مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

سبب النّزول

في الدرّ المنثور عن ابن عباس أنّ جماعة من المشركين قالوا : يا محمّد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلّامخافة أن يتخطفنا الناس لقلّتنا والعرب أكثر منّا فمتى بلغهم أنّا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنّا أكلة رأس ، فأنزل الله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًاءَامِنًا) الآية.

التّفسير

أشارت الآيات ـ التي سبق ذكرها ـ إلى بعض الحجج الواهية للمشركين ، وهي أنّنا نخاف على حياتنا إذا أظهرنا الإيمان ثم هاجرنا معك يا رسول الله ، وقد ردّ عليها القرآن بطرق مختلفة ، وفي الآيات ـ محل البحث ـ يردّ القرآن عليهم بطريق آخر فيقول : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًاءَامِنًا). أي أرض مكة المكرمة.

في حين أنّ العرب كانوا يعيشون في حالة غير آمنة خارج مكة ، وكانت قبائلهم مشغولة بالنهب والسلب والغارات ، إلّاأنّ هذه الأرض باقية على أمنها (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ).

فالله المقتدر على أن يجعل في هذا البحر المتلاطم والطوفان المحدق بأرض الحجاز «من الفتن» حرم مكة كالجزيرة الهادئة الآمنة وسط البحر ، كيف لا يمكنه أن يحفظهم من أعدائهم؟! وكيف يخافون الناس الضعاف قبال قدرة الله العظيمة جلّ وعلا؟ (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ).

وبعد ذكر هذا الدليل الواضح ينتهي القرآن إلى هذه النتيجة في الآية التالية : (وَمَن أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءَهُ). لقد قدمنا دلائل واضحة لكم على أنّه لا شيء أحق بالعبادة وأحرى بها من الله ، لكنّكم كذبتم على الله ، وصنعتم له شركاء بأيديكم.

إنّ الشرك مصدر جميع المفاسد الإجتماعية ، وفي الواقع إنّ المظالم الاخرى تسترفد منه ، عبادة الهوى ، عبادة المقام ، عبادة الدنيا ، كل منها نوع من الشرك.

ولكن اعلموا أنّ عاقبة الشؤم والخزي للمشركين (أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكفِرِينَ).

وآخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ وهي في الوقت ذاته آخر آية سورة العنكبوت ، تبيّن واقعاً مهماً ، وهي عصارة جميع هذه السورة ، وتنسجم مع بدايتها. تقول الآية ... بالرغم من أنّ المشاكل المتعددة تحيط بطريق المسير إلى الله ، من قبيل مشكلة معرفة الحق ، ومشكلة وساوس الشياطين من الإنس والجن ، ومشكلة عناد الأعداء الألداء الظالمين الذين لا

٥٦١

يرحمون ، ومشكلة الانحرافات الاحتمالية ، لكن هنا حقيقة ثابتة ، وهي أنّ الله يمنحكم القوة والاطمئنان قبال المشاكل ويدافع عنكم ، تقول الآية : (وَالَّذِينَ جهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

إنّ التعبير بالجهاد له معنى واسع مطلق ، ومثله التعبير بكلمة «فينا» فالتعبير يشمل كل سعي وجهاد في سبيل الله ومن أجله ، وللوصول إلى الأهداف الإلهية ، كل ذلك يصدق عليه (جهَدُوا فِينَا) سواءٌ كان في سبيل كسب المعرفة ، أو جهاد النفس ، أو مواجهة الأعداء ، أو الصبر على الطاعة ، أو الصبر على المعصية ، أو في إعانة الضعفاء ، أو في الإقدام على أي عمل حسن وصالح.

وعلى هذا أنّنا إذا أصبنا بأي نوع من الهزيمة عدم الموفقية ، فسبب ذلك وعلته أحد أمرين : إمّا أنا قصّرنا في جهادنا ، أو لم يكن لدينا إخلاص في العمل.

«نهاية تفسير سورة العنكبوت»

* * *

٥٦٢

٣٠

سورة الرّوم

محتوى السورة : يمكن تلخيص مضامين هذه السورة في سبعة أقسام :

١ ـ التنبؤ بانتصار الروم على الفُرس في معركة تحدث في المستقبل.

٢ ـ جانب من طريقة التفكير عند غير المؤمنين وكيفية أحوالهم.

٣ ـ قسم مهم من آيات «عظمة الله» في الأرض والسماء ، وفي وجود الإنسان.

٤ ـ الكلام عن التوحيد «الفطري» بعد بيان دلائله في الآفاق وفي الأنفس لمعرفة الله سبحانه.

٥ ـ العودة إلى شرح أحوال غير المؤمنين والمذنبين وتفصيل حالاتهم ، وظهور الفساد في الأرض نتيجة لآثامهم وذنوبهم.

٦ ـ إشارة إلى مسألة التملك ، وحق ذوي القربى ، وذم الربا.

٧ ـ العودة ـ مرّة اخرى ـ إلى دلائل التوحيد ، وآيات الله وآثاره ، والمسائل المتعلقة بالمعاد.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ومن قرأها كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك سبّح لله ما بين السماء والأرض ، وأدرك ما ضيع في يومه وليلته».

ومن البديهي أنّ من جعل محتوى هذه السورة في روحه وقلبه ، وراقب الله في كل لحظة ،

٥٦٣

فإنّ تقوى الله تملأ قلبه حتى يكون حقيقاً بهذا الأجر والثواب.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (٧)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قال المفسرون : غلبت فارس الروم وظهروا عليهم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفرح بذلك كفار قريش من حيث إنّ أهل فارس لم يكونوا أهل كتاب وساء ذلك المسلمين. وكان بيت المقدس لأهل الروم ، كالكعبة للمسلمين. فدفعتهم فارس عنه. فنزلت الآيات الآنفة وقالت : لئن غلب الفرس الروم ليأتينّ النصر والغلبة للروم خلال فترة قصيرة ، وقد حدّدت الفترة لانتصار الروم على الفرس (فِى بِضْعِ سِنِينَ).

