مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

العباد ـ من البلد ، إذ يعتبر ذلك أوضح مداليل كفران النعمة ، ومثل هؤلاء القوم لا يستحقون الحياة ويستحقون العذاب الإلهي.

إنّ هذا الأمر لا يخص مشركي العرب وحسب ، بل هو (سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً). وهذه السنة تنبع من منطق واضح ، حيث إنّ هؤلاء القوم لا يشكرون النعم ، ويحطّمون مصباح هدايتهم ومنبع النور إليهم بأيديهم ، إنّ مثل هؤلاء الأقوام لا يستحقون رحمة الخالق ، وإنّ العقاب سيشملهم ، ونعلم هنا أنّ الله تبارك وتعالى لا يفرّق بين عباده ، وبذلك فإنّ الأعمال المتشابهة في الظروف المتشابهة لها عقاب متشابه ، وهذا هو معنى عدم اختلاف سنن الخالق جلّ وعلا.

(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (٨١)

بعد سلسلة الآيات التي تحدثت عن التوحيد والشرك وعن مكائد المشركين ومؤامراتهم ، تبحث هذه الآيات عن الصلاة والدعاء والإرتباط بالله والتي تعتبر عوامل مؤثّرة في مجاهدة الشرك ، ووسيلة لطرد إغواءات الشيطان من قلب وروح الإنسان ، إذ تقول الآيات في البداية : (أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا).

في الروايات التي وصلتنا عن أهل البيت عليهم‌السلام توضّح لنا أنّ معنى «دلوك» هو زوال الشمس ؛ وأمّا«غسق الليل» فإنّها تعني منتصف الليل ، حيث إنّ «غسق» تعني الظلمة الشديدة ، وأكثر ما يكون الليل ظلمةً في منتصفه.

أمّا «قرآن» فهي تعني كلاماً يقرأ ، و «قرآن الفجر» هنا تعني صلاة الفجر.

وبهذا الدليل تعتبر هذه الآية من الآيات التي تشير بشكل إجمالي إلى أوقات الصلوات الخمس ، ومع أخذ الآيات القرآنية الاخرى بنظر الاعتبار في مجال وقت الصلوات والروايات الكثيرة الواردة في هذا الشأن ، يمكن تحديد أوقات الصلوات الخمس بشكل دقيق.

١٠١

الآية بعد ذلك تقول : (إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا). والرّوايات الواردة في تفسير هذه الآية تقول إنّ ملائكة الليل والنهار هي التي تشاهد ، لأنّه في بداية الصباح تأتي ملائكة النهار لتحل محل ملائكة الليل التي كانت تراقب العباد ، وحيث إنّ صلاة الصبح هي في أوّل وقت الطلوع ، لذلك فإنّ المجموعتين من الملائكة تشاهدها وتشهد عليها.

وبعد أن تذكر الآية أوقات الصلوات الخمس تنتقل الآية التي بعدهاإلى قوله تعالى : (وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ). المفسرون الإسلاميون المعروفون يعتبرون هذا التعبير إشارة إلى نافلة الليل التي وردت روايات عديدة في فضيلتها.

ثم تقول الآية : (نَافِلَةً لَّكَ). أي : برنامج إضافي علاوة على الفرائض اليومية.

وهذا التعبير اعتبره الكثير بأنّه دليل على وجوب صلاة الليل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث إنّ هذه (النافلة) والتي هي بمعنى (زيادة في الفريضة) تخصّك أنت دون غيرك يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

في ختام الآية تتوضّح نتيجة هذا البرنامج الإلهي الروحاني الرفيع حيث تقول : (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا).

ولا ريب فإنّ المقام المحمود هو مقام مرتفع جدّاً يستثير الحمد ، وبما أنّ هذه الكلمة وردت بشكل مطلق ، لذا فقد تكون إشارة إلى أنّ حمد الأوّلين والآخرين يشملك.

الروايات الإسلامية تشير إلى أنّ المقام المحمود هو مقام الشفاعة الكبرى. فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أكبر الشفعاء في ذلك العالم ، وشفاعته تشمل الذين يستحقونها.

أمّا الآية التي بعدها فإنّها تشير إلى أحد التعاليم الإسلامية الأساسية والذي ينبع من روح التوحيد والإيمان : (وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ) (١). فأيّ عمل فردي أو اجتماعي لا أبدؤه إلّابالصدق ولا انهيه إلّابالصدق ، فالصدق والإخلاص والأمانة هي الخط الأساس لبداية ونهاية مسيرتي.

وفي الحقيقة فإنّ سرّ الانتصار يكمن هنا ، وهذا هو طريق الأنبياء والأولياء الربانيين حيث كانوا يتجنّبون كل غش وخداع وحيلة في أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم وكل ما يتعارض مع الصدق.

وعادة فإنّ المصائب التي نشاهدها اليوم والتي تصيب الأفراد والمجتمعات والأقوام

__________________

(١) «مدخل» و «مخرج» : هي تعني الإدخال والإخراج ، تؤدّي هنا المعنى المصدري.

١٠٢

والشعوب ، إنّما هي بسبب الانحرافات عن هذا الأساس ، ففي بعض الأحيان يكون أساس عملهم قائماً على الكذب والغش والحيلة ، وفي بعض الأحيان يدخلون إلى عمل معين بصدق ولكنهم لا يستمرون على صدقهم حتى النهاية. وهذا هو سبب الفشل والهزيمة.

أمّا الأصل الثاني الذي يعتبر من ناحية ثمرة لشجرة التوحيد ، ومن ناحية اخرى نتيجة للدخول والخروج الصادق في الأعمال ، فهو ما ذكرته الآية في نهايتها : (وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا).

