مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

يعتقد بعض المفسرين أنّ كلمة «ردم» تقال للسدّ القوي.

ثم أمر ذو القرنين فقال : (ءَاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ).

«زُبر» : جمع «زُبرة» على وزن (غرفة) ، وتعني القطع الكبيرة والضخمة من الحديد.

وعندما تهيّأت قطع الحديد أعطى أمراً بوضع بعضها فوق البعض الآخر حتى غطّي بين الجبلين بشكل كامل : (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ). «صدف» : تعني هنا حافة الجبل.

الأمر الثالث لذي القرنين هو طلبه منهم أن يجلبوا الحطب وما شابهه ، ووضعه على جانبي هذا السد ، وأشعل النار فيه ثم أمرهم بالنفخ فيه حتى احمرّ الحديد من شدّة النار : (قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا).

لقد كان يهدف ذو القرنين من ذلك ربط قطع الحديد بعضها ببعض ليصنع منها سدّاً من قطعة واحدة ، وعن طريق ذلك ، قام ذو القرنين بنفس عمل «اللحام» الذي يقام به اليوم في ربط أجزاء الحديد بعضها ببعض.

أخيراً أصدر لهم الأمر الأخير فقال : اجلبوا لي النحاس المذاب حتى أضعه فوق هذا السد : (قَالَءَاتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا).

وبهذا الشكل قام بتغطية هذا السدّ الحديدي بطبقة من النحاس حتى لا ينفذ فيه الهواء ويحفظ من التآكل.

وأخيراً ، أصبح هذا السد بقدر من القوة والإحكام بحيث : (فَمَا اسْطعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطعُوا لَهُ نَقْبًا).

لقد كان عمل ذي القرنين عظيماً ومهماً ، وكان له وفقاً لمنطق المستكبرين ونهجهم أن يتباهى به أو يمنّ به ، إلّاأنّه قال بأدب كامل : (قَالَ هذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبّى) ، لأنّ أخلاقه كانت أخلاقاً إلهية.

إنّه أراد أن يقول : إذا كنت أملك العلم والمعرفة وأستطيع بواسطتهما أن أخطو خطوات مهمّة ، فإنّ كل ذلك إنّما كان من قبل الخالق جلّ وعلا.

ثم استطرد قائلاً : لا تظنوا أنّ هذا السد سيكون أبدياً وخالداً : (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبّى جَعَلَهُ دَكَّاءَ). (وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقًّا).

لقد أشار ذو القرنين في كلامه هذا إلى قضية فناء الدنيا وتحطّم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث.

١٦١

بحثان

أوّلاً ـ ملاحظات التربوية في هذه القصة التأريخية : هذه القصة تحوي على دروس تربوية كثيرة وفي الواقع أنّها هي الهدف القرآني من إيرادها.

١ ـ إنّ أوّل درس تعلّمنا إيّاه أنّ العمل الدنيوي لا يتمّ دون توفير أسبابه ، لذا فإنّ الله تبارك وتعالى وهب الوسائل والأسباب لتقدم وانتصار ذي القرنين في عمله.

٢ ـ لا تستطيع أي حكومة أن تنتصر بدون ترغيب الأنصار والأتباع ، ومعاقبة المذنبين والمخطئين ، وهذا هو نفس الأساس الذي اعتمد عليه ذو القرنين.

والإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بلور هذا المعنى في رسالته إلى مالك الأشتر والتي هي برنامج كامل لإدارة البلاد ، إذ يقول عليه‌السلام : «ولا يكونن المحسن والمسيىء عندك بمنزلة سواء ، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة» (١).

٣ ـ التكليف الشاق والتصعّب في الامور وتحميل الناس ما لا يطيقون ، كل هذه الامور لا تناسب الحكومة الإلهية العادلة أبداً.

٤ ـ الحكومة الكبيرة ذات الإمكانات الواسعة لا تتغاضى عن التفاوت والإختلاف القائم في حياة الناس وتراعي شرائط حياتهم المختلفة.

٥ ـ إنّ «ذو القرنين» لم يستبعد حتى تلك المجموعة التي لم تكن تفهم الكلام ، أو كما وصفهم القرآن : (لَّايَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) بل إنّه استمع إلى مشاكلهم ، ودأب على رفع احتياجاتهم بأيّ اسلوب كان.

٦ ـ الأمن هو أوّل وأهم شرط من شروط الحياة الإجتماعية السالمة ، لهذا السبب تحمل «ذو القرنين» أصعب الأعمال وأشقّها لتأمين أمن القوم من أعدائهم.

٧ ـ الدرس الآخر الذي يمكن أن نتعلّمه من هذه القصّة ، هو أنّ أصحاب المشكلة الأصليين معنيين بالدرجة الاولى في الإشتراك في الجهد المبذول لحل مشكلتهم.

وعادة فإنّ العمل الذي يتمّ بمساهمة وحضور الأطراف الأصليين في المشكلة يؤدّي إلى إظهار استعداداتهم ويعطي قيمة خاصة للنتائج الحاصلة منه ، وللجهود المبذولة فيه ، ومن ثم يحرص الجميع للحفاظ عليه وإدامته بحكم تحمّلهم لمجهودات إنشائه.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

١٦٢

كما يتّضح من هذه النقطة أنّ ، المجتمع المتخلف والمتأخر يستطيع أن ينجز أعمالاً مهمة وعظيمة إذا تمتّع ببرنامج صحيح وإدارة مخلصة.

٨ ـ الزعيم الإلهي والقائد الرباني لا يلتفت إلى الجزاء المادي والنفع المالي وإنّما يقتنع بما حباه الله.

وفي القرآن الكريم نقرأ مراراً في قصص الأنبياء أنّهم لم يكونوا يطلبون المال جزاءً لأعمالهم ودعواتهم.

