مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

لَقَدْ جِئْتِ شَيًا فَرِيًّا).

والبعض الآخر واجهها ، بالقول : (يَا أُختَ هرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امَرأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا).

أمّا قولهم لمريم : (يَا أُختَ هرُونَ) لأنّ هارون رجل طاهر صالح إلى الدرجة التي يضرب به المثل بين بني إسرائيل ، فإذا أرادوا أن يصفوا شخصاً بالطهارة والنزاهة ، كانوا يقولون : إنّه أخو أو أخت هارون.

في هذه الساعة ، سكتت مريم بأمر الله ، والعمل الوحيد الذي قامت به ، هو أنّها أشارت إلى وليدها (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ). إلّاأنّ هذا العمل جعل هؤلاء يتعجبون أكثر ، ثم غضبوا فقالوا : مع قيامك بهذا العمل تسخرين من قومك أيضاً؟ (قَالُوا كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيًّا).

إنّ الناس قلقوا واضطربوا من سماع كلام مريم هذا ، بل وربما غضبوا وقالوا لبعضهم البعض ـ حسب بعض الروايات ـ : إنّ استهزاءها وسخريتها أشدّ علينا من انحرافها عن جادة العفة.

إلّا أنّ هذه الحالة لم تدم طويلاً ، لأنّ ذلك الطفل الذي ولد حديثاً قد فتح فاه وتكلّم : (قَالَ إِنّى عَبْدُ اللهِءَاتنِىَ الْكِتبَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا * وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ) ، ومفيداً من كل الجهات للعباد (وَأَوْصنِى بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا).

وكذلك جعلني مطيعاً ووفيّاً لُامي (وَبَرًّا بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا).

وروى ـ في التفسير الكبير ـ أنّ عيسى عليه‌السلام قال : «قلبي لين وأنا صغير في نفسي». وهو إشارة إلى أنّ هذين الوصفين يقعان في مقابل الجبار والشقي.

وفي النهاية يقول هذا المولود ـ أي المسيح ـ : (وَالسَّلمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا).

هذه الآية في حق يحيى عليه‌السلام كما وردت في شأن المسيح عليه‌السلام ، مع الاختلاف بأنّ الله هو الذي قالها في المورد الأوّل ، أمّا في المورد الثاني فإنّ المسيح قد طلب ذلك.

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣٥)

١٨١

أيمكن أن يكون لله ولد؟! بعد تجسيد القرآن الكريم في الآيات السابقة حادثة ولادة المسيح عليه‌السلام بصورة حيّة وواضحة جدّاً ، انتقل إلى نفي الخرافات وكلمات الشرك التي قالوها في شأن عيسى ، فيقول : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ). خاصّة وأنّه يؤكّد على كونه «ابن مريم» ليكون ذلك مقدمة لنفي بنوّته لله سبحانه. ثم يضيف : (قَوْلَ الْحَقّ الَّذِى فِيهِ يَمْتَرُونَ).

وتقول الآية التالية بصراحة : (مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحنَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ). وهذا إشارة إلى أنّ اتخاذ الولد ـ كما يظن المسيحيون في شأن الله ـ لا يناسب قداسة مقام الألوهية والربوبية ، فهو يستلزم من جهة الجسمية ، ومن جانب آخر المحدودية ، ومن جهة ثالثة الإحتياج.

إنّ تعبير (كُن فَيَكُونُ) تجسيد حي جدّاً عن مدى سعة قدرة الله ، وتسلطه وحاكميته في أمر الخلقة.

(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) (٤٠)

إنّ آخر كلام لعيسى عليه‌السلام بعد تعريفه لنفسه بالصفات التي ذكرت ، هو التأكيد على مسألة التوحيد ، وخاصة في مجال العبادة ، فيقول : (وَإِنَّ اللهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ).

وعلى هذا فإنّ عيسى عليه‌السلام بدأ بمحاربة كل أنواع الشرك وعبادة الآلهة المزدوجة والمتعددة منذ بداية حياته.

غير أنّه بالرغم من كل هذه التأكيدات التي أكّد عليها المسيح عليه‌السلام في مجال التوحيد وعبادة الله ، فقد اختلفت الفئات ، وأظهروا اعتقادات مختلفة ، وخاصة في شأن المسيح : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

إنّ تاريخ المسيحية يشهد بوضوح على مدى الاختلاف الذي حصل بعد المسيح عليه‌السلام في شأنه ، وحول مسألة التوحيد.

فذهب البعض : إنّ المسيح هو الله الذي نزل إلى الأرض! فأحيى جماعة ، وأمات اخرى ، ثم صعد إلى السماء!

١٨٢

وقال البعض الآخر : إنّه ابن الله!

ورأى آخرون : إنّه أحد الأقانيم الثلاثة ـ الذوات الثلاثة المقدسة ـ الأب والإبن وروح القدس ، الله الأب ، والله الإبن وروح القدس.

وآخرون قالوا : إنّه ثالث ثلاثة : فالله معبود ، وهو معبود ، وامّه معبودة!

وأخيراً قال البعض : إنّه عبد الله ورسوله.

ولمّا كان الانحراف عن أصل التوحيد يعتبر أكبر انحراف للمسيحيين ، فقد رأينا كيف أنّ الله قد هدّد هؤلاء في ذيل الآية بأنّهم سيكون لهم مصير مؤلم مشؤوم في يوم القيامة ، في ذلك المشهد العام ، وأمام محكمة الله العادلة.

ثم تبيّن الآية التالية وضع اولئك في عرصات القيامة ، فتقول عندما يقدمون علينا يوم القيامة فسوف تكون لهم اسماع قويّة وابصار حادّه فيسمعون ويرون جميع الحقائق التي كانت خافية عليهم في هذه الدنيا ، ولكن الظالمين اليوم ، أي في هذه الدنيا غافلون عن هذه العاقبة : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لكِنِ الظلِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ).