وبعد أن ذكرت الآيات (الصدق) و (التوكل) جاء بعدها الأمل بالنصر النهائي ، والذي يعتبر بحد ذاته عاملاً للتوفيق في الأعمال ، إذ خاطبت الآية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بوعد الله تعالى : (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) (١) ، لأنّ طبيعة الباطل الفناء والدمار : (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا). فللباطل جولة ، إلّاأنّه لا يدوم والعاقبة تكون لانتصار الحق وأصاحبه وأنصاره.

وفي الآيات أعلاه تمّت الإشارة إلى ثلاثة عوامل للانتصار ، العوامل التي ابتعد عنها مسلمو اليوم ، ولهذا السبب نرى هزائمهم المتكررة في مقابل الأعداء والمستكبرين.

والعوامل الثلاثة هي : الدخول الصادق والخالص في الأعمال ، والاستمرار على هذه الحالة الصادقة حتى النهاية (رَبّ أدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ). ثمّ الإعتماد على قدرة الخالق جلّ وعلا ، والإعتماد على النفس ، وترك أيّ إعتماد أو تبعية للأجانب (وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا).

وفي بعض الروايات تمّ تفسير قوله (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) بقيام دولة المهدي عليه‌السلام فالإمام الباقر عليه‌السلام يبيّن أنّ مفهوم الكلام الإلهي هو : (إذا قام القائم عليه‌السلام ذهبت دولة الباطل).

وفي تفسير نور الثقلين عن الخرايج والجرايح عن حكيمة خبر طويل وفيه لمّا ولد القائم عليه‌السلام كان نظيفاً مفروغاً منه وعلى ذراعه الأيمن مكتوب : (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا).

إنّ مفهوم هذه الأحاديث لا يحصر المعنى الواسع للآية بهذا المصداق ، بل إنّ ثورة المهدي عليه‌السلام ونهضته هي من أوضح المصاديق حيث تكون نتيجتها الإنتصار النهائي للحق على الباطل في كل العالم.

__________________

(١) «زهق» : من مادة «زهوق» بمعنى الإضمحلال والهلاك والإبادة ، و «زهوق» : على وزن «قبول» صيغة مبالغةوهي تعني الشيء الذي تمّت إبادته بالكامل.

١٠٣

وخلاصة القول : إنّ حقيقة إنتصار الحق وانهزام الباطل هي تعبير عن قانون عام يجري في مختلف العصور ، وإنتصار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على الشرك والأصنام ، ونهضة المهدي عليه‌السلام الموعودة وانتصاره على الظالمين في العالم ، هما من أوضح المصاديق لهذا القانون العام.

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً) (٨٢)

القرآن وصفة للشفاء : الآية التي نبحثها الآن تشير إلى التأثير الكبير للقرآن الكريم ودوره البنّاء في هذا المجال حيث تقول : (وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ).

إنّ «الشفاء» هو في مقابل الأمراض والعيوب والنواقص ، لذا فإنّ أوّل عمل يقوم به القرآن في وجود الإنسان هو تطهيره من أنواع الأمراض الفكرية والأخلاقية الفردية منها والاجتماعية.

ثم تأتي بعدها مرحلة «الرحمة» وهي مرحلة التخلّق بأخلاق الله ، وتفتّح براعم الفضائل الإنسانية في أعماق الأفراد الذين يخضعون للتربية القرآنية.

أمّا الظالمون فإنّهم بدلاً من أن يستفيدوا من هذا الكتاب العظيم ، فإنّهم يتمسكون بما لا ينتج لهم سوى الذل والهوان (وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا).

لا ريب أنّ القرآن قادر على هداية الضالين ، ولكن بشرط أن يبحث هؤلاء عن الحق ، أمّا واقع المعاندين وأعداء الحق فإنّه يكشف عن تعامل هؤلاء سلبياً مع القرآن ، ولذلك لا يستفيدون من القرآن ، بل يزداد عنادهم وكفرهم ، لأنّ تكرار الذنب يكرّس في روح الإنسان حالة الكفر والعناد.

(وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً) (٨٤)

بعد أن تحدثت الآية السابقة عن شفاء القرآن ، تشير الآية التي بين أيدينا إلى أحد أكثر الأمراض تجذّراً فتقول : (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَا بِجَانِبِهِ). ولكن عندما نسلب منه النعمة ويتضرر من ذلك ولو قليلاً : (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يُوسًا).

«أعرض» : مشتقة من «إعراض» وهي تعني عدم الإلتفات ، والمقصود منها هنا هو عدم الإلتفات للخالق عزوجل ، وإعراض الوجه عنه وعن الحق.

١٠٤

«نأى» : مشتقة من «نأي» وهي على وزن «رأي» وهي بمعنى الإبتعاد ، وعند إضافة كلمة «بجانبه» إليها يكون المعنى التكبر والغرور والتزام المواقف المعادية. ويمكن الاستفادة من مجموع هذه الجملة أنّ الأشخاص الدنيويين يصابون بالغرور عند مجيء النعم ، بحيث إنّهم ينسون واهب ومعطي هذه النعم ، ولا يقتصر الأمر على النسيان وحسب ، بل ينتقل إلى الإعتراض والتكبّر وعدم الإلتفات للخالق.

جملة (مَسَّهُ الشَّرُّ) تشير إلى أدنى سوء يصيب الإنسان. والمعنى أنّ هؤلاء من الضعف وعدم التحمل بحيث إنّهم ينسون أنفسهم ويغرقون في دوّامة اليأس بمجرد أن تصيبهم أبسط مشكلة.

