مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

نفع في ولده ، أو أخيه ، أو والده.

وثانيتهما : سيطرة الخوف على الجميع ، فلا يسأل أحد عن حال غيره بسبب الخوف الشديد من العقاب الإلهي ، هو يوم كما اطّلعنا عليه في مطلع سورة الحج : (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكرَى وَمَا هُم بِسُكرَى وَلكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ).

وبعد وقوع القيامة تبدأ مرحلة الحساب وقياس الأعمال بميزان خاص بيوم القيامة : (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

«الموازين» : جمع «ميزان» وهو وسيلة للقياس ، وكما ورد في الأحاديث المختلفة أنّه ميزان تقاس به الأعمال والناس ، وهم قادة الإسلام الكبار ، في الحديث : (إنّ أمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم‌السلام هم الموازين) (١).

وعلى هذا فإنّ الرسل وأوصياءهم هم الذين يقاس الناس وأعمالهم بهم ، ليتبيّن إلى أيّ درجة يشبهونهم.

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ). وهم الذين فقدوا الإيمان والعمل الصالح ، فوزنهم خفيف يوم القيامة لأنّهم خسروا رأسمال وجودهم : (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خلِدُونَ).

عبارة (خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ) تصريح بحقيقة خسران المذنبين لأكبر رأسمال لهم ـ أي وجودهم ـ في سوق تجارة الدنيا دون أن يحصلوا على مقابل.

وتشرح الآية التالية عذابهم الأليم : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ). ألسنة النار ولهيبها المحرق تضرب وجوههم كضرب السيف ، (وَهُمْ فِيهَا كلِحُونَ) وهم من شدة الألم وعذاب النار ، في عبوس واكفهرار.

«تلفح» : تعني في الأصل ضربة السيف ، وقد وردت هنا كناية ، لأنّ لهيب النار ، أو نور الشمس المحرقة ، وريح السموم ، تضرب وجه الإنسان كضرب السيف.

«كالح» : بمعنى التعبيس واكفهرار الوجه.

__________________

(١) بحار الأنوار ٧ / ٢٥٢.

٣٤١

(أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (١٠٦) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) (١١١)

تحدثت الآيات السابقة عن العذاب الأليم لأهل النار ، وتناولت الآيات ـ موضع البحث ـ إستعراض جانب من كلام الله مع أهل النار ، إذ خاطبهم سبحانه وتعالى بعتاب : (أَلَمْ تَكُنْءَايتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ).

وهم يعترفون في ردّهم : (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالّينَ).

«الشقوة» و «الشقاوة» : نقيض السعادة ، وتعني توفّر وسائل العقاب والبلاء. أو بتعبير آخر : هي الشر والبلاء الذي يصيب الإنسان.

ولعلّهم في إعترافهم هذا يودّون نيل رضى الله ورحمته ، لهذا يضيفون مباشرةً : (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظلِمُونَ). يقولون ذلك وكأنّهم لا يعلمون أنّ القيامة دار جزاء وليست دار عمل ، وأنّ العودة إلى الدنيا أمر محال.

لهذا يردّهم الله سبحانه وتعالى بقوة : (قَالَ اخْسُوا فِيهَا وَلَا تُكَلّمُونِ).

وعبارة (اخسؤا) التي هي فعل أمر ، تستعمل لطرد الكلاب ، فمتى ما استخدمت للإنسان فإنّها تعني تحقيره ومعاقبته.

ثم يبيّن الله عزوجل دليل ذلك بقوله : هل نسيتم ، (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَاءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ). ولكنّكم كنتم تستهزئون بهم إلى درجة أنّ كثرة الإستهزاء والسخرية منهم أنساكم ذكري : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ) على أعمالهم وعقائدهم وأخلاقهم (إِنّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ). وأمّا أنتم فقد إبتليتم بأسوأ حالة ، وبأكثر العذاب ألماً ، ولا ينجدكم أحد من مصيركم الذي تستحقونه.

٣٤٢

(قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (١١٣) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (١١٦)

الدنيا وعمرها القصير : بما أنّ الآيات السابقة تناولت جانباً من عذاب أهل النار الأليم ، عقّبت الآيات ـ موضع البحث ـ ذلك بذكر نوع آخر من العذاب ، هو العذاب النفسي الموجه من قبل الله تعالى لأهل النار للإستهانة بهم. تقول الآية الاولى : (قَالَ كَمْ لَّبِثْتُمْ فِى الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ). يخاطبهم سبحانه وتعالى يوم القيامة قائلاً : كم سنة عشتم فوق الأرض؟

إلّا أنّهم يرون في هذه المقارنة أنّ الدنيا قصيرة جدّاً : (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).

والحقيقة أنّ الأعمار الطويلة في الدنيا كسحابة صيف لو قارناها بحياة الآخرة ، حيث النعم الخالدة والعقاب غير المحدود.

وللتأكيد أو للردّ بدقة قالوا : (فَسَلِ الْعَادّينَ). أي : ربّاه اسأل الذين يعرفون أن يعدّوا الأعداد ويحسبوها بدقة حين مقارنة بعضها مع بعض.