٩ ـ إحكام الامور هو درس آخر نستفيده من هذه القصة.

١٠ ـ مهما كان الإنسان قوياً ومتمكناً وصاحب قدرة واستطاعة في إنجاز الأعمال ، فعليه أن لا يغتر بنفسه ، وهذا هو درس آخر نتعلّمه من قصة «ذو القرنين».

١١ ـ كل شي إلى زوال مهما كان محكماً وصلداً. هذا هو الدرس الأخير في هذه القصة ، وهو درس للذين يتمنّون أو يظنون خلود المال أو المنصب والجاه.

ثانياً ـ من هم يأجوج ومأجوج؟ذكر القرآن الكريم يأجوج ومأجوج في سورتين ، إذ وردت المرّة الاولى في الآيات التي نبحثها ، والثانية في سورة الأنبياء ، الآية (٩٦).

الآيات القرآنية تؤيّد بوضوح أنّ هذين الاسمين هما لقبيلتين همجيتين كانتا تؤذيان سكّان المناطق المحيطة بهم. حيث طلب أهل القفقاز من «كورش» عند سفره إليهم أن ينقذهم من هجمات هذه القبائل ، لذلك أقدم على تأسيس السد المعروف بسدّ ذي القرنين.

(وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) (١٠٢)

عاقبة الكافرين : لقد تناولت الآية السابقة سد يأجوج ومأجوج وانهدامه عند البعث ، وهذه الآيات تستمر في قضايا القيامة ، فتقول أوّلاً : إنّنا سنترك في ذلك اليوم ـ الذي ينتهي فيه العالم ـ بعضهم يموج ببعض : (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ).

إنّ استخدام كلمة «يموج» إمّا بسبب الكثرة الكاثرة للناس في تلك الواقعة ، أو بسبب

١٦٣

الإضطراب والخوف الذي يصيب الناس في ذلك اليوم ، وكأنّما أجسادهم تهتز كأمواج الماء.

بعد ذلك تضيف الآيات : (وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنهُمْ جَمْعًا).

وبلا شك فإنّ كافة الناس سيجمعون في تلك الساحة ولن يستثنى منهم أحد ، وتعبير (فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا) إشارة إلى هذه الحقيقة.

من مجموع الآيات نستفيد أنّ ثمّة تحوّلان عظيمان سيحصلان عند نهاية هذا العالم وبداية العالم الجديد :

الأوّل : فناء الموجودات والناس بشكل آني.

والثاني : إحياء الموتى بشكل آني أيضاً.

ولا نعلم مقدار الفاصل بين الحدثين ، ولكنّ القرآن يعبّر عن هذين التحوّلين بعنوان (نفخ الصور).

ثم تتناول الآيات تفصيل حال الكافرين ، حيث توضّح عاقبة أعمالهم ، والصفات التي تقود إلى هذه العاقبة ، فتقول : (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكفِرِينَ عَرْضًا).

إنّ جهنّم ستظهر لهم ، وتتّضح لهم الأنواع المختلفة من عذابها ، وهذا هو بحد ذاته عذاب أليم موجع ، فكيف إذا ولجوها؟!

ولكن من هم الكافرون؟ ولماذا يصابون بمثل هذه العاقبة؟ الآية تعرّف هؤلاء بجملة قصيرة واحدة بقولها : (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاءٍ عَن ذِكْرِى). وبالرغم من أنّهم يمتكون آذاناً ، إلّاأنّهم يفقدون القدرة على السماع : (وَكَانُوا لَايَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا).

فهؤلاء أسقطوا في الواقع أهم وسيلة لمعرفة الحق وإداركه ، وأهملوا الوسيلة الهامة في شقاء أو سعادة الإنسان. يعني أنّهم غطّوا أعينهم وأسماعهم بحجاب وستار بسبب أفكارهم الخاطئة وتعصبهم وحقدهم وصفاتهم القبيحة الاخرى.

الآية التي بعدها تشير إلى نقطة انحراف فكرية لدى هؤلاء هي أصل انحرافاتهم الاخرى ، فتقول : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَاءَ).

هل يملك هؤلاء المعبودون ـ كالمسيح والملائكة ـ شيئاً للدفاع عن الآخرين بالرغم من مكانتهم العالية ، أو أنّ الأمر بالعكس إذ كل ما عند هؤلاء هو من الله ، وأنّهم أنفسهم يحتاجون إلى هدايته؟

إنّ هذه حقيقة واضحة ، ولكن هؤلاء تناسوها وتورّطوا في شراك الشرك.

١٦٤

في ختام الآية وللمزيد من التأكيد ، تقول الآية : (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكفِرِينَ نُزُلاً).

«نُزُل» : بمعنى الإقامة ، وتعني أيضاً الشيء الذي يهيّأ لتقديمه للضيوف.

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) (١٠٨)

أخسر الناس : هذه الآيات والآيات اللاحقة ـ إلى نهاية السورة المباركة ـ في الوقت الذي تتحدث فيه عن صفات غير المؤمنين ، فإنّها تعتبر نوعاً من التلخيص لكافّة البحوث التي وردت في هذه السورة ، خاصة البحوث المتعلقة بقصة أصحاب الكهف وموسى والخضر وذي القرنين ، وما بذلوه من جهود إزاء معارضيهم.

فالآيات تكشف أوّلاً عن أخسر الناس ، ولكنها ـ بهدف إثارة حب الإستطلاع لدى المستمع إزاء هذه القضية ـ تعمد إلى إثارتها على شكل سؤال موجّه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتقول : (قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْملاً).

ثم يأتي الجواب بدون أي توقف حتى لا يبقى المستمع في حيرة ، فتقول : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).