الآية الثانية تخاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ). فالمؤمنون يطلبون الرحمة والشفاء من آيات القرآن الكريم ، والظالمون لا يستفيدون من القرآن سوى مزيد من الخسران ، أمّا الأفراد الضعفاء فيصابون بالغرور في حال النعمة ، ويصابون باليأس في حال ظهور المشاكل ... هؤلاء جميعاً يتصرفون وفق أمزجتهم ، هذه الأمزجة التي تتغير وفق التربية والتعليم والأعمال المتكررة للإنسان نفسه.

وفي هذه الأحوال جميعاً فإنّ هناك علم الله الشاهد والمحيط بالجميع وخاصه بالأشخاص المهتدين : (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً).

«شاكلة» : في الأصل مشتقة من «شكل» وهي تعني وضع الزمام والرباط للحيوان. و (شكال) تقال لنفس الزمام ؛ وبما أنّ طبائع وعادات كل إنسان تقيّده بصفات معيّنة لذا يقال لذلك «شاكلة».

إنّ الشاكلة تطلق على كل عادة وطريقة ومذهب وأسلوب يعطي للإنسان اتجاهاً معيناً. لذا فإنّ العادات والصفات التي يكتسبها الإنسان بتكرار الأعمال اختيارياً وإرادياً ، وكذلك الإعتقادات التي يقتنع بها ويعتمدها بسبب الاستدلال أو التعصب لرأي معين يطلق عليها كلها كلمة «شاكلة».

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٨٥)

ما هي الروح؟ تبدأ هذه الآية في الإجابة على بعض الأسئلة المهمة للمشركين ولأهل الكتاب ، إذ تقول : (وَيَسَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

١٠٥

يمكن أن نستفيد من مجموع القرائن الموجودة في الآية أنّ المستفسرين سألوا عن حقيقة الروح الإنسانية ، هذه الروح العظيمة التي تميّز الإنسان عن الحيوان ، وقد شرّفتنا بأفضل الشرف ، حيث تنبع كل نشاطاتنا وفعالياتنا منها ، وبمساعدتها نكتشف أسرار العلوم.

ولأنّ الروح لها بناء يختلف عن بناء المادة ، ولها اصول تحكمها تختلف عن الاصول التي تحكم المادة في خواصها الفيزيائية والكيميائية ، لذا فقد صدر الأمر إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول لهؤلاء في جملة قصيرة قاطعة : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى). ولكي لا يتعجب هؤلاء أو يندهشوا من هذا الجواب فقد أضافت الآية : (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً). حيث لا مجال للعجب بسبب عدم معرفتكم بأسرار الروح بالرغم من أنّها أقرب شيء إليكم.

وفي تفسير العياشي عن زرارة عن الإمام الباقر والصادق عليهما‌السلام عن قوله تعالى (يَسَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) قالا : «إنّ الله تبارك وتعالى أحد صمد ، والصمد الشيء الذي ليس له جوف ، فإنّما الروح خلق من خلقه ، له بصر وقوّة وتأييد يجعله في قلوب الرسل والمؤمنين».

إنّ الروح الإنسانية لها مراتب ودرجات ، فتلك المرتبة من الروح الموجودة عند الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ، هي في مرتبة ودرجة عالية جدّاً ، ومن آثارها العصمة من الخطأ والذنب وكذلك يترتب عليها العلم الخارق. وبالطبع فإنّ روحاً مثل هذه هي أفضل من الملائكة بما في ذلك جبرئيل وميكائيل. (فتدبر)

(وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً (٨٦) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) (٨٧)

ما عندك هو من رحمته وبركته : تحدثت الآيات السابقة عن القرآن ، أمّا الآيتان اللتان نبحثهما الآن فهما أيضاً ينصبّان في نفس الإتجاه. ففي البداية تقول الآية : (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ). وبعد ذلك : (ثُمَّ لَاتَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً). إنّنا نحن الذين أعطيناك هذه العلوم حتى تكون قائداً وهادياً للناس ، ونحن الذين إذا شئنا استرجعناها منك ، وليس لأحد أن يعترض على ذلك.

الآية التي بعدها جاءت لتستثني ، فهي تبيّن أنّنا إذا لم نأخذ ما أعطيناك ، فليس ذلك سوى رحمة من عندنا ، حيث يقول تعالى : (إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبّكَ). وهذه الرحمة لأجل هدايتك وإنقاذك ، وكذلك لهداية وإنقاذ العالم البشري ، وهذه الرحمة مكمّلة لرحمة الخلق.

١٠٦

وفي نهاية الآية ولأجل تأكيد المعنى السابق جاء قوله تعالى : (إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا).

إنّ وجود القابلية لهذا الفضل في قلبك الكبير بجهادك وعبادتك من جهة ، وحاجة العباد إلى مثل قيادتك من جهة اخرى ، جعلا فضل الله عليك كبيراً للغاية فقد فتح الله أمامك أبواب العلم ، وأنبأك بأسرار هداية الإنسان ، وعصمك من الخطأ ، حتى تكون أسوة وقدوة لجميع الناس إلى نهاية هذا العالم.

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) (٨٩)

معجزة القرآن : الآيات التي بين أيدينا تتحدّث عن إعجاز القرآن ، ولأنّ الآيات اللاحقة تتحدّث عن حجج المشركين في مجال المعجزات ، فإنّ الآية التي بين أيدينا مقدمة للبحث القادم حول المعجزات. إنّ الله يخاطب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول له : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْءَانِ لَايَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا).

