مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

الجواب القرآني الثاني على مقولاتهم ورد في الآية التي بعدها ، موجهاً الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على سبيل المواساة وتسلية الخاطر ، وأيضاً على سبيل بيان الدليل على أصل عدم قبول دعوة النبي من قبل اولئك ، فيقول : (أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَيهُ). فهل أنت قادر مع هذا الحال على هدايته والدفاع عنه ، (أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً).

يعني إذا وقف اولئك أمام دعوتك بالإستهزاء والإنكار وأنواع المخالفات ، فلم يكن ذلك لأنّ منطقك ضعيف ودلائلك غير مقنعة ، وفي دينك شك أو ريبة ، بل لأنّهم ليسوا أتباع العقل والمنطق ، فمعبودهم أهواؤهم النفسية ، واتباع الهوى مصدر الغفلة ومنبع الكفر وعدم الإيمان.

وأخيراً فإنّ الجواب القرآني الثالث لهذه الفئة الضالة ، هو قوله : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً).

يعني لا يؤذينك استهزاؤهم ومقولاتهم السيئة وغير المنطقية أبداً ، لأنّ الإنسان إمّا أن يكون ذا عقل ، ويستخدم عقله ، فيكون مصداقاً ل «يعقلون». أو أنّه فاقد للعلم ولكنه يسمع قول العلماء ، فيكون مصداقاً ل «يسمعون» ، لكن هذه الفئة لا من اولئك ولا من هؤلاء ، وعلى هذا فلا فرق بينهم وبين الانعام ، بل هم أتعس من الأنعام وأعجز ، إذ أنّ الأنعام لا تعقل ولا فكر لها ، وهؤلاء لهم عقل وفكر ، وتسافلوا إلى حال كهذه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) (٥٠)

حركة الظلال : في هذه الآيات كلام في أقسام مهمّة من النعم الإلهية ، وكلام في نعمة «الظلال» ثم في آثار وبركات «الليل» و «النوم والإستراحة» و «ضياء» النهار و «هبوب الرياح» و «نزول المطر» و «إحياء الأراضي الموات» و «سقاية» الأنعام والناس. يقول تعالى

٤٠١

أوّلاً : (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا).

هذا الظل الممتد والمنتشر هو ذلك الظل المنتشر على الأرض بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس ، وأهنأ الظلال والساعات هي تلك ؛ لأنّه تعالى يقول على أثر ذلك : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً). إشارة إلى أنّ مفهوم الظل لم يكن ليتّضح لو لم تكن الشمس.

بعد ذلك يبيّن تعالى : ثم إنّنا نجمعه جمعاً ويئداً ، (ثُمَّ قَبَضْنهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا).

من المعلوم أنّ الشمس حينما تطلع فإنّ الظلال تزول تدريجياً ، حتى يحين وقت الظهر حيث ينعدم الظل تماماً في بعض المناطق ، وفي مناطق اخرى يصل إلى أقل من طول الشاخص ، ولهذا فالظل لا يظهر ولا يختفي دفعةً واحدةً ، وهذا نفسه حكمة الخالق ، ذلك لأنّ الإنتقال من النور إلى الظلمة بشكل فجائي يكون ضاراً بجميع المخلوقات.

بعد ذكر نعمة الظلال ، تناول القرآن الكريم بالشرح نعمتين اخريين متناسبتين معها تناسباً تاماً ، فيكشف جانباً آخر من أسرار نظام الوجود الدالة على وجود الله ، يقول تعالى : (وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيلَ لِبَاسًا).

هذا الحجاب الظلامي الذي لا يستر الناس فقط ، بل كل الموجودات على الأرض ويحفظها كاللباس ، ويلتحفه الإنسان كالغطاء الذي يستفيد منه أثناء النوم ، أو لإيجاد الظلام.

ثم يشير تعالى إلى نعمة النوم : (وَالنَّوْمَ سُبَاتًا).

«السبات» : في اللغة من «سبت» بمعنى القطع ، ثم جاء بمعنى تعطيل العمل للإستراحة.

هذا التعبير إشارة إلى تعطيل جميع الفعاليات الجسمانية أثناء النوم.

النوم في وقته وبحسب الحاجة إليه ، مجدد لجميع طاقات البدن ، وباعث للنشاط والقوة ، وأفضل وسيلة لهدوء الأعصاب.

وفي ختام الآية أشار تعالى إلى نعمة «النهار» فقال تعالى : (وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا).

«النشور» : في الأصل من النشر بمعنى البسط ، في مقابل الطي وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى انتشار الروح في أنحاء البدن ، حين اليقظة التي تشبه الحياة بعد الموت ، أو إشارة إلى انتشار الناس في ساحة المجتمع ، والحركة للمعاش على وجه الأرض.

فضياء النهار من حيث روح وجسم الإنسان باعث على الحركة حقّاً ، كما أنّ الظلام باعث على النوم والهدوء.

٤٠٢

بعد بيان هذه المواهب العظيمة ـ التي هي أهم ركائز الحياة الإنسانية ـ يتناول القرآن الكريم موهبة اخرى مهمة جدّاً فيقول : (وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا).

لا يخفى أنّ دور الرياح هو أنّها الطلائع المتقدمة لنزول الرحمة الإلهية ، لأنّ إذا لم تحمل الرياح هذه الغيوم المثقلة من أعالي المحيطات باتجاه الأراضي اليابسة ، فستتحول هذه الغيوم إلى مطر وستهطل على نفس ذلك البحر.

إنّ قسماً من هذه الرياح المتقدمة لقطعات الغيوم في حركتها وامتزاجها برطوبة ملائمة ، تبعث النسيم المنعش الذي تشم منه رائحة المطر ، هذه الرياح مثل البشير الذي يُنبىء عن قدوم مسافر عزيز.