ومن الطبيعي أن تسلب المحكمة وآثار الأعمال نوم الغفلة من العين والأذن ، وحتى عمي القلوب فإنّهم سيعون الأمر ويعلمون الحق ، إلّاأنّ هذا الوعي والعلم لا ينفعهم شيئاً.

ثم تؤكّد الآية التالية مرّة اخرى على مصير المنحرفين والظالمين في ذلك اليوم ، فتقول : (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ).

حيث يتحسّر المؤمنون المحسنون على قلّة عملهم ، وياليتهم كانوا قد عملوا أكثر ، وكذلك يتحسّر المسيئون ، لأنّ الحجب تزول ، وتتّضح حقائق الأعمال ونتائجها للجميع.

ثم تحذّر الآية الأخيرة ـ من آيات البحث ـ كل الظالمين والجائرين ، وتذكّرهم بأنّ هذه الأموال التي تحت تصرفهم الآن ليست خالدة ، كما أنّ حياتهم ليست خالدة ، بل إنّ الوارث الأخير لكل شيء هو الله سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ).

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً (٤١) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً (٤٣) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيّاً (٤٤) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً) (٤٥)

١٨٣

إبراهيم ومنطقه المؤثر والقاطع : تزيح هذه الآيات الستار عن جانب من حياة بطل التوحيد إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وتؤكّد على أنّ دعوة هذا النبي الكبير ـ كسائر المرشدين الإلهيين ـ تبدأ من نقطة التوحيد ، فتقول أوّلاً : (وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ إِبْرهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا نَبِيًّا).

إنّ أبرز صفة يلزم وجودها في كل الانبياء وحملة الوحي الإلهي أن يوصلوا أوامر الله إلى العباد دون زيادة أو نقصان.

ثم تتطرق الآية التي بعدها إلى شرح محاورته مع أبيه آزر ـ والأب هنا إشارة إلى العم ، فإنّ كلمة الأب ، كما قلنا سابقاً ، ترد أحياناً في لغة العرب بمعنى الأب ، وأحياناً بمعنى العم ـ فتقول : (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَايَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِى عَنكَ شَيًا).

إنّ هذا البيان القصير القاطع من أحسن أدلة نفي الشرك وعبادة الأوثان ، لأنّ أحد بواعث الإنسان في معرفة الرب هو باعث الربح والخسارة ، والضرر والنفع ، والذي يعبّر عنه علماء العقائد بمسألة (دفع الضرر المحتمل). فهو يقول : لماذا تتّجه إلى معبود ليس عاجزاً عن حل مشكلة من مشاكلك وحسب ، بل إنّه لا يملك أصلاً القدرة على السمع والبصر.

بعد ذلك دعاه ـ عن طريق المنطق الواضح ـ إلى اتّباعه ، فقال : (يَا أَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا). فإنّي قد وعيت اموراً كثيرة عن طريق الوحي ، وأستطيع أن أقول باطمئنان : إنّي سوف لا أسلك طريق الضلال والخطأ ، ولا أدعوك أبداً إلى هذا الطريق المعوج.

ثم يعطف نظره إلى الجانب السلبي من القضية بعد ما ذكر بعدها الايجابي ويشير إلى الآثار التي تترتب على مخالفة هذه الدعوة ، فيقول : (يَا أَبَتِ لَاتَعْبُدِ الشَّيْطنَ إِنَّ الشَّيْطنَ كَانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا).

إنّ العبادة هنا بمعنى الطاعة واتباع الأوامر ، وهذا بنفسه يعتبر نوعاً من العبادة.

ثم يذكّره وينبّهه مرّة اخرى بعواقب الشرك وعبادة الأصنام المشؤومة ، ويقول : (يَا أَبَتِ إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطنِ وَلِيًّا).

إنّ تعبير إبراهيم هذا رائع جدّاً ، فهو من جانب يخاطب عمّه دائماً ب (يَا أَبَتِ) وهذا يدل على الأدب واحترام المخاطب ، ومن جانب آخر فإنّ قوله (أَن يَمَسَّكَ) توحي بأنّ

١٨٤

إبراهيم كان قلقاً ومتأثّراً من وصول أدنى أذى إلى آزر.

(قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً (٤٦) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَنْ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيّاً (٤٩) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً) (٥٠)

نتيجة البعد عن الشرك والمشركين : مرّت في الآيات السابقة كلمات إبراهيم عليه‌السلام التي كانت ممتزجة باللطف والمحبّة في طريق الهداية ، والآن جاء دور ذكر أجوبة آزر ، لكي تتّضح الحقيقة والواقع من خلال مقارنة الكلامين مع بعضهما. يقول القرآن الكريم : إنّ حرص وتحرّق إبراهيم ، وبيانه الغني العميق لم ينفذ إلى قلب آزر ، بل إنّه غضب لدى سماعه هذا الكلام ، و (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْءَالِهَتِى يَا إِبْرهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا).

لكن ، ورغم كل ذلك ، فقد سيطر إبراهيم على أعصابه ، كبقية الأنبياء والقادة الإلهيين ، ومقابل هذه الغلظة والحدّة وقف بكل سمو وعظمة ، و (قَالَ سَلمٌ عَلَيْكَ).

إنّ هذا السلام يمكن أن يكون سلام التوديع ، وأنّ إبراهيم بقوله : (سَلمٌ عَلَيْكَ) وما يأتي بعده من كلام يقصد ترك آزر ؛ ويمكن أن يكون سلاماً يقال لفض النزاع.