وهنا يؤنّبهم الله ويستهزىء بهم : (قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).

وإستعملت الآية اسلوباً مؤثراً آخر لإيقاظ هذه الفئة وتعليمها : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَاتُرْجَعُونَ).

هذه العبارة الموجزة والعميقة تبيّن واحداً من أقوى الأدلّة على البعث وحساب الأعمال والجزاء ، وتعني أنّ الحياة الدنيا تصبح عبثاً إن لم تكن القيامة والمعاد ، فالدنيا بما فيها من مشاكل وما وضع فيها الله من مناهج ومسؤوليات وبرامج ، تكون عبثاً وبلا معنى إن كانت لأيّام معدودات فقط ، كما سنشرح ذلك في المسائل الآتية.

وبما أنّ عدم عبثيّة الخلق أمر مهم يحتاج إلى دليل رصين ، أضافت الآية : (فَتَعلَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ).

(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١١٨)

٣٤٣

المفلحون والخائبون : بما أنّ الآيات السابقة تحدثت عن قضية المعاد ، واستعرضت الصفات الإلهية ، فإنّ الآية الأُولى أعلاه تناولت التوحيد نافيةً الشرك مؤكّدة للمبدأ والمعاد في قوله تعالى : (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهًاءَاخَرَ لَابُرْهنَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ).

أجل ، إنّ المشركين ينكرون المعاد على الرغم من وضوح أدلته وإشراق حقيقته ، ويقبلون الشرك من غير دليل صحيح عليه.

وفي النهاية تقول الآية : (إِنَّهُ لَايُفْلِحُ الْكفِرُونَ).

ما أجمل بداية هذه السورة (قَدْ أَفلح المؤمنون) وما أجمل نهايتها المؤكّدة لبدايتها : (لَايُفْلِحُ الْكفِرُونَ) هذه هي صورة جامعة لحياة المؤمنين والكافرين من البداية إلى النهاية.

وختمت السورة بهذه الآية الشريفة كاستنتاج عام بأن وجّهت الكلام إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَقُل رَّبّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

والآن وقد إختارت فئة الشرك سبيلاً ، وجارت فئة اخرى وظلمت ، فأنت أيّها الرسول ومن معك تدعون الله ربّكم أن يغفر لكم ويرحمكم بلطفه الواسع الكريم.

نهاية تفسير سورة المؤمنون

* * *

٣٤٤

٢٤

سورة النّور

محتوى السورة : يمكن اعتبار هذه السورة خاصة بالطهارة والعفة ، وكفاح الإنحطاط الخلقي ، والقرآن الكريم يحقق هذا الهدف عبر مراحل ، هي :

١ ـ بيان العقاب الشديد للمرأة الزانية والرجل الزاني ، وهو ما ورد حاسماً في الآية الثانية من هذه السورة.

٢ ـ بيان حد الزنا الذي لا تنبغي إقامته إلّابشروط مشدّدة للغاية.

ثم طرحت الآية بهذه المناسبة الحديث المعروف باسم الإفك ، وما فيه من إتهام إحدى نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣ ـ وتناولت الآية أحد السبل المهمة لاجتناب التدهور الأخلاقي ، من أجل ألا يتصور أنّ الإسلام يهتم فقط بمعاقبة المذنبين.

فطرحت الآية نظر الرجال إلى النساء بشهوة أو بالعكس ، وحجاب المرأة المسلمة ، لأنّ أحد أسباب الانحراف الجنسي المهمة ناجم عن هاتين المسألتين.

٤ ـ وكخطوة للنجاة من التلوث بما يخلّ بالشرف ، دعا القرآن المجيد إلى الزواج اليسير التكاليف.

٥ ـ وبيّنت الآيات جانباً من آداب المعاملة ، ومبادىء تربية الأولاد.

٣٤٥

٦ ـ وجاء ذكر مسائل خاصة بالتوحيد والمبدأ والمعاد والإمتثال لتعاليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. كل ذلك خلال البحوث المطروحة.

وتطرقت بحوث هذه الآيات إلى حكومة المؤمنين الصالحين العالمية.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «حصّنوا أموالكم وفروجكم بتلاوة سورة النور وحصّنوا بها نساءكم ، فإنّ من أدمن قراءتها في كل ليلة أو في كل يوم لم يزن أحد من أهل بيته أبداً حتى يموت. فإذا مات شيعه إلى قبره سبعون ألف ملك ، يدعون ويستغفرون الله له حتى يدخل إلى قبره».

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٣)

حدّ الزاني والزانية : سمّيت هذه السورة بالنور لأنّ آية النور فيها من أهم آياتها ، واولى آيات هذه السورة المباركة بمثابة إشارة إلى مجمل بحوث السورة : (سُورَةٌ أنزَلْنهَا وَفَرَضْنهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَاءَايتٍ بَيّنتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

إنّ «سورة» بناء جميل مرتفع ، وهذه الكلمة تطلق أيضاً على قسم من بناء كبير ، وتطلق السورة على أقسام القرآن المختلفة المفصولة بعضها عن بعض.

