرآن يضيف مستثنياً : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).

وهم الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الآخرين ، وكتموا كثيراً من الآيات ، لئلا يطلع الناس

٥٥١

على أوصاف النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويختتم الآية بمصداق بارز من «المجادلة بالتي هي أحسن» ويمكنه أن يكون قدوة لأي بحث ، فيقول القرآن الكريم : (وَقُولُواءَامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنَا وَإِلهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

وهذا مثل واحد من المجادلة بالتي هي أحسن التي ينجذب إليها كل من يسمعها ، ويدلّ على أنّ الإنسان يجب أن يكون بعيداً عن التحزب أو طلب التفرقة.

والآية الاخرى تؤكّد على الاصول الأربعة التي سبق ذكرها في الآية المتقدمة ، فتقول : (وَكَذلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتبَ). أي القرآن.

أجل ... نزل هذا القرآن على أساس توحيد المعبود ، وتوحيد دعوة جميع الأنبياء إلى الحق ، والتسليم دون قيد أو شرط لأمر الله ؛ والمجادلة بالتي هي أحسن.

ثم يضيف القرآن الكريم : (فَالَّذِينَءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتبَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) ويعتقدون بصدقه إذ أنّهم وجدوا علائمه في كتبهم ، كما أنّ محتواه من حيث الاصول العامة والكلية منسجم مع كتبهم.

ويضيف القرآن بعدئذ : (وَمِنْ هؤُلَاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ). أي أهل مكة والمشركون العرب.

ثم يقول القرآن في كفر الطائفتين من اليهود والنصارى : (وَمَا يَجْحَدُ بَايَاتِنَا إِلَّا الْكفِرُونَ).

ومع الإلتفات إلى أنّ مفهوم الجحود ، هو أن يعتقد الإنسان بشيء بقلبه وينكره بلسانه ، فإنّ مفهوم الجملة المتقدمة أنّ الكفار يعترفون في قلوبهم بعظمة هذه الآيات ، ويرون علامات الصدق عليها ، إلّاأنّهم ينكرون ذلك عناداً وتعصباً ، وتقليداً أعمى لأسلافهم ولآبائهم ، ولحفظ منافعهم الشخصية.

ثم يضيف القرآن مشيراً إلى علامة اخرى من علائم حقانية دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الجلية والواضحة ، وهي تأكيد على محتوى الآية السابقة ، فيقول : (وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتبٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ). وقالوا إنّ ما جاءنا به هذا النبي هو حصيلة مطالعاته لكتب الماضين.

وفي الآية التالية علامة اخرى أيضاً على حقانية القرآن ، إذ تقول : (بَلْ هُوَءَايتٌ بَيّنَاتٌ فِى صُدُور الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ).

والتعبير ب «الآيات البيّنات» كاشف عن هذه الحقيقة وهي أنّ دلائل حقانية القرآن

٥٥٢

تتجلى بنفسها عياناً ، وتشرق في أرجائه ، فدليلها معها.

ثم بعد هذا كلّه ، فإنّ أتباع هذه الآيات وطلابها المشدودة قلوبهم إليها هم أولوا العلم والإطلاع ، بالرغم من أن أيديهم خالية وأرجلهم حافية.

وتُختتم الآية بقوله تعالى : (وَمَا يَجْحَدُ بَايَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) ... لأنّ دليلها واضح ، وقد وردت علائمها في الكتب المتقدمة.

(وَقَالُوا لَوْ لَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْ لَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٥)

أليس القرآن كافياً في إعجازه : الأشخاص الذين لم يذعنوا ويسلّموا للبيان الاستدلالي والمنطقي الذي جاء به القرآن بسبب عنادهم وإصرارهم على الباطل ، ولم يقبلوا بكتاب كالقرآن ... تذرّعوا بحجّة اخرى على سبيل الاستهزاء والسخرية ، وهي أنّه لم لا تأت ـ يا محمّد ـ بمعجزة من المعاجز التي جاء بها موسى وعيسى : (وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِءَايتٌ مِّن رَّبّهِ).

ومن دون شك فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت لديه معاجز غير القرآن الكريم ، إلّاأنّ اولئك لم يكن قصدهم من وراء كلامهم الحصول على معجزة.