مفهوم الخسران لا ينطبق على خسران الأرباح وحسب ، بل إنّ الخسران الواقعي هو خسران أصل رأس المال ، وهل هناك رأس مال أربح وأفضل وأحسن من العقل والذكاء والطاقات الإلهية الموهوبة للإنسان من عمر وشباب وصحة؟

إنّ نتاج كل هذه المواهب هي أعمال الإنسان ، وأعمال الإنسان هي في الواقع انعكاس وتجسيد لطاقاتنا وقدراتنا.

عندما تتحوّل هذه الطاقات إلى أعمال مخرّبة أو غير هادفة ، فكأنّها قد فنيت أو ضاعت ؛ إلّا أنّ الخسران الحقيقي والمضاعف هو أن يفقد الإنسان رأسماله المادي والمعنوي في مسالك خاطئة ومجالات منحرفة ويظن أنّه أحسن العمل ، فهو في هذه الحالة لم يحصل على ثمرة

١٦٥

لعمله ، وفي نفس الوقت لم يلتفت إلى ما هو فيه ، فيكرّر العمل.

الآيات الاخرى تذكر صفات ومعتقدات هذه المجموعة من الخاسرين ، حيث تبدأ بتلك الصفات التي تكون أساساً في مصائبهم فتقول : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِ رَبّهِمْ).

إنّهم كفروا بالآيات التي تفتح الأبصار والمسامع ، الآيات التي ترفع حجب الغرور وتجسّد الحقائق أمام الإنسان ، وأخيراً فإنّها آيات النور والضياء التي تخرج الإنسان من ظلمات الأوهام والتصورات الخاطئة وترشده إلى عالم الحقائق.

ثم إنّهم بعد ذلك نسوا الله وكفروا بالمعاد وبلقاء الله (وَلِقَائِهِ).

يعني أنّ الإنسان في يوم القيامة يشاهد آثار الخالق أكثر وأفضل من أي زمان ، لذا فإنّه ينظر إليه بوضوح ، بعين القلب الواعي البصير.

نعم ، فما لم يكن الإيمان بالمعاد إلى جانب الإيمان بالمبدأ ، وما لم يحس الإنسان بأنّ هناك قوة تراقب أعماله فإنّ الإنسان سوف لا يعير أهمّية إلى أعماله وسوف لا يصلح نفسه.

ثم تضيف الآية أنّهم بسبب من كفرهم بالمبدأ والمعاد فإنّ أعمالهم قد حبطت وضاعت : (فَحَبِطَتْ أَعْملُهُمْ). وغدت تماماً كالرماد في مقابل العاصفة الهوجاء.

ولأنّهم لا يملكون عملاً قيّماً ثميناً لذا : (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ وَزْنًا).

لأنّ الوزن يخصّ الامور الموجودة ، أمّا هؤلاء فلا يملكون شيئاً من الأعمال ، ولذلك ليس لهم وزن ولا قيمة. روي في تفسير مجمع البيان أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : (إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة).

لماذا؟ لأنّ أعمال مثل هؤلاء وأفكارهم وشخصيتهم كانت في الحياة الدنيا عديمة الأهمية والفائدة.

وفي إطار بيان جزاء هؤلاء ، تكشف الآية عن ثالث سبب في انحراف وخسران هؤلاء ، وهو الاستهزاء بما أنزل الله ، فتقول : (ذلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُواءَايتِى وَرُسُلِى هُزُوًا).

وبذلك فإنّ هؤلاء انتهوا إلى إنكار الأصول الأساسية الثلاثة في الإعتقاد الديني (المبدأ ، والمعاد ، ورسالة الأنبياء) والأكثر من الإنكار أنّهم استهزؤوا بهذه الامور.

والآن بعد أن عرفنا علامات الكفار والأخسرين أعمالاً ، وبعد أن انكشفت عاقبة أعمالهم ، تتوجّه الآيات إلى المؤمنين فتبيّن عاقبتهم ، وبمقايسة بين الاثنين نستطيع تشخيص

١٦٦

كل طرف بشكل كامل. تقول الآية : (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً). «الفردوس» : البستان الذي يشتمل على كل النعم والمواهب اللازمة ، وبذلك فالفردوس هو أفضل وأكمل البساتين في الجنة.

وبما أنّ كمال النعم بدوامها وأن لا تطالها يد الزوال ، لذا فإنّ الآية تقول : (خلِدِينَ فِيهَا). وبالرغم من أنّ طبع الإنسان قائم على التغيّر والتنوع ، إلّاأنّ سكّان الجنة لا يطلبون تغيير مكانهم أو حالهم أبداً : (لَايَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً). ذلك لأنّهم يجدون كل ما يطلبون حتى التنوع والتكامل كما سيأتي شرح ذلك.

(قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال : لمّا نزل قوله (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (١) ، قالت اليهود : أوتينا علماً كثيراً ، أوتينا التوراة ، وفيها علم كثير ، فأنزل الله هذه الآية (قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمتِ رَبّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمتُ رَبّى).

التّفسير

الذين يأملون لقاء الله : الآيات أعلاه في نفس الوقت الذي تبحث بحثاً مستقلاً ، إلّاأنّها متصلة مع بحوث هذه السورة ، وكأنّما القرآن يريد أن يقول في هذه الآيات : إنّ الإطلاع على قصة أصحاب الكهف ، وموسى والخضر ، وذي القرنين ، يعتبر لا شيء إزاء علم الله غير المحدود. القرآن الكريم يخاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في أوّل آية نبحثها ـ بقوله : (قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمتِ رَبّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمتُ رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا).

«مداد» : تعني الحبر ، أو أي مادة ملوّنة تساعد في الكتابة.

«كلمات» : جمع كلمة ، وهي في الأصل تعني الألفاظ التي يتمّ التحدّث بها. أو بعبارة

__________________

(١) سورة الإسراء / ٨٥.