إنّ هذه العبارة إشارة إلى كون أحكام ومواضيع هذه السورة ـ من اعتقادات وآداب وأوامر إلهية ـ ذات أهمية فائقة ، لأنّها كلها من الله.

وبعد هذا الإستعراض العام ، تناولت السورة أوّل حكم حاسم للزاني والزانية : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ). ولتأكيد هذا الحكم قالت : (وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ).

وأشارت الآية في نهايتها إلى مسألة اخرى لإكمال الاستنتاج من العذاب الإلهي (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ).

وتشتمل هذه الآية على ثلاثة تعاليم :

٣٤٦

١ ـ الحكم بمعاقبة النساء والرجال الذين يمارسون الزنا.

٢ ـ إقامة هذا الحكم الإلهي بعيداً عن الرأفة بمن يقام عليه.

٣ ـ أوجب الله حضور عدد من المؤمنين في ساحة معاقبة الزناة ليتعظ الناس بما يرون من إقامة حكم الله العادل على المذنبين.

وبعد بيان حدّ الزنا ، جاء بيان حكم الزواج من هؤلاء في الآية الثالثة كما يلي : (الزَّانِى لَايَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

إنّ الآية تبيّن واقعة ملموسة ، فالمنحطون يختارون المنحطات ، وكذلك يفعلن هنّ في اختيارهن ، بينما يَسْمو المتطهّرون المؤمنون عن ذلك. كما تبيّن في هذه العبارة حكماً شرعياً وأمراً إلهياً يمنع المؤمنين من الزواج مع الزانيات ، ويمنع المؤمنات من الزواج مع الزناة ، لأنّ الانحرافات الأخلاقية كالأمراض الجسمية المعدية في الغالب.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥)

عقوبة البهتان : قد يستغلّ المعترضون ما نصّت عليه الآيات السابقة من عقوبات شديدة للزاني والزانية فيسيئون للمتطهّرين ، فبيّنت الآيات اللاحقة هنا عقوبات شديدة للذين يرمون المحصنات. تقول الآية : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) (١). فالأشخاص الذين يتّهمون النساء العفيفات بعمل ينافي العفة (أي : الزنا) ، ولم يأتوا بأربعة شهود عدول لإثبات إدعائهم. فحكمهم : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمنِينَ جَلْدَةً). وتضيف الآية حكمين أخرين : (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهدَةً أبَدًا وَأُولئِكَ هُمُ الْفسِقُونَ).

«القذف» : إذا جرى بلفظ صريح ، وبأيّ لغة وأيّة صورة فحدّه هو ثمانون جلدة ، وإذا لم يكن صريحاً فيعزّر القاذف.

وهذا التشديد في الحكم المشرّع لحفظ الشرف والطهارة ، ليس خاصاً بهذه المسألة ، ففي كثير من التعاليم الإسلامية نراه ماثلاً أمامنا.

__________________

(١) «الرّمي» في الأصل هو اطلاق السهم أو قذف الحجر وأمثالهما ، وقد استخدمت الكلمة هنا كناية عن اتّهام الأشخاص وسبابهم ووصفهم بما لا يليق.

٣٤٧

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «إذا اتّهم المؤمن أخاه انماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء».

ولكن المولى العزيز الحكيم سبحانه وتعالى لا يسدّ باب رحمته في وجه التائبين ، الذين تابوا من ذنوبهم وطهّروا أنفسهم ، وندموا على ما فرّطوا ، وسعوا في تعويض ما فاتهم من البرّ (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

فمعنى ذلك قبول شهادتهم بعد التوبة وإزالته الحكم بفسقهم.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (٨) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (١٠)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس ، قال سعد بن عبادة : لو أتيت لكاع وقد يفخّذها رجل ، لم يكن لي أن اهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب ، وإن قلت ما رأيت فإنّ في ظهري لثمانين جلدة.

وبنزول الآيات السابقة علم المسلمون الحل السليم لهذه المشكلة.

التّفسير

عقاب توجيه التهمة إلى الزوجة : يستنتج من سبب النّزول أنّ هذه الآيات في حكم الإستثناء الوارد على حدّ القذف ، فلا يُطبق حدّ القذف (ثمانين جلدة) على زوج يتّهم زوجته بممارسة الزنا مع رجل آخر ، وتقبل شهادته لوحدها ويمكن في هذه الحالة أن يكون صادقاً كما يمكن أن يكون كاذباً في شهادته وهنا يقدم القرآن المجيد حلاً أمثل هو : على الزوج أن يشهد أربع مرات على صدق إدّعائه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ

٣٤٨

شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهدَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْصدِقِينَ * وَالْخمِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكذِبِينَ).

وبهذا على الرجل أن يعيد هذه العبارة : «أشهد بالله إنّي لمن الصادقين فيما رميتها من الزنا». أربع مرات لإثبات إدعائه من جهة ، وليدفع عن نفسه حدّ القذف من جهة اخرى. ويقول في الخامسة : «لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين».

وهنا تقف المرأة على مفترق طريقين ، فإمّا أن تقرّ بالتهمة التي وجهها إليها زوجها ، أو تنكرها على وفق ما ذكرته الآيات التالية.

