مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

فتكون شجراً ، هو الله فحسب.

وبتعبير آخر : فإنّ التوحيد في الخلق يؤدّي إلى «توحيد الخالق» ، والتوحيد في الربوبية «توحيد مدبّر هذا العالم» باعث على «توحيد العبادة».

ولذلك فالقرآن يقول في نهاية الآية : (أَءِلهٌ مَّعَ اللهِ) ولكن هؤلاء جهلة عدلوا عن الله وعبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (١).

والسؤال الثاني بحث عن موهبة استقرار الأرض وثباتها ، وأنّها مقر الإنسان في هذا العالم ، فيقول : هل أنّ أصنامكم أفضل ، (أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِللَهَا أَنْهرًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ) (٢). كما تحافظ على القشرة الأرضية من الزلازل ، كما (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا) ومانعاً من اختلاط البحر المالح بالبحر العذب.

وهكذا فقد ورد في هذه الآية ذكر أربع نعم عظيمة ، ثلاث منها تتحدث عن استقرار الأرض.

ترى هل يمكن أن يكون هذا النظام قد وُلد عن طريق الصدفة العمياء الصمّاء ، والمبدأ الفاقد للعقل والحكمة؟! وهل للأصنام تأثير في هذا النظام البديع المثير للدهشة؟!

حتى عبدة الأصنام لا يدعون مثل هذا الإدعاء! لذلك يكرر القرآن في ختام الآية هذا السؤال : (أَءِلهٌ مَّعَ اللهِ). حاش لله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ).

السؤال الثالث من هذه الأسئلة الخمسة التي تحكي عن محاورة ومحاكمة المعنوية يتحدث عن حلّ المشكلات ، وفتح الطرق الموصدة ، وإجابة الدعاء ، إذ تقول الآية التالية : (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).

أجل ، عندما تُغلق جميع أبواب عالم الأسباب بوجه الإنسان ، ويغدو مضطراً حيراناً لا حيلة له ، فإنّ الذي يحلّ المعضلة ، ويفتح أبواب الرحمة بوجه الناس المتحيرين ، هو الله لا غير.

وحيث إنّ الناس يدركون هذه الحقيقة بالفطرة في أعماق نفوسهم جميعاً ، فإنّ المشركين

__________________

(١) قد يكون «يعدلون» من مادة «العدول» أي الإنحراف والرجوع من الحق إلى الباطل ، أو أنّه مادة «عِدْل» على وزن (قِشر) ومعناه المعادل والنظير .. ففي الصورة الاولى مفهوم الآية أنّهم ينحرفون عن الله الواحد إلى غيره ، وفي الصورة الثانية مفهومها أنّهم يجعلون له عديلاً.

(٢) «الخلال» : في الأصل معناه الشق بين الشيئين ؛ و «الرواسي» : جمع «راسية» وهي الثابتة.

٤٨١

حين يقعون بين أمواج البحر المتلاطمة ينسون جميع معبوديهم ويتوجهون نحو لطف الله ، كما نقرأ في الآية (٦٥) من سورة العنكبوت : (فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ).

لذلك تضيف الآية قائلة : إنّه لا ينقذكم من هذه المآزق والشدائد فحسب ، بل : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَءِلهٌ مَّعَ اللهِ) ولكنّكم لا تتعضون بهذه الدلائل .. (قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ).

ويثير القرآن في السؤال الرابع مسألة الهداية فيقول : هل أنّ الأصنام أفضل ، (أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ) بواسطة النجوم (وَمَن يُرْسِلُ الرّيحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ).

فالرياح التي تدل على نزول الغيث ، وكأنّها رسل البشرى تتحرك قبل نزول الغيث.

ويخاطب القرآن في ختام الآية المشركين مرّة اخرى فيقول : (أَءِلهٌ مَّعَ اللهِ).

ثم يضيف دون أن ينتظر الجواب قائلاً : (تَعلَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

أمّا في آخر آية من الآيات محل البحث ، فيثير القرآن السؤال الخامس في شأن المبدأ والمعاد بهذه الصورة ، فيقول : هل أنّ أصنامكم أفضل ، (أَمَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَءِلهٌ مَّعَ اللهِ) .. فهل بعد ذلك تعتقدون بوجود معبود غير الله (قُلْ هَاتُوا بُرْهنَكُمْ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ).

والمراد من (الرزق السماوي) هو الغيث ونور الشمس وأمثال ذلك ، أمّا (الرزق الأرضي) فالنباتات والمواد الغذائية المختلفة التي تنمو على الأرض مباشرة ، أو عن طريق غير مباشر كالأنعام والمعادن والمواد المختلفة التي يتمتع بها الإنسان في حياته.

(قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (٦٦) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنَا هذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٦٨)

لما كان البحث في آخر الآيات السابقة عن القيامة والبعث ، فإنّ الآيات ـ محل البحث ـ

٤٨٢

تعالج هذه المسألة من جوانب شتى ، فتجيب أوّلاً على السؤال الذي يثيره المشركون دائماً ، وهو قولهم : متى تقوم القيامة؟ ومتى هذا الوعد؟ فتقول : (قُلْ لَّايَعْلَمُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).