التعبير ب «الرياح» بصيغة الجمع لعله إشارة إلى أنواع مختلفة منها ، فبعض شمالي ، وبعض جنوبي ، وبعض يهب من الشرق إلى الغرب ، ومنها ما يهب من الغرب إلى الشرق ، فتكون سبباً في انتشار الغيوم في كل الآفاق.

المهم هنا هو أنّ «الماء» قد وصف ب «الطهور» التي هي صيغة مبالغة من الطهارة والنقاء ولهذا فمفهوم الطهارة والتطهير يعني أنّ الماء طاهر بذاته ويطهر الأشياء الملوثة.

فمضافاً إلى خاصية الإحياء ، فإنّ للماء خاصية كبيرة الأهمية هي التطهير ، فلولا الماء فإنّ أجسامنا ونفوسنا وحياتنا تتسخ وتتلوث في ظرف يوم واحد.

مضافاً إلى أنّ تنقية الروح من التلوث بواسطة الغسل والوضوء تكون بالماء ، إذن فالماء مطهر للروح والجسم معاً.

لكن خاصية التطهير هذه مع ما لها من الأهمية ، اعتبرت في الدرجة الثانية ، لذا يضيف القرآن الكريم في الآية التي بعدها بأنّ الهدف من نزول المطر هو الإحياء : (لّنُحِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا). وأيضاً : (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعمًا وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا).

في الآية الأخيرة ـ مورد البحث ـ يشير تعالى إلى القرآن فيقول : جعلنا هذه الآيات بينهم بصور مختلفة ومؤثرة ليتذكروا وليتعرفوا من خلاله على قدرة الخالق ، لكن كثيراً من الناس لم يتخذوا موقفاً إزاء ذلك إلّاالإنكار والكفران : (وَلَقَدْ صَرَّفْنهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا).

٤٠٣

(وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً) (٥٥)

الآية الاولى ـ مورد البحث ـ أشارت إلى عظمة مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول تعالى : لو أردنا لبعثنا نبيّاً في كل مدينة وبلد ، لكنّنا لم نفعل هذا وألقينا مسؤولية هداية العالمين على عاتقك ، (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا). لأنّ تمركز النبوة في وجود فرد واحد يكون باعثاً على وحدة وانسجام الناس ، ومانعاً من كل فرقة وتشتت.

إنّ هذه الآية دليل على عظمة مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي دليل كذلك على وجوب وحدة القائد ، وعلى ثقل عبء مسؤوليته.

وبنفس هذا الدليل ، يبيّن الله تبارك وتعالى في الآية التالية أمرين إلهيين مهمين يشكلان منهجين أساسيين للانبياء ، فيوجه الخطاب أوّلاً إلى الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول : (فَلَا تُطِعِ الْكفِرِينَ). لا تخطُ أيّة خطوة على طريق التوافق مع انحرافاتهم ، فإنّ التوافق مع المنحرفين آفة الدعوة إلى الله.

أمّا القانون الثاني فهو : جاهد اولئك بالقرآن : (وَجهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا).

جهاداً كبيراً بعظمة رسالتك ، وبعظمة جهاد كل الأنبياء الماضين ، الجهاد الذي يشمل جميع الأبعاد الروحية والفكرية للناس ، ويشمل كل الأصعدة المادية والمعنوية.

هذا التعبير يجسد أيضاً عظمة مقام القرآن ، ذلك لأنّه وسيلة هذا الجهاد الكبير وسلاحه القاطع ، فإنّ قدرته البيانية واستدلاله وتأثيره العميق وجاذبيته فوق تصور وقدرة البشر.

ثم يتناول القرآن الكريم مجدداً الاستدلال على عظمة الخالق عن طريق بيان نعمه في النظام الكوني ، فيشير بعد ذكر المطر في الآيات السابقة إلى عدم الإختلاط بين المياه العذبة والمالحة : (وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا).

٤٠٤

«مرج» : من مادة «المرج» (على وزن فلج) بمعنى الخلط أو الإرسال ، وهنا بمعنى المجاورة بين الماء العذب والمالح.

«عذب» : بمعنى سائغ وطيب وبارد ، و «فرات» بمعنى لذيذ وهنيء.

«ملح» : بمعنى مالح ، و «أجاج» بمعنى مُرّ وحار.

«برزخ» : بمعنى حجاب وحائل بين شيئين.

فهذه الآية تصور واحداً من المظاهر المدهشة لقدرة الخالق في عالم مخلوقاته ، وكيف يستقر حجاب غير مرئي ، وحائل خفي بين البحر المالح والبحر العذب ، فلا يسمح لهما بالاختلاط.

وقد اتّضح اليوم أنّ هذا الحجاب اللامرئي ، هو ذلك «التفاوت بين كثافة المالح والعذب» وفي الإصطلاح «تفاوت الوزن النوعي» لهما ، حيث يكون سبباً في عدم امتزاجهما إلى مدة طويلة.

إنّ جعل هذه الآية وسط آيات تتعلق ب «الكفر» و «الإيمان» ربّما تكون أيضاً إشارة وتمثيلاً لهذا الأمر ، ففي المجتمع الواحد أحياناً ، وفي المدينة الواحدة ، بل حتى في البيت الواحد أحياناً ، يتواجد أفراد مؤمنون كالماء العذب والفرات ، مع أفراد بلا إيمان كالماء المالح الأجاج ... مع طرازين من الفكر ، ونوعين من العقيدة ، ونمطين من العمل ، طاهر وغير طاهر ، دون أن يمتزجا.

في الآية التالية ـ بمناسبة البحث في نزول المطر ، وفي البحرين العذب والأجاج المتجاورين ـ يتحدث القرآن الكريم عن خلق الإنسان من الماء ، فيقول تعالى : (وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا). أي إنّ الإنسان الأوّل خلق من ماء ، وأن تكوّن جميع أفراد البشر من ماء النطفة أيضاً ، وأنّ الماء يشكل أهم مادة في بناء جسم الإنسان أيضاً ... الماء الذي يعتبر من أبسط موجودات هذا العالم ، كيف صار مبدأ إيجاد مثل هذا الخلق الجميل؟! وهذا دليل بيّن على قدرته تبارك وتعالى.