ففي الحالة الاولى تثبت التهمة ؛ وفي الثانية : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكذِبِينَ * وَالْخمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصدِقِينَ).

وبهذا الترتيب تشهد المرأة خمس مرات مقابل شهادات الرجل الخمس ـ أيضاً ـ لتنفي التهمة عنها بأن تكرر أربع شهادات : «أشهد بالله إنّه لمن الكاذبين فيما رماني من الزنا». وفي الخامسة تقول : «أنّ غضب الله عليّ إن كان من الصادقين».

وهذه الشهادات منهما هي ما يسمّى ب «اللعان» ، لاستخدام عبارة اللعن في الشهادة.

وليترتب على هذين الزوجين أربعة أحكام نهائية.

أوّلها : انفصالهما دون طلاق.

وثانيها : تحرم الزوج على الزوجة إلى الأبد ، أي لا يمكنهما العودة إلى الحياة الزوجية معاً بعقد جديد.

وثالثها : سقوط حدّ القذف عن الرجل ، وحد الزنا عن المرأة.

ورابعها : الطفل الذي يولد بعد هذه القضية لا ينسب إلى الرجل ، وتحفظ نسبته للمرأة فقط.

ولم ترد تفاصيل الحكم السابق في الآيات المذكورة أعلاه ، وإنّما جاء في آخر الآية موضع البحث : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَإِنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ).

فهذه الآية إشارة إجمالية إلى تأكيد الأحكام السابقة ، لأنّها تدل على أنّ اللعان فضل من الله ، إذ يحل المشكلة التي يواجهها الزوجان ، بشكل صحيح.

٣٤٩

(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذَا سُبْحَانَكَ هذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (١٦)

حديث الإفك المثير : يستفاد من مجموع الآيات هو أنّه قد اتهم شخص بريء بعمل مخلّ بالعفة والشرف حين نزول هذه الآيات ، وأنّ الشائعات كانت منتشرة في المدينة ، وأنّ مجموعة من المنافقين المتظاهرين بالإسلام أرادوا الاخلال بالمجتمع الإسلامي إلى أخسّ السبل لتلويث سمعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والحط من شأنه المقدس لدى الناس ، بترويجهم هذه الشائعة ، فنزلت هذه الآيات ، وتصدّت لهذه الحادثة بقوة ، ودفعت المنحرفين والمنافقين الحاقدين إلى جحورهم. وهذه الأحكام نافذة في كل بيئة وزمان. تقول أوّل آية من الآيات موضع البحث ، دون أن تطرح أصل الحادثة : (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ).

«الإفك» : على وزن «فكر» يقصد بها كل مصروف عن وجهه ، الذي يحق له أن يكون عليه ، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب «مؤتفكة» ، ثم اطلقت على كل كلام منحرف عن الحق ومجانب للصواب ، ومن ذلك يطلق على الكذب «إفك».

و «العُصبة» : على وزن «فُعْلَة» مشتقة من العَصَبْ ، وجمعها أعصاب ، وهي التي تربط عضلات الجسم بعضها مع بعض ، وعلى شكل شبكة منتشرة في الجسم ، ثم أطلقت كلمة «عصبة» على مجموعة من الناس متحدة وذات عقيدة واحدة.

واستخدام هذه الكلمة يكشف عن الإرتباط الوثيق بين المتآمرين المشتركين في ترويج حديث الإفك ، حيث كانوا يشكّلون شبكة قوية منسجمة ومستعدة لتنفيذ المؤامرات.

٣٥٠

إنّ القرآن طمأن وهدّأ روع المؤمنين الذين آلمهم توجيه هذه التهمة إلى شخصية متطهرة : (لَاتَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) ، لأنّه كشف عن حقيقة عدد من الأعداء المهزومين أو المنافقين الجبناء.

ولو لم تكن هذه الحادثة ، لما افتضح أمرهم بهذا الشكل ، ولكانوا أكثر خطراً على المسلمين.

إنّ هذا الحادث علّم المسلمين أنّ اتّباع الذين يروّجون الشائعات يجرّهم إلى الشقاء ، وأنّ عليهم أن يقفوا بقوّة أمام هذا العمل.

ثم تعقب هذه الآية بذكر مسألتين :

أوليهما : (لِكُلّ امْرِىٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ). إشارة إلى أنّ المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق كبار المذنبين لا تحول دون تحمل الآخرين لجزء من هذه المسؤولية ، ولهذا يتحمل كل شخص مسؤوليته إزاء أية مؤامرة.

والمسألة الثانية : (وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

وقائد هذه المجموعة سيعاقب عقاباً عظيماً لكبر ذنبه.

ثم توجّهت الآية التالية إلى المؤمنين الذين انخدعوا بهذا الحديث فوقعوا تحت تأثير الشائعات ، فلامتهم بشدّة : (لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا). أي : لماذا لم تقفوا في وجه المنافقين بقوة ، بل استمعتم إلى أقوالهم التي مسّت مؤمنين آخرين كانوا بمنزلة أنفسكم منكم. ولماذا لم تدفعوا هذه التهمة وتقولوا بأنّ هذا الكلام كذب وافتراء : (وَقَالُوا هذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ).