ثم أضاف : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّى إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيًّا). إنّ إبراهيم في الواقع قابل خشونة وتهديد آزر بالعكس ، ووعده بالاستغفار وطلب مغفرة الله له.

ثم يقول : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ). أي : الأصنام. (وَأَدْعوا رَبّى عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبّى شَقِيًّا).

تبيّن هذه الآية من جهة أدب إبراهيم في مقابل آزر ، ومن جهة اخرى فإنّها تبيّن حزمه في عقيدته.

لقد وفى إبراهيم بقوله ، وثبت على عقيدته بكلّ صلابة وصمود ، وكان دائماً ينادي بالتوحيد ، بالرغم من أنّ كل ذلك المجتمع الفاسد في ذلك اليوم قد وقف ضدّه وثار عليه ، إلّا أنّه لم يبق وحده في النهاية ، فقد وجد أتباعاً كثيرين على مرّ القرون والأعصار ، بحيث إنّ كل

١٨٥

الموحدين وعباد الله في العالم يفتخرون بوجوده. يقول القرآن الكريم : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلَّا جَعَلْنَا نَبِيًّا).

إنّ هذه الموهبة العظيمة كانت نتيجة صبر إبراهيم عليه‌السلام واستقامته التي أظهرها في طريق محاربة الأصنام ، واعتزال المنهج الباطل والإبتعاد عنه.

وإضافة إلى ذلك : (وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَحْمَتِنَا). تلك الرحمة الخاصة بالمخلصين ، والرجال المجاهدين في سبيل الله. وأخيراً : (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا).

إنّ هذا في الحقيقة إجابة لطلب ودعاء إبراهيم الذي جاء في الآية (٨٤) من سورة الشعراء : (وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الْأَخِرِينَ).

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً (٥١) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً (٥٢) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً) (٥٣)

موسى النبي المخلص : في هذه الآيات الثلاث إشارة قصيرة إلى موسى عليه‌السلام ـ وهو من ذرّية إبراهيم عليه‌السلام وموهبة من مواهب ذلك الرجل العظيم ـ حيث سار على خطاه.

وتوجّه الآية الخطاب إلى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقول : (وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ مُوسَى).

ثم تذكر خمس مواهب وصفات من المواهب التي أعطيت لهذا النبي الكبير :

١ ـ إنّه وصل في طاعته وعبوديته لله إلى حدّ (إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا). ولا ريب أنّ الذي يصل إلى هذه المرتبة سيكون مصوناً من خطر الانحراف والتلوّث ، لأنّ الشيطان رغم كل إصراره على إضلال عباد الله ، يعترف هو نفسه بعدم قدرته على إضلال المخلصين : (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (١).

٢ ـ (وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا). فحقيقة الرسالة أن تلقى مهمّة على عاتق شخص ، وهو مسؤول عن أدائها وإبلاغها ، وهذا المقام كان لجميع الأنبياء المأمورين بالدعوة.

إنّ ذكر كونه «نبيّاً» هنا إشارة إلى علوّ مقام هذا النبي العظيم ، لأنّ هذه اللفظة في الأصل مأخوذة من (النّبْوَة) وتعني رفعة المقام وعلوّه.

٣ ـ وأشارت الآية التالية إلى بداية رسالة موسى ، فقالت : (وَندَيْنهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ

__________________

(١) سورة ص / ٨٢ و ٨٣.

١٨٦

الْأَيْمَنِ). ففي تلك الليلة المظلمة الموحشة ، حيث قطع موسى صحارى مدين متوجّهاً إلى مصر ، أخذ زوجته الطلق وألم الولادة ، وكان البرد شديداً ، فكان يبحث عن شعلة نار ، وفجأة سطع نور من بعيد ، وسمع نداء يبلغه رسالة الله ، وكان هذا أعظم وسام وألذّ لحظة في حياته.

٤ ـ إضافة إلى ذلك : (وَقَرَّبْنهُ نَجِيًّا) (١) فإنّ النداء كان موهبة ، والتكلّم موهبة اخرى.

٥ ـ وأخيراً (وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هرُونَ نَبِيًّا) ليكون معينه ونصيره.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً (٥٤) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً) (٥٥)

إسماعيل نبي صادق الوعد : بعد ذكر إبراهيم عليه‌السلام وتضحيته ، وبعد الإشارة القصيرة إلى حياة موسى عليه‌السلام المتسامية ، يأتي الحديث عن إسماعيل ، أكبر ولد إبراهيم ، ويكمل ذكر إبراهيم بذكر ولده إسماعيل ، وبرامجه ببرامج ولده ، ويبيّن القرآن الكريم خمس صفات من صفاته البارزة التي يمكن أن تكون قدوة للجميع.

ويبدأ الكلام بخطاب الآية الشريفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول : (وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ إِسْمعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيًّا).

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً (٥٦) وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (٥٩) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (٦٠)

هؤلاء أنبياء الله ، ولكن ... : في آخر قسم من تذكيرات هذه السورة ، جاء الحديث عن

__________________

(١) وهنا ينادي الله موسى من بعيد ، ولمّا اقترب ناجاه. ومن المعلوم أنّ الله سبحانه ليس له لسان ولا مكان ، بل يوجد الأمواج الصوتية في الفضاء ، ويتكلم مع عبد كموسى.

١٨٧

«إدريس» النبي ، فقالت الآية أوّلاً : (وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا نَّبِيًّا).

«الصديق» : هو الشخص الصادق جدّاً ، والمصدق بآيات الله سبحانه ، والمذعن للحق والحقيقة.

ثم تشير الآية إلى مقامه العالي وتقول : (وَرَفَعْنهُ مَكَانًا عَلِيًّا). والمراد هو عظمة المقامات المعنوية والدرجات الروحية لهذا النبي الكبير.