وهذا الكلام السابق لأوانه ، هو من جهة دليل على إعجاز القرآن ، هذا الكتاب السماوي الذي يستند علمه إلى الخالق غير المحدود ، ومن جهة اخرى كان فألاً حسناً للمسلمين في مقابل فأل المشركين ، حتى أنّ أبابكر ناحب بعض المشركين قبل أن يحرم القمار على شيء ، إن لم تغلب فارس في سبع سنين. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لم فعلت فكل ما دون العشرة بضع). فكان ظهور فارس على الروم في تسع سنين ثم أظهر الله الروم على فارس زمن الحديبية ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب.

التّفسير

تنبؤ عجيب : هذه السورة ضمن مجموع تسع وعشرين سورة تبدأ بالحروف المقطعة (الم). وقد بحثنا مراراً في تفسير هذه الحروف المقطعة وخاصة في بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف. والفارق الوحيد الذي نلاحظه هنا عن بقية السور ، ويلفت النظر ، هو أنّه خلافاً لكثير من السور التي تبدأ بالحروف المقطعة ، التي يأتي الحديث بعدها على عظمة

٥٦٤

القرآن الكريم ، بل بحثاً عن اندحار الروم وانتصارهم في المستقبل ، ولكن مع التدقيق يتّضح أنّ هذا البحث يتحدث عن عظمة القرآن الكريم أيضاً ... لأنّ هذا الخبر الغيبي المرتبط بالمستقبل هو من دلائل إعجاز القرآن ، وعظمة هذا الكتاب السماوي.

يقول القرآن بعد الحروف المقطعة : (غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الْأَرْضِ).

والمراد ب «أدنى الأرض» المكان القريب من بلاد فارس ، أي إنّ المعركة وقعت في أقرب نقطة بين الفرس والروم.

ثم يضيف القرآن : (وَهُمْ مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ). وهم أي الروم.

ثم يبيّن الفترة القصيرة من هذه السنين بهذا التعبير : (فِى بِضْعِ سِنِينَ). والمعلوم أنّ «بضع» ما يكون أقله الثلاث وأكثره التسع.

وإذا أخبر الله عن المستقبل ، فلأنّه (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ).

إنّ هذه العبارة تريد أن توضح هذه اللطيفة ، وهي أنّ القادر بالذات والمالك على الإطلاق هو الله ، وكل من لديه شيء فهو منه.

ثم يضيف القرآن : أنّه إذا فرح المشركون اليوم بانتصار الفرس على الروم فإنّه ستغلب الروم (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ).

أجل ، يفرحون (بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

إنّ المسلمين «المؤمنين» فرحوا في ذلك اليوم لجهات متعددة :

١ ـ من إنتصار أهل الكتاب على المجوس ، لأنّه ساحة لإنتصار الموحدين على المشركين.

٢ ـ من الإنتصار المعنوي لظهور إعجاز القرآن.

٣ ـ ومن الإنتصار المقارن لذلك الإنتصار ، ويحتمل أن يكون صلح الحديبية ، أو بعض فتوحات المسلمين الاخر.

ولزيادة التأكيد يضيف أيضاً : (وَعَدَ اللهِ لَايُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ). والسبب في عدم علم الناس ، هو عدم معرفتهم بالله وقدرته ، فهم لم يعرفوا الله حق معرفته ، فهم لا يعلمون هذه الحقيقة ، وهي أنّ الله محال عليه أن يتخلف عن وعده ، لأنّ التخلف عن الوعد إمّا للجهل ، أو للضعف وعدم القدرة ، لكن الله لا يتخلف عن الوعد ، لأنّه يعرف عواقب الامور ، وقدرته فوق كل شيء.

ثم يضيف القرآن معقباً : (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْأَخِرَةِ هُمْ غفِلُونَ).

٥٦٥

ولو كانوا يعلمون باطن الحياة وواقعها في هذه الدنيا ، لكان ذلك كافياً لمعرفة الآخرة ، لأنّ التدقيق في هذه الحياة العابرة ، يكشف أنّها حلقة من سلسلة طويلة ومرحلة من مسير مديد كبير ، كما أنّ التدقيق في مرحلة تكوين الجنين يكشف عن أنّ الهدف النهائي ليس هو هذه المرحلة من حياة الجنين فحسب ، بل هي مقدمة لحياة أوسع.

إعجاز القرآن من جهة علم الغيب : إنّ واحداً من طرق إثبات إعجاز القرآن ، هو الإخبار بالمغيبات ، ومثله الواضح في هذه الآيات ـ محل البحث ـ ففي عدّة آيات يخبر بأنواع التأكيدات عن إنتصار كبير لجيش منهزم بعد بضع سنين .. ويعدّ ذلك وعداً إلهياً غير مكذوب ولا يتخلف أبداً.

