مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

وأعمالكم واعتقادكم ومقاصدكم ، فكلّها واضحة له سبحانه وتعالى ، وثابتة في لوحة علمه (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُوا). ويجازيهم بها (وَاللهُ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيمٌ).

ومما يلفت النظر تأكيد الآية ثلاث مرات على علم الله بأعمال البشر ، ليشعر الإنسان أنّه مراقب بشكل دائم ، ولا يخفى على الله شيء من أعمال هذا الإنسان أبداً ، ولهذا الإعتقاد أثره التربوي الكبير ويضمن سيطرة الإنسان على نفسه إزاء الانحرافات والذنوب.

«نهاية تفسير سورة النور»

* * *

٣٨١
٣٨٢

٢٥

سورة الفرقان

محتوى السورة : تتألف هذه السورة في مجملها من ثلاثة أقسام :

١ ـ الذي يشكل مطلع هذه السورة ، يدحض منطق المشركين بشدّة ، ويستعرض ذرائعهم ، ويردّ عليها ، ويخوفهم من عذاب الله ، وحساب يوم القيامة ، وعقوبات جهنم الأليمة ، ويذكّرهم بمقاطع من قصص الأقوام الماضية.

٢ ـ ولأجل إكمال هذا البحث ، تبحث الآيات بعض دلائل التوحيد ومظاهر عظمة الله في الأكوان.

٣ ـ مختصر جذاب ، وجامع لصفات المؤمنين الحقيقيين (عباد الرحمن) وعباد الله المخلصين ، في مقايسة مع الكفار المتعصبين الذين ذكروا في القسم الأوّل ، فتتحدد منزلة كل من الفريقين تماماً ، كما أنّنا سنرى أنّ هذه الصفات مجموعة من الاعتقاديات والأعمال الصالحة ومكافحة الشهوات ، وامتلاك الوعي الكافي ، والإحساس والإلتزام بالمسؤولية الإجتماعية.

واسم هذه السورة قد اخذ من آيتها الاولى ، التي تعبر عن القرآن ب «الفرقان» (الفاصل بين الحق والباطل).

فضيلة تلاوة السورة : في في تفسير مجمع البيان قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ سورة الفرقان

٣٨٣

بعث يوم القيامة وهو يؤمن أنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث من في القبور».

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢)

المقياس الأعلى للمعرفة : تبدأ هذه السورة بجملة «تبارك» من مادة «بركة» ، ونعلم أنّ الشيء ذو بركة ، عبارة عن أنّه ذو دوام وخير ونفع كامل. يقول تعالى : (تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعلَمِينَ نَذِيرًا).

الملفت للإنتباه أنّ ثبوت البركة لذات الخالق عزوجل بواسطة نزول الفرقان ، يعني أنّه أنزل قرآناً فاصلاً بين الحق والباطل ، وهذا يدل على أنّ أعظم الخير والبركة هي أن يمتلك الإنسان بيده وسيلة المعرفة ـ معرفة الحق من الباطل.

فمقام العبودية والإنقياد التامين هو الذي يحقق اللياقة لنزول الفرقان ، ولتلقي موازين الحق والباطل.

وعبارة «للعالمين» كاشفة عن أنّ شريعة الإسلام عالمية ، بل إنّ بعضهم قد استدل منها على خاتمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الآية الثانية تصف الله الذي نزل الفرقان بأربع صفات ، صفة منها هي الأساس ، والبقية نتائج وفروع لها ، فتقول أوّلاً : (الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ).

وبالإلتفات إلى تقدم «له» على «ملك السماوات» الذي هو دليل الحصر في اللغة العربية يستفاد أنّ الحكومة الواقعية والحاكمية المطلقة في السماوات والأرض منحصرة به تبارك وتعالى.

ثم يتناول تفنيد عقائد المشركين واحدة بعد الاخرى ، فيقول تعالى : (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا).

وبهذا الترتيب ، يدحض اعتقاد النصارى بأنّ «المسيح» ابن الله ، أو ما يعتقده اليهود أنّ «العزير» ابن الله ، وكذلك يدحض اعتقاد مشركي العرب.

ثم يضيف جلّ ذكره : (وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ).

فإذا كان لمشركي العرب اعتقاد بوجود الشريك أو الشركاء ، ويتوهمونهم شركاء لله في

٣٨٤

العبادة ، فإنّ القرآن يدين ويدحض كل هذه الأوهام.

ويقول تعالى في العبارة الأخيرة : (وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا).

ليس كمثل اعتقاد الثنويين الذين يعتقدون بأنّ قسماً من موجودات هذا العالم مخلوقات «الله» ، وأنّ قسماً منها مخلوقات «الشيطان». وبهذا الترتيب كانوا يقسمون الخلق والخلقة بين الله والشيطان.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً (٣) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٦)

الإتهامات المتعددة الألوان : هذه الآيات تتمة للبحث الذي ورد في الآيات السابقة ، في مسألة المواجهة مع الشرك وعبادة الأوثان. الآية الاولى تجر المشركين إلى المحاكمة ، ولتحريك وجدانهم تقول بمنطق واضح وبسيط ، وفي نفس الوقت قاطع وداحض : (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِءَالِهَةً لَّايَخْلُقُونَ شَيًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ).