ثم تبيّن الآية التالية بصورة جماعية عن كل الإمتيازات والخصائص التي مرّت في الآيات السابقة حول الأنبياء العظام وصفاتهم وحالاتهم والمواهب التي أعطاهم الله إياها ، فتقول : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيّينَ مِن ذُرّيَّةِءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوْحٍ وَمِنْ ذُرّيَّةِ إِبْرهِيمَ وَإِسْرَاءِيلَ).

إنّ المراد من ذرّية آدم في هذه الآية هو إدريس ، حيث كان ـ حسب المشهور ـ جدّ النبي نوح.

والمراد من الذرية ، هم الذين ركبوا مع نوح في السفينة ، لأنّ إبراهيم كان من أولاد سام بن نوح. والمراد من ذرّية إبراهيم : إسحاق وإسماعيل ويعقوب ؛ والمراد من ذرّية إسرائيل : موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى.

ثم تكمل الآية هذا البحث بذكر الأتباع الحقيقيين لهؤلاء الأنبياء ، فتقول : (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمُءَايتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (١).

ثم تتحدث الآيات عن جماعة انفصلوا عن دين الأنبياء المربي للإنسان ، وكانوا خلفاً سيئاً لم ينفّذوا ما أريد منهم ، وتعدد الآية قسماً من أعمالهم القبيحة ، فتقول : (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَوةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا).

«خَلْف» بمعنى الأولاد الطالحين ؛ و «خَلَف» بمعنى الأولاد الصالحين.

وهذه الجملة قد تكون إشارة إلى جماعة من بني إسرائيل ساروا في طريق الضلال ، فنسوا الله ، ورجّحوا اتباع الشهوات على ذكر الله.

إنّ المراد من إضاعة الصلاة هنا القيام بأعمال تضيع الصلاة في المجتمع.

ولمّا كان منهج القرآن في كل موضع هو فتح ابواب الرجوع إلى الإيمان والحق دائماً ، فإنّه

__________________

(١) «سجد» : جمع ساجد ؛ و «بكي» : جمع باك.

١٨٨

يقول هنا أيضاً بعد ذكر مصير الأجيال المنحرفة : (إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيًا) ، وعلى هذا فلا يعني أنّ الإنسان إذا غاص يوماً في الشهوات فسيكتب على جبينه اليأس من رحمة الله.

طبقاً لنقل كثير من المفسرين ، فإنّ إدريس جدّ سيدنا نوح عليه‌السلام واسمه في التوراة «أخنوخ» وفي العربية (إدريس) ، وذهب البعض أنّه من مادة (درس) لأنّه أوّل من كتب بالقلم ، فقد كان إضافة إلى النبوّة عالماً بالنجوم والحساب والهيئة ، وكان أوّل من علّم البشر خياطة الملابس.

(جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً (٦١) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً) (٦٣)

بعض صفات الجنة : وصفت الجنّة ونعمها في هذه الآيات بأنّها (جَنتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا).

ثم تشير بعد ذلك إلى نعمة اخرى من أكبر نعم الجنة فتقول : (لَّايَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا) فلا كذب ، ولا عداء ، لا تهمة ولا جرح لسان ، لا سخرية ولا حتى كلام لا فائدة فيه ، بل الشيء الوحيد الذي يسمعونه هو السلام (إِلَّا سَلمًا).

السلام الذي هو علامة على المحيط الآمن ، المحيط الملي بالصفاء والعلاقة الحميمة والطهارة والتقوى والصلح والهدوء والإطمئنان.

وبعد هذه النعمة تشير الآية إلى نعمة اخرى فتقول : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا).

وبعد الوصف الإجمالي للجنة ونعمها المادية والمعنوية ، تعرّف الآية أهل الجنة في جملة قصيرة ، فتقول : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا). وعلى هذا فإنّ مفتاح باب الجنة مع كل تلك النعم التي مرّت ليس إلّا «التقوى».

(وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً (٦٤) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (٦٥)

١٨٩

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قيل : احتبس الوحي أيّاماً ، لمّا سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن قصة أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، والروح ، فشقّ ذلك عليه فلمّا أتاه جبرائيل استبطأه فنزلت (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبّكَ) الآية.

التّفسير

الطاعة التامة : بالرغم من أنّ لهذه الآية سبب نزول ذكر أعلاه ، إلّاأنّ هذا لا يكون مانعاً من أن يكون لها إرتباطاً منطقياً بالآيات السابقة ، لأنّها تأكيد على أنّ كل ما أتى به جبرئيل من الآيات السابقة قد بلّغه عن الله بدون زيادة أو نقصان ، ولا شيء من عنده ، فتتحدث الآية الاولى على لسان رسول الوحي فتقول : (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبّكَ) ، فكل شيء منه ، ونحن عباد وضعنا أرواحنا وقلوبنا على الأكف ، (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلِكَ). والخلاصة : فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل ، وهنا وهناك وكل مكان ، والدنيا والآخرة والبرزخ ، كل ذلك متعلق بذات الله المقدسة.

ثم تضيف الآية : إنّ كل ذلك بأمر ربك (رَّبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) فإذا كان الأمر كذلك ، وكل الخطوط تنتهي إليه (فَاعْبُدْهُ) عبادة مقترنة بالتوحيد والإخلاص.

ولما كان هذا الطريق ـ طريق العبودية والطاعة وعبادة الله الخالصة ـ مليء بالمشاكل والمصاعب ، فقد أضافت : (وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ). وتقول في آخر جملة : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا).