إنّ هذه الآية دعت ـ بصراحة ـ العالمين جميعهم ، صغاراً وكباراً ، عرباً وغير عرب ، الإنسان أو أيّ كائن عاقل آخر ، العلماء والفلاسفة والأدباء والمؤرخين والنوابغ وغيرهم لقد دعتهم جميعاً لمواجهة القرآن ، وتحدّيه الكبير لهم ، وقالت لهم : إذا كنتم تظنون أنّ هذا الكلام ليس من الخالق وأنّه من صنع الإنسان ، فأنتم أيضاً بشر ، فأتوا إذاً بمثله ، وإذا لم تستطيعوا ذلك بأجمعكم ، فهذا العجز أفضل دليل على إعجاز القرآن.

إنّ هذه الدعوة للمقابلة والتي يصطلح عليها علماء العقائد بـ «التحدّي» هي أحد أركان المعجزة ، وعندما يرد هذا التعبير في أيّ مكان ، نفهم بوضوح أنّ هذا الموضوع هو من المعجزات.

وتتحرك الآية التي بعدها لتوضيح جانب من جوانب الإعجاز القرآني ، متمثلاً في شموليته وإحاطته بكل شيء ، إذ يقول تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هذَا الْقُرءَانِ مِن كُلّ مَثَلٍ). ولكن بالرغم من ذلك : (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كَفُورًا).

١٠٧

حقّاً إنّ التنوع الذي يتضمّنه القرآن الكريم تنوع عجيب ، خاصه وأنّه صدر من شخص لا يعرف القراءة والكتابة ، ففي هذا الكتاب وردت الأدلة العقلية بجزئياتها الخاصة حول قضايا العقائد ، وذكرت ـ أيضاً ـ الأحكام المتعلقة بحاجات البشر في المجالات كافة. وتعرّض القرآن ـ أيضاً ـ إلى قضايا وأحداث تأريخية تعتبر فريدة في نوعها ومثيرة في بابها ، وخالية من الخرافات.

وتعرّض إلى البحوث الأخلاقية التي تؤثّر في القلوب المستعدة كتأثير المطر في الأرض الميتة. القضايا العلمية ورد ذكرها في القرآن الكريم ، إذ ذكرت بعض الحقائق التي لم تكن تعرف في ذلك الزمان من قبل أيّ عالم.

والخلاصة : إنّ القرآن سلك كل وادٍ وتناول في آياته أفضل النماذج.

ولهذا السبب إذا اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله فلا يستطيعون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

(وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (٩٣)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قال ابن عباس : إنّ جماعة من قريش ـ وفيهم الوليد بن المغيرة وأبو سفيان وأبوجهل ـ اجتمعوا عند الكعبة ، وقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمّد فكلّموه وخاصموه ، فبعثوا إليه إنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك ، فبادر صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم ظنّاً منه أنّهم بدا لهم في أمره ، وكان حريصاً على رشدهم ، فجلس إليهم ، فقالوا : يا محمّد إنّا دعوناك لنعذر إليك ، فلا نعلم أحداً أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، شتمت الآلهة ، وعبت الدين وسفّهت الأحكام ، وفرّقت الجماعة ، فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالاً أعطيناك ، وإن كنت

١٠٨

تطلب الشرف سوّدناك علينا ، وإن كانت علّة غلبت عليك طلبنا لك الأطباء.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس شيء من ذلك ، بل بعثني الله إليكم رسولاً ، وأنزل كتاباً ، فإن قبلتم ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردّوه أصبر حتى يحكم الله بيننا.

قالوا : فإذن ليس أحد أضيق بلداً منّا فاسأل ربّك أن يسيّر هذه الجبال ، ويجري لنا أنهاراً كأنهار الشام والعراق ....

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما بهذا بعثت» ....

قالوا : فأسقط علينا السماء كما زعمت إنّ ربّك إن شاء فعل ذلك.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ذاك إلى الله إن شاء فعل».

وقال قائل منهم : لا نؤمن حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً. فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقام معه عبد الله بن أبي أمية المخزومي ابن عمّته عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : يا محمّد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ... فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ سُلّماً إلى السماء ثم ترقى فيه وأنا أنظر ، ويأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك ، وكتاب يشهد لك ....

فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حزيناً لما رأى من قومه ، فأنزل الله سبحانه الآيات.

التّفسير

بعد الآيات السابقة التي تحدثت عن عظمة وإعجاز القرآن ، جاءت هذه الآيات تشير إلى ذرائع المشركين ، هذه الطلبات وردت على ستة أقسام هي :

١ ـ في البداية يقولون : (وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا).

٢ ـ قولهم كما في الآية : (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الْأَنْهَارَ خِللَهَا تَفْجِيرًا).

٣ ـ (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا).

٤ ـ (أَوْ تَأْتِىَ بِاللهِ وَالْمَلِكَةِ قَبِيلاً).

٥ ـ (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ).

٦ ـ (أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ).

ثم يصدر الأمر من الخالق جلّ وعلا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول لهؤلاء في مقابل اقتراحاتهم هذه : (قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولاً).

١٠٩

(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً) (٩٥)

ذريعة عامة : الآيات السابقة تحدّثت عن تذرّع المشركين ـ أو قسم منهم ـ في قضية التوحيد ، أمّا الآيات التي نبحثها فإنّها تشير إلى ذريعة عامة في مقابل دعوة الأنبياء ، حيث تقول : (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً).