بعد ذكر خلق الإنسان ، يورد جلّ ذكره الكلام عن انتشار الأنسان ، فيقول : (فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا).

المقصود من «النسب» هو القرابة التي تكون بين الناس عن طريق الذرية والولد ، مثل إرتباط الأب والابن ، أو الإخوة بعضهم مع بعض ، أمّا المقصود من «صهر» التي هي في

٤٠٥

الأصل بمعنى «الختن» هو الإرتباط الذي يقام بين طائفتين عن هذا الطريق ، مثل إرتباط الإنسان بأقرباء زوجته.

في ختام الآية يقول تبارك وتعالى بصيغة التأكيد على المسائل الماضية : (وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا).

ويبيّن القرآن الكريم في نهاية المطاف في الآية الأخيرة ـ مورد البحث ـ انحراف المشركين عن أصل التوحيد ، من خلال المقايسة بين قدرة الأصنام وقدرة الخالق ، حيث مرّت نماذج منها في الآيات السابقة ، يقول : (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَايَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ).

من المسلّم أنّ وجود المنفعة والضرر لا يكون وحده معيار العبادة ، لكن القرآن يبيّن من خلال هذا التعبير هذه النكتة ، وهي أنّهم يفتقدون أية حجة في هذه العبادة ، لأنّ الأصنام موجودات عديمة الخاصية تماماً ، وفاقدة لأية قيمة ، ولأي تأثير سلبي أو إيجابي.

ويضيف القرآن الكريم في ختام الآية : أنّ الكفرة يعين بعضهم بعضاً في مواجهة خالقهم «في طريق الكفر» (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيرًا). ويعبئون القوى ويقيمون العراقيل ضد دين الله ونبيّه والمؤمنين الحقيقيين.

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً) (٥٩)

أجري هو هدايتكم : كان الكلام في الآيات السابقة حول إصرار الوثنيين على عبادتهم الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع ، وفي الآية الحالية الاولى يشير القرآن إلى مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبالة هؤلاء المتعصبين المعاندين ، فيقول تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنكَ إِلَّا مُبَشّرًا وَنَذِيرًا).

إذا لم يتقبل هؤلاء دعوتك ، فلا جناح عليك ، فقد أديت مهمتك في البشارة والإنذار.

هذا الخطاب ، كما يشخص مهمّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كذلك يسلّيه ، وفيه نوع من التهديد لهذه الفئة الضالة ، وعدم المبالاة بهم.

ثم يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول لهم أنني لا اريد منكم في مقابل هذا القرآن وابلاغكم رسالة

٤٠٦

السماء أي أجر وعوض : (قُلْ مَا أَسَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ). ثم يضيف : إنّ الأجر الوحيد الذي أطلبه أن يهتدي الناس إلى طريق الله (إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً).

يعني أجري وجزائي هو هدايتكم فقط ، وبكامل الإرادة والاختيار أيضاً ، فلا إكراه ولا إجبار فيه ، وكم هو جميل هذا التعبير الكاشف عن غاية لطف ومحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأتباعه ، ذلك لأنّه عدّ أجره وجزاءه سعادتهم.

وتبيّن الآية التي بعدها المعتمد الأساس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىّ الَّذِى لَايَمُوتُ).

فمع هذا المعتمد والملجأ فلا حاجة لك بأجر وجزاء هؤلاء ، ولا خوف عليك من ضررهم ومؤامراتهم.

والآن حيث الأمر على هذه الصورة فسبح الله تنزيهاً له من كل نقص ، وأحمده إزاء كل هذه الكمالات : (وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ).

ثم يضيف القرآن الكريم : لا تقلق من بهتان ومؤامرات الأعداء ، لأنّ الله مطلع على ذنوب عباده وسيحاسبهم : (وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا).

الآية التالية بيان لقدرة الخالق في ساحة عالم الوجود ، ووصف آخر لهذا الملاذ الأمين. يقول تعالى : (الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ). (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) فأخذ بتدبير العالم.

إنّ من له هذه القدرة الواسعة يستطيع أن يحفظ المتوكلين عليه من كل خطر وحادثة.

وفي ختام الآية يضيف تعالى : (الرَّحْمنُ) : من شملت رحمته العامة جميع الموجودات ، فالمطيع والعاصي والمؤمن والكافر يغترفون من خوان نعمته التي لا انقطاع فيها.

والآن ، حيث ربّك الرحمن القادر المقتدر ، فإذا أردت شيئاً فاطلب منه فإنّه المطلع على احتياجات جميع عباده : (فَسَلْ بِهِ خَبِيرًا).

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (٦٠) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) (٦٢)

البروج السماوية : كان الكلام في الآيات الماضية عن عظمة وقدرة الله ، وعن رحمته

٤٠٧

أيضاً ، ويضيف الله تعالى في الآية الاولى هنا : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمنُ).

نحن لا نعرف «الرحمن» أصلاً ، وهذه الكلمة ليس لها مفهوم واضح عندنا ، (أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا). نحن لا نخضع لأيّ أحد ، وسوف لن نكون أتباع أمر هذا أو ذاك ، (وَزَادَهُمْ نُفُورًا). أي أنّهم يتكلمون بهذا الكلام ويزدادون ابتعاداً ونفوراً عن الحق.

لا شكّ أنّ أنسب اسم من أسماء الله للدعوة إلى الخضوع والسجود بين يديه ، هو ذلك الاسم الممتلىء جاذبية (الرحمن) مع مفهوم رحمته العامّة الواسعة ، لكن أولئك بسبب عمى قلوبهم ولجاجتهم ، لم يظهروا تأثراً حيال هذه الدعوة ، بل تلقوها بالسخرية والاستهزاء ، وقالوا على سبيل التحقير : (وَمَا الرَّحْمنُ).