وبعد ، فماذا يمكن أن تكون دوافعهم لعبادة الأوثان التي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً ، ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، فما بالك بما تستطيعه للآخرين ؛ (وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَوةً وَلَا نُشُورًا).

والاصول المهمة عند الإنسان هي هذه الامور الخمسة بالذات : النفع والضر ، والموت ، والحياة ، والنشور.

فمن يكن بحق مالكاً أصيلاً لهذه الامور ، يكن بالنسبة إلينا جديراً بالعبادة.

هذه الأوثان ليست عاجزة في الدنيا عن حل مشكلة ما لعبدتها فحسب ، بل إنّها لا يؤمل منها شيء في الآخرة أيضاً.

الآية التالية ـ تتناول تحليلات الكفار ـ أو حججهم على الأصح ـ في مقابل دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتقول : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَيهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌءَاخَرُونَ).

٣٨٥

لكن القرآن يردّ عليهم في جملة واحدة فقط ، تلك هي : (فَقَدْ جَاءُو ظُلْمًا وَزُورًا) (١).

«الظلم» هنا لأنّ رجلاً أميناً طاهراً وصادقاً مثل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله اتّهموه بالكذب والإفتراء على الله ، وبالإشتراك مع جماعة من أهل الكتاب ، فظلموا أنفسهم والناس أيضاً. و «الزور» هنا أنّ قولهم لم يكن له أساس مطلقاً ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دعاهم عدّة مرات إلى الإتيان بسورة وآيات مثل القرآن ، فعجزوا وضعفوا أمام هذا التحدي.

كلمة «زور» في الأصل من «زَور» (على وزن غور) أخذت بمعنى : أعلى الصدر ، ثم أطلقت على كل شيء يتمايل عن حدّ الوسط ، وبما أنّ «الكذب» انحرف عن الحق ، ومال إلى الباطل ، فقد سمّوه «زوراً».

تتناول الآية التالية لوناً آخر من التحليلات المنحرفة والحجج الواهية للمشركين فيما يتعلق بالقرآن ، فتقول : (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا) (٢).

وهو يستلهمها من الآخرين طيلة اليوم من أجل الوصول إلى هذا الهدف : (فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).

إنّه يتلقى المعونة لأجل هدفه في الأوقات التي يقلّ فيها تواجد الناس ، أي بكرة وعشياً.

لذا (فالآية الأخيرة) تصرح بصيغة الرد على هذه الإتهامات الواهية ، فتقول : (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ).

إشارة إلى أنّ محتوى هذا الكتاب ، والأسرار المتنوعة فيه من علوم ومعارف وتاريخ الأقوام الأوّلين ، والقوانين والاحتياجات البشرية ، وحتى أسرار عالم الطبيعة والأخبار المستقبلية ، تدل على أن ليس من صنع ومتناول عقل البشر ، ولم ينظّم بمساعدة هذا أو ذاك ، بل بعلم الذي هو جدير بأسرار السماء والأرض ، والمحيط بكل شيء علماً.

لكن مع كل هذا ، فإنّ القرآن يترك طريق التوبة مفتوحاً أمام هؤلاء المغرضين والمنحرفين ، فيقول تبارك وتعالى في ختام الآية : (إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا).

فبمقتضى رحمته أرسل الأنبياء ، وأنزل الكتب السماوية ، وبمقتضى غفوريته سيعفو في ظل الإيمان والتوبة عن ذنوبكم التي لا تحصى.

__________________

(١) «جاءو» : من مادة «مجيء» ، يراد بها عادة معنى «القدوم» ، لكنّها وردت هنا بمعنى «الإتيان».

(٢) ففي الواقع إنّ أولئك كانوا يريدون أن يتهموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من هذا الطريق ، بأنّه يقرأ ويكتب ، لكنّه كان يظهر نفسه أمياً عمداً.

٣٨٦

(وَقَالُوا مَا لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْ لَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) (١٠)

سبب النّزول

في كتاب الاحتجاج للطبرسي رحمه‌الله وعن أبي محمد الحسن العسكري عليه‌السلام قال : قلت لأبي على بن محمد عليهما‌السلام هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجهم؟ قال : مراراً كثيرة وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قاعداً ذات يوم بمكة بفناء الكعبة ، إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش .. فابتدأ عبد الله بن أبي أمية المخزومي فقال : يا محمّد زعمت أنّك رسول الله ربّ العالمين ، وما ينبغي لربّ العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشراً مثلنا ، تأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب ، وتمشي في الأسواق كما نمشي .. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم أنت السامع لكل صوت ، والعالم بكل شيء ، تعلم ما قاله عبادك. فأنزل الله عليه : يا محمّد (وَقَالُوا مَالِ هذَا الرَّسُولِ ...) إلى قوله تعالى : (وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا).

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

التّفسير

لم لا يملك هذا الرسول كنوزاً وجنات؟ استعرض القرآن في الآيات السابقة قسماً من إشكالات الكفار فيما يخص نزول القرآن المجيد ، وأجاب عليها ، ويعرض في هذه الآيات قسماً آخر يتعلق بشخص الرسول ويجيب عنها ، فيقول تعالى : (وَقَالُوا مَالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الْأَسْوَاقِ).