هل يمكن التصديق بأنّ هذه المهمة والمنزلة الرفيعة تقع على عاتق الإنسان ، ثم ـ والكلام للمشركين ـ ألم يكن الأولى والأجدر أن تقع هذه المهمة وهذه المسؤولية على عاتق مخلوق أفضل كالملائكة ـ مثلاً ـ كي يستطيعوا أداء هذه المهمة بجدارة ... إذ أين الإنسان الترابي والرسالة الإلهية؟!

إنّ هذا المنطق الواهي الذي تحكيه الآية على لسان المشركين لا يخصّ مجموعة أو مجموعتين من الناس ، بل إنّ أكثر الناس وفي امتداد تأريخ النّبوات قد تذرّعوا به في مقابل الأنبياء والر سل.

القرآن الكريم أجاب هؤلاء جميعاً في جملةٍ قصيرة واحدة مليئة بالمعاني والدلالات ، قال تعالى : (قُل لَّوْ كَانَ فِى الْأَرْضِ مَلِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً). يعني أنّ القائد يجب أن يكون من سنخ من بعث إليه ، ومن جنس أتباعه ، فالإنسان لجماعة البشر ، والملك لجماعة الملائكة.

ودليل هذا التجانس والتطابق بين القائد وأتباعه واضح ؛ فمن جانب يعتبر التبليغ العملي أهم وظيفة في عمل القائد من خلال كونه قدوة واسوة ، وهذا لا يتمّ إلّاأن يكون القائد من جنسهم ، يمتلك نفس الغرائز والأحاسيس ، ونفس مكوّنات البناء الجسمي والروحي الذي يملكه كل فرد من أفراد جماعته.

من جانب آخر ينبغي للقائد أن يدرك جميع احتياجات ومشاكل أتباعه كي يكون قادراً على علاجهم ، والإجابة على أسئلتهم ، لهذا السبب نرى أنّ الأنبياء برزوا من بين عامة الناس.

١١٠

(قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً) (٩٧)

بعد أن قطعت الآيات السابقة أشواطاً في مجال التوحيد والنبوة وعرض حديث المعارضين والمشركين ، فإنّ هذه الآيات عبارة عن خاتمة المطاف في هذا الحديث ، إذ تضع النتيجة الأخيرة لكل ذلك. ففي البداية تقول الآية إذا لم يقبل اولئك أدلتك الواضحة حول التوحيد والنبوة والمعاد فقل لهم : (قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا).

إنّ هذه الآية تستهدف أمرين فهي أوّلاً : تهدّد المعارضين المتعصبين والمعاندين ، بأنّ الله خبير وبصير ويشهد أعمالنا وأعمالكم ، فلا تظنّوا بأنّكم خارجون عن محيط قدرته أو أنّ شيئاً من أعمالكم خاف عنه.

الأمر الثاني هو أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أظهر إيمانه القاطع بما قال ، حيث إنّ ايمان المتحدّث القوي بما يقول ، له أثر نفسي عميق في المستمع ، وعسى أن يكون هذا التعبير القاطع والحاسم المقرون بنوع من التهديد مؤثّراً فيهم ، ويهزّ وجودهم ، ويوقظ فكرهم ووجدانهم ويهديهم إلى الطريق الصحيح.

الآية التالية تؤكّد على أنّ الشخص المهتدي هو الذي قذف الله تعالى نور الإيمان في قلبه : (وَمَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ). أمّا من أضلّه الله بسوء أعماله : (وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ). فالطريق الوحيد هو أن يرجعوا إليه ويطلبوا نور الهداية منه.

هاتان الجملتان تثبتان أنّ الدليل القوي والقاطع لا يكفي للإيمان ، فما لم يكن هناك توفيق إلهي لا يستقر الإيمان أبداً.

أمّا عن سبب مجيء «أولياء» بصيغة الجمع ، فقد يعود ذلك للإشارة إلى تعدد الآلهة

١١١

الوهمية أو تنوع الوسائل التي يلجأون إليها ، فيكون المقصود أنّ جميع هذه الوسائل وجميع البشر وغير البشر ، وكل ما تؤلّهون من آلهة من دون الله ، لا يستطيع أن ينقذكم من الضلالة وسوء العاقبة.

ثم تذكر الآيات ـ بصيغة التهديد القاطع ـ جانباً من مصيرهم بسبب أعمالهم في يوم القيامة فتقول : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ). فبدلاً من الدخول بشكل عادي وبقامة منتصبة ، فإنّ الملائكة الموكلين بهم يسحبونهم إلى جهنم على وجوههم تعذيباً لهم.

أو يزحفون كالزواحف على وجوههم وصدورهم بشكل ذليل ومؤلم.

ثم هم يحشرون : (عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا).

إنّ مراحل ومواقف يوم القيامة متعددة ، ففي بعض المراحل والمواقف يكون هؤلاء صماً وبكماً وعمياً ، وهذا نوع من العقاب لهم ، إلّاأنّ عيونهم في مراحل لاحقة تبدأ بالنظر ، وآذانهم بالسماع ، وألسنتهم بالنطق حتى يروا منظر العذاب ويسمعون كلام الشامتين ، ويبدأون بالتأوّه والصراخ وإظهار ضعفهم ، حيث إنّ كل هذه الامور هي نوع آخر من العقاب لهم.

إنّ المجرمين وأهل النار محرومون من رؤية ما هو سارّ ومن سماع امور تبعث على الفرح ، ومن قول وكلام يستوجب نجاتهم ، بل على العكس من ذلك ، فهم لا ينظرون ولا يسمعون ولا يقولون إلّاما يؤذي ويؤلم.