الآية التالية إجابة على سؤالهم حيث كانوا يقولون : «وما الرحمن؟» وإن كانوا يقولون هذا على سبيل السخرية ، لكن القرآن يجيبهم إجابة جادة ، يقول تعالى : (تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا). «البروج» : جمع «برج» في الأصل بمعنى «الظهور» ولذا يسمون ذلك القسم الأعلى والأظهر من جدار أطراف المدينة أو محل تجمع الفرقة العسكرية «برج». فالبروج السماوية إشارة إلى الصور الفلكية الخاصة حيث تستقر الشمس والقمر في كل فصل وكل موضع من السنة إزاء واحد منها ، يقولون مثلاً : استقرت الشمس في برج «الحمل» يعني أنّها تكون بمحاذاة «الصورة الفلكية» ، «الحمل» ، أو القمر في «العقرب» يعني وقفت كرة القمر أمام الصورة الفلكية «العقرب».

بهذا الترتيب ، أشارت الآية إلى منازل الشمس والقمر السماوية ، وتضيف على أثر ذلك : (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا).

مع هذه الدلائل الواضحة ، ومع هذه المنازل البديعة والدقيقة للشمس والقمر ، فهل مازلتم تجهلونه وتقولون : «وما الرحمن؟!»

في الآية الأخيرة يواصل القرآن الكريم التعريف بالخالق سبحانه ، ويتحدث مرّة اخرى في قسم آخر من نظام الوجود ، فيقول تعالى : (وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا).

هذا النظام البديع الحاكم على الليل والنهار ، لولاه لانعدمت حياة الإنسان نتيجةً لشدة النور والحرارة أو الظلمة والعتمة ، وهذا دليل رائع للذين يريدون أن يعرفوا الله عزوجل.

٤٠٨

(وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (٦٥) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً) (٦٧)

الصفات الخاصة لعباد الرحمن : هذه الآيات ـ فما بعد ـ تستعرض بحثاً جامعاً فذاً حول الصفات الخاصة لعباد الرحمن ، وتبيّن اثنتي عشر صفة من صفاتهم الخاصّة ، إكمالاً للآيات الماضية حيث كان المشركون المعاندون حينما يذكر اسم الله «الرحمن» يقولون وملء رؤوسهم استهزاء وغرور «وما الرحمن؟» ورأينا أنّ القرآن يعرّف لهم «الرحمن» ضمن آيتين ، وجاء الدور الآن ليعرّف «عباد الرحمن».

إنّ أوّل صفة ل «عباد الرحمن» هو نفي الكبر والغرور والتعالي ، الذي يبدو في جميع أعمال الإنسان حتى في طريقة المشي ، لأنّ الملكات الأخلاقية تظهر نفسها في حنايا أعمال وأقوال وحركات الإنسان بحيث إنّ من الممكن تشخيص قسم مهم من أخلاقه ـ بدقة ـ من أسلوب مشيته. يقول تعالى : (وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِين يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) (١).

نعم ، إنّهم متواضعون ، والتواضع مفتاح الإيمان ، في حين يعتبر الغرور والكبر مفتاح الكفر.

الصفة الثانية ل «عباد الرّحمن» الحلم والصبر ، كما يقول القرآن في مواصلته هذه الآية : (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجهِلُونَ قَالُوا سَلمًا). السلام الذي هو علامة اللامبالاة المقترنة بالعظمة ، وليس الناشيء عن الضعف ؛ وليس سلام التحية الذي هو علامة المحبة ورابطة الصداقة ، بل السلام الذي هو علامة الحلم والصبر والعظمة.

وتتناول الآية الثانية ، خاصيتهم الثالثة التي هي العبادة الخالصة لله ، فيقول تعالى :

__________________

(١) «هون» : مصدر ، وهو بمعنى الناعم والهادي المتواضع ، واستعمال المصدر في معنى اسم الفاعل هنا للتوكيد ؛ يعني أنّهم في ما هم عليه كأنّهم عين الهدوء والتواضع.

٤٠٩

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وَقِيمًا). في عتمة الليل حيث أعين الغافلين نائمة ، وحيث لا مجال للتظاهر والرياء ، حرّموا على أنفسهم لذة النوم ، ونهضوا إلى ما هو ألذّ من ذلك ، حيث ذكر الله والقيام والسجود بين يدي عظمته عزوجل.

الصفة الرابعة لهم هي الخوف من العذاب الإلهي : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا). أي شديداً ومستديماً. (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا).

ومع أنّهم مشتغلون بذكر الله وعبادته في الليالي ، ويقضون النهار في إنجاز تكاليفهم ، فإنّ قلوبهم أيضاً مملوءة بالخوف من المسؤوليات.

«غرام» : في الأصل بمعنى المصيبة والألم الشديد الذي لا يفارق الانسان. وتطلق هذه الكلمة على «جهنم» لأنّ عذابها شديد ودائم لا يزول.

في الآية الأخيرة يشير جل ذكره إلى الصفة الممتازة الخامسة ل «عباد الرحمن» التي هي الإعتدال والإبتعاد عن أي نوع من الإفراط والتفريط في الأفعال ، خصوصاً في مسألة الإنفاق ، فيقول تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَامًا).

الملفت للإنتباه أنّه يورد الكلام في كيفية إنفاقهم فيقول : إنّ إنفاقهم إنفاق عادل (معتدل) بعيد عن أي إسراف وبخل ، فلا يبذلون بحيث تبقى أزواجهم وأولادهم جياعاً ، ولا يقترون بحيث لا يستفيد الآخرون من مواهبهم وعطاياهم.

إنّ «الإسراف» هو أن ينفق المسلم أكثر من الحد ، وفي غير حق ، وبلا داع ، و «الإقتار» هو أن ينفق أقل من الواجب.

«قوام» : لغة بمعنى العدل والإستقامة والحد والوسط بين شيئين.