إنّ القرآن ، للردّ على ذرائع هؤلاء المحتالين ذوي الحجج الواهية ، يدخل من طريقين :

فيقول أوّلاً في خطابه لنبيّه : (قُلْ إِنَّمَا الْأَيتُ عِندَ اللهِ). أي قل لُاولئك المعاندين أنّ الله يدري أية معجزة تناسب أي زمان وأي قوم.

٥٥٣

ثم يضيف القرآن معقباً أن قل : (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ).

والجواب الآخر هو قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتبَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ).

فهم يطلبون معاجز مادية «جسمانية» ، والقرآن بحدّ ذاته أعظم معجزة معنوية ...

معجزة خالدة تتلى آياته ليل نهار عليهم وعلى الأجيال من بعدهم.

وفي نهاية الآية يضيف القرآن للتأكيد والتوضيح بصورة أجلى ، فيقول : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). «ذلك» هنا إشارة إلى الكتاب المنزل من السماء ، وهو القرآن.

أجل ، إنّ القرآن رحمة «وسيلة» للذكرى والتذكر أيضاً ، فهو للمؤمنين الذين فتحوا قلوبهم بوجه الحقيقة.

ولعل الفرق بين «الرحمة» و «الذكرى» أنّ القرآن ليس معجزة وذكرى فحسب ، بل هو إضافة إلى كل ذلك يحتوي على القوانين التي تمنح الرحمة والمناهج التربوية والإنسانية.

فمثلاً كانت عصى موسى معجزة فحسب ، إلّاأنّها لم يكن لها أثر في حياة الناس اليومية ، غير أنّ القرآن معجزة ، هو في الوقت ذاته منهج كامل الحياة ورحمة أيضاً.

ولما كان كل مدعٍ بحاجة إلى الشاهد ، فالقرآن يبيّن في الآية الاخرى أنّ خير شاهد هو الله : (قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا).

وبديهي أنّه كلّما كان إطلاع الشاهد وشهادته أكثر ، فإنّ قيمة الشهادة تكون أهم ، لذلك يضيف القرآن بعدئذ قائلاً : (يَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ).

يحتمل أن تكون هذه الشهادة شهادة عملية ، لأنّه حين يؤتي الله نبيّه معجزة كبرى كالقرآن ، فقدوقع على سند حقانيته وأمضاه.

وإضافةً للشهادة العملية المتقدمة ، نقرأ في آيات كثيرة من القرآن شهادة قولية في نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويمكن أنّ المراد من شهادة الله في الآية هي ما سبق من الوعد والذكر في كتب الله السابقة «كالتوراة والإنجيل» ويعلم بذلك علماء أهل الكتاب بصورة جيدة.

وتختتم الآية بنحو من الوعيد والتهديد لُاولئك الكفار بالله ، فيقول : (وَالَّذِينَءَامَنُوا بِالْبطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخسِرُونَ). وأي خسران أعظم من أن يعطوا جميع قواهم الجسمانية والإمكانات الاجتماعية والفردية في سبيل الإعلام والتبليغ لمذهبهم الوثني وأهملوا ذكر الله ، فلم يُعد عليهم هذا إلّابالضرر والخسران.

٥٥٤

أمّا في الآية التالية فإشارة إلى الذريعة الثالثة إذ تقول : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ). إذ يقولون : لو كان عذاب الله حقّاً على الكافرين فلم لا يأتينا؟!

فيجيب القرآن على هذه الذريعة بثلاثة أجوبة.

الأوّل : (وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ).

وهذا الزمان المعين (الأجل) إنّما هو لهدف أصلي ، للإرعواء عن باطلهم وتيقظهم ، أو إتمام الحجة عليهم.

والثاني : إنّ اولئك الذين يتذرّعون بهذا القول ما يدريهم لعلّ العذاب يأخذهم على حين غرةٍ من أنفسهم (وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ) (١).

وبالرغم من أنّ موعد العذاب معين ومقرّر إلّاأنّ المصلحة تقتضي ألّا يطّلعوا عليه ، وأن يأتيهم دون مقدمات ، لأنّه لو عرف وقته لكان باعثاً على تجرؤ الكفار والمذنبين وجسارتهم .. وحين يأزف الوعد بالعذاب فإنّهم سيتجهون بالتوبة إلى الله وينيبون إليه.

والحكمة التربوية لمثل هذا العقاب تقتضي أن يكتم موعده ، لتكون كل لحظة ذات أثر بنفسها ، ويكون الخوف والإستيحاش منها عاملاً على الردع.

وأخيراً فإنّ الجواب القرآني الثالث يتبيّن في الآية إذ يقول : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكفِرِينَ).