١٦٧

اخرى : «الكلمة» لفظ يدل على المعنى ، وبما أنّ كل موجود من موجودات هذا العالم هو دليل على علم وقدرة الخالق ، لذا فإنّه يطلق في بعض الأحيان على كل موجود اسم (كلمة الله) ويختص هذا التعبير أكثر بالموجودات المهمة العظيمة.

وفي الآية التي نبحثها فإنّ (كلمة) قد استخدمت بهذا المعنى ، أي إشارة إلى موجودات عالم الوجود التي تدل كل واحدة فيه على الصفات المختلفة لله تبارك وتعالى.

إنّ القرآن يلفت أنظارنا في هذه الآية إلى هذه الحقيقة وهي : لا تظنّوا أنّ عالم الوجود محدود بما تشاهدونه أو تعلمونه أو تحسّونه ، بل هو على قدر من السعة والعظمة بحيث لو أنّ البحار تتحوّل إلى حبر ، وتكتب صفاته وخصائصه ، فإنّها ـ أي البحار ـ ستجف قبل أن تحصي موجودات عالم الوجود.

وينبغي الإنتباه هنا إلى أنّ الآية أعلاه في الوقت الذي تجسّد فيه سعة عالم الوجود اللامتناهية في الماضي والحاضر والمستقبل ، فإنّها توضّح ـ أيضاً ـ العلم المطلق وغير المحدود للخالق جلّ وعلا ، لأنّنا نعلم أنّ الله سبحانه وتعالى يحيط علمه بما كان موجوداً في عالم الوجود ، وبما سيكون موجوداً ، وفي الوقت الذي يعتبر فيه علم الله تعالى «علماً حضورياً» فإنّه لا يفترق عن وجود هذه الموجودات (فدقق في ذلك).

إذن نستطيع أن نقول : لو أنّ جميع المحيطات وبحار الأرض تحوّلت إلى حبر ومداد ، ولو أنّ كافة الأشجار تحوّلت إلى أقلام ، فإنّ ذلك كلّه لا يستطيع الإحاطة بما هو موجود في علم الخالق جلّ وعلا.

العدد الحي هو العدد الذي تنشغل أفكارنا به ، ويجسّد الحقائق كما هي ويملك روحاً ولساناً وعظمة.

والقرآن الكريم بدلاً من أن يقول : إنّ مخلوقات عالم الوجود تتجاوز في كثرتها الرقم الذي تقع على يمينه مئات الكيلومترات من الأصفار ، يقول : إذا تحوّلت جميع الأشجار إلى أقلام ، وكل البحار إلى مواد وحبر ، فإنّ الأقلام ستتكسر ومياه البحار ستنتهي ، ولا تنتهي أسرار ورموز وحقائق عالم الوجود ، هذه الأسرار التي يحيط بها جميعاً علم الله تعالى.

الآية الثانية في البحث والتي هي آخر آية في سورة الكهف ، عبارة عن مجموعة من

١٦٨

الأسس والأصول للإعتقادات الدينية ، التي تتركّز في التوحيد والمعاد ورسالة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. ففي البداية تحدّثت السورة عن الله والوحي والجزاء والقيامة ، والآية الأخيرة هي خلاصة لمجموع ما ورد في السورة ، التي اشتملت في قسم مهم منها على الأصول الثلاثة الآنفة باعتبارها محاور للسورة.

ولأنّ قضية النبوة قد اقترنت مع أشكال من الغلو والمبالغة على طول التاريخ ، لذا فإنّ الآية تقول : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ).

وهذا التعبير القرآني نسف جميع الإمتيازات المقرونة بالشرك التي تخرج الأنبياء من صفة البشرية إلى صفة الألوهية.

ثم تشير الآية إلى قضية التوحيد من بين جميع القضايا الاخرى في الوحي الإلهي حيث تقول : (أَنَّمَا إِلهُكُم إِلهٌ وَاحِدٌ).

أمّا لماذا تمّت الإشارة إلى هذه القضية؟ فذلك لأنّ التوحيد هو خلاصة جميع المعتقدات ، وغاية كل البرامج الفردية والاجتماعية التي تجلب السعادة للإنسان.

وفي مكان آخر ، أشرنا إلى أنّ التوحيد ليس أصلاً من أصول الدين وحسب ، وإنّما هو خلاصة لجميع أصول وفروع الإسلام.

لهذا السبب نقرأ في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «حدثني جبرائيل عليه‌السلام قال : سمعت ربّ العزّة سبحانه وتعالى يقول : كلمة لا إله إلّاالله حصني فمن قالها دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي» (١).

الجملة الثالثة في الآية الكريمة تشير إلى قضية البعث وتربطها بالتوحيد بواسطة (فاء التفريع) ، حيث تقول : (فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا).

بالرغم من أنّ لقاء الله بمعنى المشاهدة الباطنية ورؤية الذات المقدسة بعين البصيرة هو أمر ممكن في هذه الدنيا بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين ، إلّاأنّ هذه القضية تكتسب جانباً عاماً يوم القيامة بسبب مشاهدة الآثار الكبيرة والواضحة والصريحة للخالق تبارك وتعالى. لذا فإنّ القرآن استخدم هذا التعبير في خصوص يوم القيامة.

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٩ / ١٢٧.

١٦٩

وفي آخر جملة ثمّة توضيح للعمل الصالح في جملة قصيرة ، هي قوله تعالى : (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدًا).

بعبارة اخرى : لا يكون العمل صالحاً ما لم تتجلى فيه حقيقة الإخلاص.

في الحقيقة إنّ العمل الصالح الذي ينبع من أهداف إلهيّة ، ويمتزج بالإخلاص ويتفاعل معه ، هو الذي يكون جوازاً للقاء الله تبارك وتعالى.

فالعمل الخالص يعتبر مهماً في الإسلام إلى الحد الذي يقول فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أخلص لله أربعين يوماً فجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» (١).