وهذه الجملة في الواقع ، دليل على ما جاء في الجملة السابقة ، يعني : هل لذاته المقدسة شريك ومثيل حتى تمدّ يدك إليه وتعبده؟

(وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً (٦٦) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيّاً (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً) (٧٠)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان أنّ الآيات الاولى نزلت في ابي بن خلف الجمحي ، وذلك أنّه أخذ

١٩٠

عظماً بالياً فجعل يَفُتّه بيده ويذريه في الريح ويقول : زعم محمّد أنّ الله يبعثنا بعد أن نموت ونكون عظاماً مثل هذا ، إنّ هذا شيء لا يكون أبداً.

التّفسير

حال أهل النار : مرّت في الآيات السابقة بحوث عديدة حول القيامة والجنّة والجحيم ، وتتحدّث هذه الآيات التي نبحثها حول نفس الموضوع ، فتعيد الآية الاولى أقوال منكري المعاد ، فتقول : (وَيَقُولُ الْإِنسنُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا). أي إنّ هذا الشيء غير ممكن.

ثم يجيبهم مباشرة بنفس التعبير : (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسنُ أَنَّا خَلَقْنهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيًا).

ثم تهدد الآية التالية منكري المعاد ، والمجرمين الكافرين : (فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا).

إنّ هذه الآية توحي بأنّ محكمة الأفراد الكافرين والمجرمين قريبة من جهنم.

ولمّا كانت الأولويات تلاحظ في تلك المحكمة العادلة ، فإنّ الآية التالية تقول : (ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (١). ونبدأ بحسابهم أوّلاً ، فإنّهم عتوا عتواً نسوا معه كل مواهب الله الرحمان ، وجنحوا إلى التمرد والعصيان وإظهار الوقاحة أمام ولي نعمتهم.

ثم تؤكّد على هذا المعنى مرّة اخرى فتقول : (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا). فسنختار هؤلاء بدقة ، وسوف لا يقع أيّ اشتباه في هذا الإختيار.

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) (٧٢)

الجميع يردون جهنم : تستمر الآيات في بحث خصائص القيامة والثواب والعقاب ، وأشارت في البداية إلى مسألة يثير سماعها الحيرة والعجب لدى أغلب الناس ، فتقول : (وَإِن مّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا). فجميع الناس سيدخلون جهنّم بدون استثناء لأنّه أمر حتمي.

__________________

(١) «الشيعة» : في الأصل بمعنى الجماعة التي يتعاون أفرادها للقيام بعمل ما ، وانتخاب هذا التعبير في الآيةيمكن أن يكون إشارة إلى أنّ العتاة المردة والضالين الكافرين كانوا يتعاونون في طريق الطغيان ، ونحن سنحاسب هؤلاء أوّلاً ، لأنّهم أكثر تمرّداً وعصياناً من الجميع.

١٩١

(ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظلِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا). فنتركهم فيها جالسين على الركب من الضعف والذّل.

وهناك بحث مفصّل بين المفسرين في تفسير هاتين الآيتين حول المراد من «الورود» في جملة (وَإِن مّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) ؛ فاختار أكثر المفسرين ، أنّ الورود هنا بمعنى الدخول ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل الناس بدون استثناء ـ محسنهم ومسيؤهم ـ يدخلون جهنّم ، إلّاأنّها ستكون برداً وسلاماً على المحسنين ، كحال نار نمرود على إبراهيم (يَا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلمًا عَلَى إِبْرهِيمَ) ، لأنّ النار ليست من سنخ هؤلاء الصالحين ، فقد تفرّ منهم وتبتعد عنهم ، إلّاأنّها تناسب الجهنميين فهم بالنسبة للحجيم كالمادة القابلة للإشتعال ، فما أن تمسّهم النار حتى يشتعلوا.

إنّ مشاهدة جهنم وعذابها في الحقيقة ، ستكون مقدمة لكي يلتذّ المؤمنون بنعم الجنة بأعلى مراتب اللذة.

إنّ أهل النار أيضاً سيلقون عذاباً أشد من رؤية هذا المشهد.

(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً) (٧٦)

هذه الآيات تتابع ما مرّ في الآيات السابقة في الحديث عن الظالمين الذين لا إيمان لهم ، وتتعرّض لجانب آخر من منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم.

ومن المعلوم أنّ أوّل جماعة آمنت بالرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا من المستضعفين الطاهري القلوب ، والذين خلت أيديهم من مال الدنيا ومغرياتها.

ولما كان المعيار في المجتمع الجاهلي في ذلك الزمان ـ وكذا في كل مجتمع جاهلي آخر ـ هو الذهب والزينة والمال والمقام والمنصب والهيئة الظاهرية ، فكان الأثرياء الظالمون ، كالنضر بن الحارث وأمثاله يفتخرون على المؤمنين الفقراء بذلك ويقولون : إنّ علامة شخصيتنا معنا ، وعلامة عدم شخصيتكم فقركم ومحروميتكم ، وهذا بنفسه دليل على أحقيّتنا وباطلكم ، كما يقول القرآن الكريم في أوّل آية من الآيات مورد البحث : (وَإِذَا تُتْلَى

١٩٢

عَلَيْهِمْءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَءَامَنُوا أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماماً ، وفي الوقت نفسه قاطع ومفحم ، فيقول : كأنّ هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر ، ولم ينظروا كم دمّرنا من الأقوام السابقين عند تمرّدهم وعصيانهم : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِءْيًا) (١). فهل استطاعت أموالهم وثروتهم ، ومجالسهم الفاسقة ، وملابسهم الفاخرة ، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإلهي وتقف أمامه.