فإذا تأخر عنهم عذاب الدنيا ، فإنّ عذاب الآخرة واقع لا محالة ، ومحيط بهم تماماً وسيصيبهم حتماً بحيث إنّ القرآن يذكره بصورة أمر فعليّ (وكأنّ جهنم الآن محيطة بهم).

ويوجد تفسير آخر أكثر دقّةً لهذه الآية ، وهو أنّ جهنم محيطة ، الآن فعلاً بالكافرين ، من جهتين ـ بالمعنى الواقعي للكلمة.

الجهة الاولى : إنّها جهنم الدنيا ، إذ هم على أثر شركهم وتلوثهم بالذنب يحترقون بجهنم التي أعدّوها لأنفسهم.

والجهة الثانية : طبقاً لظاهر الآيات في القرآن فإنّ جهنم موجودة فعلاً ، فإنّ جهنم موجودة في باطن الدنيا ، وبهذا فهي محيطة بهم على نحو الحقيقة.

ثم يضيف القرآن : (يَوْمَ يَغْشهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا

__________________

(١) «البغتة» : مشتقة من «البغت» ومعناه التحقق المفاجىء وغير المنتظر لأمر.

٥٥٥

كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

يمكن أن تكون هذه الآية توضيحاً لإحاطة عذاب جهنم في يوم القيامة بالكفار ، ويمكن أن تكون بياناً مستقلاً لذلك العذاب الأليم لهم الذي يحيط بهم اليوم على أثر أعمالهم ، وفي غدٍ يتجلى هذا العذاب بوضوح ويكون محسوساً ظاهراً.

أمّا جملة (ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) التي يظهر أنّ قائلها هو الله تعالى ، فهي بالإضافة إلى أنّها نوع من العقوبة النفسية لمثل هؤلاء الأشخاص ، فهي كاشفة عن هذه الحقيقة ، وهي أنّ عذاب الله ليس إلّاانعكاساً للأعمال التي يقوم بها الإنسان نفسه في النشأة الآخرة.

(يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦٠)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قيل : نزلت الآية الاولى في المستضعفين من المؤمنين بمكة امروا بالهجرة عنها.

ونزل قوله (وَكَأَيّن مِّن دَابَّةٍ لَاتَحْمِلُ رِزْقَهَا) في جماعة كانوا بمكة يؤذيهم المشركون فأمروا بالهجرة إلى المدينة فقالوا : كيف نخرج إليها وليس لنا بها دار ، ولا غفار ومن يطعمنا ومن يسقينا؟

التّفسير

لابدّ من الهجرة : حيث إنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن مواقف المشركين المختلفة من الإسلام والمسلمين ، ففي الآيات محل البحث يقع الكلام عن حال المسلمين ومسؤولياتهم قبال المشاكل المختلفة ، أي مشاكل أذى الكفار وضغوطهم وقلّة عدد المسلمين وما إلى ذلك ، فتقول الآية الاولى : (يَا عِبَادِىَ الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيىَ فَاعْبُدُونِ).

لأنّ الهدف من خلق الإنسان أن يكون عبداً لله ، فمتى ما أصبح هذا الهدف الأساسي

٥٥٦

والنهائي مستحيلاً ، فلا سبيل عندئذ إلّا الهجرة.

وحيث إنّ البعض بقوا في ديار الشرك ، ولم يرغبوا بالهجرة بذريعة أنّهم يخشون الخروج من ديارهم ويخافون أن يحدق بهم الموت بسبب الأعداء أو الجوع أو العوامل الاخرى التي تهددهم ... إضافة إلى فراق الأحبّة والمتعلقين والأبناء والأصدقاء ، فإنّ القرآن يردّهم بجواب جامع قائلاً : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).

لا تظنوا أنّ الموت نهاية كل شيء ، لأنّكم جميعاً (إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) ... إلى الله العظيم ، وإلى نعمه التي لا حدّ لها ولا انتهاء لأمدها.

والآية التالية تبيّن جانباً من هذه النعم فتقول : (وَالَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنهرُ) (١).

والامتياز الآخر لغرف الجنة أنّها دائمة (خلِدِينَ فِيهَا).

ويضيف القرآن معقباً في ختام الآية : (نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).

والمراد بالعاملين هنا مع قرائن الجمل السابقة ، هم الذين يعملون الصالحات المقرونة بإيمانهم ، وإن كانت كلمة العاملين مطلقة.