لا شك أنّ علم الغيب ـ ومنه تاريخ وقوع القيامة ـ خاص بالله ، إلّاأنّه لا منافاة في أن يجعل الله بعض ذلك العلم عند من يشاء من عباده ، كما نقرأ في الآيتين (٢٦ و ٢٧) من سورة الجن : (علِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ).

ثم يتكلم القرآن عن عدم علم المشركين بيوم القيامة وشكهم وجهلهم ، فيقول : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الْأَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ).

«ادّارك» : في الأصل «تدارك» ومعناه التتابع أو لحوق الآخر بالأوّل ، فمفهوم جملة (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الْأَخِرَةِ) : أنّهم لم يصلوا إلى شيء بالرغم مما بذلوه من تفكير ، وجمعوا المعلومات في هذا الشأن ، لذلك فإنّ القرآن يضيف مباشرة بعد هذه الجملة : (بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ). لأنّ دلائل الآخرة ظاهرة في هذه الدنيا ، فعودة الأرض الميتة إلى الحياة في فصل الربيع ، وإزهار الأشجار وإثمارها مع أنّها كانت في فصل الشتاء جرداء ... ومشاهدة عظمة قدرة الخالق في مجموعة الخلق والوجود ، كلها دلائل على إمكان الحياة بعد الموت ، إلّاأنّهم كالعُمي الذين لا يبصرون كل شيء.

والآية التالية توجز منطق منكري القيامة والبعث في جملة واحدة ، فتقول : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا وَءَابَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ).

مع أنّهم كانوا أوّل الأمر تراباً وخلقوا من التراب ، فما يمنع أن يعودوا إلى التراب ، ثم يرجعون أحياءً بعد أن كانوا تراباً.

ثم يحكي القرآن عمّا يضيفه المشركون من قول : (لَقَدْ وُعِدْنَا هذَا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ) ، ولكن لم نجد أثراً لهذا الوعد ولن يوجد ، (إِنْ هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، فما هي سوى خرافات وخزعبلات القدماء.

فبناءً على هذا فإنّهم يبدأون من الاستبعاد ثم يجعلونه أساساً للإنكار المطلق.

ويستفاد ـ ضمناً من هذا التعبير ـ أنّهم أرادوا أن يسخروا من كلام النبي في شأن يوم القيامة ، ويطعنوا عليه ، فيقولوا : إنّ هذه الوعود الباطلة سبقت لأسلافنا ، فلا جديد فيها يستحق بذل التفكير والمراجعة.

٤٨٣

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٤) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (٧٥)

لا يضيق صدرك بمؤامراتهم : كان الكلام في الآيات السابقة عن إنكار المعاندين الكفار للمعاد ، واستهزائهم وتكذيبهم باليوم الآخر. ولما كان البحث المنطقي غير مُجد لهؤلاء القوم المعاندين والأعداء الألدّاء ، بالإضافة إلى ما أقامته الآيات الأخر من الدلائل الوافرة على المعاد مما يُرى كل يوم في عالم النباتات وفي عالم الأجنة ، وما إلى ذلك ، فإنّ الآيات محل البحث بدلاً من أن تأتيهم بدليل ، هددتهم بعذاب الله الذي شمل من سبقهم من الكفار ، وأنذرتهم بعقابه المخزي ... فوجهت الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلةً : (قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ).

فأنتم تعترفون أنّ هذه الوعود تلقّاها أسلافكم ، فلم يكترثوا بها ، ولم يروا ضرراً.

وحيث إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يشفق عليهم لإنكارهم ، ويحزن لعنادهم ، ويحترق قلبه من أجلهم ، إذ كان حريصاً على هدايتهم ، وكان يواجه مؤامراتهم أيضاً .. فإنّ الآية التاليةتسري عن قلب النبي فتقول له : (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) ولا تقلق من مؤآمراتهم (وَلَا تَكُن فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ).

إلّا أنّ هؤلاء المنكرين المعاندين ، بدلاً من أن يأخذوا إنذار النبي المشفق عليهم مأخذ الجد فيتعظوا بوعظه ويسترشدوا بنصحه ، أخذوا يسخرون منه (وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ).

وهنا يردّ القرآن على استهزائهم وسخريتهم بلهجة موضوعية ، فيقول مخاطباً نبيّه : (قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ).

والمراد من العذاب الذي كانوا يستعجلون به ، فقيل : هو ما أصابهم يوم بدر من هزيمة كبرى.

٤٨٤

كما ويحتمل أنّ المراد منه العقاب العام الذي دفع أخيراً ، ببركة وجود النبي إذ كان رحمة للعالمين ، والآية (٣٣) من سورة الأنفال شاهدة عليه : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ).

ثم يتحدث القرآن في الآية التالية عن هذه الحقيقة وهي أنّ الله إذا لم يعجل في عقابكم ، فذلك بفضله وبرحمته ، حيث يمهل عباده الإمهال الكافي لإصلاح أنفسهم ، فيقول : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَشْكُرُونَ).