(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (٦٩) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَاباً) (٧١)

ميزة «عباد الرحمن» السادسة التي وردت في هذه الآيات هي التوحيد الخالص الذي

٤١٠

يبعدهم عن كل أنواع الشرك والثنوية والتعددية في العبادة ، فيقول تعالى : (وَالَّذِينَ لَايَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهًاءَاخَرَ).

الصفة السابعة : طهارتهم من التلوث بدم الأبرياء : (وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقّ).

ويستفاد جيداً من الآية أعلاه أنّ جميع الأنفس الإنسانية محترمة في الأصل ، ومحرم إراقة دمائها إلّاإذا تحققت أسباب ترفع هذا الإحترام الذاتي فتبيح إراقة الدم.

صفتهم الثامنة : هي أنّ عفافهم لا يتلوث أبداً : (وَلَا يَزْنُونَ).

إنّهم على مفترق طريقين : الكفر والإيمان ، فينتخبون الإيمان ، وعلى مفترق طريقين : الأمان واللاأمان في الأرواح ، فهم يتخيرون الأمان ، وعلى مفترق طريقين : الطهر والتلوث ، فهم يتخيرون النقاء والطهر. إنّهم يهيئون المحيط الخالي من كل أنواع الشرك والتعدي والفساد والتلوث ، بجدهم واجتهادهم.

وفي ختام هذه الآية يضيف تعالى من أجل التأكيد أكثر : (وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَامًا).

«الإثم» و «آثام» : في الأصل بمعنى الأعمال التي تمنع من وصول الإنسان إلى المثوبة ، ثم أطلقت على كل ذنب ، لكنها هنا بمعنى جزاء الذنب.

تتكيء الآية التالية أيضاً على ما سبق ، من أنّ لهذه الذنوب الثلاثة أهمية قصوى ، فيقول تعالى : (يُضعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا).

والمقصود من مضاعفة العذاب أنّ كل ذنب من هذه الذنوب الثلاثة المذكورة في هذه الآية سيكون له عقاب منفصل ، فتكون العقوبات بمجموعها عذاباً مضاعفاً.

فضلاً عن أنّ ذنباً ما يكون أحياناً مصدر الذنوب الاخرى ، مثل الكفر الذي يسبب ترك الواجبات وارتكاب المحرمات ، وهذا نفسه موجب لمضاعفة العذاب الإلهي.

لكن القرآن المجيد كما مرّ سابقاً ، لم يغلق طريق العودة أمام المجرمين في أي وقت من الأوقات ، بل يدعو المذنبين إلى التوبة ويرغبهم فيها ، ففي الآية التالية يقول تعالى هكذا : (إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولئِكَ يُبَدّلُ اللهُ سَيَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا).

تبديل السيئات حسنات : هنا عدّة تفاسير ، يمكن القبول بها جميعاً :

١ ـ حينما يتوب الإنسان ويؤمن بالله ، تتبدل سيئات أعماله في المستقبل حسنات ، فإذا كان قاتلاً للنفس المحترمة في الماضى ، فإنّه يتبنى مكانها في المستقبل الدفاع عن المظلومين

٤١١

ومواجهة الظالمين. وهذا التوفيق الإلهي يناله العبد في ظل الإيمان والتوبة.

٢ ـ إنّ الله تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وفضله وإنعامه يمحو سيئات أعمال العبد بعد التوبة ، ويضع مكانها حسنات.

٣ ـ والمقصود من السيئات آثارها السيئة التي تنطبع بها روح ونفس الإنسان ، فحينما يتوب ويؤمن تجتث تلك الآثار السيئة من روحه ونفسه.

الآية التالية تشرح كيفية التوبة الصحيحة ، فيقول تعالى : (وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا) (١). يعني أنّ التوبة وترك الذنب ينبغي ألّا تكون بسبب قبح الذنب ، بل ينبغي ـ إضافة إلى ذلك ـ أن يكون الدافع إليها خلوص النية ، والعودة إلى الله تبارك وتعالى.

(وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (٧٢) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (٧٤) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (٧٥) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) (٧٦)

الصفة التاسعة لـ «عباد الرحمن» ، هي احترام وحفظ حقوق الآخرين : إنّ هؤلاء لا يشهدون بالباطل مطلقاً : (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ). والمقصود من «الشهود» هو «الحضور» يعني أنّ عباد الرّحمن لا يتواجدون في مجالس الباطل. فعباد الرّحمن لا يؤدون الشهادة الكاذبة ، ولا يشهدون مجالس اللهو والباطل والخطيئة ، ذلك لأنّ الحضور في هذه المجالس ـ فضلاً عن ارتكاب الذنب ـ فإنّه مقدمة لتلوث القلب والروح.

ثم يشير تعالى في آخر الآية إلى صفتهم الرفيعة العاشرة ، وهي امتلاك الهدف الإيجابي في الحياة ، فيقول : (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا).

إنّهم لا يحضرون مجالس الباطل ، ولا يتلوثون باللغو والبطلان.

الصفة الحادية عشر لهذه النخبة امتلاك العين الباصرة والاذن السامعة حين مواجهتهم

__________________

(١) «متاب» : مصدر ميمي بمعنى التوبة ، ولأنّه مفعول مطلق هنا ، فهو للتوكيد.

٤١٢

لآيات الخالق ، فيقول تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُوا بَايَاتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا).

من المسلّم أنّ المقصود ليس الإشارة إلى عمل الكفار ، ذلك لأنّهم لا اعتناء لهم بآيات الله أصلاً ، بل إنّ المقصود : فئة المنافقين أو مسلمو الظاهر ، الذين يقعون على آيات الله بأعين وآذان موصدة ، دون أن يتدبّروا حقائقها ، ويستهدوه في أعمالهم.

التلقي الواعي عن الدين هو المعين الأساس للمقاومة والثبات والصمود ، لأنّ من اليسير خداع من يقتصر على ظواهر الدين ، وبتحريفه يتم الإنحراف عن الخط الأصيل ، فيهوي بهم ذلك إلى وادي الكفر والضلالة وعدم الإيمان.