والآية التالية تصف أهمّ ما يتحلّى به المؤمنون العاملون فتقول : (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

إذ يبتعدون عن الزوجة والأولاد والأهل والبيت والأحباب والأصدقاء وكل شيء عزيز عليهم ، لكنّهم يصبرون برغم الفراق يذوقون مرارة الغربة والتهجير عن أوطانهم ويصبرون.

وإذ أمعنا النظر وفكّرنا جيداً رأينا أنّ الصبر والتوكل هما أساس جميع الفضائل الإنسانية ، فالصبر هو عامل الاستقامة أمام العوائق والمشاكل ، والتوكل هو الهدف والباعث على الحركة في هذا الطريق المديد الملتوي.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ جواب لُاولئك الذين كان لسان حالهم أو لسان مقالهم يقول إذا خرجنا عن ديارنا وأهلينا ، فمن سيطعمنا ويرزقنا؟ يخاطبهم القرآن أن لا تحزنوا على الرزق ولا تحملوا ثقل الذلة والأسر ، فالرازق هو الله ، لا لكم فحسب بل : (وَكَأَيّن مِّن دَابَّةٍ لَاتَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ).

__________________

(١) «لنبوئنّهم» : من مادة «تبوئة» ، معناها إعطاء السكنى للإقامة والبقاء الدائم.

٥٥٧

فالقرآن يؤكّد في نهاية الآية قائلاً : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

يسمع كلامكم كلّه ، ويعرف لسان حالكم ، ولسان حال جميع الدواب ، وهو خبير بحاجات الجميع ، ولا يخفى على علمه الذي لا حدّ له شيء أبداً.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَمَا هذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٦٦)

الإقرار بالتوحيد في الباطن والشرك في الظاهر : كان الحديث في الآيات السابقة موجّهاً إلى المشركين الذين أدركوا حقانيّة الإسلام ، إلّاأنّهم لم يكونوا مستعدين للإيمان والهجرة ، خوفاً من انقطاع الرزق عليهم ، أمّا في هذه الآيات ، فالحديث موجه للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي الواقع لجميع المؤمنين ، وهو يبيّن دلائل التوحيد عن طرق «الخلقة» ، و «الربوبيّة» ، و «الفطرة» ، أي عن ثلاث طرائق متفاوتة ، ويريهم أنّ مصيرهم وعاقبة أمرهم بيد الله الذي يجدون آثاره في الآفاق وفي أنفسهم ، لا بأيدي الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع.

فتبدأ الآية الاولى من هذه الآيات محل البحث ، مشيرةً إلى خلق السماوات والأرض وتستعين باعتقاداتهم الباطنية ... فتقول : (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ).

لأنّ من المسلم به أنّه لا عبدة الأصنام ولا غيرهم ولا أي أحد آخر يقول : إنّ خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر حفنة من الأحجار والخشب المصنوعة بيد الإنسان.

وبتعبير آخر : لايشك في «توحيد الخالق» حتى عبدة الأصنام حيث كانوا مشركين في عبادة الخالق ، وكانوا يقولون : إنّما نعبد أوثاناً ليقربونا إلى الله زلفى ، فهم الوسطاء بيننا وبين الله.

٥٥٨

وهم غافلون عن أنّه لا تفصل بين الخالق والمخلوق أيّة فاصلة.

إنّ الآية بعد ذكر هذا الدليل الواضح تتساءل : (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ). أي مع هذا المال كيف يعرضون عن عبادة خالقهم ويستبدلونها بعبادة مجموعة من الأحجار والأخشاب؟!

«يؤفكون» : مشتقة من «إفك» ومعناها إعادة الشيء من صورته الواقعية والحقيقية.

والتعبير ب «يؤفكون» بصيغة المجهول إشارة إلى أنّهم لا قدرة لهم على التصميم ، فكأنّهم منجذبون إلى عبادة الأوثان دون إرادة.

والمراد من تسخير الشمس والقمر النظم التي أقرها الله تعالى ، وجعل الشمس والقمر في دائرة هذه النظم في خدمة الإنسان ، ومنافعه.

ثم يضيف القرآن تأكيداً لهذا المعنى ، وهو أنّ الله خالق الخلق ورازقهم ، فيقول : (اللهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ). فمفتاح الرزق بيده لا بيد الناس ولا بيد الأصنام.