ثم تحذّرهم تحذيراً آخر ، بأن لا تظنّوا أيّها الظالمون الكافرون أنّ مالكم وثروتكم هذه رحمة ، بل كثيراً ما تكون دليلاً على العذاب الإلهي : (قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّللَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ). أي : إمّا العذاب في هذه الدنيا ، وإمّا عذاب الآخرة ، (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا).

وهذا هو ما ذكر في بعض آيات القرآن بعنوان عقاب «الإستدراج».

هذه عاقبة ومصير الظالمين المخدوعين بزخرف الدنيا وزبرجها ، أمّا اولئك الذين آمنوا واهتدوا ، فإنّ الله يزيدهم هدىً وإيماناً (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى).

من البديهي أنّ للهداية درجات ، فإذا طوى الإنسان درجاتها الاولى فإنّ الله يأخذه بيده ويرفعه إلى درجات أعلى.

وفي النهاية تجيب الآية هؤلاء الذين اعتمدوا على زينة الدنيا السريعة الزوال ، وجعلوها وسيلة للتفاخر على الآخرين ، فتقول : (وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا).

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً (٧٩) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً) (٨٢)

تفكير خرافي ومنحرف : يعتقد بعض الناس أنّ الإيمان والطهارة والتقوى لا تناسبهم ،

__________________

(١) «الأثاث» : بمعنى المتاع وزينة الدنيا ؛ و «رئي» : بمعنى الهيئة والمنظر.

١٩٣

وأنّها السبب في أن تدبر الدنيا عنهم ، أمّا إذا خرجوا من دائرة الإيمان والتقوى فإنّ الدنيا ستقبل عليهم ، وتزيد ثروتهم وأموالهم.

فقد كان في عصر النبي ـ وكذلك في عصرنا ـ أفراد جاهلون يظنّون هذه الظنون والأوهام ، أو كانوا يتظاهرون بها على الأقل ، فيتحدّث القرآن ـ كمواصلة للبحث الذي بيّنه سابقاً حول مصير الكفار والظالمين ـ في الآيات مورد البحث عن طريقة التفكير هذه وعاقبتها ، فيقول في أوّل آية من هذه الآيات : (أَفَرَءَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بَايَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا).

ثم يجيبهم القرآن الكريم : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمنِ عَهْدًا). فإنّ الذي يستطيع أن يتكهّن بمثل هذا التكهّن ، ويقول بوجود علاقة بين الكفر والغنى وامتلاك الأموال والأولاد ، مطّلع على الغيب ، لأنّا لا نرى أيّ علاقة بين هاتين المسألتين ، أو يكون قد أخذ عهداً من الله سبحانه ، وهذا الكلام أيضاً لا معنى له.

ثم يضيف بلهجة حادّة : إنّ الأمر ليس كذلك ، ولا يمكن أن يكون الكفر أساساً لزيادة مال وولد أحد مطلقاً : (كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ).

أجل ، فإنّ هذا الكلام الذي لا أساس له قد يكون سبباً في انحراف بعض البسطاء ، وسيثبت كل ذلك في صحيفة أعمال هؤلاء ، (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا).

إنّ هذه الأموال والأولاد التي هي أساس الغرور والضلال هي بنفسها عذاب مستمر لهؤلاء. (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ) من الأموال والأولاد ، (وَيَأْتِينَا فَرْدًا).

نعم ، إنّه سيترك في النهاية كل هذه الإمكانيات والأملاك المادية ويرحل ، ويحضر في محكمة العدل الإلهية بأيد خالية ، وفي الوقت الذي اسودّت فيه صحيفة أعماله من الذنوب والمعاصي ، وخلت من الحسنات ... هناك ، حيث يرى نتيجة أقواله الجوفاء في دار الدنيا.

وتشير الآية التالية إلى علّة اخرى في عبادة هؤلاء الأفراد للأصنام ، فتقول : (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِءَالِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا). وليشفعوا لهم عند الله ، ويعينوهم في حلّ مشاكلهم ، لكن ، أيّ ظن خاطىء وخيال ساذج هذا؟!

ليس الأمر كما يظن هؤلاء أبداً ، فليست الأصنام سوف لا تكون لهم عزّاً وحسب ، بل ستكون منبعاً لذلّتهم وعذابهم ، ولهذا فإنّهم سوف ينكرون عبادتهم لها في يوم القيامة : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِم وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا).

١٩٤

إنّ هذه الجملة إشارة إلى نفس ذلك المطلب الذي نقرؤه في الآية (١٤) من سورة فاطر.

يستفاد هذا التفسير من حديث مروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث قال في تفسير هذه الآية : «يكون هؤلاء الذين اتّخذوهم آلهة من دون الله ضداً يوم القيامة ويتبرؤون منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة».

(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً (٨٣) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٨٧)

بملاحظة البحث في الآيات السابقة الذي كان حول المشركين ، فإنّ البحث في هذه الآيات ، إشارة إلى بعض علل انحراف هؤلاء ، ثم تبيّن الآيات في النهاية عاقبتهم المشؤومة ، وتثبت هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه الآلهة لم تكن سبب عزّتهم بل أصبحت سبب ذلّهم وشقائهم ، فتقول أوّلاً : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيطِينَ عَلَى الْكفِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا).

«الأزّ» : في الأصل يعني غليان القدر ، وتقلّب محتواه عند شدة غليانه ؛ وهو هنا كناية عن مدى تسلّط الشياطين على هؤلاء ، بحيث إنّهم يوجّهونهم بالصورة التي يريدونها ، وفي المسير الذي يشاؤون ، ويقلّبونهم كيف يشتهون.

ومن البديهي أنّ تسلط الشياطين على بني آدم ليس تسلطاً إجبارياً ، بل إنّ الإنسان الذي يسمح للشياطين بالنفوذ إلى قلبه وروحه.