وفي الوقت الذي يريد هذا الرسول التبليغ بالدعوة الإلهية ، ويريد أيضاً السلطنة على الجميع.

٣٨٧

لقد كان المشركون يرون أنّه لا يليق بذوي الشأن الذهاب إلى الأسواق لقضاء حوائجهم ، بل ينبغي أن يرسلوا خدمهم ومأموريهم من أجل ذلك.

ثم أضافوا : (لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا). فلِمَ لم يرسل إليه ـ على الأقل ـ ملك من عند الله ، شاهد على صدق دعوته ، وينذر معه الناس؟

حسن جداً ، لنفرض أنّنا وافقنا على أنّ رسول الله يمكن أن يكون إنساناً ، ولكن لماذا يكون فقيراً فاقداً للثروة والمال؟! (أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا).

ولم يكتفوا بهذا أيضاً ، فقد اتهموه آخر الأمر بالجنون بما ابتنوه من استنتاج خاطىء ، كما نقرأ في ختام هذه الآية نفسها : (وَقَالَ الظلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُورًا). ذلك أنّهم كانوا يعتقدون أنّ السحرة يستطيعون أن يتدخلوا في فكر وعقول الأفراد فيسلبونهم قوام عقولهم.

الآية التالية تبيّن جواب جميع هذه الإشكالات في عبارة موجزة : (انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثلَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً).

إنّ (الأمثال) هنا ، بمعنى الأقوال الفارغة الواهية.

هذه العبارة الموجزة أداء بليغ عن هذه الحقيقة ، فهم من خلال مجموعة من الأقوال الواهية التي لا أساس لها وقفوا أمام دعوة الحق والقرآن ـ الذي محتواه شاهد ناطق على إرتباطه بالله ـ ليخفوا وجه الحقيقة.

الآية الأخيرة مورد البحث ـ كالآية التي قبلها ـ توجّه خطابها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على سبيل تحقير مقولات اولئك ، وأنّها لا تستحق الإجابة عليها. يقول تعالى : (تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مّن ذلِكَ جَنتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهرُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا).

وإلّا ، فهل أحد غير الله أعطى الآخرين القصور والبساتين؟ من غير الله خلق جميع هذه النعم والجمال في هذا العالم؟ تُرى أيستحيل على الله القادر المنّان أن يجعل لك أفضل من هذه القصور والبساتين؟!

لكنّه لا يريد أبداً أن يعتقد الناس أنّ مكانتك مردّها المال والثروة والقصور ، ويكونوا غافلين عن القيم الواقعية.

٣٨٨

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً (١٣) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْئُولاً) (١٦)

في هذه الآيات ـ على أثر البحث في الآيات السابقة حول انحراف الكفار في مسألة التوحيد والنبوة ـ يتناول القرآن الكريم قسماً آخر من انحرافاتهم في مسألة المعاد ، ويتّضح مع بيان هذا القسم أنّهم كانوا أسارى التزلزل والانحراف في تمام أصول الدين. يقول تعالى أوّلاً : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ).

ذلك أنّه إذا آمن الإنسان بهكذا محكمة عظمى وبالجزاء الإلهي ، فلن يتلقى الحقائق بمثل هذا الإستهزاء واللامبالاة ، ولن يتذرع بالحجج الواهية ضد دعوة النبي وبراهينه الظاهرة ، لكن القرآن هنا لم يتقدم برد استدلالي ، ذلك لأنّ هذه الفئة لم تكن من أهل الاستدلال والمنطق ، بل واجههم بتهديد مخيف وجسد أمام أعينهم مستقبلهم المشؤوم والأليم ، فهذا الاسلوب قد يكون أقوى تأثيراً لمثل هؤلاء الأفراد يقول أوّلاً : (وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا) (١).

ثم وصف هذه النار المحرقة وصفاً عجيباً ، فيقول تعالى : (إِذَا رَأَتْهُم مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا).

في هذه الآية تعبيرات بليغة متعددة ، تخبر عن شدّة هذا العذاب الإلهي ويدل على أنّ نار جهنم المحرقة تنتظر هذه الفئة من المجرمين كانتظار الحيوان المفترس الجائع لغذائه «نستجير بالله».

هذه حال جهنم حينما تراهم من بعيد ، أمّا حالهم في نار جهنم فيصفها تعالى : (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا).

لأنّ جهنم مكان واسع ، لكن اولئك يُحصرون مكاناً ضيقاً في هذا المكان الواسع ، فهم «يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط».

__________________

(١) «سعير» : من «سَعْر» بمعنى التهاب النار ، وعلى هذا يقال للسعير : النار المشتعلة والمحيطة والمحرقة.

٣٨٩

«مقرنين» : من «قرن» بمعنى قرب واجتماع شيئين أو أكثر مع بعضهما ، ويقولون للحبل الذي يربطون به الأشياء «قرن» ، ويقولون أيضاً لمن تقيد يده ورجله مع بعضهما بالغل والسلاسل «مقرّن».