الصفة الثانية عشر الخاصّة لهؤلاء المؤمنين الحقيقيين ، هي التوجه الخاص إلى تربية أبنائهم وعوائلهم ، وإيمانهم بمسؤوليتهم العظيمة إزاء هؤلاء : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِن أَزْوَاجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ).

بديهي أنّ معنى هذا ليس أن يقبعوا في زاوية ويتضرعوا بالدعاء ، بل إنّ الدعاء دليل شوقهم وعشقهم الداخلي لهذا الأمر ، ورمز جدهم واجتهادهم.

والصفة الثالثة عشر ل «عباد الرحمن» ، التي هي أهم هذه الصفات من وجهة نظر معينة : هي أنّهم لا يقنعون أبداً أنّهم على طريق الحق ، بل إنّ همتهم عالية بحيث يريدون أن يكونوا أئمة وقدوات للمؤمنين ، ليدعوا الناس إلى هذا الطريق أيضاً. إنّهم ليسوا كالزهاد المنزوين في الزوايا ، وليس همّهم انقاذ أنفسهم من الغرق ، بل إنّ سعيهم هو أن ينقذوا الغرقى. لذا يقول في آخر الآية ، إنّهم الذين يقولون : (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).

نعم ، إنّهم عباد الرحمن ، وكما أنّ رحمة الله العامة تشمل الجميع فإنّ رحمة الله بهؤلاء العباد عامة أيضاً من أكثر من جهة ، فعلمهم وفكرهم وبيانهم وقلمهم ومالهم وقدرتهم تخدم بلا انقطاع في طريق هداية خلق الله.

اولئك نماذج الإنسان الكامل والاسوة في المجتمع الإنساني.

اولئك قدوات المتقين.

بعد إكمال هذه الصفات الثلاثة عشرة ، يشير تعالى إلى عباد الرحمن هؤلاء مع جميع هذه الخصائص ، وفي صورة الكوكبة الصغيرة ، فيبيّن جزاءهم الإلهي : (أُولئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا). «غرفة» : من مادة «غرف» (على وزن حرف) بمعنى رفع الشيء وتناوله ، ويقال لما يغترف ويتناول «غرفة» ، ثم اطلقت على الأقسام العليا من البناء ، ومنازل

٤١٣

الطبقات العليا ، وهي هنا كناية عن أعلى منازل الجنة.

المهم أنّ الصبر ليس وصفاً جديداً لهم ، بل هو ضمانة تطبيق جميع الصفات السابقة ، وعلى هذا فللصبر هنا مفهوم واسع ، فالتحمل والصمود أمام مشكلات طريق الحق ، والجهاد والمواجهة ضد العصاة ، والوقوف أمام دواعي الذنوب ، تجتمع كلها في ذلك المفهوم.

ثم يضيف تعالى : (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلمًا).

أهل الجنّة يحيي بعضهم بعضاً ، وتسلم الملائكة عليهم ، وأعلى من كل ذلك أنّ الله يحييهم ويُسلم عليهم.

ثم يقول تبارك وتعالى للتأكيد أكثر : (خلِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا).

(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) (٧٧)

لولا دعاؤكم ، لما كانت لكم قيمة : هذه الآية التي هي الآية الأخيرة في سورة الفرقان ، جاءت في الحقيقة نتيجة لكل السورة ، وللأبحاث التي بصدد صفات «عباد الرحمن» في الآيات السابقة ، فيقول تبارك وتعالى مخاطباً النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ). وبناء على هذا ، إنّ ما يعطيكم الوزن والقيمة والقدر عند الله هو الإيمان بالله والتوجه إليه ، والعبودية له.

ثم يضيف تعالى : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا).

يعني : أنّكم قد كذبتم فيما مضى بآيات الله وبأنبيائه ، فإذا لم تتوجهوا إلى الله ، ولم تسلكوا طريق الإيمان به والعبودية له ، فلن تكون لكم أية قيمة أو مقام عنده ، وستحيط بكم عقوبات تكذيبكم.

«نهاية تفسير سورة الفرقان»

* * *

٤١٤

٢٦

سورة الشّعراء

محتوى السورة : إنّنا نعلم أنّ السور المكية التي أنزلت في بداية دعوة الإسلام ، تستند على بيان الاصول الاعتقادية : التوحيد والمعاد ، ودعوة أنبياء الله ، وأهمية القرآن.

وتدور جميع موضوعات سورة الشعراء حول هذه المسائل تقريباً.

ويمكن تلخيص محتوى هذه السورة في عدة أقسام :

١ ـ مطلع هذه السورة الذي يتكون من الحروف المقطعة ، ثم يتحدث في عظمة القرآن ، وتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مواجهة إصرار وحماقة المشركين ، والإشارة إلى بعض دلائل التوحيد ، وصفات الله تبارك وتعالى.

٢ ـ يحكي جوانب من قصص سبعة أنبياء عظام ومواجهاتهم مع أقوامهم ، والذي يشبه كثيراً منطق مشركي عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان هذا سبباً في تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين الأوائل.

وفيه بشكل خاص أيضاً ، تركيز على العذاب العظيم والإبتلاءات المروعة التي حلّت بهذه الأمم ، والذي هو بذاته تهديد مؤثر لأعداء النبي في تلك الشرائط.

٣ ـ وتغلب عليه جنبه الإستنتاج من القسمين الأوليين ، يتناول الحديث حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعظمة القرآن ، وتكذيب المشركين ، والأوامر الصادرة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يتعلق بطريقة الدعوة ، وكيفية التعامل مع المؤمنين ، ويختم السورة بالبشرى للمؤمنين الصالحين ، وبالتهديد الشديد للظالمين.