ويحدثنا التاريخ أنّه لم تمض تسع سنوات حتى تحققت هاتان الحادثتان ... فقد انتصر الروم في حربهم الجديدة على الفرس ، واقترن زمان هذا الإنتصار ب «صلح الحديبية» وطبقاً لرواية اخرى أنّه كان مقارناً لمعركة بدر ، إذ حقق المسلمون إنتصاراً ملحوظاً على الكفار.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ) (١٠)

كان الكلام في آخر آية من البحث السابق عن السطحيين وأصحاب الظاهر ، حيث كان أفق فكرهم لا يتجاوز حدود الدنيا والعالم المادي .. وكانوا جاهلين بماوراء الطبيعة ويوم القيامة ، أمّا في هذه الآيات ـ محل البحث ـ والآيات المقبلة ، فيقع الكلام على مطالب متنوعة حول المبدأ والمعاد ، فتبدأ هذه الآيات أوّلاً على صورة استفهام فتقول : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِى

٥٦٦

أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللهُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى). أي : لو أنّهم فكروا جيداً ورجعواإلى عقلهم في الحكم ووجدانهم ، لكانوا يطلعون جيداً على هذين الأمرين :

أوّلاً : إنّ العالم خلق على أساس الحق ، وتحكمه أنظمة هي دليل على أنّ الخالق لهذا العالم ذو علم مطلق وقدرة كاملة.

وثانياً : هذا العالم يمضي إلى الزوال ، وحيث إنّ الخالق الحكيم لا يمكن أن يخلقه عبثاً ، فيدل ذلك على وجود عالم آخر هو الدار الباقية بعد هذه الدنيا.

لذلك يضيف القرآن في نهاية الآية قائلاً : (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاىِ رَبّهِمْ لَكفِرُونَ) فينكرون لقاء الله ؛ أو إنّهم ينكرون المعاد أصلاً ؛ أو إنّهم لا ينكرون بلسانهم ، لكن أعمالهم «ملوثة» ومخزية تدل على أنّهم غير معتقدين بالمعاد ، إذ لو كانوا يعتقدون بالمعاد لم يكونوا فاسدين أو مفسدين.

وحيث إنّ التعبير ب (أَجَلٍ مُّسَمًّى) كاشف عن أنّ هذه الحياة على كل حال لا تدوم ، وهذا إنذار لجميع عبدة الدنيا ، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلاً : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ). أي بالدلائل الواضحات ... إلّاأنّهم أهملوا ذلك ، ولووا رؤوسهم ، ولم يستسلموا للحق ، فابتلوا بعقاب الله الأليم ، (فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

أمّا آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ فتبيّن آخر مرحلة من كفرهم فتقول : (ثُمَّ كَانَ عقِبَةَ الَّذِينَ أَسؤُا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بَايتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ).

أجل ، إنّ الذنب أو الإثم يقع على روح الإنسان كالمرض الخبيث ، فيأكل إيمانه ويعدمه ، ويبلغ الأمر حدّاً يكذب الإنسان فيه آيات الله ، وأبعد من ذلك أيضاً إذ يحمل الذنب صاحبه على الإستهزاء بالأنبياء ، والسخرية بآيات الله ، ويبلغ مرحلة لا ينفع معها وعظ ونصيحة أبداً ، ولا تؤثر فيه أيّة حكمة وأيّة آية ، ولا يبقى طريق سوى أسواط عذاب الله المؤلمة له.

٥٦٧

(اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) (١٦)

مصير المجرمين ومآلهم يوم القيامة : كان الكلام في الآيات المتقدمة عن الذين يكذّبون ويستهزؤون بآيات الله ، وفي الآيات ـ محل البحث ـ تستكمل البحوث السابقة عن المعاد ، مع بيان جوانب منه ، ومآل المجرمين في القيامة. فتبدأ الآيات بالقول : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). ويبيّن في هذه الآية استدلال قصير موجز ، وذو معنى كبير ، على مسألة المعاد ، وقد ورد هذا المعنى بعبارة اخرى في بعض آيات القرآن الاخرى ومنها : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلقُ الْعَلِيمُ) (١). والآية الاخرى تجسد حالة المجرمين يوم القيامة : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ).

«يبلس» : مأخوذ من مادة «إبلاس» وتعني في الأصل الغم والحزن المترتبان على أثر شدة اليأس والقنوط.

فيحق للمجرمين أى ييأسوا ويبلسوا في ذلك اليوم ، إذ ليس لديهم إيمان وعمل صالح فيشفع لهم في عرصات المحشر ، ولا صديق حميم ، ولا مجال للرجوع إلى الدنيا وتدارك ما مضى. لذلك يضيف القرآن في الآية التالية قائلاً : (وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعؤُا). فلذلك يكفرون بهذا المعبودات من دون الله ويبرأون منها (وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كفِرِينَ).

ثم يشير القرآن إلى الجماعات المختلفة من الناس في يوم القيامة ، فيقول : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ).

__________________

(١) سورة يس / ٧٩ ـ ٨١.

٥٦٨

«يحبرون» : مأخوذة من مادة «حبر» على زنة «قشر» ومعناها الأثر الرائق الرائع ، كما يطلق هذا التعبير على حالة السرور والفرح التي يظهر أثرها على الوجه أيضاً.

و «الروضة» : معناها المكان الذي تكثر فيه الأشجار والماء ، ولذلك تطلق هذه الكلمة على البساتين النضرة بأشجارها واخضرارها.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِنَا وَلِقَاىِ الْأَخِرَةِ فَأُولئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ).

(فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (١٩)

التسبيح والحمد في جميع الأحوال لله : بعد الأبحاث الكثيرة التي وردت في الآيات السابقة في شأن المبدأ والمعاد ، وقسم من ثواب المؤمنين ، وجزاء المشركين وعقابهم ، ففي الآيات محل البحث يذكر التسبيح والحمد والتقديس والتنزيه لله من جميع أنواع الشرك والنقص والعيب ، إذ تقول الآية : (فَسُبْحنَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ).

وعلى هذا فقد ورد في هاتين الآيتين ذكر لأربع أوقات لتسبيح الله :

١ ـ بداية الليل (حِينَ تُمْسُونَ).