«ثبور» : في الأصل بمعنى «الهلاك والفساد». فحينما يجد الإنسان نفسه أمام شيء مخيف ومهلك ، فإنّه يصرخ عالياً «واثبورا» التي مفهومها ليقع الموت علي.

لكنهم يجابون عاجلاً : (لَّاتَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا).

فلن تنفعكم استغاثتكم في شيء ، ولن يكون ثمّة موت أو هلاك ، بل ينبغي أن تظلوا أحياء لتذوقوا العذاب الأليم.

ثم يوجّه الخطاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويأمره أن يدعو اولئك إلى المقايسة ، فيقول تعالى : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا).

تلك الجنة التي (لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ).

تلك الجنة التي سيبقون فيها أبداً (خلِدِينَ).

أجل ، إنّه وعد الله الذي أخذه على نفسه : (كَانَ عَلَى رَبّكَ وَعْدًا مَّسُولاً).

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلَا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً) (١٩)

المحاكمة بين المعبودين وعبدتهم الضالين : كان الكلام في الآيات السابقة حول مصير كل من المؤمنين والمشركين في القيامة وجزاء هذين الفريقين ، وتواصل هذه الآيات نفس هذا الموضوع بشكل آخر ، فتبيّن السؤال الذي يسأل الله عنه معبودي المشركين في القيامة وجوابهم ، على سبيل التحذير. فيقول تعالى : واذكر يوم يحشر الله هؤلاء المشركين وما يعبدون من دون الله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ).

والمقصود بالمعبودين إنساناً (مثل المسيح) أو شيطاناً (مثل الجن) أو (الملائكة) ، حيث إنّ كل واحد منها كان قد اتخذه فريق من المشركين معبوداً لهم.

٣٩٠

فيسأل المعبودين : (فَيَقُولُءَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ).

ففي الإجابة : (قَالُوا سُبْحنَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ).

فليس فقط أنّنا لم ندعهم إلى أنفسنا ، بل إنّنا كنّا نعترف بولايتك وربوبيتك ، ولم نقبل غيرك معبوداً لنا ولغيرنا.

وكان سبب انحراف أولئك هو : أنّ الله تعالى رزقهم الكثير من مواهب الدنيا ونعيمها فتمتعوا هم وآباءهم وبدلاً من شكر الله تعالى غرقوا في هذه الملذات ونسوا ذكر الله : (وَلكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذّكْرَ). فالحياة المرفهة لجماعة ضيقة الأفق ، ضعيفة الإيمان ، تبعث على الغرور ، ولهذا هلكوا واندثروا (وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا).

«بور» : من مادة «بوار» وهي في الأصل بمعنى شدّة كساد الشيء ، ولأنّ شدّة الكساد تبعث على الفساد ، فهذه الكلمة بمعنى الفساد ، ثم اطلقت بعد هذا على الهلاك.

وعلى هذا فإنّ قوله تعالى : (وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا) إشارة إلى أنّ هذا الفريق على أثر انغماسهم في الحياة المادية المرفهة ، ونسيانهم الله واليوم الآخر ، صاروا إلى الفساد والهلكة.

هنا يوجّه الله تبارك وتعالى الخطاب إلى المشركين فيقول : (فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ).

لأنّ الأمر هكذا ، وكنتم أنتم قد أضللتم أنفسكم فليس لديكم القدرة على دفع العذاب عنكم : (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا).

لا شك أنّ «الظلم» له مفهوم واسع ، ومع أنّ موضوع البحث في الآية هو «الشرك» الذي هو أحد المصاديق الجلية للظلم ، إلّا أنّه لا يقدح بعمومية المفهوم.

والملفت للنظر أنّ «من يظلم» جاءت بصيغة الفعل المضارع ، وهذا يدل على أنّ القسم الأوّل من البحث وإن كان مرتبطاً بمناقشات البعث ، لكن الجملة الأخيرة خطاب لهم في الدنيا ، لعل قلوب المشركين تصبح مستعدة لقبول الإيمان على أثر سماعها محاورات العبابدين والمعبودين في القيامة ، فيحوّل الخطاب من القيامة إلى الدنيا فيقول لهم : (وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا).

(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠)

٣٩١

سبب النّزول

في تفسير القرطبي : هذه الآية نزلت جواباً للمشركين حيث قالوا : مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟

وقال ابن عباس : لما عير المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالفاقة وقالوا : مال هذا الرسول يأكل الطعام الآية ، حزن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك فنزلت تعزية له فقال جبرئيل عليه‌السلام : السلام عليك يا رسول الله! الله ربّك يقرئك السلام ويقول لك : (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الْأَسْوَاقِ). أي يبتغون المعايش في الدنيا.

التّفسير

في عدّة آيات سابقة وردت واحدة من ذرائع المشركين وأجيب عليها بجواب إجمالي أمّا الآية مورد البحث فتعود إلى نفس الموضوع لتعطي جواباً أكثر تفصيلاً. فيقول تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الْأَسْوَاقِ). فقد كانوا من البشر ويعاشرون الناس ، وفي ذات الوقت : (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) وامتحاناً.