وإذا كانوا يتصورون أنّ تأخير العقاب لعدم علم الله سبحانه لما يدور في خلدهم من نيات سيئة وأفكار ضالة ، فهم في غاية الخطأ : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ) (١). فهو يعلم خفاياهم بمقدار ما يعلم من ظاهرهم وما يعلنون ، والغيب والشهادة عنده سيّان.

ثم يضيف القرآن قائلاً : إنّه ليس علم الله منحصراً بما تكنّ القلوب وما تعلن ، بل علمه واسع مطلق. (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِى كِتبٍ مُّبِينٍ).

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٨١)

كان الكلام في الآيات السابقة عن المبدأ والمعاد ، أمّا في الآيات ـ محل البحث ـ فيقع الكلام على مسألة النبوة ، وحقانية القرآن ، ليكتمل بهما هذا البحث.

أضف إلى ذلك أنّ الخطاب كان فيما سبق من الآيات موجهاً للمشركين ، وهنا يوجه الخطاب نحو الكفار الآخرين كاليهود واختلافاتهم. فتقول الآيات أوّلاً : (إِنَّ هذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

__________________

(١) «تكنّ» : مأخوذ من كَنّ (على وزن جَنّ) ، وهذا الفعل يطلق على ما تستر فيه الأشياء وتحفظ ، وهنا كناية عن ما يخطر في قلوب الكفار من خواطر وأفكارعدوانية.

٤٨٥

لقد اختلف بنو إسرائيل فيما بينهم في مسائل كثيرة ، فقد اختلفوا في شأن مريم وعيسى عليهما‌السلام. وفي شأن النبي الذي بشّرت به «التوراة» من هو؟ كما أنّهم اختلفوا في ما بينهم في كثير من المسائل الدينية والأحكام الشرعية ... فجاء القرآن موضحاً هذه الامور بجلاء.

ولما كانت مواجهة الاختلافات والوقوف بوجهها مدعاة للهدى والرحمة ، فإنّ الآية التالية تشير إلى هذا «الأصل الكلي» وتقول : (وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ).

إنّه هدى ورحمة من حيث حسم الخلافات ومبارزة الخرافات.

وحيث إنّ جماعة من بني إسرائيل وقفت بوجه القرآن والحقائق الواردة فيه ، لأوامر الله ، فإنّ الآية التالية تقول في شأنهم : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ).

وهذا الكلام إضافة إلى أنّه يبيّن عظمة القرآن ، وهو تهديد لبني إسرائيل ، فهو في الوقت ذاته تسلية عن قلب النبي وتسرية عنه ، لذا فالآية التالية تقول : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).

توكّل على الله العزيز الذي لا يغلب ، والعليم بكل شيء .. فتوكّل عليه ولا تقلق من المشركين والمعاندين ، لأنّه يرعاك و (إِنَّكَ عَلَى الْحَقّ الْمُبِينِ).

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو : إذا كان القرآن حقاً مبيناً فلماذا خالفوه؟ فالآيات التالية تجيب على هذا السؤال ، فتقول : إذا كان اولئك لا يذعنون للحق المبين ، ولا يؤثر في قلوبهم هذا الكلام المتين ، فلا مجال للعجب .. ل (إِنَّكَ لَاتُسْمِعُ الْمَوْتَى).

بل تسمع الأحياء الذين يبحثون عن الحق وأرواحهم توّاقة إليه ، أمّا إحياء الموتى ـ أو موتى الأحياء ـ لتعصبهم وعنادهم واستمرارهم على الذنب ، فلاترهق فكرك ونفسك من أجلهم وحتى لو كانوا احياء فإنّهم صمّ لا يسمعون فلايمكنهم أن يسمعوا صوتك ، وخاصة إذا أداروا إليك ظهورهم وابتعدوا عنك ، (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ).

كما أنّهم لو كانوا مع هذه الحال يبصرون بأعينهم لاهتدوا إلى الصراط المستقيم ، ولو ببعض العلامات ، إلّاأنّهم عمي (وَمَا أَنتَ بِهدِى الْعُمْىِ عَن ضَللَتِهِمْ).

وهكذا فقد أوصدت جميع طرق إدراك الحقيقة بوجوههم ، فقلوبهم ميتة ، وآذانهم صمّ موقرة ، وأعينهم عمي.

فأنت يا رسول الله : (إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بَايَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ) ويشعرون في أنفسهم بالاذعان للحق.

٤٨٦

(وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمْ ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ) (٨٥)

لما كانت الآية السابقة تتحدث عن استعجال الكفار بالعذاب ونزوله ، فإنّ الآيات ـ محل البحث ـ تشير إلى بعض الحوادث التي تقع بين يدي القيامة ، وتجسد عاقبة المنكرين الوخيمة ، فتقول : (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بَايَاتِنَا لَايُوقِنُونَ). «الدّابة» : معناها ما يدب ويتحرك. وقد طبق هذا المفهوم في روايات كثيرة على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والروايات الكثيرة في تفسير الآية ، تدل على أنّ المراد من «دابّة الأرض» هنا إنسان نشط فعال بما ذكرنا له من خصائص آنفاً ، فهو يميز الحق من الباطل والمؤمن من المنافق والكافر.

إنسان يخرج في آخر الزمان قبيل يوم القيامة ، وهو بنفسه آية من آيات عظمة الخالق.