٢ ـ وطلوع الفجر (حِينَ تُصْبِحُونَ).

٣ ـ وعصراً (عَشِيًّا).

٤ ـ وعند الزوال ـ في الظهر ـ (حِينَ تُظْهِرُونَ).

وفي الآية التالية عودة إلى المعاد ، ويرد القرآن المنكرين له عن طريق آخر ، فيقول : (يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَىّ وَيُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ). أي : إنّ ميدان «المعاد» وميدان «نهاية الدنيا» المتمثّل أحدهما بخروج «الحي من الميت» والآخر «خروج الميت من الحي» يتكرران أمام أعينكم ، فلا مجال للتعجب من أن تحيا الكائنات جميعاً ، ويعودالناس في يوم القيامة إلى الحياة مرّة اخرى.

أمّا التعبير ب يخرج الحي من الميت المستعمل للأراضي الموات ، واضح أنّ الأرض تبدوا ميتة في فصل الشتاء ، ولكن في فصل الربيع مع سقوط الغيث واعتدال الهواء ، تدبّ

٥٦٩

الحركة في الأرض ، وهذا ميدان المعاد الذي نراه في هذه الدنيا.

وأمّا مسألة إخراج الميت من الحي فهي ليست شيئاً خافياً ولا مستتراً.

وأمّا ما يتعلق بـ «إخراج الحي من الميت» فبالرغم من أنّه من المسلّم به ـ في العصر الحاضر على الأقل ـ أنّه لم يُر في المختبرات والمشاهدات اليومية أنّ موجوداً حيّاً يتولد من موجود ميّت ، غير أنّ الثابت علمياً والمسلّم به أنّه كانت الأرض في البداية قطعة ملتهبة من النّار ، ولم يوجد عليها أي موجود حي ، ثم وفقاً لظروف خاصة لم يكتشفها العلم ـ حتى الآن ـ بصورة دقيقة ، تولدت الموجودات الحيّة من مواد لا روح فيها بقفزة كبيرة.

لكن الذي نلمسه وندركه ، هو أنّ الموجودات الميتة دائماً تكون جزءاً من الموجودات الحيّة وتكسى ثوب الحياة ، فالماء والطعام اللذان نتناولهما ليسا من الموجودات الحية ، لكنّهما حين يكونان في البدن ويصيران جزءاً منه يتحولان إلى موجود حي وتضاف كريات جديدة وخلايا جديدة إلى كريات البدن وخلاياه.

فعلى هذا يمكن القول بأنّ في نظام الطبيعة دائماً يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، وبهذا الدليل فإنّ الله الذي خلق الطبيعة قادر على إحياء الموتى في العالم الآخر.

(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (٢٢)

آيات الله في الآفاق وفي الأنفس : تحدثت هذه الآيات ـ وبعض الآيات الأخر التي تليها ـ عن طرائف ولطائف من دلائل التوحيد ، وآيات الله وآثاره في نظام عالم الوجود ، وهي تكمل البحوث السابقة.

ويتحدث القرآن هنا أوّلاً عن خلقة الإنسان التي تعد أوّل موهبة إلهيّة له ، وأهمهما أيضاً ، فيقول : (وَمِنءَايتِهِ أَن خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ).

في هذه الآية إشارة دليلين من أدلة عظمة الله.

الأوّل : خلق الإنسان من التراب ، وربّما كان إشارة إلى الخلق الأوّل للإنسان ، أي آدم عليه‌السلام ، أو خلق جميع الناس من التراب ، لأنّ المواد الغذائية التي تشكل وجود الإنسان ، جميعها من التراب بشكل مباشرة أو غير مباشر.

٥٧٠

الثاني : كثرة النسل «الآدمي» وانتشار أبناء «آدم» على سطح المعمورة.

والآية الثانية من الآيات محل البحث تتحدث أيضاً عن قسم آخر من الآيات في الأنفس ، التي تمثل مرحلة ما بعد خلق الإنسان ، فتقول : (وَمِنءَايتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا). أي من جنسكم والغاية هي السكينة الروحية والهدوء النفسي.

وحيث إنّ استمرار العلاقة بين الزوجين خاصة ، وبين جميع الناس عامة ، يحتاج إلى جذب قلبي وروحاني ، فإنّ الآية تعقب على ذلك مضيفة : (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً).

ولمزيد التأكيد تختتم الآية بالقول : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

ومن هنا يمكن الإستنتاج بأنّ الذين يهملون هذه السنّة الإلهية وجودهم ناقص ، لأنّ مرحلة تكاملية منهم متوقفة ، (إلّا أن توجب الظروف الخاصة والضرورة في بقائهم عزّاباً).

أمّا آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ فهي مزيج من آيات الآفاق وآيات الأنفس ، فتبدأ بالإشارة إلى خلق السماء والأرض ، فتقول : (وَمِنءَايتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ).

السماوات بجميع ما فيها من كرات ، وبجميع ما فيها من منظومات ومجرّات ، السماوات التي مهما حلّق فيها الفكر عجز عن إدراك عظمتها ومطالعتها ... وكلّما تقدم علم الإنسان تتجلى له نقاط جديدة من عظمتها.

ثم ينتقل القرآن إلى آية من آيات الأنفس الكبيرة فيقول : (وَاخْتِلفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ). لذلك خلق الله الأصوات والألوان واختلاف الألسنة لتنظيم المجتمع البشري.

ويقول القرآن في نهاية الآية الآنفة الذكر : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّلْعَالِمِينَ).

فالعلماء يعرفون هذه الأسرار قبل كل أحد.

(وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ) (٢٥)

٥٧١

آيات عظمته ـ مرّةً اخرى : تعقيباً على الأبحاث السابقة حول آيات الله في الآفاق وفي الأنفس ، تتحدث هذه الآيات ـ محل البحث ـ حول قسم آخر من هذه الآيات العظيمة. فتتحدث في البداية عن ظاهرة «النوم» على أنّها ظاهرة مهمة من ظواهر الخلق ومثل بارز من نظام الحكيم الخالق ، فتقول : (وَمِنءَايتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ).

وتختتم الآية بإثارة العبرة بالقول : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ).

هذه الموهبة العظيمة تؤدّي إلى أن يحصل جسم الإنسان وروحه على الراحة اللازمة ، فيرتفع التعب بطرو النوم الذي بمثابة وقفة لعمل البدن ، ونوع من التعطيل له.

ومن المسلّم به أنّه لولا النوم لتصدّعت روح الإنسان وذبل جسمه وانهار بسرعة ، ولعجل عليه العجز والشيخوخة.

والآية التي تلتها ، والتي تبيّن خامس آية من آيات عظمة الله ، تتجه أيضاً إلى «الآيات في الآفاق» وتتحدث عن البرق والرعد والغيث وحياة الأرض بعد موتها ، فتقول : (وَمِنءَايتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا).

«الخوف» : مما يخطر على البال من احتمال نزول الصاعقة مع البرق ؛ و «الطمع» : من جهة نزول الغيث الذي ينزل بعد البرق والرعد على هيئة قطر أو مزنة.

وعلى هذا فإنّ البرق السماوي مقدمة لنزول الغيث.

ثم يضيف القرآن معقباً : (وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْىِ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا).

ويؤكّد القرآن في نهاية هذه الآية مضيفاً : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ويفهمون أنّ وراء هذه الخطة المدروسة يداً قادرة تقودها وتهديها ، ولا يمكن أن تكون المسألة وليدة الصدفة والضرورة العمياء الصّماء أبداً.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث ، يقع الكلام عن آية اخرى من الآيات الآفاقية ، وذلك عن تدبير نظام السماء والأرض وبقائهما ودوامهما ، إذ تقول : (وَمِنءَايتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ). أي إنّ خلق السماوات ـ المشار إليه في الآيات السابقة ـ ليس آية وحدة فحسب ، بل بقاؤها ودوام نظامها أيضاً آية اخرى ، فهذه الأجرام العظيمة في دورانها المنظّم حول نفسها تحتاج إلى امور كثيرة ، وأهمّها المحاسبة المعقدة للقوة الجاذبة والدافعة.

وفي نهاية الآية وبالاستفادة من عامل التوحيد لإثبات المعاد ، ينقل القرآن البحث إلى هذه المسألة فيقول : (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ).

٥٧٢

والتعبير ب «دعاكم» إشارة إلى أنّه كما أنّ أمراً واحداً منه كاف للتدبير ولنظم العالم ، فإنّ دعوة واحدة منه كافية لأن تبعثكم من رقدتكم وتنشركم من قبوركم ليوم القيامة.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (٢٩)

المالكية لله وحده : كانت الآيات المتقدمة تتحدث حول توحيد الخالق ، وتوحيد الرّب ، أمّا الآية الاولى من هذه الآيات محل البحث فتتحدث عن فرع آخر من فروع التوحيد ، وهو توحيد الملك فتقول : (وَلَهُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ).

ولأنّهم ملك يده ف (كُلٌّ لَهُ قنِتُونَ) وخاضعون.

أي إنّ زمام أمر الجميع من جهة القوانين التكوينية كله في يده ، وهم مستسلمون لقانون عالم التكوين وفق مشيئة الله ، شاؤوا أم أبوا.

والدليل على هذه «المالكية» هو الخالقية والربوبية ، فإنّ من خلق الموجودات في البداية وتكفلها بالتدبير ، فمن المسلم أنّه هو المالك الأصلي لها لا سواه.

وحيث إنّ المسائل المرتبطة بالمبدأ والمعاد هي كالنسيج الواحد في انسجامها في سلسلة الآيات الآنفة ، والتي ستأتي في ما بعد ، ففي الآية التالية يعود القرآن إلى موضوع المعاد ، فيقول : (وَهُوَ الَّذِى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).

إنّ القرآن يثبت في هذه الآية ـ بأوجز الإستدلال ـ مسألة إمكان المعاد ، إذ يقول لهم : إنّكم تعتقدون أنّ بداية الخلق من قبل الله ، فعودة الخلق مرّة اخرى أيسر وأهون من بداية الخلق.

ولكن من الضروري أن نلتفت إلى هذه «اللطيفة» ، وهي أنّ التعبير بالهيّن والصعب ، هو

٥٧٣

من خلال نافذتنا الفكرية ، وأمّا بالنسبة للقادر المطلق فلا فرق عنده بين «الصعب والسهل».

وربّما كان لهذا السبب أن عقّب القرآن في ذيل الآية مباشرة بالقول : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ).

لأنّنا لو تصورنا أي وصف كمالي لأي موجود في السماء والأرض ، من علمٍ وقدرة وملك وعظمة وجود وكرم ، فمصداقه الأتم والأكمل هو عند الله ، لأنّ الجميع لديهم المحدود من الصفات ، إلّاهو وحده فإنّ لديه الأوصاف غير المحدودة ، والجميع لديهم أوصاف عارضة ، أمّا أوصاف الله فذاتية ، وهو مصدر الكمالات وأساسها.

وتنتهي الآية بما هو ضرب من التأكيد أو الدليل ، إذ يقول سبحانه : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). هو عزيز لا يقهر ، إلّاأنّه وفي منتهى قدرته غير المحدودة لا يصدر منه فعل غير دقيق ، فكلّ أفعاله وفق حكمته.