ثم يوجّه القرآن المجيد الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقول : (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) وسنسجّل كل شيء لذلك اليوم الذي تشكّل فيه محكمة العدل الإلهي.

وهناك احتمال آخر في تفسير الآية ، وهو أنّ المراد من عدّ أيام عمر ـ بل أنفاس ـ هؤلاء ، أنّ مدّة بقائهم قصيرة وداخلة تحت إمكان الحساب والعد.

ثم تبيّن المسير النهائي للمتقين والمجرمين في عبارات موجزة ، فتقول : إنّ كل هذه الأعمال جمعناها وإدّخرناها لهم : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْدًا).

في تفسير علي بن ابراهيم عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «سأل علي عليه‌السلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تفسير قوله : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْدًا) قال : يا علي ، الوفد لا يكون إلّاركباناً ، اولئك رجال اتّقوا الله فأحبّهم واختصهم ورضي أعمالهم فسمّاهم الله المتقين. ثم قال : يا علي أما

١٩٥

والذي فلق الحبة وبرىء النسمة إنّهم ليخرجون من قبورهم وبياض وجوههم كبياض الثلج ، عليهم ثياب بياضها كبياض اللبن ، عليهم نعال الذهب شراكها من لؤلؤ يتلألأ».

ثم تقول في المقابل : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا). كما تساق الإبل العطشى إلى محل الماء ، إلّاأنّه لا ماء هناك ، بل نار جهنم.

وإذا كانوا يتصورون أنّهم يستطيعون الخلاص عن طريق الشفاعة ، فإنّهم يجب أن يعلموا أنّ هؤلاء الذين يرجونهم (لَّايَمْلِكُونَ الشَّفعَةَ) فلا أحد يشفع لهؤلاء ، فمن طريق أولى أن لا يقدروا على الشفاعة لأحد (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمنِ عَهْدًا) فهؤلاء هم الوحيدون الذين تنفعهم وتشملهم شفاعة الشافعين ، أو أنّ مقامهم أعلى من هذه الرتبة أيضاً ، ولهم القدرة والصلاحية لأن يشفعوا للعاصين الذين يستحقون الشفاعة.

والمراد من العهد في الآية الشريفة كل نوع من أنواع الإرتباط بالله ومعرفته وطاعته ، وكذلك الإرتباط بمذهب أولياء الحق ، وكل عمل صالح.

(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً (٨٩) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (٩٥)

لمّا كان الكلام في الآيات السابقة عن الشرك ، وعاقبة عمل المشركين ، فقد أشارت هذه الآيات في نهاية البحث إلى فرع من فروع الشرك ، أي الاعتقاد بوجود ولد لله سبحانه ، وتبيّن مرّة اخرى قبح هذا الكلام بأشدّ وأحدّ بيان ، فتقول : (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا). فليس المسيحيون لوحدهم كانوا يعتقدون بأنّ «المسيح» هو الإبن الحقيقي لله سبحانه ، بل إنّ اليهود كانوا يعتقدون أيضاً مثل هذا الاعتقاد في (عزير) ، وكذلك عبدة الأصنام في (الملائكة) فكانوا يظنّون أنّها بنات الله.

عند ذلك قالت الآية بلهجة شديدة : (لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيًا إِدًّا). «الإدّ» : معناه في الأصل الصوت القبيح المضطرب الذي يصل الأذن نتيجة الاضطراب الشديد للأمواج الصوتية في

١٩٦

حنجرة البعير ، ثم أطلق على الأعمال القبيحة والموحشة جدّاً.

ولمّا كانت مثل هذه النسبة غير الصحيحة مخالفة لأصل التوحيد فكأنّ كل عالم الوجود ، الذي بني على أساس التوحيد ، قد اضطرب وتصدّع إثر هذه النسبة الكاذبة ، ولذلك تضيف الآية التالية : (تَكَادُ السَّموَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا).

ومن أجل تأكيد وبيان أهمية الموضوع فإنّها تقول : إنّ كل ذلك من أجل (أَن دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَدًا).

إنّ هؤلاء لم يعرفوا الله قط ، لأنّه : (وَمَا يَنْبَغِى لِلرَّحْمنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا).

فإنّ الإنسان يطلب الولد لواحد من عدّة أشياء :

إمّا لأنّ عمره ينتهي فيحتاج لولد مثله يحمل صفاته ليبقى نسله وذكره.

أو لأنّه يطلب الصديق والرفيق لأنّ قوته محدودة.

لكن أيّاً من هذه المعاني لا ينطبق على الله سبحانه ، ولا يصح ، فلا قدرته محدودة ، ولا حياته تنتهي ، ولا يعتريه الضعف والوهن ، ولا يحس بالوحدة والحاجة ، ولذلك قالت الآية الاخرى : (إِن كُلُّ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّاءَاتِى الرَّحْمنِ عَبْدًا).

فمع أنّ كل العباد مطيعون له ، وقد وضعوا أرواحهم وقلوبهم على الأكف طاعة لأمره ، فهو غير محتاج لطاعتهم ، بل هم المحتاجون.

ثم تقول الآية التالية : (لَّقَدْ أَحْصهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا). أي لا تتصور بأنّ محاسبة كل هؤلاء العباد غير ممكن ، وعسير عليه سبحانه.

(وَكُلُّهُمْءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيمَةِ فَرْدًا). وبناء على هذا فإنّ المسيح وعزير والملائكة وكل البشر يشملهم حكمه ولا يستثنى منه أحد ، ومع هذه الحال فما أقبح أن نعتقد ونقول بوجود ولد له ، وكم ننقص من قدر ذاته المقدسة وننزلها من أوج العظمة وقمّتها ، وننكر صفاته الجلالية والجمالية حينما ندّعي أنّ له ولداً.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدّاً (٩٦) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) (٩٨)

١٩٧

الإيمان والمحبوبية : هذه الآيات الثلاث نهاية سورة مريم ، والكلام فيها أيضاً عن المؤمنين ، والظالمين الكافرين ، وعن القرآن وبشاراته وإنذاراته ، وهي ـ في الحقيقة ـ عصارة البحوث السابقة بملاحظات ونكات جديدة. تقول أوّلاً : (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا).

إنّ للإيمان والعمل الصالح نوراً وضياء بسعة عالم الوجود ، ويعمّ نور المحبة الحاصل منهما كل أرجاء عالم الخلقة ، وإنّ الذات الإلهية المقدسة تحب أمثال هذا الفرد ، فهم محبوبون عند كل أهل السماء ، وتقذف هذه المحبة في قلوب أهل الأرض.

ثم تشير الآية التالية إلى القرآن الذي هو منبع ومصدر تنمية الإيمان والعمل الصالح ، فتقول : (فَإِنَّمَا يَسَّرْنهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا).

«اللُدّ» : ـ بضم اللام وتشديد الدال ـ جمع «ألدّ» بمعنى العدو الشديد العداوة ، وتطلق على المتعصب العنود في عداوته ، ولا منطق له.

وتقول الآية الأخيرة كتهدئة لخاطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين ، وتسلية لهم ، خاصة مع ملاحظة أنّ هذه السورة نزلت في مكة ، وكان المسلمون يومذاك تحت ضغط شديد جدّاً ؛ وكذلك تقول بنبرة التهديد والتحذير لكل الأعداء اللجوجين العنودين : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا).

«الركز» : بمعنى الصوت الهادىء ، ويقال للأشياء التي يخفونهاتحت الأرض : «ركاز» ، أي إنّ هؤلاء الأقوام الظالمين ، وأعداء الحق والحقيقة المتعصبين ، قد تمّ تدميرهم وسحقهم إلى حدّ لا يسمع صوت خفي منهم.

لقد صدرت روايات عديدة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في سبب نزول قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا). في كثير من كتب الحديث وتفسير السنة والشيعة ، وهي تبيّن أنّ هذه الآية نزلت لأوّل مرّة في حق علي عليه‌السلام.

«نهاية تفسير سورة مريم»

* * *

١٩٨

٢٠

سورة طه

محتوى السورة : إنّ أكثر ما يتحدث سورة (طه) عن المبدأ والمعاد كسائر السور المكية ، ويذكر نتائج التوحيد وتعاسات الشرك.

١ ـ تشير هذه السورة إلى عظمة القرآن ، وبعض صفات الله الجلالية والجمالية.

٢ ـ يتحدث أكثر من ثمانين آية عن قصة موسى عليه‌السلام من حين بعثته ، إلى نهوضه لمقارعة فرعون الجبار وأعوانه.

٣ ـ جاءت بعض المسائل حول المعاد.

٤ ـ تناول جزء آخر من هذه السورة الحديث عن القرآن وعظمته.

٥ ـ واحتوى قسم آخر قصة آدم وحواء في الجنة ، ثم حادثة وسوسة إبليس ، وأخيراً هبوطهما إلى الأرض.

٦ ـ وفي القسم الأخير ، تبيّن السورة المواعظ والنصائح ، لكل المؤمنين ، مع توجيه الخطاب في كثير من الآيات إلى نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فضيلة تلاوة السورة : في كتاب ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «لا تدعوا قراءة سورة طه ، فإنّ الله يحبّها ، ويحبّ من قرأها ، ومن أدمن قراءتها أعطاه الله يوم القيامة كتابه بيمينه ، ولم يحاسبه بما عمل في الإسلام ، وأعطي في الآخرة من الأجر حتى يرضى».

١٩٩

والمراد من التلاوة هي أن تكون التلاوة مقدمة للتفكر والتدبر ، التفكر الذي تتجلّى آثاره في كل أعمال وأقوال الإنسان.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (٧) اللهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (٨)

سبب النّزول

وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآيات الاولى من هذه السورة ، يستفاد من مجموعها أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد نزول الوحي والقرآن كان يعبد الله كثيراً ، وخاصة أنّه كان يكثر القيام والوقوف في العبادة حتى تورّمت قدماه ، وكان من شدّة التعب أحياناً يستند في وقوفه على إحدى قدميه ، ثم يستند على الاخرى حيناً آخر ، وحيناً على كعب قدمه ، وآخر على أصابع رجله ، فنزلت الآيات المذكورة وأمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يحمّل نفسه كل هذا التعب والمشقة.

التّفسير

مرّة اخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة ، والتي تثير حبّ الاستطاع لدى الإنسان : (طه).

في كتاب معاني الأخبار عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «... وأمّا طه فإسم من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعناه : يا طالب الحق الهادي إليه». ويظهر من هذا الحديث أنّ طه مركّب من حرفين رمزيين ، فالطاء إشارة إلى طالب الحق ، والهاء إلى الهادي إليه ، ونحن نعلم أنّ استعمال الحروف الرمزية وعلامات الإختصار فيما مضى وفي يومنا هذا أمر طبيعي وكثير الاستعمال ، خاصة في عصرنا الحاضر فإنّه كثير التداول والاستعمال جدّاً.

وآخر كلام في هذا الباب هو أنّ (طه) ك (يس) قد أصبحت تدريجياً وبمرور الزمان اسماً خاصاً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى أنّهم يسمّون آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، (آل طه) أيضاً ؛ وعبّر عن الإمام المهدي ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ في دعاء الندبة بـ (يابن طه).

٢٠٠