ثم تشير الآيات إلى علامة اخرى من علامات القيامة ، فتقول : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجًا مّمَّن يُكَذّبُ بَايَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ). «الحشر» : معناه إخراج جماعة ما من مقرّها والسير بها نحو ميدان الحرب أو غيره ؛ «الفوج» : الجماعة التي تتحرك بسرعة ؛ و «يوزعون» : معناه حبس الجماعة وإيقافها حتى يلحق الآخر منها بالأوّل.

فبناء على هذا يستفاد من مجموع الآية أنّ يوماً سوف سيأتي يحشر الله فيه من كل امة جماعة ، ويهيؤهم للحساب والجزاء على أعمالهم.

والكثير من الأعاظم يعتقدون بأنّ هذه الآية تشير إلى مسألة الرجعة وعودة جماعة من الصالحين وجماعة من الطالحين إلى هذه الدنيا قبيل يوم القيامة.

(حَتَّى إِذَا جَاءُو قَالَ أَكَذَّبْتُم بَايَاتِى وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

وقائل هذا الكلام هو الله سبحانه. والمراد من (الآيات) هي المعاجز التي يأتي بها الأنبياء ، أو أوامر الله ، أو الجميع.

وبديهي أنّ هؤلاء المجرمين لا يستطيعون الإجابة على أيّ من هذين السؤالين ، لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تضيف قائلة : (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَايَنطِقُونَ).

٤٨٧

وهذا القول أو العذاب دنيوي ، إذا فسّرنا الآية بالرجعة ، أو هو عذاب الآخرة إذا فسّرنا الآية بيوم القيامة (١).

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (٨٨)

حركة الأرض إحدى معاجز القرآن العلمية : مرّة اخرى تتحدث هذه الآيات عن مسألة المبدأ والمعاد ، وآثار عظمة الله ، ودلائل قدرته في عالم الوجود ، وحوادث القيامة ، فتقول : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا). وفي ذلك علائم ودلائل واضحة على قدرة الله وحكمته لمن كان مستعداً للإيمان (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

والآية التالية تتحدث عن مشاهد القيامة ومقدماتها ، فتقول : وَاذكر (يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّموَاتِ وَمَن فِى الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ). أي خاضعين.

ويستفاد من مجموع آيات القرآن أنّ النفخ في الصور يقع مرّتين أو ثلاث مرات :

فالمرّة الاولى يقع النفخ في الصور عند نهاية الدنيا وبين يدي القيامة ، وبها يفزع من في السماوات والأرض إلّامن شاء الله.

والثانية «عند النفخ» يموت الجميع من سماع الصيحة ، ولعلّ هاتين النفختين واحدة.

والمرّة الثالثة ينفخ في الصور عند البعث وقيام القيامة .. إذ يحيا الموتى جميعاً بهذه إلّاأنّ الظاهر من الآية يدل على أنّ النفخة هنا إشارة إلى النفخة الاولى التي تقع في نهاية الدنيا.

والآية التالية تشير إلى إحدى آيات عظمة الله في هذا العالم الواسع ، فتقول : (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ).

فمن يكون قادراً على كل هذا النظم والإبداع في الخلق ، لا ريب في علمه و (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ).

__________________

(١) و «الرجعة» من عقائد الشيعة المعروفة ، وتفسيرها في عبارة موجزة بهذا النحو : بعد ظهور المهدي عليه‌السلام وبين يدي القيامة ، يعود طائفة من المؤمنين الخلّص ، وطائفة من الكفار الأشرار ، إلى هذه الدنيا .. فالطائفة الاولى تصعد في مدارج الكمال ... والطائفة الثانية تنال عقابها الشديد.

٤٨٨

إنّ الآية آنفة الذكر من قبيل آيات التوحيد ودلائل عظمة الله في هذه الدنيا ، وتشير إلى حركة الأرض التي لا نحس بها ، فالآية آنفة الذكر تعدّ من معاجز القرآن العلمية.

(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣)

كان الكلام في الآيات السابقة عن أعمال العباد وعلم الله بها ، أمّا الآيات محل البحث فيقع الكلام في مستهلّها عن جزائهم وثواب أعمالهم وأمنهم من فزع يوم القيامة ، إذ يقول سبحانه : (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍءَامِنُونَ).

إنّ معنى الآية واسع كما أنّ الحسنة هنا معناها واسع أيضاً ، فهي تشمل الصالحات والأعمال الخالصة ، ومن ضمنها الإيمان بالله وبرسوله وولاية الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ، التي تعدّ في طليعة الأعمال الحسنة ، ولا يمنع أن تكون هناك أعمال صالحة اخرى تشملها الآية.

ثم يتحدث القرآن عن الطائفة الاخرى التي تقابل أصحاب الحسنات فتقول : (وَمَن جَاءَ بِالسَّيّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمُ فِى النَّارِ).

وليس لهذه الطائفة أيّ توقع غيرها (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

«كُبّت» : مأخوذ من «كبّ» على وزن «جدّ» ومعناه في الأصل إلقاء الشيء على وجهه على الأرض ، فبناء على هذا فإنّ ذكر «وجوههم» في الآية هو من باب التوكيد.