وبعد بيان قسم آخر من دلائل التوحيد والمعاد في الآيات المتقدمة ، يتناول القرآن موضوع «نفي الشرك» في مثال بيّن فيقول : (ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ).

هذا المثال هو لو كان لديكم ـ أيّها المشركون ـ عبيد ومماليك ف (هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمنُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِى مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ). أي إنّ عبيدكم هؤلاء يشاركونكم في أموالكم وفي ما رزقناكم ، بحيث تكونون أنتم وعبيدكم سواء في مالكية هذه الأموال والنعم وتخافون أن يتصرفوا في هذه الأموال بشكل مستقل كما هو الحالة في تصرف شركاءكم الأحرار فيها أو في الميراث مثلاً ... فأنتم غير مستعدين لأن يتصرفوا في أموالكم.

فلو كان لكم عبيد وملك يمين «وهو ملك مجازي» لما رضيتم بمثل هذا الفعل منهم ، فكيف تتصورون المخلوقات التي هي ملك حقيقي لله شركاءه ، أو تزعمون أنّ بعض الأنبياء كالمسيح أو ملائكة الله أو بعض المخلوقات الاخرى كالجن أو الأصنام الحجرية والخشبية شركاءه ، ألا ساء ما تحكمون.

والتعبير ب (مَا رَزَقْنَاكُمْ) يشير إلى هذه اللطيفة ، وهي أنّكم لستم المالكين الحقيقيين لهؤلاء العبيد والمماليك ، ولا المالكين الواقعيين للمال ، لأنّ كل ذلك لله وحده.

ويعقب القرآن في ختام الآية للتأكيد والدقة على مضمون السؤال ، فيقول : (كَذلِكَ

٥٧٤

نُفَصّلُ الْأَيتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). أجل ، نذكر لكم الحقائق من الأمثلة الواضحة في حياتكم لتفكروا فيها ، ولكيلا تنسبوا لله ـ على الأقل ـ ما لا ترضون أن تنسبوه لأنفسكم.

غير أنّ هذه الآيات البينات وهذه الأمثلة الواضحة هي لأولي الألباب ، لا للظالمين عبدة الهوى الجهلة الذين قلوبهم أسدال الجهل ، واستوعبت آفاقهم الخرافات والعصبيات ، لذلك يضيف القرآن في الآية التالية قائلاً : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ). ولذلك فإنّ الله خلّى بينهم وبين أنفسهم بسبب أعمالهم السيئة ، فتاهوا في وادي الضلالة (فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللهُ).

ولا شك أنّ من يتركهم الله ويخلّي بينهم وبين أنفسهم (وَمَا لَهُم مِّن نصِرِينَ)

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٢)

كان لدينا حتى الآن أبحاث كثيرة حول التوحيد ومعرفة الله ، عن طريق مشاهدة نظام الخلق ، وتعقيباً على الآيات الآنفة الذكر ، فإنّ الآية الاولى ـ من هذه الآيات محل البحث ـ تتحدث عن التوحيد الفطري ، أي الإستدلال على التوحيد عن طريق المشاهدة الباطنية والدرك الضروري والوجداني ، إذ يقول القرآن في هذا الصدد : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا) ، لأنّها (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ). «الوجه» : معناه معروف ، وهو مقدم الرأس. والمراد به هنا الوجه الباطني ، ووجه القلب والروح ؛ وكلمة «أقم» : مشتقة من الإقامة ، ومعناه الاستقامة والوقوف بثبات (على قدم راسخة) ... وكلمة «حنيف» : مشتقة من «حَنَف» ، ومعناها الميل من الباطل نحو الحق ، ومن الاعوجاج نحو الاستواء والاستقامة. فمعنى الدين الحنيف هو الدين المائل نحو العدل والاستواء عن كل انحراف وباطل وخرافة وضلال.

إنّ جملة (لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) وبعدها جملة (ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ) تأكيدان آخران على مسألة كون الدين فطرياً ، وعدم إمكان تغيير هذه الفطرة ...

٥٧٥

ويضيف القرآن في الآية التالية : ينبغي أن يكون التفاتكم للدين الحنيف والفطري حالة كونكم (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) فأصلكم وأساسكم على التوحيد ، وينبغي أن تعودوا إليه أيضاً.

«منيبين» : من مادة «إنابة» وهي في الأصل تعني الرجوع المكرر ، وتعني هنا الرجوع نحو الله والعودة نحو الفطرة (التوحيدية).

ويعقب على الأمر بالإنابة والعودة إليه ، بالأمر بالتقوى ، وهي كلمة تجمع معاني أوامر الله ونواهيه ، إذ يقول : (وَاتَّقُوهُ) أي اتقوا مخالفة أوامره.

ثم يؤكّد القرآن على موضوع الصلاة من بين جميع الأوامر فيقول : (وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ). لأنّ الصلاة في جميع أبعادها ، هي أهم منهج لمواجهة الشرك ، وأشدّ الوسائل تأثيراً في تقوية أسس التوحيد والإيمان بالله سبحانه.

كما أنّه يؤكّد في نهيه عن «الشرك» من بين جميع النواهي فيقول : (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). لأنّ الشرك أعظم الذنوب وأكبر الكبائر ، فإنّ الله لا يغفره.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يبيّن القرآن واحداً من آثار الشرك وعلائمه في عبارة موجزة ذات معنى كبير ، فيقول : لا تكونوا من المشركين الذين انقسموا في دينهم على فرق واحزاب كثيرة : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا).

والعجيب في الأمر أنّهم على تضادّهم واختلافهم فإنّ (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).