أنّكم كنتم تعرفون جيداً الماضي القبيح لهذه المجموعة من المنافقين.

ثم تهتم الآيات بالجانب القضائي للمسألة فتقول : (لَّوْلَا جَاءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ). أي لماذا لم تطلبوا منهم الإتيان بأربعة شهود. (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الْكذِبُونَ).

إنّ هذه الملامة تبيّن أنّ الحكم بأداء أربعة أشخاص لشهادتهم ، وكذلك حدّ القذف في حالة عدمه قد نزل قبل الآيات التي تناولت حديث الإفك.

وأخيراً جمعت الآية التالية هذه الملامات ، فقالت : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

٣٥١

ونظراً لأن «أفضتم» مشتقة من الإفاضة ، بمعنى خروج الماء بكثرة ، واستعملت في حالات اخرى للتوغل في الماء ، نتج من هذه العبارة أنّ شائعة الإتهام توسعت بشكل شملت المؤمنين مضافاً إلى مروجيها الأصليين (المنافقين).

وتبيّن الآية التالية البحث السابق وهو كيف ابتلي المؤمنون بهذا الذنب العظيم نتيجة تساهلهم ، فتقول : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ). أي تذكّروا كيف رحّبتم بهذه التهمة الباطلة فتناقلتموها : (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّنًا وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ).

وتشير هذه الآية إلى ثلاثة أنواع من ذنوبهم العظيمة في هذا المجال :

الأوّل : تَقبُّل الشائعة : استقبالها وتناقلها.

الثاني : نشر الشائعة دون أي تحقيق أو علم بصدقها.

الثالث : استصغار الشائعة واعتبارها وسيلة للهو وقضاء الوقت. في نهج البلاغة عن الإمام علي عليه‌السلام قال : «أشدّ الذنوب ما استهان به صاحبه».

ونظراً لهول هذه الحادثة التي استصغرها بعض المسلمين ، أكدتها الآية ثانية ، فانّبتهم مرّة اخرى ولذعتهم بعباراتها إذ قالت : (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهذَا سُبْحنَكَ هذَا بُهْتنٌ عَظِيمٌ).

وسبق لهذه الآية أن وجهت اللوم لهم لسوء ظنهم بالذي وجه إليه الإتهام باطلاً ، وهنا تقول الآية : إضافة إلى وجوب حسن الظن بالمتهم يجب ألا تسمحوا لأنفسكم بالتحدث عنه ، ولا تتناولوا التهمة الموجهة إليه ، فكيف بكم وقد كنتم سبباً لنشرها.

(يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (٢٠)

حرمة إشاعة الفحشاء : تحدثت هذه الآيات أيضاً عن حديث الإفك ، والنتائج المشؤومة والأليمة لاختلاق الشائعات ونشرها ، فذكر أوّلاً : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ). أي أنّ من علامات الإيمان أن لا يتوجه الإنسان نحو الذنوب العظام ، والجملة المذكورة تشكل أحد

٣٥٢

أركان التوبة ، إذ أنّ الندم على الماضي لا يكفي ، بل يجب التصميم على عدم تكرار ارتكاب الذنوب في المستقبل ، لتكون توبة كاملة.

وللتأكيد أكثر على أنّ هذا الكلام ليس اعتيادياً ، بل صادر عن الله العليم الحكيم ، ولبيان الحقائق ذات الأثر الفعال في مصير الإنسان ، يقول سبحانه وتعالى : (وَيُبَيّنُ اللهُ لَكُمُ الْأَيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). فهو يعلم حاجاتكم وما يضرّكم وما ينفعكم بمقتضى علمه الواسع ، ويصدر أحكامه وأوامره المتناسبة لاحتياجاتكم بمقتضى حكمته.

ولتثبيت الأمر نقل الكلام من مورده الخاص إلى بيان عام لقانون شامل دائم ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفحِشَةُ فِى الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ).

ولجملة تشيع الفاحشة مفهوم واسع يضم كل عمل يساعد في نشر الفحشاء والمنكر.

وتختم الآية بالقول : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ). إنّه يعلم الذين يبيتون في قلوبهم حب هذا الذنب ، ويعلم الذين يمارسونه تحت واجهات خداعة ، أمّا أنتم فلا تعلمون ذلك ولا تدركونه.

وكررت الآية الأخيرة ـ مما نحن بصدده من الآيات التي تناولت حديث الإفك ومكافحة إشاعة الفحشاء ، وقذف المؤمنين المتطهرين ـ هذه الحقيقة لتؤكّد القول : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٢٦)

٣٥٣

على الرغم من عدم متابعة هذه الآيات حديث الإفك بصراحة ، إلّاأنّها تعتبر مكملة لمضمون ذلك البحث ، وتحذّر المؤمنين جميعاً من تأثير الأفكار الشيطانية فعلى هذا حينما يشعر الفرد بأوّل وسوسة شيطانية بإشاعة الفحشاء أو إرتكاب أي ذنب آخر فيجب التصدي له بقوة حاسمة ، حتى يمنع من انتشاره وتوسّعه.