وإذا كانوا يتصورون أنّ الله قادر ، إلّاأنّه غير مطّلع على حالهم ، فهذا خطأ كبير ل (إِنَّ اللهَ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ).

وفي المرحلة الثانية يقع الكلام عن «التوحيد الربوبي» ونزول مصدر الأرزاق من قبله عليهم ، فيقول : (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ). فهذا هو ما يعتقده عبدة الأصنام في الباطن ، ولا يتأبون من الاعتراف على ألسنتهم ، فهم يعرفون أنّ الخالق هو الله ، وأنّه ربّ العالم ومدبره.

ثم يضيف القرآن مخاطباً نبيّه : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ). فالحمد والثناء لمن أنعم جميع النعم.

وحيث إنّ أقوال المشركين من جهة ، وأعمالهم وأفعالهم وكلماتهم من جهة اخرى ، يناقض بعضها بعضاً ، فإنّ الآية تختتم بإضافة الجملة التالية : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ).

وإلّا فكيف يمكن للإنسان العاقل أن يتناقض في كلماته ، فتارةً يرى أنّ الخالق والرازق والمدبر للعالم هو الله ، وتارة يسجد للأوثان التي لا تأثير لها بالنسبة لعواقب الناس.

ومن أجل أن يحوّل القرآن أفكارهم من أفق هذه الحياة المحدودة إلى عالم أوسع من خلال منظار العقل ، فإنّه يبيّن في الآية التالية كيفية الحياة الدنيا قياساً إلى الحياة الاخرى الخالدة ، في عبارة موجزة ومليئة بالمعاني ، فيقول : (وَمَا هذِهِ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْأَخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). «اللهو» : معناه الإنشغال ، أو كل عمل يصرف الإنسان إليه ويشغله عن مسائل الحياة الأساسية. أمّا «اللعب» : فيطلق على الأعمال التي

٥٥٩

فيها نوع من النظم الخيالي ، والهدف الخيالي أيضاً.

فالقرآن في هذا الصدد يشرح حال الدنيا وحال الآخرة ، مبيّناً أنّ الحياة الدنيا هي نوع من الإنشغال واللعب ، ثم يطوى كل شيء ويغدو في سلة النسيان.

أمّا الحياة الحقيقية التي الافناء بعدها ، فهي الحياة الآخرة فحسب.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ المراد من «الحيوان» هو الحياة ، فهذه الكلمة تحمل معنى مصدرياً. وهذا التعبير : (وَإِنَّ الدَّارَ الْأَخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ) إشارة إلى أنّ الحياة الحقيقية هي في الاخرى ، لا في هذه الدار الدنيا ـ فكأنّ الحياة في الاخرى تفور من جميع أبعادها ، ولا شيء هناك إلّاالحياة.

وبديهي أنّ القرآن لا يريد أن ينسى وينفي مواهب الله في هذه الدار الدنيا ، بل يريد أن يجسد قيمة هذه الدنيا بالقياس إلى الاخرى قياساً صريحاً وواضحاً ... وإضافةً إلى كل ذلك فإنّه ينذر الإنسان لئلا يكون أسيراً لهذه المواهب ، بل ينبغي أن يكون أميراً عليها ، ولا يؤثرها على القيم الأصيلة أبداً.

وفي المرحلة الثالثة ... يتجه القرآن نحو الفطرة والجبلّة الإنسانية ، ونحو تجلّي نور التوحيد في أشدّ الأزمات في أعماق روح الإنسان ، وضمن مثالٍ بديع جدّاً وبليغ فيقول : (فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ).

أجل ، إنّ الشدائد والأزمات هي التي تهيء الأرضية لتفتح الاجتماعية «الفطرة» الإنسانية ، لأنّ نور التوحيد مخفي في أرواح الناس جميعاً.

إلّا أنّ التعليمات الخاطئة والغفلة والغرور ـ وخاصة عند السلامة ووفور النعمة ـ تلقي عليها أستاراً ، غير أنّ طوفان الحوادث يزيل هذه الأستار ، وتتجلى نقطة النور آنذاك.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ وبعد ذكر جميع هذه الدلائل على التوحيد وعبادة الله ، يواجه القرآن المشركين والكفار بتهديد شديد فيقول : إنّ هؤلاء أنكروا آياتنا وكفروا بما رزقناهم من النعم فليتمتعوا بها أيّاماً قلائل : (لِيَكْفُرُوا بِمَاءَاتَيْنهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم وشركهم.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٦٩)

٥٦٠