«نهاية تفسير سورة الكهف»

__________________

(١) بحار الأنوار ٦٧ / ٢٤٩.

١٧٠

١٩

سورة مريم

محتوى السورة : لهذه السورة من جهة المحتوى عدة أقسام مهمّة :

١ ـ يشكّل القسم الذي يتحدث عن قصص زكريا ومريم والمسيح عليهم‌السلام ويحيي وإبراهيم عليهما‌السلام بطل التوحيد ، وولده إسماعيل ، وإدريس وبعض آخر من كبار أنبياء الله ـ الجزء الأهم في هذه السورة ـ ويحتوي على امور تربوية لها خصوصيات مهمّة.

٢ ـ ثم يتحدث عن المسائل المرتبطة بالقيامة ، وكيفية البعث ، ومصير المجرمين ، وثواب المتقين ، وأمثال ذلك.

٣ ـ القسم الثالث ، وهو المواعظ والنصائح التي تكمّل الأقسام السابقة.

٤ ـ إنّ آخر قسم عبارة عن الإشارات المرتبطة بالقرآن ، ونفي الولد عن الله سبحانه ، ومسألة الشفاعة ، وتشكّل بمجموعها برنامجاً تربوياً مؤثّراً من أجل دفع النفوس الإنسانية إلى الإيمان والطهارة والتقوى.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت في الدنيا حتى يصيب منها ما يغنيه في نفسه وماله وولده وكان في الآخرة من أصحاب عيسى بن مريم عليه‌السلام واعطي من الأجر في الآخرة ملك سليمان بن داود في الدنيا».

إنّ هذا الغنى وعدم الإحتياج ـ حتماً ـ قبس من وجود محتوى السورة وسريانها في أعماق روح الإنسان ، وانعاكسها من خلال أعماله وأقواله وسلوكه.

١٧١

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً (٣) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً) (٦)

دعاء زكريا المستجاب : مرّة اخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة ، ولمّا كنّا قد بحثنا تفسير هذه الحروف المقطعة بصورة مفصّلة في بداية ثلاث سور مختلفة فيما سبق ـ سورة البقرة وآل عمران والأعراف ـ فلا نرى حاجة للتكرار هنا.

ولكن ما ينبغي اضافته هنا هو وجود طائفتين من الروايات في المصادر الإسلامية تتعلق بالحروف المقطعة في هذه السورة (كهيعص).

الاولى : تقول بأنّ كل حرف من هذه الحروف يشير إلى اسم من أسماء الله الحسنى ، فالكاف يشير إلى الكافي ، وهو من أسماء الله الحسنى ، والهاء تشير إلى الهادي ، والياء إشارة إلى الولي ، والعين إشارة إلى العالم ، والصاد إشارة إلى صادق الوعد (١).

الثانية : تفسّر هذه الحروف المقطعة بحادثة ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام في كربلاء : فالكاف اسم كربلاء ، والهاء هلاك العترة ، والياء يزيد لعنه الله وهو ظالم الحسين ، والعين عطشه ، والصاد إشارة إلى صبره (٢).

وكما قلنا مراراً ، فإنّ لآيات القرآن أنوار ومعان مختلفة ، ومع تنوعها واختلافها فإنّه لا يوجد تناقض بينها.

وبعد ذكر الحروف المقطعة ، تشرع الكلمات الاولى باستعراض قصة زكريا عليه‌السلام فتقول : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا). وفي ذلك الوقت الذي كان زكريا عليه‌السلام مغتماً ومتألماً فيه

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ٣ / ٣٢٠.

(٢) المصدر السابق.

١٧٢

من عدم إنجاب الولد ، توجّه إلى رحمة ربّه : (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) بحيث لم يسمعه أحد. وذكر في دعائه وهن وضعف العظام باعتبارها عمود بدن الإنسان ودعامته وأقوى جزء من اجزائه : (قَالَ رَبّ إِنّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا).

لقد شبّه زكريا نزول الكبر ، وبياض كل شعر رأسه باشتعال النار ، والرماد الأبيض الذي تتركه ، وهذا التشبيه جميل وبليغ جدّاً.

ثم يضيف : (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيًّا). فقد عوّدتني دائماً ـ فيما مضى ـ على استجابة أدعيتي ، ولم تحرمني منها أبداً ، والآن وقد أصبحت كبيراً وعاجزاً فأجدني أحوج من السابق إلى أن تستجيب دعائي ولا تخيّبني.

إنّ الشقاء هنا بمعنى التعب والأذى أي إنّي لم أتعب ولم أتأذّ في طلباتي منك ، لأنّك كنت تقضيها بسرعة.

ثم يبيّن حاجته : (وَإِنّى خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَاءِى). أي إنّي أخشى من أقربائي أن يسلكوا سبيل الانحراف والظلم ، (وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيًّا). أي مرضياً عندك.

إنّ للإرث هنا مفهوماً ومعنى واسعاً يشمل إرث الأموال كما يشمل إرث المقامات المعنوية ، لأنّ الأشخاص الفاسدين إذا تولّوا أمر هذه الأموال ، فإنّهم سيكونون مصدر قلق حقاً ، وإذا وقعت زمام الامور وقيادة الناس المعنوية بيد أناس منحرفين ، فإنّ ذلك أيضاً يثير المخاوف ، وعلى هذا فإنّ خوف زكريا يمكن توجيهه في كلا الصورتين.

(يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً (٧) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً (٨) قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَنْ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً (١٠) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً) (١١)

بلوغ زكريا أمله : تبيّن هذه الآيات استجابة دعاء زكريا عليه‌السلام من قبل الله تعالى استجابة

١٧٣

ممزوجة بلطفه الكريم وعنايته الخاصة ، وتبدأ بهذه الجملة : (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَّجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا).