وتخاطب الآية الاولى المؤمنين ، فتقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَاتَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ).

وحيث لا يمكن جرّ أي إنسان مؤمن متطهر مرّة واحدة إلى الفساد ، فإنّ ذلك يتمّ خطوة بعد اخرى في طريق الفساد.

وأخيراً الإبتلاء بالكبائر ، وهذه معني جملة (خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ).

ثم تشير الآية إلى أهم النعم الكبيرة التي منّ الله بها على الإنسان في هدايته فتقول : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلكِنَّ اللهَ يُزَكّى مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

ولا شك في أنّ الفضل والرحمة الإلهية ينقذان الإنسان من الإنحطاط والانحراف من الذنوب جميعاً ، فالله منحه العقل ، ولطف به فأرسل إليه الرسل ، ويسّر له سبل الإرتقاء والإهتداء ، وأعانه على استكمال الخير ، وإضافة إلى هذه المواهب شمل الله الذين تطهروا بتوفيقاته الخاصّة ، وإمداداته التي يستحقونها ، والتي تعتبر أهم عنصر في تطهير وتزكية النفس.

وذكر عدد من المفسرين ـ ومنهم الطبرسي في المجمع ـ سبباً لنزول الآية الثانية ـ من الآيات موضع البحث ـ يكشف عن تلاحمها مع الآيات السابقة ، قال : نزلت في جماعة من الصحابة أقسموا على أن لا يتصدقوا على رجل تكلّم بشيء من الإفك ولا يواسوهم. فنزلت هذه الآية لتمنعهم من ردّ فعل قاس ، وأمرتهم بالعفو والسماح.

نعود الآن إلى تفسير الآية بملاحظة سبب النزول هذا. يقول القرآن : (وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِى الْقُرْبَى وَالْمَسكِينَ وَالْمُهجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللهِ).

إنّ هذا التعبير يكشف أنّ عدداً ممن تورّط في قضية الإفك كانوا من المهاجرين في سبيل الله إذ خدعهم المنافقون ، ولم يجز الله طردهم من المجتمع الإسلامي لماضيهم المجيد ، كما لم يسمح بعقابهم أكثر مما يستحقونه.

٣٥٤

«يأتل» : مشتقة من «أليّة» أي اليمين.

ثم تضيف الآية : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا). لتشجيع المسلمين وترغيبهم في العفو والصفح بقولها : (أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ). فإنّكم مثلما تأملون من الله العفو عنكم وأن يغفر خطاياكم ، يجب عليكم العفو والصفح عن الآخرين : (وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

وترسم هذه الآيات صورة للتعادل الإسلامي في جذبه ودفعه ، وتشكل آيات الإفك والعقوبات الشديدة التي تفرض على الذين يتهمون الآخرين في شرفهم «قوة الدفع». وأمّا الآية موضع البحث التي تتحدث عن العفو والصفح وكون الله غفوراً رحيماً. فإنّها تكشف عن «قوة الجذب».

ثم تعود الآية إلى قضية القذف واتّهام النساء العفيفات المؤمنات في شرفهن ، فتقول بشكل حازم : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنتِ الْغفِلتِ الْمُؤْمِنتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

في تفسير الميزان : هذه الآية أخذ الصفات الثلاث الإحصان والغفلة والإيمان للدلالة على عظم المعصية فإنّ كلاً من الإحصان بمعنى العفة والغفلة والإيمان سبب تام في كون الرمي ظلماً والرامي ظالماً والمرمية مظلومة فإذا اجتمعت كان الظلم أعظم ثم أعظم ، وجزاؤه اللعن في الدنيا والآخرة والعذاب العظيم (١).

والمراد من «الغافلات» أنّهن لا يعلمن بما ينسب إليهنّ من بهتان في الخارج ، ولهذا لسن في صدد الدفاع عن أنفسهن ، وفي النتيجة فإنّ الآية تطرح موضوعاً جديداً للبحث ، لأنّ الآيات السابقة تحدثت عن مثيري التهم الذين يمكن التعرف عليهم ومعاقبتهم. إلّاأنّ الحديث هنا يدور حول مثيري الشايعات الذين أخفوا أنفسهم عن العقاب والحد الشرعي ، فتقول الآية : إنّ الله تعالى سيبعدهم عن رحمته في هذه الدنيا ، كما ينتظرهم العذاب العظيم في الآخرة.

وتحدد الآية التالية وضع الذين يتهمون الناس بالباطل في ساحة العدل الإلهي ، قائلة : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

تدور ألسنتهم بما لا تشتهي أنفسهم لتستعرض الحقائق.

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن ١٥ / ٩٤.

٣٥٥

وتشهد أيديهم وأرجلهم ، وكما ذكرت الآيات القرآنية : تنطق جلودهم ، حقاً إنّه يوم البروز والإفتضاح ، ويوم تنكشف فيه السرائر.