أجل ، إنّ واحدة من علائم الشرك هي التفرقة ، لأنّ المعبودات المختلفة هي منشأ الأساليب المتفاوتة وهي أساس الانفصال والتفرق.

بحث

التوحيد باعث داخلي قوي : كما أنّ الدلائل العقلية والمنطقية توجّه الإنسان ، فإنّ في داخله دوافع وموانع أيضاً .. بحيث تعين له الجهة «أحياناً» من حيث يدري أو لا يدري.

وفلسفة وجودها في داخل الإنسان ، هي أنّ الإنسان لا يستطيع ـ دائماً ـ أن ينتظر إيعاز العقل والمنطق ، لأنّ هذا العمل قد يعطل الأهداف «الحياتية» بعض الأحيان.

فمثلاً لو أراد الإنسان أن يستلهم من منطق «لزوم بدل ما يتحلل» ضرورة تناول الطعام .. أو «لزوم استمرار النسل عن طريق التوالد والتناسل» ضرورة الممارسة الجنسية ، وأن يعمل ويتحرك وفق المنطق في كل ذلك ، لكان ينبغي أن ينقرض الإنسان ـ قبل هذا الزمان بكثير ـ إلّاأنّ الغريزة الجنسية من جهة وجاذبيتها ، والإشتهاء للطعام من جهة

٥٧٦

اخرى ، يجرانه نحو هذا الهدف شاء أم أبى. وكلّما كانت الأهداف حياتيةً أكثر وعمومية ، كانت هذه «الدوافع» أشدّ وأقوى أيضاً.

لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ هذه الدوافع على نحوين :

فبعضها باطنية (غير واعية) لا تحتاج إلى وساطة العقل والشعور ، كما ينجذب الحيوان نحو الطعام والجنس دون الحاجة إلى التفكير.

وقد يكون تأثير الدوافع عن طريق الوعي ، أي إنّ هذه الدوافع الداخلية تترك أثرها في العقل والتفكير وتدفعه إلى انتخاب الطريق.

وعادة يطلق على النوع الأوّل من هذه الدوافع «الغريزة» وعلى النوع الثاني «الفطرة» (فلاحظوا بدقّة).

عبادة الله والإتجاه نحوه لهما مكانه في نفوس جميع الناس ، وهو ما يصطلح عليه ب «الفطرة».

إنّ لدينا دلائل وشواهد مختلفة توضح بجلاء كون «الميل إلى الله» فطرياً ، بل تؤكّد هذا الميل في جميع اصول الدين وأبعاده :

١ ـ إنّ دوام الإعتقاد الديني والإيمان بالله على إمتداد التاريخ البشري بنفسه دليل على الفطرة ، لأنّه إذا كان ذلك على سبيل العادة ، لما كانت له جنبة عمومية ولا جنبة دائمية ، فهذا العموم وهذا الدوام دليل على فطرية الحالة.

٢ ـ إنّ المشاهدات عياناً في العالم المعاصر تكشف أنّه مع جميع ما بذل الطغاة والمستبدون ـ وأنظمتهم الجائرة من جهود وسعي لمحو الدين وآثاره وعن طرق مختلفة ـ لم يستطيعوا أن يستأصلوا الدين وجذوره من أعماق هذه المجتمعات.

٣ ـ الكشوفات الأخيرة من قبل النفسانيين وعلماء النفس في مجال أبعاد الروح الإنسانية ، شاهد آخر على هذا المدعى ، إذ أنّهم يقولون : «إنّ التحقيقات في المجالات النفسية تشير إلى بعد أصيل هو «البعد الديني». أو بتعبير آخر : «بعد قدسي» أو «رباني» وربّما عدّوا هذا البعد أساساً للأبعاد الثلاثة الاخرى وهي «البعد العلمي» و «البعد الجمالي» و «البعد الخيّر».

إذ يدّعون بأنّ البواعث الأساسية للروح البشرية هي هذه :

أ) دافع البحث عن الحقيقة (الشعور العلمي) وهو مصدر أنواع العلوم ، والأهداف التحقيقية المستمرة ، والمتابعات في معرفة عالم الوجود.

ب) حس «الإحسان والعمل الصالح» الذي يجذب الإنسان نحو المفاهيم الأخلاقية

٥٧٧

كالتضحية والإيثار والعدل والشهامة وأمثالها.

ج) الحس «الجمالي» : وهو يجذب الإنسان نحو الفن الأصيل والأدب والمسائل الذوقية ، وربّما أصبح مصدر التحول في حياة الفرد أو المجتمع أحياناً.

د) الحس «الديني» ، أي الإيمان بمبدأ عال وعبادته واتّباعه.

٤ ـ إنّ التجاء الإنسان في الشدائد والمحن إلى قوة خفية وراء الطبيعة ، وطلب حل المشاكل والازمات من قبل هذه القوة ، لهو أيضاً شاهد آخر على أصالة هذا الدافع الباطني والإلهام الفطري ، ويمكن ـ بضمها إلى مجموع الشواهد التي ذكرناها آنفاً ـ أنّ توقفنا على مثل هذا الدافع الباطني في داخلنا نحو الله سبحانه.

(وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) (٣٦)

إنّ الآية الاولى من المقطع الذي بين أيدينا ، هي في الحقيقة استدلال وتأكيد على البحث السابق في مجال كون التوحيد فطرياً ، وتفتح هذا النور الإلهي عند الشدائد والصعاب ، إذ تقول الآية : (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ).

إلّا أنّهم إلى درجة من السطحية والغباء التعصب والتقليد الأعمى لأسلافهم المشركين ، بحيث أنّه بمجرد انتهاء المشكلة وهبوب نسيم الرحمة الإلهية ... (ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ).