أمّا زكريا الذي كان يرى أنّ الأسباب الظاهرية لا تساعد على الوصول إلى مثل هذه الأمنية ، فإنّه طلب توضيحاً لهذه الحالة من الله سبحانه : (قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا).

«عاقر» : في الأصل من لفظة «عقر» بمعنى الجذر والنهاية ، أو بمعنى الحبس ، وإنّما يقال للمرأة ، عاقر ؛ لأنّ قابليتها على الولادة قد انتهت ، أو لأنّ إنجاب الأولاد محبوس عنها.

«العتيّ» : تعني الشخص الذي نحل جسمه وضعف هيكله ، وهي الحالة التي تظهر على الإنسان عند شيخوخته.

إلّا أنّ زكريا سمع في جواب سؤاله قول الله سبحانه : (قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ). إنّ هذه ليست بالمسألة العجيبة ، أن يولد مولود من رجل طاعن في السن مثلك ، وامرأة عقيم ظاهراً (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيًا) ، فإنّ الله قادر على أن يخلق كل شيء من العدم ، فلا عجب أن يتلطّف عليك بولد في هذا السن وفي هذه الظروف.

وقد سرّ زكريا وفرح كثيراً لدى سماعه هذه البشارة ، وغمر نور الأمل نفسه ، لكن لمّا كان هذا النداء بالنسبة إليه مصيرياً ومهماً جدّاً ، فإنّه طلب من ربّه آية على هذا العمل : (قَالَ رَبّ اجْعَل لِّىءَايَةً).

لا شك أنّ زكريا كان مؤمناً بوعد الله ، وكان مطمئناً لذلك ، إلّاأنّه لزيادة الإطمئنان ـ كما أنّ إبراهيم الذي كان مؤمناً بالمعاد طلب مشاهدة صورة وكيفية المعاد في هذه الحياة ليطمئن قلبه ـ طلب من ربّه مثل هذه العلامة والآية ، فخاطبه الله : (قَالَءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) ، واشغل لسانك بذكر الله ومناجاته.

وهذه واقعاً معجزة بيّنة حيث إنّ إنساناً يمتلك لساناً سليماً ، وقدرة على كل نحو من المناجاة مع الله ، ومع ذلك لا تكون له القدرة على التحدّث أمام الناس.

بعد هذه البشارة والآية الواضحة ، خرج زكريا من محراب عبادته إلى الناس ، فكلّمهم بالإشارة : (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ، لأنّ النعمة الكبيرة التي منّ الله بها على زكريا قد أخذت بأطراف القوم ، وكان لها تأثير على مصير ومستقبل كل هؤلاء.

١٧٤

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ بإمكان هذه الموهبة التي تعتبر إعجازاً أن تحكّم أسس الإيمان في قلوب الناس ، وكانت هذه أيضاً موهبة اخرى.

لقد ورد اسم «يحيى» في القرآن الكريم خمس مرات ـ في سور آل عمران ، والأنعام ، ومريم ، والأنبياء ـ فهو واحد من أنبياء الله الكبار ، ومن جملة امتيازاته ومختصاته أنّه وصل إلى مقام النبوة في مرحلة الطفولة.

(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً (١٢) وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً (١٣) وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً (١٤) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً) (١٥)

صفات يحيى عليه‌السلام البارزة : رأينا في الآيات السابقة كيف أنّ الله سبحانه منّ على زكريا عند كبره بيحيى ، وبعد ذلك فإنّ أوّل ما نلاحظه في هذه الآيات هو الأمر الإلهي المهم الذي يخاطب يحيى : (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتبَ بِقُوَّةٍ).

إنّ المراد من الكتاب هنا هو التوراة ، فإنّ المراد من أخذ الكتاب بقوة هو إجراء وتنفيذ ما جاء في كتاب التوراة السماوي وأن يعمل بكلّ ما فيه ، وأن يستعين بكل القوى المادية والمعنوية في سبيل نشره وتعميمه.

ثم أشار القرآن الكريم إلى المواهب العشرة التي منحها الله ليحيى والتي اكتسبها بتوفيق الله :

١ ـ (وَءَاتَيْنهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا). وهو أمر النبوة والعقل والذكاء والدراية.

٢ ـ (وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا). و «الحنان» في الأصل بمعنى الرحمة والشفقة والمحبة وإظهار العلاقة والمودة للآخرين.

٣ ـ (وَزَكَوةً). أي أعطيناه روحاً طاهرة وزكية.

٤ ـ (وَكَانَ تَقِيًّا). فكان يجتنب كل ما يخالف الأوامر الالهية.

٥ ـ (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ).

٦ ـ (وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا) فلم يكن رجلاً ظالماً ومتكبّراً وانانيّاً.

٧ ـ ولم يكن (عَصِيًّا) ولم يقترف ذنباً ومعصية.

١٧٥

٨ ، ٩ ، ١٠ ـ ولمّا كان جامعاً لكل هذه الصفات البارزة ، والأوسمة الكبيرة ، فإنّ الله سبحانه قد سلّم عليه في ثلاثة مواطن : (وَسَلمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا).

إنّ جملة (سَلمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ ...» يبيّن أنّ في تاريخ حياة الإنسان وانتقاله من عالم إلى عالم آخر ثلاثة أيام صعبة : يوم يضع قدمه في هذه الدنيا : (يَوْمَ وُلِدَ) ويوم موته وانتقاله إلى عالم البرزخ (وَيَوْمَ يَمُوتُ) ويوم بعثه في العالم الآخر (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا). ولمّا كان من الطبيعي أن تكون هذه الأيّام مرافقة للإضطرابات والقلق ، فإنّ الله سبحانه يكتنف خاصة عباده بلطفه وعافيته ، ويجعل هؤلاء في ظلّ حمايته ومنعته في هذه المراحل العسيرة الثلاثة.