وهذا الإمتحان ، قد يكون بسبب أنّ اختيار الأنبياء من جنس البشر ومن أوساط الجماهير المحرومة هو امتحان عظيم بذاته ، لأنّ البعض يأبون أن ينقادوا لمن هو من جنسهم ، خاصة إذا كان في مستوىً واطىء من حيث الإمكانات المادية.

وعلى أثر هذا القول ، جعل الجميع موضع الخطاب فقال تعالى : (أَتَصْبِرُونَ). ذلك لأنّ أهم ركن للنجاح في جميع هذه الامتحانات هو الصبر والاستقامة والشجاعة ...

ويقول تعالى في ختام الآية بصيغة التحذير : (وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا). فينبغي ألا يتصور أحد أن شيئاً من تصرفاته حيال الاختبارات الإلهية يظل خافياً ومستوراً عن عين الله وعلمه الذي لا يخفى عليه شيء ، إنّه يراها بدقة ويعلمها جميعاً.

(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا (٢٢) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (٢٣) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) (٢٤)

٣٩٢

الإدعاءات الكبيرة : الآيات الحالية ، تطرح شكلين آخرين من ذرائع المشركين وتجيب عليها ، فيقول تعالى أوّلاً : (وَقَالَ الَّذِين لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا). فعلى فرض أنّنا سنقبل أنّ النبي يستطيع أن يعيش الحياة العادية مثلنا ، لكن أن يتنزل الوحي عليه وحده ، ولا نراه نحن ، فهذا ما لا يمكن القبول به.

وأفضل دليل على أنّهم لم يكونوا يقولون هذه الأقوال من أجل التحقيق حول نبوّة النبي ، هو أنّهم طلبوا أن يشاهدوا الخالق ، وأنزلوه إلى حدّ جسم يمكن رؤيته ، ذلك الطلب نفسه الذي طلبه مجرمو بني إسرائيل أيضاً ، فسمعوا الجواب القاطع على ذلك ، حيث ورد شرحه في الآية (١٤٣) من سورة الأعراف. لذا يقول القرآن في الإجابة على هذه الطلبات في آخر الآية مورد البحث : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا). «العتو» : على وزن «غلو» ، بمعنى الإمتناع عن الطاعة ، والتمرد على الأمر ، مصحوباً بالعناد واللجاجة.

وتعبير «في أنفسهم» من الممكن أن يكون بمعنى : أنّ هؤلاء صاروا أسارى الغرور والتكبّر في أنفسهم. ومن الممكن أن يكون أيضاً بمعنى أنّهم أخفوا كبرهم وغرورهم في قلوبهم وأظهروا هذه المعاذير.

ثم يقول تعالى بصيغة التهديد : إنّ هؤلاء الذين يطلبون أن يروا الملائكة ، سوف يرونهم آخر الأمر ، لكن (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلِكَةَ لَابُشْرَى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ).

بلى سوف لن يُسرّوا برؤية الملائكة في ذلك اليوم ، لأنّهم سيرون علامات العذاب برؤيتهم الملائكة ، وسوف يغمرهم الرعب إلى حد أنّهم سيطلقون صرخات الاستغاثة التي كانوا يطلقونها في الدنيا حال الإحساس بالخطر أمام الآخرين ، فيقولون : الأمان .. الأمان ، اعفوا عنّا : (وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا).

«حجر» : على وزن «قشر» ، تقال في الأصل للمنطقة التي حجروها وجعلوها ممنوعة الورود ، وعندما يقال «حجر إسماعيل» فلأنّ حائطاً انشيء حوله فحجز داخله. يقولون للعقل أيضاً «حجراً» لأنّه يمنع الإنسان من الأعمال المخالفة. وأيضاً «اصحاب الحجر» الذين ورد اسمهم في القرآن (الآية ٨٠ من سورة الحجر) وهم قوم صالح الذين كانوا ينحتون لأنفسهم بيوتاً حجرية محكمة في قلوب الجبال ، فكانوا يعيشون في أمانها.

أمّا جملة «حجراً محجوراً» فقد كانت اصطلاحاً بين العرب ، إذا التقوا بشخص يخافونه ، فأنّهم يقولون هذه الجملة أمامه لأخذ الأمان.

٣٩٣

الآية التي بعدها تجسد مصير أعمال هؤلاء المجرمين في الآخرة ، فتقول : (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنهُ هَبَاءً مَّنثُورًا). يعني أنّ أعمال اولئك لا قيمة لها ولا اثر إلى حدّ كأنّهم لم يعملوا شيئاً ، لأنّ الشيء الذي يعطي عمل الإنسان الشكل والمحتوى ، هو النية وغاية العمل النهائية ، فأهل الإيمان يتوجهون لإنجاز أعمالهم بدافع إلهي وعلى أساس أهداف مقدسة طاهرة ، في حين أنّ من لا إيمان لهم ، فغالباً يقعون أسارى التظاهر والرياء والغرور والعجب ، فيكون سبباً في انعدام أية قيمة لأعمالهم.