إنّ اولئك حين كانوا يواجهون الحقّ يُلوون وجوههم ورؤوسهم ، وكانوا يواجهون الذنوب بتلك الوجوه فرحين ... فالآن لابدّ أن يبتلوا بمثل هذا العذاب.

ثم يوجه الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآيات الثلاث من آخر هذه السورة ، ويؤكّد له هذه الحقيقة وهي أن يخبر اولئك المشركين بأنّ عليه أن يؤدّي رسالته ووظيفته ، سواءً آمنتم أم لم تؤمنوا؟! فتقول الآية الاولى من هذه الآيات : (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ).

هذه البلدة المقدسة التي يتلخّص كل وجودكم وشرفكم بها.

أجل ، أعبد ربّ هذه البلدة المقدسة (الَّذِى حَرَّمَهَا) وجعل لها خصائص وأحكاماً

٤٨٩

وحرمة ، وأموراً اخر لا تتمتع بها أية بلدة اخرى في الأرض.

لكن لاتتصوروا أنّ هذه البلدة وحدها لله ، بل له كل شي في عالم الوجود (وَلَهُ كُلُ شَىْءٍ).

والأمر الثاني الذي أمرت به ، هو أن أسلم وجهي له (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

وهكذا فإنّ الآية بيّنت وظيفتين أساسيتين على النبي وهما (عبادة الواحد الأحد ، والتسليم المطلق لأمره).

والآية التالية تبيّن أسباب الوصول إلى هذين الهدفين فتقول : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْءَانَ).

أتلوه فأستضيء بنوره ، وأنتهل من عذب معينه الذي يهب الحياة ، وأن أعول في جميع مناهجي على هديه. أجل ، فالقرآن وسيلتي للوصول إلى هذين الهدفين المقدسين ، والمواجهة لكل أنواع الشرك والإنحراف والضلال ومكافحتها.

ثم تعقب الآية لتحكي عن لسان الرسول وهو يخاطب قومه : لا تتصوروا أنّكم إذا آمنتم انتفعت من وراء ذلك لنفسي ، كما أنّ الله غني عنكم ، بل : (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ).

وكل ما يترتب على الهداية من منافع دنيوية ، كانت أم اخروية فهي عائدة للمهتدي نفسه والعكس صحيح (وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ).

والأمر الأخير ـ في آخر آية من هذه السورة ـ موجه للنبي أن يحمد الله على هذه النعم الكبرى ، ولا سيما نعمة الهداية فيقول : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ).

هذا الحمد أو الثناء يعود لنعمة القرآن ، كما يعود للهداية أيضاً ، ويمكن أن يكون مقدمة للجملة التالية : (سَيُرِيكُمْءَايتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا).

وهذا التعبير إشارة إلى أنّه مع مرور الزمان وتقدم العلم والمعرفة ، سينكشف كل يوم بعض أسرار عالم الوجود ، ويرفع ستار جديد عنها .. وستعرفون نعم الله وعظمة قدرته وعمق حكمته يوماً بعد يوم .. وإراءة الآيات هذه مستمرة دائماً ولا تنقطع مدى عمر البشر.

إلّا أنّكم إذا واصلتم طريق الخلاف والانحراف ، فلن يترككم الله سدى (وَمَا رَبُّكَ بِغفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

ولا تتصوروا بأنّ الله إذا أخر عقابكم بلطفه ، فهو غير مطلع على أعمالكم ، وأنّها لا تسجل في اللوح المحفوظ.

وجملة (وَمَا رَبُّكَ بِغفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) الواردة بنفسها أو مع شيء من التفاوت اليسير في تسع آيات من القرآن جملة موجزة ، وهي تهديد ذو معنى عميق ، وإنذار لجميع الناس.

«نهاية تفسير سورة النمل»

٤٩٠

٢٨

سورة القصص

محتوى السورة : هذه السورة نزلت في مكة ، وفي ظروف كان المؤمنون في قبضة الأعداء الأقوياء وبين مخالبهم ، الأعداء الذين كانوا أكثر عدداً وأشدّ قدرةً وقوةً ونفيراً.

وبما أنّ هذه الحالة كانت كثيرة الشبه بالحالة التي كان عليها بنو إسرائيل وهم بين مخالب الفراعنة ، فإنّ قسماً من محتوى هذه السورة يتحدث عن قصة بني إسرائيل وموسى عليه‌السلام والفراعنة.

في بداية السورة يبشر المستضعفين بحكومة الحق والعدل لهم وكسر شوكة الظالمين ، بشرى تمنحهم الإطمئنان والقدرة.

و «القسم الآخر» من هذه السورة يتحدّث عن «قارون» ، ذلك الرجل المستكبر الثري الذي كان يعتمد على علمه وثروته ، حتى لقي أثر غروره ما لقيه فرعون من مصير أسود.

احدهما غريق في الماء والآخر دفين في الأرض.