جملة (مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ) إشارة لطيفة للمعنى التالي ، وهو أنّ الأساس في الفطرة هو توحيد الله وعبادته ، والشرك أمر عارض ، حيث متى ما يئسوا منه فهم يعودون نحو الإيمان والتوحيد ، شاؤوا أم أبوا.

والطريف هنا أنّ «الرحمة» في الآية مسندة إلى «الله» ، فهو سبحانه مصدر الرحمة للعباد ، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر إلّا أنّ الضرّ لم يسند إليه سبحانه ، لأنّ كثيراً من الإبتلاءات والمشاكل التي تحوطنا هي من نتائج أعمالنا وذنوبنا.

وكلمة «ربّهم» التي تكررت في الآية تكررت في الآية مرّتين ، تؤكّد على أنّ الإنسان

٥٧٨

يحسّ بالتدبير الإلهي وربوبية الله على وجوده ما لم تؤثر عليه التعليمات الخاطئة فتسوقه نحو الشرك والضلال.

أمّا الآية الاخرى فجاءت بعنوان التهديد لُاولئك المشركين ، الذين ينسون ربّهم عند نيل النعم ، إذ تقول : اتركهم (لِيَكْفُرُوا بِمَاءَاتَيْنهُمْ) وليفعلوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. ثم يخاطب المشركين بأن يتمتعوا بهذه النعم والمواهب الدنيوية الفانية. وسوف يرون العاقبة السيئة لذلك : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

والقرآن في الآية الاخرى يصوغ الكلام في صيغة الاستفهام المقرون بالتوبيخ فيقول : (أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ). «السلطان» : معناه ما يدل على السلطة وينتهي إلى الإنتصار عادةً ، ومعناه هنا هو الدليل المحكم المقنع.

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث ، فهي ترسم طريقة تفكير وروحية هؤلاء الجهلة الاغبياء الذين يقنطون ويحزنون لأقل مصيبة ، فتقول : (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ).

في حين أنّ المؤمنين الصادقين هم الذين لا يغفلون عن ذكر الله عند النعم ، ولا يقنطون عند الشدائد والمصيبة ، إذ هم يشكرون الله على نعمه ، ويرون المصيبة امتحاناً واختباراً ، أو يعدونها نتيجة أعمالهم ، فيصبرون ويتّجهون إلى الله تعالى.

ويستفاد ضمناً من هذه الآية بصورة جيدة أنّ قسماً من المصائب والإبتلاءات التي تحل بالإنسان هي ـ على الأقل ـ نتيجة أعماله وذنوبه.

إنّ جملة (فَرِحُوا بِهَا) ليس المراد منها هنا السرور بالنعمة فحسب ، بل السرور المقرون بالغرور ونوع من السكر والنشوة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ (٤٢)

٥٧٩

الآية الاولى من الآيات محل البحث تتحدث عن التوحيد والربوبية أيضاً ، وانسجاماً مع سياق الآيات السابقة التي كانت تتحدث عن غرور بعض الناس الماديين عند إقبال النعمة عليهم ، ويأسهم وقنوطهم عند مواجهتهم الشدائد والبلاء ، فإنّها تقول : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ).

إنّ العالم هو عالم الأسباب ، لكن هذه القاعدة في الوقت ذاته ليست دائمية ولا كلية ، إذ يتفق أن نرى أناساً جديرين وجادّين يركضون من هنا وهناك ، إلّاأنّهم لا يصلون إلى نتيجة يبلغون هدفهم ، وعلى العكس منهم قد نشاهد أناساً لا يسعون ولا يجدّون وتتفتح عليهم أبواب الرزق من كل حدب وصوب.

وهذه الاستثناءات كأنّها لبيان أنّ الله بالرغم من جميع ما جعل للأسباب من تأثير ، لا ينبغي أن يُنسى في عالم الأسباب ، ولا ينبغي للإنسان أن يغفل أنّ وراء هذا العالم يداً قوية اخرى تديره كيف شاءت.

لذلك يقول القرآن في نهاية الآية : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

وحيث إنّ كل نعمة وموهبة ينالها الإنسان تحمّله وظائف ومسؤوليّات وعليه أداؤها ، فإنّ القرآن يوجه الخطاب للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآية التالية قائلاً : (فَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ).

والتعبير بـ «حقّه» كاشف عن أنّهم شركاء في أموال الإنسان ، وإذا دفع المرء شيئاً من ماله إليهم فإنّما يؤدّي حقّهم ، وليس له منّ عليهم.

إنّ القرآن يبيّن في نهاية الآية ترغيباً للمحسنين ، وشرط القبول ضمناً ، فيقول : (ذلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

ومع الإلتفات إلى أنّ المراد من (وَجْهَ اللهِ) ذاته المقدّسة ، فإنّ هذه الآية تشير إلى أنّ الإنفاق وإيتاء حقّ الأقارب وأصحاب الحق الآخرين ليس كافياً ، بل المهم هو الإخلاص والنية الطاهرة والخالية من أي أنواع الرياء والمنة والتحقير وانتظار الأجر والثواب.

وتشير الآية التالية ـ بمناسبة البحث المتقدم عن الإنفاق الخالص ـ إلى نوعين من الإنفاق : أحدهما لله ، والآخر يراد منه الوصول إلى مال الدنيا ، فتقول : (وَمَاءَاتَيْتُم مِّن رّبًا لّيَرْبُوَا فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِندَ اللهِ وَمَاءَاتَيْتُم مّن زَكَوةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).

«الربا» : معناه في الأصل «الزيادة» ، وهنا أنّ المراد من الربا هو الهدايا التي يقدمها بعض

٥٨٠