وبما أنّ القرآن ـ عادة ـ يضع الحسن والسيء متقابلين حتى يتّضح وضع كل منهما بالمقايسة فإنّ الآية التي بعدها تتحدث عن أهل الجنة فتقول : (أَصْحبُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً). «مستقر» : بمعنى محل الإستقرار ؛ و «مقيل» : بمعنى محل الإستراحة في منتصف النهار ، من مادة «قيلولة» ، وقد جاءت بمعنى النوم منتصف النهار.

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً) (٢٦)

تشقق السماء بالغمام : مرّة اخرى يواصل القرآن في هذه الآيات البحث حول القيامة ، ومصير المجرمين في ذلك اليوم ، فيقول أوّلاً : إنّ يوم محنة وحزن المجرمين هو ذلك اليوم الذي تنشق فيه السماء بواسطة الغيوم : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَممِ وَنُزّلَ الْمَلِكَةُ تَنزِيلاً).

«الغمام» : من «الغم» بمعنى ستر الشيء ، لذلك فالغيم الذي يغطي الشمس يقال له «الغمام» ، وكذلك الحزن الذي يغطي القلب يسمّونه «الغم».

هذه الآية ردّ على طلبات المشركين ، وعلى إحدى ذرائعهم ، لأنّهم كانوا يتوقعون أن يأتي الله والملائكة طبقاً لأساطيرهم وخرافاتهم من خلال الغيم ، فيدعونهم إلى الحق ، وفي أساطير اليهود جاء ـ أيضاً ـ أنّ الله أحياناً يظهر ما بين الغيوم.

والمقصود من تشقق السماء بالغمام ، هو أن ترتفع حجب العالم المادي عن عين الإنسان من جهة ، فيشاهد عالم ماوراء الطبيعة ، ومن جهة اخرى ستتلاشى الأجرام السماوية ، وتظهر الغيوم الانفجارية ، فتبرز التشققات ما بينها في ذلك اليوم ، يوم نهاية هذا العالم وبداية النشور ، يوم أليم جدّاً للمجرمين الظالمين المعاندين الذين لا إيمان لهم.

بعد ذلك يتناول القرآن الكريم أوضح علائم ذلك اليوم فيقول : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ).

٣٩٤

حتى اولئك الذين كان لهم في هذا العالم نوع من الملك المجازي والمحدود والفاني والسريع الزوال ، يخرجون أيضاً من دائرة الملك ، فتكون الحاكمية من كل النواحي وجميع الجهات لذاته المقدسة خاصة ، وبهذا : (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكفِرِينَ عَسِيرًا).

في الوقت الذي يكون على المؤمنين سهلاً يسيراً وهيناً جدّاً.

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً) (٢٩)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قال ابن عباس : نزل قوله تعالى (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ) في عقبة بن أبي معيط ، وابي بن خلف ، وكانا متخالّين ، وذلك أنّ عقبة كان لا يقدم من سفر إلّاصنع طعاماً فدعا إليه أشراف قومه ، وكان يكثر مجالسة الرسول فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاماً ودعا الناس ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى طعامه ، فلمّا قربوا الطعام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلّاالله وأنّي رسول الله». فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلّاالله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله. وبلغ ذلك ابي بن خلف فقال : صبأت يا عقبة؟ قال : لا والله ما صبأت ، ولكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلّاأن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم ، فشهدت له فطعم. فقال ابي : ما كنت براض عنك أبداً حتى تأتيه فتبزق في وجهه! ففعل ذلك عقبة وارتدّ ، وأخذ رحم دابّة فألقاها بين كتفيه. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ألقاك خارجاً من مكة إلّاعلوت رأسك بالسيف». فضرب عنقه يوم بدر صبراً.

وأمّا ابي بن خلف فقتله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم احد بيده في المبارزة.

نزلت الآيات أعلاه لترسم صورة مصير الرجل الذي يُبتلى بخليل ضال ، ويجره إلى الضلال.

التّفسير

يوم القيامة له مشاهد عجيبة ، حيث ورد بعض منها في الآيات السابقة ، وفي هذه الآيات اشارة إلى قسم آخر منها ، وهي مسألة حسرة الظالمين البالغة على ماضيهم ، يقول

٣٩٥

تعالى أوّلاً : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً).

«يعضّ» : من مادة «عضّ» ، ويستخدم هذا التعبير عادة بالنسبة إلى الأشخاص المهووسين من شدّة الحسرة والأسف.

وهذا العمل يصدر من هؤلاء الأشخاص حينما يطلعون على ماضيهم ، ويعتبرون أنفسهم مقصرين ، فيصممون على الإنتقام من أنفسهم بهذا الشكل لتهدئة سورة الغضب في نفوسهم والشعور بالراحة.

ثم يضيف القرآن الكريم أنّ هذا الظالم المعتدي الغارق في عالم الأسف ، يقول : (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلاً) (١).

والمقصود ب «فلان» هو ذلك الذي أضله : الشيطان أو صديق السوء أو القريب الضال.

ثم يستمر ويقول : (لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِى).

«الذكر» في الجملة أعلاه ، له معنىً واسع ، ويشمل كل الآيات الإلهية التي نزلت في الكتب السماوية ، بل يدخل في إطاره كل ما يوجب يقظة ووعي الإنسان.