في الختام تقول الآية : (مَّأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ). لكن لا تظنّوا أنّ نارها كنار الدنيا تنطفي في النهاية ، بل هي : (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا).

(ذلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُوراً) (١٠٠)

كيف يكون المعاد ممكناً؟ في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ يوماً سيّئاً ينتظر المجرمين في العالم الآخر ، هذه العاقبة التي تجعل أيّ عاقل يفكّر في هذا المصير ، لذلك فإنّ الآيات التي بين

١١٢

أيدينا تقف على هذا الموضوع بشكل آخر. في البداية تقول : (ذلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بَايَاتِنَا وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا).

وبعد تعجّبهم من المعاد الجسماني واعتبارهم ذلك أمراً غير ممكن ، يقول القرآن باسلوب واضح ومباشر وبلا فصل : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ). وعلى هؤلاء أن لا يعجّلوا فإنّ القيامة وإن تأخّرت ، إلّاأنّها سوف تتحقق بلا ريب : (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَّارَيْبَ فِيهِ).

ولكن هؤلاء الظالمين والمعادين مستمرون على ما هم فيه رغم سماعهم هذه الآيات : (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كَفُورًا).

وحيث إنّهم كانوا يصرخون ويصرّون على أن لا يكون النبي من البشر حسداً من عند أنفسهم وجهلاً وضلالاً ، وقد منعهم هذا الحسد والجهل من التصديق بإمكانية أن يعطي الله كل هذه المواهب لإنسان ، لذا فإنّ الخالق جلّ وعلا يخاطبهم بقوله : (قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ). ثم يقول : (وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا).

«قتور» : من «قَتَرَ» على وزن «قتل» وهي تعني الإمساك في الصرف ، وبما أنّ (قتور) صيغة مبالغة فإنّها تعني شدّة الإمساك وضيق النظر.

المعاد الجسماني : الآيات أعلاه من أوضح الآيات المرتبطة بإثبات المعاد الجسماني ، فالمشركين كانوا يعجبون من إمكانية عودة الحياة إلى العظام النخرة ، والقرآن يجيبهم بأنّ القادر على خلق السماوات والأرض ، لديه القدرة على جمع الأجزاء المتناثرة للإنسان وأن يهبها الحياة مرّة اخرى.

كما إنّ الإستدلال بالقدرة الكلية للخالق عزوجل في إثبات المعاد ، هو واحد من الأدلة التي يذكرها القرآن مراراً ويعتمد عليها كثيراً.

(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً (١٠١) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً) (١٠٤)

١١٣

لم يؤمنوا رغم الآيات : قبل بضعة آيات عرفنا كيف أنّ المشركين طلبوا اموراً عجيبة غريبة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه الآيات ـ التي نبحثها ـ تقف على نماذج للُامم السابقة ممن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية ، إلّاأنّهم استمروا في الإنكار وعدم الإيمان. في البدء يقول تعالى : (وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ).

والآيات التسع هي : العصا ، اليد البيضاء ، الطوفان ، الجراد ، القمل ، الضفادع ، الدم ، الجفاف ، ونقص الثمرات.

ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل ـ والخطاب موجّه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بني إسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين : (فَسَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ).

إلّا أنّ الطاغية الجبار فرعون ـ برغم الآيات ـ لم يستسلم للحق ، بل أكثر من ذلك إتّهم موسى (فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنّى لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا).

إنّ التعبير القرآني يكشف عن الاسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمه المستكبرون ويتّهمون فيه الرجال الإلهيين بسبب حركتهم الإصلاحية الربانية ضد الفساد والظلم ، إذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يؤثّروا من هذا الطريق في قلوب الناس ويفرّقوهم عن الأنبياء.

ولكن موسى عليه‌السلام لم يسكت أمام اتّهام فرعون له ، بل أجابه بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق ، إذ قال له : (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ).

لذا فإنّك ـ يا فرعون ـ تعلم بوضوح أنّك تتنكّر للحقائق ، برغم علمك بأنّها من الله! فهذه «بصائر» أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق ، وعندها سيسلكون طريق السعادة ، وبما أنّك ـ يا فرعون ـ تعرف الحق وتنكره ، لذا : (وَإِنّى لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا). «مثبور» : من «ثبور» وتعني الهلاك.

ولأنّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية ، فإنّه سلك طريقاً يسلكه جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافّة الأعصار ، وذاك قوله تعالى : (فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا).

«يستفز» : من «استفزاز» وتعني الإخراج بقوة وعنف.

ومن بعد هذا النصر العظيم : (وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَاءِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ

١١٤

الْأَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا). فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.

«لفيف» : من مادة «لفّ» وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقّدة بحيث لا يعرف الأشخاص ، ولا من أيّ قبيلة هم.

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (١٠٩)

مرّة اخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويجيب على بعض ذرائع المعارضين. في البداية تقول الآيات : (وَبِالْحَقّ أَنزَلْنهُ). ثم تضيف : (وَبِالْحَقّ نَزَلَ). ثم تقول : (وَمَا أَرْسَلْنكَ إِلَّا مُبَشّرًا وَنَذِيرًا). إذ ليس لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

والفرق بين الجملة الاولى : (وَبِالْحَقّ أَنزَلْنهُ) والجملة الثانية : (وَبِالْحَقّ نَزَلَ) هو أنّ الإنسان قد يبدأ في بعض الأحيان بعمل ما ، ولكنه لا يستطيع اتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب من ضعفه ، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء ، فإنّه يبدأ بداية صحيحة ، وينهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك : الشخص الذي يخرج ماءً صافياً من أحد العيون ، ولكن خلال مسير هذا الماء لا يستطيع ذلك الشخص أن يحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته ويمنعه من التلوّث ، فيصل الماء في هذه الحالة إلى الآخرين وهو ملوّث ، إلّاأنّ الشخص القادر والمحيط بالامور ، يحافظ على بقاء الماء صافياً وبعيداً عن عوامل التلوّث حتى يصل إلى العطاشى والمحتاجين له.