شهادة يحيى عليه‌السلام : لقد أصبح يحيى ضحيّة للعلاقات غير الشرعية لأحد طواغيت زمانه مع أحد محارمه ، حيث تعلّق «هروديس» ملك فلسطين اللاهث وراء شهواته ببنت أخته «هروديا» ولذلك صمم على الزواج منها.

فبلغ هذا الخبر نبي الله العظيم يحيى عليه‌السلام ، فأعلن بصراحة أنّ هذا الزواج غير شرعي ومخالف لتعليمات التوراة ، وسأقف أمام مثل هذا العمل.

لقد انتشر صخب وضوضاء هذه المسألة في كل أرجاء المدينة ، وسمعت تلك الفتاة (هروديا) بذلك ، فكانت ترى يحيى أكبر عائق في طريقها ، ولذلك صممت على الإنتقام منه في فرصة مناسبة ، فعمّقت علاقتها بخالها ووطّدتها ، وجعلت من جمالها مصيدة له ، فقالت هروديا : لا أريد منك إلّارأس يحيى.

فسلّم هيروديس لما أرادت من دون أن يفكّر ويتنبه إلى عاقبة هذا العمل ، ولم يمض قليل من الزمن حتى احضر رأس يحيى عند تلك المرأة الفاجرة ، إلّاأنّ عواقب هذا العمل الشنيع قد أحاطت به ، وأخذت بأطرافه في النهاية.

في تفسير مجمع البيان عن علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : «خرجنا مع الحسين عليه‌السلام فما نزل منزلاً ولا ارتحل منه إلّاذكر يحيى بن زكريا وقتله ، وقال يوماً : ومن هوان الدنيا على الله عزوجل أنّ رأس يحيى بن زكريا اهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل». أي إنّ ظروفي تشابه من هذه الناحية ظروف وأحوال يحيى ، لأنّ أحد أهداف ثورتي محاربة الأعمال المخزية لطاغوت زماني يزيد.

١٧٦

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (١٧) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً (١٩) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً (٢٠) قَالَ كَذلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً) (٢١)

ولادة عيسى عليه‌السلام : بعد ذكر قصة يحيى عليه‌السلام ، حوّلت الآيات مجرى الحديث إلى قصة عيسى عليه‌السلام لوجود علاقة قوية وتقارب واضح جدّاً بين مجريات هاتين الحادثتين.

فإن كانت ولادة يحيى من أب كبير طاعن في السن وأم عقيم عجيبة ، فإنّ ولادة عيسى من امّ دون أب أعجب.

وإن كان الوصول إلى مقام النبوة وبلوغ العقل الكامل ـ في مرحلة الطفولة ـ باعثاً على الحيرة ومعجزاً ، فإنّ التحدّث في المهد عن الكتاب والنبوة أبعث على التعجب والحيرة ، وأكثر إعجازاً.

وعلى كل حال ، فإنّ كلا الأمرين آيتان على قدرة الله الكبير المتعال ، إحداهما أكبر من الاخرى ، وقد صادف أن تكون كلتا الآيتين مرتبطتان بشخصين تربطهما أواصر نسب قوية ، فكل منهما قريب للآخر من ناحية النسب ، حيث إنّ امّ يحيى كانت أخت امّ مريم ، وكانت كلتاهما عقيمتين وتعيشان أمل الولد الصالح.

تقول الآية الاولى : (وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا).

«انتبذت» : أخذت من مادة «نبذ» وهي تعني إلقاء وإبعاد الأشياء التي لا تسترعي الإنتباه ، وربّما كان هذا التعبير في الآية إشارة إلى أنّ مريم قد اعتزلت بصورة متواضعة ومجهولة وخالية من كل ما يجلب الإنتباه ، واختارت ذلك المكان من بيت الله للعبادة.

في هذه الأثناء ومن أجل أن تكمل مريم مكان خلوتها واعتكافها من كل جهة ، فإنّها (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا). (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا). والروح هنا جبرئيل ملك الله العظيم حيث تجسّد لمريم على شكل انسان جميل لا عيب فيه ولا نقص.

١٧٧

إنّ الحالة التي اعترت مريم في تلك اللحظة واضحة جدّاً ، كم داخلها من الرعب والإضطراب عند مشاهدة هذا المنظر ، وهو دخول رجل أجنبي جميل في محل خلوتها ، ولذلك فإنّها مباشرة : (قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا). وكانت هذه أوّل هزّة عمّت كل وجود مريم.

إنّ ذكر اسم الرحمان ، ووصفه برحمته العامة من جهة ، وترغيب الرجل في التقوى والإمتناع عن المعصية من جهة اخرى ، كان من أجل أن يرتدع هذا الشخص المجهول إن كانت له نيّة سيّئة في إرتكاب المعصية.

لقد كانت مريم تنتظر ردّ فعل ذلك الشخص المجهول بعد أن تفوّهت بهذه الكلمات إنتظاراً مشوباً بالإضطراب والقلق الشديد ، إلّاأنّ هذه الحالة لم تطل ، فقد كلّمها ذلك الشخص ، ووضّح مهمّته ورسالته العظيمة (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبّكِ).

لقد كانت هذه الجملة كالماء الذي يلقى على النار ، فقد طمأنت قلب مريم الطاهر ، إلّاأنّ هذا الإطمئنان لم يدم طويلاً ، لأنّه أضاف مباشرة : (لِأَهَبَ لَكِ غُلمًا زَكِيًّا).

لقد اهتز كيان ووجود مريم لدى سماع هذا الكلام ، وغاصت مرّة اخرى في قلق شديد : (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا).