وبين هذين القسمين دروس حيّة وقيّمة من التوحيد والمعاد وأهمية القرآن ، وبيان حال المشركين في يوم القيامة ، ومسألة الهداية والضلالة ، والإجابة على حجج الأفراد الضعاف ، وهي «نتيجة» الأوّل و «مقدمة» للقسم الثاني.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ومن قرأ طسم القصص

٤٩١

اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى وكذّب به ، ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلّاشهد له يوم القيامة أنّه كان صادقاً».

وبديهي أنّ كل هذا الأجر والثواب هو لُاولئك الذين يقرأون ويتفكرون ، وعلى ضوء هذه السورة يخططون لحياتهم وعملهم.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (٦)

هذه هي المرّة الرابعة عشرة التي نواجه بها بدايات السورة بالحروف المقطعة في القرآن ، وقد تكررت فيها (طسم) ثلاث مرات ، وهي هنا ـ أي «طسم» ـ ثالث المرات وآخرها.

إنّه يظهر من كثير من الروايات في شأن (طسم) أنّ هذه الحروف إشارات موجزة عن صفات الله سبحانه وتعالى ، أو أنّها أماكن مقدسّة ، ولكنها في الوقت ذاته لا تمنع من ذلك التّفسير المعروف الذي أكّدنا عليه مراراً ، وهو أنّ الله تعالى يريد أن يوضح هذه الحقيقة للجميع ، وهي أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس التغيير الكبير في تأريخ البشرية وحامل المنهج المتكامل للحياة الكريمة للإنسانية يتشكّل من امور بسيطة كهذه الحروف «ألف باء ...» التي يستطيع أن يتلفظ بها كل صبّي.

ومن هنا تتجلى عظمة القرآن وأهميته القصوى ، إذ يتألف من هذه الحروف البسيطة التي هي في اختيار الجميع.

ولعل هذا السبب كان داعياً لأن يكون الحديث بعد الحروف المقطعة مباشرةً عن عظمة القرآن ، إذ يقول : (تِلْكَءَايتُ الْكِتبِ الْمُبِينِ).

والقرآن بعد ذكر هذه المقدمة يحكى قصة «فرعون» و «موسى» فيقول : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن

٤٩٢

نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

والتعبير «بالحق» إشارة إلى أنّ ما ورد هنا خال من كل خرافة واسطورة ، وبعيد عن الأباطيل والأكاذيب ، فهي إذن تلاوة مقترنة بالحق والواقعية.

والتعبير بـ (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) هو تأكيد على هذه الحقيقة ، وهي أنّ مؤمني ذلك العصر الذين كانوا يرزخون تحت ضغوط المشركين والأعداء ، عليهم أن يدركوا هذه الحقيقة ، وهي أنّ الأعداء مهما تعاظمت قواهم وتزايدوا عَدداً وعُدداً ، وأنّ المؤمنين مهما قلّوا وكانوا تحت ضغط أعدائهم وكانوا ضعافاً بحسب الظاهر ، فلا ينبغي أن يهنوا وينكصوا عن طريق الحق ، فكل شيء عند الله سهل يسير ..

ثم يفصّل القرآن ما أجمله بقوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى الْأَرْضِ).

فقد كان عبداً ضعيفاً ، وعلى أثر جهله وعدم معرفته أضاع شخصيته ووصل إلى مرحلة من الطغيان حتى أنّه ادّعى الربوبية.

والتعبير ب «الأرض» إشارة إلى أرض مصر وما حولها.

إنّ فرعون ـ من أجل تقوية قواعده الإستكبارية ـ قد أقدم على عدّة جرائم كبرى ، فالجريمة الأولى ، أنّه فرّق بين أهل مصر (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا).

فلا يمكن أن تحكم الأقلية ـ التي لا تُعدّ شيئاً ـ على الأكثرية إلّابالخطة المعروفة «فرّق تَسُدْ» فهم مستوحشون من «كلمة التوحيد» و «توحيد الكلمة» ويخافون منهما أبداً ، ويخافون من التفاف الناس بعضهم حول بعض.

إنّ فرعون قسّم أهل مصر إلى طائفتي «الأقباط» و «الأسباط».

فالأقباط هم أهل مصر «الأصليون» الذين كانوا يتمتعون بجميع وسائل الرفاه والراحة ، وكانت في أيديهم القصور ودوائر الدولة والحكومة.

و «الأسباط» هم المهاجرون إلى مصر من بني إسرائيل الذين كانوا على هيئة العبيد والخدم «في قبضة الأقباط» وكانوا محاطين بالفقر والحرمان.

والجريمة الثانية هي استضعافه لجماعة من أهل مصر بشكل دموي سافر كما يعبر عن ذلك القرآن بقوله : (يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءَهُمْ).

٤٩٣

ولكون ورود جملة (يُذَبّحُ أَبْنَاءَهُمْ) بعد جملة (يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ) فإنّ مسألة اخرى تتجلى أمامنا ، وهي أنّ الفراعنة اتخذوا خطة لاستضعاف بني إسرائيل بذبح الأبناء ، لئلا يستطيع بنو إسرائيل أن يواجهوا الفراعنة ويحاربوهم ، وكانوا يتركون النساء اللاتي لا طاقة لهن على القتال والحرب ، ليكبرن ثم يخدمن في بيوتهم.