٤١٥

وبالمناسبة ، فإنّ اسم هذه السورة أخذ من مجموعة الآيات الأخيرة التي تتحدث حول الشعراء غير المؤمنين.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح عليه‌السلام وكذّب به ، وهود وشعيب وصالح وابراهيم عليهم‌السلام وبعدد من كذّب بعيسى عليه‌السلام وصدّق بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والمراد من التلاوة هي ما كانت مقدمة للتفكر ، ثم العزم والعمل.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (٤) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) (٦)

مرّةً اخرى نواجه في بداية هذه السورة مثلاً آخر من الحروف المقطعة وهو : (طسم).

ورد في روايات متعددة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعض أصحابه في تفسير «طسم» أنّ هذه الحروف علامات «مختصرة» عن أسماء الله تعالى ، أو أسماء القرآن ، أو الأمكنة المقدسة ، أو بعض أشجار الجنة.

وهذه الرّوايات تؤيد التّفسير الذي نقلناه في مستهلّ سورة الأعراف في هذا الصدد ، كما أنّها في الوقت ذاته لا تنافي ما قلناه في مستهل سورة البقرة من أنّ المراد من هذه الحروف بيان إعجاز القرآن وعظمته ، حيث إنّ هذا الكلام العظيم مؤلف من حروف بسيطة وصغيرة.

والآية التالية تبيّن عظمة القرآن بهذا النحو : (تِلْكَءَايتُ الْكِتبِ الْمُبِينِ).

ووصف القرآن بـ «المبين» المشتق من «البيان» ، هو إشارة إلى كونه جليّاً بيّناً عظيماً معجزاً ـ فكلّما أمعن الإنسان النظر في محتواه تعرّف على إعجازه أكثر فأكثر ... ثم بعد هذا فإنّ القرآن يبيّن الحق ويميزه عن الباطل ، ويوضّح سبيل السعادة والنصر والنجاة من الضلال.

٤١٦

وتتحرك الآية التالية لتُسرّي عن قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتثبته فتقول : (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). «باخع» : مشتقة من «البَخْع» ، ومعناه إهلاك النفس من شدة الغمّ.

أجل ، كان جميع الأنبياء على هذه الشاكلة من الإشفاق على اممهم ولا سيما الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي ورد في شأنه هذا التعبير القرآني أكثر من مرّة ...

قال بعض المفسرين : إنّ سبب نزول الآية الآنفة الذكر هو أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يدعو أهل مكة إلى توحيد الله باستمرار ، إلّاأنّهم لم يؤمنوا ، فأسف النبي وتأثر تأثراً بالغاً حتى بدت أماراته في وجهه ، فنزلت الآية آنفة الذكر لتسرّي عن قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

ولبيان أنّ الله على كل شيء قدير حتى أنّه يستطيع أن يسوقهم إلى الإيمان به سوقاً ويضطرّهم إلى ذلك ، فإنّ الآية التالية تقول : (إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِم مّنَ السَّمَاءِءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ).

وهي إشارة إلى أنّ الله قادر على إنزال معجزة مذهلة ـ من السماء ـ أو أن يرسل عليهم عذاباً شديداً فيذعنوا له ، ويطأطئوا برؤوسهم خضوعاً له ، ويستسلموا لأمره وحكمه ، إلّاأنّ الإيمان بإكراه لا قيمة له. فالمهم أن يخضعوا للحق عن إرادة ووعي وإدراك وتفكر.

ثم يتحدث القرآن عن مواقف المشركين والكفار من آيات القرآن فيقول : (وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ).

والتعبير ب (الرّحمن) إشارة إلى أنّ نزول هذه الآيات من قبل الله إنّما هو من رحمته العامة ، إذ تدعو جميع الناس دون استثناء إلى السعادة والكمال.

والتعبير ب «محدث» ـ أي جديد ـ إشارة إلى أنّ آيات القرآن تنزل واحدةً تلو الاخرى ، وكل منها ذو محتوى جديد.

ثم يضيف القرآن : أنّ هؤلاء لا يقفون عند حدود الإعراض ، بل يتجاوزون إلى مرحلة التكذيب ، بل إلى أشدّ منه ليصلوا إلى الإستهزاء به ، فيقول : (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ). «الأنباء» : جمع «انبأ» ، أي الخبر المهم ، والمراد من هذه الكلمة ما سيصيبهم من العقاب الشديد الدنيوي والأخروي.

والتحقيق في هذه الآية والآية السابقة يكشف أنّ الإنسان حين ينحرف عن الجادة المستقيمة فإنّه يفصل نفسه عن الحق ـ بشكل مستمر.

__________________

(١) تفسير روح الجنان ٨ / ٣٢٤.

٤١٧

ففي المرحلة الاولى يعرض عن الحق ويصرف بوجهه عنه ... ثم بالتدريج يبلغ مرحلة الإنكار والتكذيب .. ثم يتجاوز هذه المرحلة إلى السخرية والإستهزاء ... ونتيجةً لذلك ينال عقاب الله وجزاءه (وقد ورد نظير هذا التعبير في الآيتين ٤ و ٥ من سورة الأنعام).

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٩)

الزوجية في النباتات : كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إعراض الكفار عن الآيات التشريعية (أي القرآن المجيد) ، أمّا في الآيات محل البحث فالكلام عن الآيات التكوينية ودلائل الله في خلقِه وما أوجده سبحانه ؛ فتقول الآية الاولى من هذه الآيات : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ). «كريم» : في الأصل تعني كل شيء قيّم وثمين.

والمراد من (كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) هو النباتات المهمّة ذوات الفائدة.