ثم تقول الآية : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقُّ). واستناداً إلى هذا الدليل أيضاً (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) (٢٩)

لا تدخلوا بيوت الناس حتى يؤذن لكم : بيّنت هذه الآيات جانباً من أدب المعاشرة ، والتعاليم الإسلامية الاجتماعية التي لها علاقة وثيقة بقضايا عامة حول حفظ العفة ، حيث تقول أوّلاً : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَاتَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا عَلَى أَهْلِهَا). وبهذا الترتيب عندما تعزمون على الدخول لابدّ من إخبار أصحاب البيت بذلك ونيل موافقتهم.

يجب أن يكون محيط المنزل آمناً إلى حدّ كاف ؛ حتى أنّ جميع قوانين العالم تمنع الدخول إلى منازل الآخرين دون استئذان وتعاقب عليه. ونصّت الأحكام الإسلامية على تعاليم وآداب خاصة في هذا المجال ، لا يشاهد نظيرها إلّانادراً.

روى ـ في التفسير الكبير ـ أنّ أبا سعيد الخدري استأذن على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مستقبل الباب فقال : «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب».

وفي الدرّ المنثور عن عبدالله بن بشر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول : «السلام عليكم السلام عليكم».

ومما يلفت النظر في هذا الحكم الذي يتصف بأبعاد إنسانية وعاطفية واضحة ، مرافقة لجملتين ، أولاها : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ) وثانيتهما : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

وأردف القرآن هذا الحكم بجملة اخرى في الآية التالية : (فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ).

٣٥٦

قد يكون المراد من هذه العبارة أنّه ربّما كان في المنزل أحد ، ولكن من لديه حق إعطاء الإذن بالدخول غير موجود ، ففي هذه الحالة لا يحق للمرء الدخول إلى المنزل.

ثم تضيف الآية : (وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ).

إشارة إلى أنّه لا لزوم لانزعاج المرء إن لم يؤذن له بالدخول ، فلعل صاحب المنزل في وضع غير مريح ، أو أنّ منزله لم يهيأ لاستقبال الضيوف.

وبما أنّ بعض الناس قد يدفعهم حبّ الإطلاع والفضول حين رفضهم استقباله على استراق السمع ، أو التجسس من ثقب الباب لكشف خفايا أهل المنزل وليطلع على أسرارهم ، لهذا قالت الآية : (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).

وبما أنّ لكل حكم استثناءً ، لرفع المشكلات والضرورات بشكل معقول عن طريقه ، تقول آخر آية موضع البحث : (لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتعٌ لَّكُمْ).

وتضيف في الختام : (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ). ولعل ذلك إشارة إلى استغلال البعض هذه الاستثناءات ، فيتذرّع بأنّ المنزل غير مسكون فيدخله بهدف الكشف عن بعض الأسرار ، أو الدخول إلى منازل مسكونة متذرعاً بعدم علمه بأنّها مسكونة ، إلّاأنّ الله يعلم بكل هذه الأعمال ، ويعلم الذين يسيئون الاستفادة من هذا الاستثناء.

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣١)

٣٥٧

سبب النّزول

في الكافي عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : «استقبل شابّ من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنّعن خلف آذانهن ، فنظر إليها وهي مقبلة ، فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان ، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه ، فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على صدره وثوبه ، فقال : والله لآتين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولأخبرنّه». قال : فأتاه فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له : ما هذا؟ فأخبره ، فهبط جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية : (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصرِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).

التّفسير

مكافحة السفور وخائنة الأعين : قلنا في البداية : إنّ هذه السورة اختصت بالعفة والطهارة وتطهير الناس من جميع الانحرافات الجنسية ، ولا يخفى على أحد إرتباط هذا البحث بالبحوث الخاصة بالقذف. تقول الآية أوّلاً : (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصرِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ). «يغضوا» : مشتقة من «غضّ» من باب «ردّ» وتعني في الأصل التنقيص ، لهذا لم تأمر الآية أن يغمض المؤمنون عيونهم ، بل أمرت أن يغضّوا من نظرهم.

إنّ الإسلام نهى عن هذا العمل المندفع مع الأهواء النفسية والشهوات ، لأنّ (ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ). كما نصّت عليه الآية ـ موضع البحث ـ في ختامها.

ثم تحذر الآية اولئك الذين ينظرون بشهوة إلى غير محارمهم ، ويبررون عملهم هذا بأنّه غير متعمّد ، فتقول : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).

وتناولت الآية التالية شرح واجبات النساء في هذا المجال ، فأشارت أوّلاً إلى الواجبات التي تشابه ما على الرجال ، فتقول : (وَقُلْ لِّلْمُؤْمِنتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ).

وبهذا حرم الله النظر بريبة على النساء أيضاً مثلما حرّمه على الرجال ، وفرض تغطية فروجهنّ عن أنظار الرجال والنساء مثلما جعل ذلك واجباً على الرجال.

ثم أشارت الآية إلى مسألة الحجاب في ثلاث جمل :

أ) (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا). فلا يحق للنساء الكشف عن زينتهنّ المخفية ، وإن كانت لا تُظهر أجسامهنّ ، أي لا يجوز لهنّ الكشف عن لباس يتزيّنّ به تحت اللباس

٣٥٨

العادي أو العباءة ، بنص القرآن الذي نهاهن عن ذلك.