وفي ختام الآية يقول تعالى : (وَكَانَ الشَّيْطنُ لِلْإِنسنِ خَذُولاً). ذلك لأنّه يجر الإنسان إلى مواقع الخطر والطرق المنحرفة ، ثم يتركه حيران ويذهب لسبيله.

وحقيقة الخذلان هي أي يعتمد الشخص على صديقه تمام الاعتماد ، ولكن هذا الصديق يرفع يده عن مساعدته وإعانته تماماً في اللحظات الحساسة.

نقرأ في حديث عن الإمام محمّد التقي الجواد عليه‌السلام قال : «ايّاك ومصاحبة الشرير ، فإنّه كالسيف المسلول ، يحسن منظره ويقبح أثره» (٢).

(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٣٤)

__________________

(١) «خليل» : تطلق بمعنى الصديق الخاص الحميم حيث يجعله الإنسان مشاوراً لنفسه.

(٢) بحار الأنوار ٧١ / ١٩٨.

٣٩٦

إلهي ، إنّ الناس قد هجروا القرآن : كما تناولت الآيات السابقة أنواعاً من ذرائع المشركين والكافرين المعاندين ، تتناول الآية الاولى في مورد البحث هنا حزن وشكاية الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله بين يدي الله عزوجل من كيفية تعامل هذه الفئة مع القرآن ، فتقول : (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا).

قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا ، وشكواه هذه ، مستمران إلى هذا اليوم من فئة عظيمة من المسلمين ، يشكو بين يدي الله أنّهم دفنوا القرآن بيد النسيان ، القرآن الممتلىء ببرامج الحياة ، هجروا هذا القرآن فمدّوا يد الإستجداء إلى الآخرين ، حتى في القوانين المدنية والجزائية.

إنّ القرآن بينهم كتاب للمراسم والتشريفات ، يذيعون ألفاظه وحدها بأصوات عذبة عبر محطات البث ، ويستخدمونه في زخرفة المساجد بعنوان الفن المعماري ، ولافتتاح منزل جديد ، أو لحفظ مسافر ، وشفاء مريض ، وعلى الأكثر للتلاوة من أجل الثواب.

تقول الآية التي بعدها في مواساة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث كان يواجه هذا الموقف العدائي للخصوم : (وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ).

لست وحدك قدواجهت هذه العداوة الشديدة لهذه الفئة ، فقد مرّ جميع الأنبياء بمثل هذه الظروف ، حيث كان يتصدى لمخالفتهم فريق من (المجرمين) فكانوا يناصبونهم العداء.

ولكن إعلم أنّك لست وحيداً ، وبلا معين ، (وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا). فلا وساوسهم تستطيع أن تضلك ، لأنّ الله هاديك ، ولا مؤامراتهم تستطيع أن تحطمك ، لأنّ الخالق معينك ، الخالق الذي علمه فوق كل العلوم ، وقدرته أقوى من كل القدرات.

الآية التي بعدها تشير أيضاً إلى ذريعة اخرى من ذرائع هؤلاء المجرمين المتعللين بالمعاذير ، فتقول : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً).

واساساً فقد كان الأفضل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أن يكون ذا اطلاع على جميع هذا القرآن دفعة واحدة ، كيما يجيب الناس فوراً على كل ما يسألونه ويريدون منه.

ولكن القرآن في تتمة هذه الآية نفسها يجيبهم : (وَكَذلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنهُ تَرْتِيلاً).

إنّ القرآن مجموعة من أوامر ونواهي ، أحكام وقوانين ، تاريخ وموعظة ، ومجموعة من الخطط ذات المدى الطويل أو القصير في مواجهة الأحداث التي كانت تبرز أمام مسير الامة

٣٩٧

الإسلامية ، كتاب ـ كهذا ـ يبيّن وينفذ جميع مناهجه حتى قوانينه الكلية عن طريق الحضور في ميادين حياة الامة ، لا يمكن أن ينظم ويُدوّن دفعة واحدة.

وهذا من قبيل أن يقوم قائد عظيم بكتابه ونشر جميع بياناته وإعلاناته وأوامره ونواهيه ـ التي يصدرها في المناسبات المختلفة ـ دفعة واحدة من أجل تسيير الثورة ، تُرى هل يعتبر هذا العمل عقلائياً؟!

ثم للتأكيد أكثر على هذا الجواب يقول تعالى : (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا). أي أنّهم لا يأتون بمثل أو مقولة أو بحث لاضعاف دعوتك ومقابلتها.

وبما أنّ هؤلاء الأعداء الحاقدين استنتجوا ـ بعد مجموعة من إشكالاتهم ـ أنّ محمّداً وأصحابه مع صفاتهم هذه وكتابهم هذا وبرامجهم هذه شرّ خلق الله ـ العياذ بالله ـ ولأنّ ذكر هذا القول لا يتناسب مع فصاحة وبلاغة القرآن ، فإنّ الله سبحانه يتناول الإجابة على هذا القول في الآية الأخيرة مورد البحث دون أن ينقل أصل قولهم ، يقول : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً).