وتأتي الآية التالية لتقول مؤكّدة بصراحة : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً). إلّاأنّ اولئك الذين طُبع على قلوبهم في غفلة وجهل إلى درجة يرون معها آيات الله بأعينهم ، ومع ذلك يجحدونها ويكفرون بها ، ويترسخ في قلوبهم العناد والجدل. لذلك فإنّ الآية هذه تعقّب قائلة : (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ). أي إنّ عدم الإيمان لدى اولئك أمسى كالصفة الراسخة فيهم ، فلا عجب أن لا ينتفعوا من هذه الآيات.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يرد الخطاب في تعبير يدل على التهديد والترهيب والتشويق والترغيب ، فيقول سبحانه : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

«العزيز» : معناه المقتدر الذي لا يغلب ولا يُقهر ، فهو قادر على إظهار الآيات العظمى ، كما أنّه قادر على إهلاك المكذبين وتدميرهم .. إلّاأنّه مع كل ذلك رحيم ، ورحمته وسعت كل شيء ، ويكفي الرجوع بإخلاص إليه في لحظة قصيرة ، لتشمل رحمته من أناب إليه وتاب ، فيعفو عنه بلطفه ورحمته.

(وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (١١) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) (١٥)

٤١٨

بداية رسالة موسى : قلنا إنّ في هذه السورة بياناً لقصص سبعة من الأنبياء الكرام العظام ، ليكون درس اعتبار لعامّة المسلمين ، ولا سيما المسلمين الأوائل في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ... فأوّل قصّة تتناولها هذه السورة هي قصة موسى عليه‌السلام ، وتشرح جوانب مختلفة من حياته ومواجهته لفرعون وأتباعه حتى هلاكهم بالغرق في النيل.

وممّا يلفت النظر تكرار عبارة : (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ، بعد تمام الحديث عن كل نبي ... وهو التعبير ذاته الوارد في بداية هذه السورة في شأن النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .. وهذا الإتساق في التعبير شاهد حيّ على أنّ ذكر هذه الجوانب من قصص الأنبياء إنّما هو للظروف المتشابهة التي أكتنفت المسلمين من حيث الحالة النفسية والإجتماعية كما كان عليها الأنبياء السابقون ...

فتقول الآيتان الاوليان من الآيات محل البحث : (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ). ويتركون ظلمهم وفسادهم وعنادهم للحق.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ الصفة الوحيدة المذكورة عن قوم فرعون هنا هي الظلم ، ومن الواضح أنّ الظلم له معنى جامع واسع ومن مصاديقه الشرك كما تقول الآية (١٣) من سورة لقمان : (إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

كما أنّ استعباد بني إسرائيل واستثمارهم وما قارنهما من زجر وتعذيب من المصاديق الاخرى أيضاً ، ثم بعد هذا كلّه فإنّ قوم فرعون ظلموا أنفسهم بأعمالهم المخالفة ، وهكذا يمكن تلخيص أهداف دعوة الأنبياء جميعهم بمبارزة الظلم بجميع أبعاده ...

ويحكي القرآن مقالة موسى الكليم لربّ العزة وما طلبه منه من مزيد القوة والعون لحمل الرسالة العظمى ، فيقول في الآية التالية : (قَالَ رَبّ إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ). وأخشى أن اطرد قبل أن أكمل أداء رسالتي بما الاقيه من صخب وتكذيب فلا يتحقق الهدف المنشود ...

وكان لموسى الحق في كلامه هذا تماماً ، لأنّ فرعون وأتباعه وحاشيته كانوا مهيمنين على مصر ، بحيث لم يكن لأحد أن يخالفهم ولو برأيه ، وإذا أحسّوا بأدنى نغمة مخالفة لأي شخص بادروا إلى الإجهاز عليه فوراً ..

وإضافة إلى ذلك فإنّ صدري لا يتّسع لاستيعاب هذه الرسالة الإلهية : (وَيَضِيقُ صَدْرِى).

ثم بعد هذا كلّه فلساني قد يعجز عن بيانها : (وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِى) ...

٤١٩

فلذلك فإنّي أطلب أن تشدّ أزري بأخي : (فَأَرْسِلْ إِلَى هرُونَ).

لنؤدّي رسالتك الكبرى بأكمل وجه بتعاضدنا في مواجهة الظالمين والمستكبرين.

وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ قوم فرعون يطاردونني (وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ) كما يعتقدون لأنّي قتلت واحداً منهم ـ حين كان يتنازع مع إسرائيلي مظلوم ـ بضربة حاسمة ، وأنا قلق من ذلك : (فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ).

إنّ موسى لم يكن خائفاً على نفسه ، بل كان خوفه أن لا يصل إلى الهدف والمقصد للأسباب آنفة الذكر ، لذلك فقد كان يطلب من الله سبحانه مزيد القوة لهذه المواجهة ...

فاستجاب الله طلب موسى ودعوة الصادقة و (قَالَ كَلَّا). فلن يستطيعوا قتلك ، أو كلّا لن يضيق صدرك وينعقد لسانك ، وقد أجبنا دعوتك أيضاً في شأن أخيك ، فهو مأمور معك في هذه المهمة : (فَاذْهَبَا بَايَاتِنَا) لتدعوا فرعون وقومه إلى توحيد الله.

ولا تظنّا بأنّ الله بعيد عنكم أو لا يسمع ما تقولان : (إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ) ...

(فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٧) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (١٩) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (٢٢)

مواجهة فرعون مواجهةً منطقية وقاطعة : انتهت في الآيات المتقدمة المرحلة الاولى لمأمورية موسى عليه‌السلام وهي موضوع الوحي والرسالة وطلبه أسباب الوصول إلى هذا الهدف الكبير ... وتعقيباً على المرحلة الآنفة تأتي الآيات ـ محل البحث ـ لتمثل المرحلة الثانية ، أي مواجهة موسى وهارون لفرعون ، والكلام المصيري الذي جرى بينهم. تقول الآية الاولى من هذه الآيات مقدمة لهذه المرحلة : (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ).

وضمن دعوتكما لفرعون بأنّكما رسولا ربّ العالمين اطلبا منه أن يُرسل بني إسرائيل ويرفع يده عنهم : (أَن أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ).

وبديهي أنّ المراد من الآية أن يرفع فرعون عن بني إسرائيل نير العبودية والقهر

٤٢٠