القرآن كتاب نزل بالحق من قبل الخالق ، وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين ، أو المرحلة التي كان الرسول فيها هو المتلقي ، وبمرور الزمن لاتستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إليه بمقتضى قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فالله هو الذي يتكفّل حمايته وحراسته.

١١٥

لذا فإنّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإلهي القويم لم تناله يد التحريف والتبديل منذ عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وحتى نهاية العالم.

الآية التي تليها تردّ على واحدة من ذرائع المعارضين وحججهم ، إذ كانوا يقولون : لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولماذا كان نزوله تدريجياً؟ كما تشير إلى ذلك الآية (٣٢) من سورة الفرقان التي تقول : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنهُ تَرْتِيلاً). فيقول الله في جواب هؤلاء : (وَقُرْءَانًا فَرَّقْنهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ). حتى يدخل القلوب والأفكار ويترجم عملياً بشكل كامل.

ومن أجل التأكيد أكثر تبيّن الآية ـ بشكل قاطع ـ أنّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحن : (وَنَزَّلنهُ تَنزِيلاً).

إنّ القرآن له إرتباط دقيق بعصره ، أيء ارتباط ب (٢٣) سنة ، هي عصر نبوة نبي الخاتم بكل ما كانت تتمخض به من حوادث وقضايا.

هل يمكن جمع حوادث (٢٣) سنة نفسها في يوم واحد ، حتى ينزل القرآن في يوم واحد؟

النزول التدريجي يعني الإرتباط الدائمي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مع مصدر الوحي ، إلّاأنّ النزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنّى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الإرتباط بمصدر الوحي لأكثر من مرّة واحدة.

الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول : (قُلْءَامِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا).

إنّ المقصود من (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ) هم مجموعة من علماء اليهود والنصارى من الذين آمنوا بعد أن سمعوا آيات القرآن ، وشاهدوا العلائم التي قرأوها في التوراة والإنجيل ، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين ، وأصبحوا من علماء الإسلام.

«يخرّون» : بمعنى يسقطون على الأرض بدون إرادتهم ، واستخدام هذه الكلمة بدلاً من السجود ينطوي على إشارة لطيفة ، هي أنّ الواعين وذوي القلوب اليقظة عندما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالق عزوجل ينجذبون إليه ويولهون به إلى درجة أنّهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشية بدون وعي واختيار (١).

__________________

(١) يقول الراغب في (المفردات) : «يخرون» من مادة «خرير» ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك ممّا ـ

١١٦

«أذقان» : جمع «ذقن» ومن المعلوم أنّ ذقن الإنسان عند السجود لا يلمس الأرض ، إلّا أنّ تعبير الآية إشارة إلى أنّ هؤلاء يضعون كامل وجههم على الأرض قبال خالقهم حتى أنّ ذقنهم قد يلمس الأرض عند السجود.

الآية التي بعدها توضّح قولهم عندما يسجدون : (وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً). هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق إيمانهم واعتقادهم بالله وبصفاته وبوعده.

والكلام على هذا الأساس يجمع اصول الدين في جملة واحدة.

وللتأكيد ـ أكثر ـ على تأثّر هؤلاء بآيات ربّهم ، وعلى سجدة الحب التي يسجدونها تقول الآية التي بعدها : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا). «الخشوع» : هو حالة من التواضع والأدب الجسدي والروحي للإنسان في مقابل شخصية معينة أو حقيقة معينة.

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (١١١)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ساجداً ذات ليلة بمكة يدعو : يا رحمن يا رحيم ، فقال المشركون : هذا يزعم أنّ له إلهاً واحداً ، وهو يدعو مثنى مثنى.

التّفسير

آخر الذرائع والأعذار : بعد سلسلة من الذرائع التي تشبّث بها المشركون امام دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نصل مع الآيات التي بين أيدينا إلى آخر ذريعة لهم ، وهي قولهم : لماذا يذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الخالق بأسماء متعددة بالرغم من أنّه يدّعي التوحيد. القرآن ردّ على هؤلاء بقوله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّامَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).

إنّ هؤلاء عميان البصيرة والقلب ، غافلون عن أحداث ووقائع حياتهم اليومية حيث كانوا يذكرون أسماء مختلفة لشخص واحد أو لمكان واحد ، وكل اسم من هذه الأسماء كان

__________________

ـ يسقط من علو. وقوله تعالى : «خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا» تنبيه على اجتماع أمرين : السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح ، والتنبيه أنّ ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد الله لا بشيء آخر ، ودليله قوله تعالى فيما بعد : «وَسَبّحُوا بِحَمْدِ رَبّهِمْ».

١١٧

يعرّف بشطر أو بصفة من صفات ذلك الشخص أو المكان.

بعد ذلك ، هل من العجيب أن تكون للخالق أسماء متعددة تتناسب مع افعاله وكمالاته وهو المطلق في وجوده وفي صفاته والمنبع لكل صفات الكمال وجميع النعم ، وهو وحده عزوجل الذي يدير دفة هذا العالم والوجود؟

ففي نهاية الآية التي نبحثها نرى المشركين يتحدّثون عن صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقولون : إنّه يؤذينا بصوته المرتفع في صلاته وعبادته ، فما هذه العبادة؟ فجاءت التعليمات لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبر قوله تعالى : (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً).