لقد كانت تفكّر في تلك الحالة في الأسباب الطبيعية فقط. إلّاأنّ أمواج هذا القلق المتلاطمة هدأت بسرعة عند سماع كلام آخر من رسول الله إليها ، فقد خاطب مريم بصراحة : (قَالَ كَذلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ). فأنت الواقفة على قدرتي والعالمة بها جيّداً ... أنت التي رأيت ثمر الجنّة في فصل لا يوجد شبيه لتلك الفاكهة في الدنيا جنب محراب عبادتك ، أنت التي سمعت نداء الملائكة حين شهدت بعفّتك وطهارتك ... أنت التي تعلمين أنّ جدّك آدم قد خلق من التراب ، فلماذا هذا التعجب من سماعك هذا الخبر؟

ثم أضاف : (وَلِنَجْعَلَهُءَايَةً لّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا). فنحن نريد أن نبعثه للناس رحمة من عندنا ، ونجعله معجزة ، وعلى كل حال ، (وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا). فلا مجال بعد ذلك للمناقشة.

(فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (٢٣) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) (٢٦)

١٧٨

مريم في عاصفة : وأخيراً حملت مريم ، واستقرّ ذلك الولد الموعود في رحمها : (فَحَمَلَتْهُ).

إنّ هذا الأمر قد تسبب في أن تبتعد عن بيت المقدس (فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا).

لقد كانت تعيش في حالة بين الخوف والأمل ، حالة من القلق والإضطراب المشوب بالسرور ، فهي تفكّر أحياناً بأنّ هذا الحمل سيفتضح أمره في النهاية.

فمن الذي سيقتنع بأنّ إمرأة لا زوج لها تحمل دون أن تكون قد تلوّثت بالرذيلة؟ فماذا سأفعل تجاه هذا الإتهام؟

إلّا أنّها من جهة اخرى كانت تحسّ أنّ هذا المولود ، نبي الله الموعود ، تحفة سماوية نفيسة ، فإنّ الله الذي بشّرني بمثل هذا الغلام ، وخلقه بهذه الصورة الإعجازية كيف سيذرني وحيدة؟

ومهما كان فقد انتهت مدّة الحمل.

ومع أنّ النساء يلجأن عادة في مثل هذه الحالة إلى المعارف والأصدقاء ليساعدوهنّ على الولادة ، إلّاأنّ وضع مريم لمّا كان استثنائياً ، ولم تكن تريد أن يرى أحد وضع حملها مطلقاً ، فإنّها اتّخذت طريق الصحراء بمجرّد أن بدأ ألم الولادة ؛ ويقول القرآن في ذلك : (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ).

إنّ التعبير بجذع النخلة ، وبملاحظة أنّ الجذع يعني بدن الشجرة ، يوحي بأنّه لم يبق من تلك الشجرة إلّاجذعها وبدنها ، أي إنّ الشجرة كانت يابسة.

في هذا الحال غمر كل وجود مريم الطاهر سيل من الغم والحزن ، لقد كان هذا الإضطراب والصراع صعباً جدّاً ، وقد أثقل كاهلها إلى الحد الذي تكلّمت فيه بلا إرادة و (قَالَتْ يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا).

إنّ من البديهي أنّ الخوف من التهم في المستقبل لم يكن الشيء الوحيد ، وإن كان هذا الموضوع يشغل فكر مريم أكثر من أيّة مسألة اخرى ، إلّاأنّ مشاكل ومصائب اخرى كوضع الحمل لوحدها بدون قابلة وصديق ومعين في الصحاري الخالية ، وعدم وجود مكان للإستراحة ، وعدم وجود الماء للشرب ، والطعام للأكل ، وعدم وجود وسيلة لحفظ المولود الجديد ، وغير هذه الامور كانت تهزّها من الأعماق بشدة.

إلّا أنّ هذه الحالة لم تدم طويلاً ، فقد سطعت ومضة الأمل التي كانت موجودة دائماً في

١٧٩

أعماق قلبها ، وطرق سمعها صوت ، (فَنَادَيهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا). وانظري إلى الأعلى كيف أنّ هذا الجذع اليابس قد تحوّل إلى نخلة مثمرة ، (وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرّى عَيْنًا) بالمولود الجديد ، (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِى إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا). وهذا الصوم هو المعروف بصوم السكوت.

وعلى هذا فليهدأ روعك من كل الجهات ، ولا تدعي للهم طريقاً إلى نفسك.

ويظهر من تعبير الآية أنّ نذر صوم السكوت كان أمراً معروفاً في ذلك المجتمع ، ولهذا لم يعترضوا على هذا العمل ؛ غير أنّ هذا النوع من الصوم غير جائز في شريعتنا.

عن علي بن الحسين عليه‌السلام (في حديث) قال : «وصوم الصمت حرام» (١).

استفاد المفسرون مما جاء صريحاً في هذه الآيات ، أنّ الله سبحانه قد جعل غذاء مريم حين ولادة مولودها الرطب.

في الكافي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكن أوّل ما تأكل النفساء الرطب ، فإنّ الله عزوجل قال لمريم : (وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا).

ويستفاد من الروايات أنّ أفضل غذاء ودواء للحامل هو الرطب.

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً (٢٧) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (٢٨) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً (٢٩) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (٣١) وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً (٣٢) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً) (٣٣)

المسيح يتكلّم في المهد : وأخيراً رجعت مريم عليها‌السلام من الصحراء إلى المدينة وقد احتضنت طفلها (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ). فلمّا رأوا طفلاً حديث الولادة بين يديها فغرّوا أفواههم تعجّباً ، وتعجّل آخرون في القضاء والحكم ، وقالوا : إنّ من المؤسف هذا الإنحدار مع ذلك الماضي المضيء ، ومع الأسف على تلوّث سمعة تلك الأسرة الطاهرة ، (قَالُوا يَا مَرْيَمُ

__________________

(١) وسائل الشيعة ٧ / ٣٩٠.

١٨٠