ب) وثاني حكم ذكرته الآية هو : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ). «خُمُر» : جمع «خِمار» في الأصل تعني «الغطاء» ، إلّاأنّه يطلق بصورة اعتيادية على الشيء الذي تستخدمه النسوة لتغطية رؤوسهنّ ؛ و «الجيوب» : جمع «جيب» على وزن «غيب» بمعنى ياقة القميص ، وأحياناً يطلق على الجزء الذي يحيط بأعلى الصدر لمجاورته الياقة.

ويستنتج من هذه الآية أنّ النساء كنّ قبل نزولها ، يرمين أطراف الخمار على أكتافهن أو خلف الرأس بشكل يكشفن فيه عن الرقبة وجانباً من الصدر ، فأمرهن القرآن برمي أطراف الخمار حول أعناقهن ؛ أي فوق ياقة القميص ليسترن بذلك الرقبة والجزء المكشوف من الصدر.

ج) وتشرح الآية في حكمها الثالث الحالات التي يجوز للنساء فيها الكشف عن حجابهن وإظهار زينتهن ، فتقول : (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا).

١ ـ (لِبُعُولَتِهِنَّ).

٢ ـ (أَوْءَابَائِهِنَّ).

٣ ـ (أَوْءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ).

٤ ـ (أَوْ أَبْنَائِهِنَّ).

٥ ـ (أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ).

٦ ـ (أَوْ إِخْوَانِهِنَّ).

٧ ـ (أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ).

٨ ـ (أَوْ بَنِى أَخَوَاتِهِنَّ).

٩ ـ (أَوْ نِسَائِهِنَّ).

١٠ ـ (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمنُهُنَّ).

١١ ـ (أَوِ التبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الْإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ). أي : الرجال الذين لا رغبة جنسية عندهم أصلاً بالعنن أو بمرض غيره.

١٢ ـ (أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النّسَاءِ).

د) وتبيّن الآية رابع الأحكام فتقول : (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ). أي : على النساء أن يتحفظن عفتهنّ.

٣٥٩

ويجب أن يراقبن تصرفهن بشدة بحيث لا يصل صوت خلخالهن إلى آذان غير المحارم. وانتهت الآية بدعوة جميع المؤمنين رجالاً ونساءً إلى التوبة والعودة إلى الله ليفلحوا : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وتوبوا أيّها الناس مما ارتكبتم من ذنوب في هذا المجال ، بعدما اطلعتم على حقائق الأحكام الإسلامية ، وعودوا إلى الله لتفلحوا.

فلسفة الحجاب : مما لا شك فيه أنّ الحديث عن الحجاب للمتغربين في عصرنا الذي سمّوه بعصر التعري والحرية الجنسية ، ليس حديثاً سارّاً حيث يتصورونه اسطورة يعود لعصور خلت. إلّاأنّ الفساد الذي لا حدّ له ، والمشاكل المتزايدة والناتجة عن هذه الحريات التي لا قيد لها ولا حدود ، أدّى بالتدريج إلى إيجاد الاذن الصاغية لهذا الحديث.

والقضية المطروحة (نقولها مع الإعتذار) : هل من الصحيح أن تُستغل النساء للتلذذ من جانب الرجال عن طريق السمع والنظر واللمس (باستثناء المجامعة) وأن يكن تحت تصرف جميع الرجال ، أو أن تكون هذه الامور خاصة لأزواجهن؟

يقول الإسلام : إنّ الامور الجنسية سواءً كانت مجامعة أو استلذاذاً عن طريق السمع أو البصر أو اللمس خاص بالأزواج ، ومحرّم على غيرهم ، لأنّ ذلك يؤدّي إلى تلويث المجتمع وانحطاطه ، وعبارة (ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) التي جاءت في الآية السابقة تشير إلى هذه المسألة.

إنّ فلسفة الحجاب ليست خافية على أحد للأسباب التالية :

١ ـ إنّ تعري النساء وما يرافقه من تجميل ودلال ـ وما شاكل ذلك ـ يحرك الرجال ـ خاصّة الشباب ـ ويحطّم أعصابهم ، وتراهم قد غلب عليهم الهياج العصبي ، وأحياناً يكون ذلك مصدراً للأمراض النفسية.

خاصة إذا لاحظنا أنّ الغريزة الجنسية ، أقوى الغرائز في الإنسان وأكثرها عمقاً ، وكانت عبر التاريخ السبب في أحداث دامية وإجرامية مرعبة ، حتى قيل : إنّ وراء كل حادثة مهمة امرأة.

أليس إثارة الغرائز الجنسية لعباً بالنار؟ وهل هذا العمل عقلاني؟

٢ ـ تبيّن إحصاءات موثقة ارتفاع نسب الطلاق وتفكّك الاسرة في العالم ، بسبب زيادة التعرّي ، لأنّ في سوق التعري والحرية الجنسية ، حيث المرأة سلعة تباع وتشترى ، أو في أقل تقدير موضع نظر وسمع الرجال ، عندها يفقد عقد الزواج حرمته.

٣ ـ انتشار الفحشاء وازدياد الأبناء غير الشرعين يعتبران من أنكى نتائج إلغاء

٣٦٠