إنّ الآية أعلاه تقول : لا تقرأ بصوت مرتفع بحيث يشبه الصراخ ، ولا أقل من الحد الطبيعي بحيث تكون حركة شفاه وحسب ولا صوت فيها.

هذا الحكم الإسلامي في الدعوة إلى الإعتدال بين الجهر والإخفات يعطينا فهماً وإدراكاً من جهتين :

الاولى : لا تؤدّوا العبادات بشكل تكون فيه ذريعة بيد الأعداء ، فيقومون بالاستهزاء والتحجج ضدكم ، إذ الأفضل أن تكون مقرونه بالوقار والهدوء والأدب.

الثانية : يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وتكون جميع هذه الامور بعيدة عن الإفراط والتفريط ، إذ الأساس هو : (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً).

أخيراً نصل إلى الآية الأخيرة من سورة الإسراء ، هذه الآية تنهي السورة المباركة بحمد الله ، كما افتتحت بتسبيحه وتنزيه ذاته عزوجل. إنّ هذه الآية هي خلاصة أخيرة لكل البحوث التوحيدية التي وردت في السورة ، وهي ثمرة لمفاهيمها جميعاً ، إذ هي تخاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقول : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِىٌّ مِّنَ الذُّلّ).

ومثل هذا الرب في مثل هذه الصفات ، هو أفضل من كل ما تفكّر به : (وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا).

روى العلّامة الطبرسي رحمه‌الله في تفسير مجمع البيان : إنّ في هذه الآية ردّاً على اليهود والنصارى ، حين قالوا اتّخذ الله الولد ، وعلى مشركي العرب حيث قالوا : لبيك لا شريك لك ، إلّا شريكاً هو لك. وعلى الصابئين والمجوس حين قالوا : لولا أولياء الله لذل الله.

نهاية تفسير سورة الإسراء

* * *

١١٨

١٨

سورة الكهف

محتوى السورة تبدأ السورة بحمد الخالق جلّ وعلا ، وتنتهي بالتوحيد والإيمان والعمل الصالح.

يشير محتوى السورة ـ كما في أغلب السور المكية ـ إلى قضية المبدأ والمعاد والترغيب والإنذار. وتشير أيضاً إلى قضية مهمة كان المسلمون يحتاجونها في تلك الأيام بشدة ، وهي عدم استسلام الأقلية ـ مهما كانت صغيرة ـ إلى الأكثرية مهما كانت قوية في المقاييس الظاهرية ، بل عليهم أن يفعلوا كما فعلت المجموعة الصغيرة القليلة من أصحاب الكهف ، أن يبتعدوا عن المحيط الفاسد ويتحركوا ضدّه.

فإذا كانت لديهم القدرة على المواجهة ، فعليهم خوض الجهاد والصراع ، وإن عجزوا عن المواجهة فعليهم بالهجرة.

إنّ السورة تشير إلى ثلاث قصص (قصة أصحاب الكهف ، قصة موسى والخضر ، وقصة ذي القرنين) حيث إنّ هذه القصص بخلاف أغلب القصص القرآنية لم تتكرّر في مكان آخر من القرآن (أشارت الآية ٩٦ من سورة الأنبياء إلى يأجوج ومأجوج دون ذكر ذي القرنين). وهذه الإشارة تعتبر واحدة من خصائص هذه السورة المباركة.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ألا أدلّكم على سورة

١١٩

شيّعها سبعون ألف ملك ، حين نزلت ملأت عظمتها ما بين السماء والأرض»؟ قالوا : بلى. قال : سورة أصحاب الكهف ، من قرأها يوم الجمعة غفر الله له إلى الجمعة الاخرى ، وزيادة ثلاثة أيام ، واعطي نوراً يبلغ السماء ، ووُقِي فتنة الدجّال.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : من قرأ سورة الكهف في كل ليلة جمعة لم يمت إلّاشهيداً ، وبعثه الله مع الشهداء ، ووقف يوم القيامة مع الشهداء.

إنّ عظمة السور القرآنية وتأثيرها المعنوي ، وبركاتها الأخلاقية ، إنّما يكون بسبب الإيمان بها والعمل وفقاً لمضامينها.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) (٥)

البداية باسم الله ، والقرآن : تبدأ سورة الكهف ـ كما في بعض السور الاخرى ـ بحمد الله ، وبما أنّ الحمد يكون لأجل عمل أو صفة معينة مهمة ومطلوبة ، لذا فإنّ الحمد هنا لأجل نزول القرآن الخالي من كل اعوجاج ، فتقول الآية : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتبَ وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجًا).

هذا الكتاب هو كتاب ثابت ومحكم ومعتدل ومستقيم ، وهو يحفظ المجتمع الإنساني ويحمي سائر الكتب السماوية.

(قَيّمًا). وينذر الظالمين من عذاب شديد : (لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ). وفي نفس الوقت فهو : (وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا). وهؤلاء في نعيمهم (مكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا).

ثم تشير الآيات إلى واحدة من انحرافات المعارضين ، سواء كانوا نصارى أو يهود أو مشركين ، حيث تنذرهم هذا الأمر فتقول : (وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا). فهي تحذّر النصارى بسبب اعتقادهم بأنّ المسيح ابن الله ، وتحذّر اليهود لأنّهم اعتقدوا بأنّ عزير ابن الله ، وتحذّر المشركين لظنّهم بأنّ الملائكة بنات الله.

١٢٠