وهذا علامة على مهانتهم وذلتهم ، لأنّهم كانوا في الدنيا في غاية الكبر والغرور والإستهانة بخلق الله ، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى تجسيد لضلالتهم في هذا العالم ، ذلك أنّ من يسحبونه بهذه الصورة لا يرى ما أمامه بأي شكل ، وغافل عما حوله.

فريق لهم قامات منتصبة كشجر السرو ، ووجوه منيرة كالقمر ، وخطوات واسعة ، يتوجهون بسرعة إلى الجنة.

(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً (٣٧) وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً) (٤٠)

٣٩٨

أشار القرآن المجيد في هذه الآيات إلى تاريخ الامم الماضية ومصيرهم المشؤوم مؤكّداً على ست أمم. يقول أوّلاً : (وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتبَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هرُونَ وَزِيرًا).

فقد القيت على عاتقيهما المسؤولية الثقيلة في جهاد الفراعنة ، ويجب عليهما مواصلة هذا العمل الثوري بمساعدة أحدهما الآخر حتى يثمر : (فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا). فإنّهم قد كذبوا دلائل الله وآياته التي في الآفاق وفي الأنفس وفي كل عالم الوجود ، ومن جهة أخرى أعرضوا عن تعاليم الانبياء السابقين وكذبوهم.

ولكن بالرغم من جميع الجهود والمساعي التي بذلها موسى وهارون ، بالرغم من رؤية كل تلك المعجزات العظيمة والبينات المتنوعة ، أصروا أيضاً على طريق الكفر والإنكار ، لذا (فَدَمَّرْنهُمْ تَدْمِيرًا). «تدمير» : من مادة «دمار» بمعنى الإهلاك باسلوب يثير العجب.

وكذلك : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنهُمْ وَجَعَلْنهُمْ لِلنَّاسِءَايَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا).

وكذلك : (وَعَادًا وَثَمُودَا وَأَصْحبَ الرَّسّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذلِكَ كَثِيرًا).

«قوم عاد» هم قوم النبي «هود» العظيم ، الذي بعث في منطقة (الأحقاف) أو (اليمن). و «قوم ثمود» قوم نبي الله «صالح» الذي بعث في منطقة وادي القرى (بين المدينة والشام).

«رسّ» : في الأصل بمعنى الأثر القليل ، و «أصحاب الرس» كانوا قوماً يعبدون شجرة صنوبر كان يافث بن نوح غرسها وكان لهم إثنتا عشرة قرية معمورة على شاطىء نهر يقال له «الرسّ» ، ولمّا طال منهم الكفر بالله وعبادة الشجرة ، بعث الله إليهم رسولاً من بني إسرائيل من ولد يهودا ، فدعاهم برهة إلى عبادة الله وترك الشرك ، فلم يؤمنوا ، فدعا على الشجرة فيبست ، فلمّا رأوا ذلك ساءهم ، فاجتمعت آراؤهم على قتله فحفروا بئراً عميقاً وألقوه فيها ، فأتبعهم الله بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم.

«قرون» : جمع «قرن» وهي في الأصل بمعنى الجماعة الذين يعيشون معاً في زمان واحد ، ثم أطلقت على الزمان الطويل (أربعين أو مائة سنة).

لكنّنا لم نجاز أولئك على غفلة أبداً ، بل (وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثلَ).

أجبنا على إشكالاتهم ، مثل الإجابة على الإشكالات التي يوردونها عليك ، أخطرناهم ، أنذرناهم ، كررنا عليهم مصائر وقصص الماضين ، لكن حين لم ينفع أيّ من ذلك أهلكناهم

٣٩٩

ودمّرناهم تدميراً : (وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) (١).

وفي نهاية المطاف ـ في الآية الأخيرة مورد البحث ـ يشير القرآن المجيد إلى خرائب مدن قوم لوط التي تقع على بداية طريق الحجازيين إلى الشام ، وإلى الأثر الحي الناطق عن المصير الأليم لُاولئك الملوثين والمشركين ، فيقول تعالى : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا).

نعم ، لقد كانوا يرون مشهد الخرائب هذه ، لكنّهم لم يأخذوا منها العبرة ، ذلك لأنّهم : (بَلْ كَانُوا لَايَرْجُونَ نُشُورًا).

(وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْ لَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٤٤)

الآيات الحالية تتناول لوناً آخر من منطق المشركين وكيفية تعاملهم مع رسول الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعوته الحقة. يقول تعالى أوّلاً : (وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهذَا الَّذِى بَعَثَ اللهُ رَسُولاً).

ثم يواصل القرآن ذكر مقولات المشركين فينقل عن لسانهم : (إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنءَالِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا).

لكن القرآن يجيبهم من عدّة طرق ، ففي البداية من خلال جملة واحدة حاسمة يرد على مقولات هذه الفئة التي ما كانت أهلاً للمنطق : (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً).

يمكن أن يكون هذا العذاب إشارة إلى عذاب القيامة ، أو عذاب الدنيا مثل الهزيمة المنكرة يوم «بدر» وأمثالها.

__________________

(١) «تتبير» : من مادة «تبر» (على وزن ضرر ، وعلى وزن صبر) بمعنى الإهلاك التام.

٤٠٠