وفي آخر جملة تأتي الآية بتعبير جامع ، وفيه بيان العلة أيضاً فتقول : (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

والتعبير ب «يذبّح» المشتق من مادة «المذبح» تدل على معاملة الفراعنة لبني إسرائيل كمعاملة القصابين للأغنام والأنعام الاخرى ، إذ كانوا يذبحون هؤلاء الناس الأبرياء ويحتزون رؤوسهم.

ثم تأتي الآية الاخرى لتقول : إنّ إرادتنا ومشيئتنا إقتضت احتواء المستضعفين بلطفنا وكرمنا ؛ (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْأَرْضِ) وأن تشملهم رعايتنا ومواهبنا تكون بيد الحكومة ومقاليد الأمور : (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).

ويكونون اولي قوة وقدرة في الأرض (وَنُمَكّنْ لَهُمْ فِى الْأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهمنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ).

فهي بشارة في صدد إنتصار الحق على الباطل والإيمان على الكفر.

وهي بشارة لجميع الأحرار الذين يريدون العدالة وحكومة العدل وانطواء بساط الظلم والجور.

وحكومة بني إسرائيل وزوال حكومة الفراعنة ما هي إلّانموذج لتحقق هذه المشيئة الإلهية والمثل الأكمل هو حكومة نبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه بعد ظهور الإسلام.

والمثل الأكبر والأوسع هو ظهور حكومة الحق والعدالة على جميع وجه البسيطة ـ والكرة الأرضية ـ على يد «المهدي» أرواحنا له الفداء.

ومن الطبيعي أنّ حكومة المهدي عليه‌السلام العالمية في آخر الأمر لا تمنع من وجود حكومات إسلامية في معايير محدودة قبلها من قبل المستضعفين ضد المستكبرين ، ومتى ما تمّت الظروف والشروط لمثل هذه المحكومات الإسلامية فإنّ وعد الله المحتوم والمشيئة الإلهية سيتحققان في شأنها ، ولابدّ أن يكون النصر حليفها بإذن الله.

٤٩٤

(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (٨) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (٩)

في قصر فرعون : من أجل رسم مثل حي لانتصار المستضعفين على المستكبرين ، يدخل القرآن المجيد في سرد قصة موسى وفرعون. يقول القرآن : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

وهذه الآية على إيجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين ، وهي خلاصة قصة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة :

كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطاً واسعاً لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أنّ القوابل [من آل فرعون] كنّ يراقبن النساء الحوامل [من بني إسرائيل] ، ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسى عليه‌السلام «وكان الحمل خفيّاً لم يظهر أثره على امّ موسى» وحين أحسّت امّ موسى بأنّها مقرب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع ، وأنّها تحمل جنيناً في بطنها وتوشك أن تضعه ، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.

وحين ولد موسى عليه‌السلام سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطُبع حُبّه في قلبها ، وأنار جميع زوايا قلبها ، فالتفتت القابلة إلى امّ موسى وقالت لها : كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي ، فاهتمي بالمحافظة عليه ، وأظنّ أنّ عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيراً.

ثم خرجت القابلة من بيت ام موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت ، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى امّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر ، وفي هذه الحالة من الإرتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار ، فلم يجدوا شيئاً إلّا

٤٩٥

التنور المشتعل ناراً.

وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً «الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالماً من التنور.

لكن الام لم تهدأ إذ أنّ الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت.

وفي هذه الحال اهتدت ام موسى بإلهام جديد ، فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضاً» فطلبت منه أن يصنع صندوقاً صغيراً.

والوقت كان فجراً والناس ـ بعد ـ نيام ، وفي هذه الحال خرجت ام موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى ، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى ، ثم ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج.

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة ، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء ، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له : نتكهن ونتوقع أنّ إنساناً يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها ، وكان فرعون وزوجه «آسية» في إنتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيام .. فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار ، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثّل الصندوق «المجهول» الخفي أمام فرعون ، فلما وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها ، ودخل حبّه في قلوب الجميع ، وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر.

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصة من لسانه. يقول القرآن في هذا الصدد : (فَالْتَقَطَهُءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا).

«التقط» : مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي ، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضاً ..

ثم تختتم الآية بالقول : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهمنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خطِينَ). وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحق ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسى عليه‌السلام ، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم : خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم.

ويستفاد من الآية التالية أنّ شجاراً حدث ما بين فرعون وامرأته ، ويحتمل أنّ بعض

٤٩٦

أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه ، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد : (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ لَاتَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا).

إنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الاخرى أنّ هذا الطفل من بني إسرائيل ، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه. ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولداً ذكراً ، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلاً آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلاً : (وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ).

أجل ، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر ، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطراً ... ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة ، ولا يمكن مخالفتها أبداً ..

(وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (١٣)

عودة موسى إلى حضن امّه : في هذه الآيات تتجسد مشاهد جديدة .. فام موسى التي قلنا عنها : إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل ، بحسب ما فصّلنا آنفاً .. اقتحم قلبها طوفان شديد من الهمّ على فراق ولدها ، فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها ، لكن لطف الله تداركها ، وكما يعبّر القرآن الكريم : (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). «الفارغ» : معناه الخالي ، والمقصود به هنا أنّ قلب امّ موسى أصبح خالياً من كل شيء إلّامن ذكر موسى ؛ «ربطنا» : من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظاً في مكانه.

والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته .. أي تثبيت قلب ام موسى ، لتؤمن بوعد الله

٤٩٧

وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست امّ موسى بالاطمئنان ، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها ، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره : (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصّيهِ).

«قصّيه» : مأخوذة من مادة «قصّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء ، وإنّما سميّت القصة قصةً لأنّها تحمل في طياتها أخباراً مختلفة يتبع بعضها بعضاً.

فاستجابت «اخت موسى» لأمر امّها ، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة ، حتى بصرت به من مكان بعيد ، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه آل فرعون .. ويقول القرآن في هذا الصدد : (فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ).

ولكن اولئك لم يلتفتوا إلى أنّ أخته تتعقبه : (وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ).

وعلى كل حال ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى امّه عاجلاً ليطمئن قلبها ، لذلك يقول القرآن الكريم : (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ) (١).

وطبيعي أنّ الطفل الرضيع حين تمر عليه عدة ساعات فإنّه يجوع ويبكي.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثاً عن مرضع له ، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعاً.

والطفل يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثاً عن مرضع حتى صادفوا بنتاً أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل : (فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهَلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نصِحُونَ).

فسرّ بها هؤلاء وجاءوا بام موسى إلى قصر فرعون ، فلمّا شمّ الطفل رائحة امه التقم ثديها بشغف كبير.

في التفسير الكبير : لما قبل ثديها قال هامان إنّك لُامّه. قالت : لا. قال : فما بالك قبل ثديك من بين النسوة؟ قالت : أيّها الملك إنّي إمرأة طيّبة الريح حلوة اللبن ماشم ريحي صبي إلّاأقبل على ثديي. قالوا : صدقت. فلم يبق أحد من آل فرعون إلّاأهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر.

أجل ، إنّ الله أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن امّه ليستطيع أن ينهض بوجه

__________________

(١) «المراضع» : جمع «مُرضِع» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها.

٤٩٨

الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتمّ كل شيء بأمر الله : (فَرَدَدْنهُ إِلَى أُمّهِ كَى تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ).

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (١٧)

موسى عليه‌السلام وحماية المظلومين : في هذه الآيات نواجه المرحلة الثالثة من قصة موسى عليه‌السلام وما جرى له مع فرعون ، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه ، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثم سبب هجرته إلى مدين. تقول الآيات في البداية : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ءَاتَيْنهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ).

«أشدّ» : مشتقة من مادة «الشدّة» وهي القوة.

«استوى» : مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

والمراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوة والوحي ، بل المقصود من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة على القضاء الصحيح وما شابه ذلك ، وقد منح الله هذه الامور لموسى عليه‌السلام لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة.

وعلى كل حال فإنّ موسى (دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا).

يحتمل أنّ هذه المدينة هي عاصمة مصر.

والمقصود من جملة (عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا) هو أوّل الليل ، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم ، وجماعة يذهبون للتنزه ، وآخرون لأماكن اخرى .. هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الروايات الإسلامية. في معاني الأخبار قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين فإنّهما تورثان دار الكرامة».

٤٩٩

قيل : يا رسول الله ومتى ساعة الغفلة؟ قال : «ما بين المغرب والعشاء».

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيراً ما تحدث الجنايات والفساد والإنحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل .. فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل ، ولا هم نائمون ، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادةً في هذه الساعة.

وموسى دخل المدينة ، وهنالك واجه مشادّة ونزاعاً ، فاقترب من منطقة النزاع (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هذَا مِن شِيعَتِهِ وَهذَا مِنْ عَدُوّهِ).

والتعبير ب «شيعته» يدلّ على أنّ موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل.

فلما بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه ، (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوّهِ).

فجاءه موسى عليه‌السلام لإستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم .. الذي يقال عنه أنّه كان طباخاً في قصر فرعون ، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر ، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره ، فهوى إلى الأرض ميتاً في الحال. تقول الآية : (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) (١).

ومما لا شك فيه ، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني ، لذلك فإنّ موسى عليه‌السلام أسف على هذا الأمر : (قَالَ هذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطنِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ).

فإنّ موسى عليه‌السلام كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي ، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك ، لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل.

ثم يتحدث القرآن عن موسى عليه‌السلام فيقول : (قَالَ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

ومن المسلم به أنّ موسى عليه‌السلام لم يصدر منه ذنب هنا ، بل ترك الأولى ، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة ، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون.

لذلك فإنّ موسى عليه‌السلام حين نجا بلطف الله من هذا المأزق : (قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ) من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن (فَلَنْ

__________________

(١) «وكز» : مأخوذ من «الوكز» ومعناه الضرب بقبضة اليد ، وهناك معان اخرى لا تناسب المقام.

٥٠٠