مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

أوّلهما : جهاد المظلوم للظالم ، وهو من حقوقه المؤكدة والطبيعية ، التي يؤكّدها عقل الإنسان وفطرته. وليس له أن يستسلم للظلم.

وثانيهما : جهاد الطواغيت الذين ينوون محو ذكر الله من القلوب بتهديم المعابد التي هي مراكز لبثّ الوعي وإيقاظ الناس.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥)

لقد صدر أمر الجهاد للمسلمين بعد أن ذاقوا ـ كما ذكرت الآيات السابقة ـ وقد طمأنت الآيات ـ موضع البحث ـ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين وخفّفت عنهم من جهة ، وبيّنت لهم أنّ العاقبة السيئة تنتظر الكفرة من جهة اخرى ، فقالت : (وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ). أي إذا كذّبك هؤلاء القوم فلا تبتئس ولا تحزن ، فالأقوام السابقة قد كذّبت رسلها أيضاً ، وأضافت : (وَقَوْمُ إِبْرهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ).

وكذلك كذّب أهالي مدينة «مدين» نبيّهم «شعيب» ، وكذّب فرعون وقومه نبيّهم «موسى» (وَأَصْحبُ مَدْيَنَ وَكُذّبَ مُوسَى).

وإنّ هذه المعارضة والتكذيب لن تؤثّر في روحك الطاهرة ونفسك المطمئنة ، مثلما لم تؤثّر في أنبياء كبار قبلك ولم تعق مسيرتهم التوحيدية ودعوتهم إلى الحق والعدل قطّ.

إلّا أنّ هؤلاء الكفرة الأغبياء يتصورون إمكانية مواصلة هذه الأساليب المخزية. (فَأَمْلَيْتُ لِلْكفِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ). أجل ، أمهل الله الكافرين ليؤدّوا إمتحانهم وليتمّ الحجة عليهم فأغرقهم بنِعَمه ، ثم حاسبهم حساباً عسيراً. (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) (١) ورأيت كيف أنكرت عليهم أعمالهم ، وبيّنت لهم أعمالهم القبيحة ، لقد سلبت منهم نعمتي وجعلتهم على أسوأ حال ... سلبت سعادتهم الدنيوية وعوّضتهم بالموت.

__________________

(١) «النكير» : تعني الإنكار وهنا تعني فرض العقاب.

٣٠١

آخر آية موضع البحث يبيّن الله تعالى كيفية عقاب الكفار بجملة موجزة ذات دلالة واسعة : (فَكَأَيّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ). وأضافت الآية أنّ سقف بيوتها قد باتت أسفل البناء : (فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا). أي إنّ الواقعة كانت شديدة حتى أنّ السقوف إنهارت أوّلاً ثم الجدران على السقوف (وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ) فما أكثر الآبار المترعة بمياهها العذبة ، ولكنّها غارت في الأرض بعد هلاك أصحابها فأصبحت معطّلة لا نفع فيها.

(وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ) (١). أجل ما أكثر القصور المشيدة التي إرتفعت شاهقة وزُيّنت ، إلّاأنّها أضحت خرائب بعد أن هلك أصحابها ، والنتيجة إنّهم تركوا مساكنهم وقصورهم المجللة ، وأهملوا مياههم وعيونهم التي كانت مصدر حياتهم وعمران أراضيهم وذهبوا ، وكذلك الآبار الغنيّة بالماء أصبحت معطّلة لا ماء فيها.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٤٨)

السير في الأرض والعبرة : تحدثت الآيات السابقة عن الأقوام الظالمة التي عاقبها الله على ما إقترفت أيديهم فدمّر أحياءهم ، وأكّدت الآية الاولى هذه القضيّة فقالت : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا).

أجل ، تحدّثنا عن خرائب قصور الظلمة ، ومنازل الجبابرة المهدّمة ، وعبدة الدنيا.

إنّ هذه الخرائب كتب ناطقة تتحدّث عن ماضي هؤلاء الأقوام ، ونتائج أعمالهم وسلوكهم في الحياة ، وعن أعمالهم المشؤومة ، وأخيراً عن العقاب الذي صبّه الله عليهم.

ولإيضاح حقيقة هذا الكلام بشكل أفضل قال القرآن المجيد : (فَإِنَّهَا لَاتَعْمَى الْأَبْصرُ

__________________

(١) «المشيد» : مشتقة من «شيد» ذات معنيين : أوّلهما الإرتفاع ، والثاني الجصّ ، فتعني لفظة «قصر مشيد» القصرالمرتفع.

والمعنى الثاني القصر الذي بني على اسس ثابتة قويّة ليصان من حوادث الزمان ، وبما أنّ معظم منازل ذلك العصر تبنى من الطين ، فإنّ المنزل الذي يبنى بالجصّ يكون أقوى من هذه البيوت ويكون متميّزاً عنها.

٣٠٢

وَلكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ).

إنّ الذين يفقدون بصرهم لا يفقدون بصيرتهم ، بل تراهم أحياناً أكثر وعياً من الآخرين. أمّا العمي الحقيقيون فهم الذين تعمى قلوبهم ، فلا يدركون الحقيقة أبداً. في تفسير القمي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «شرّ العمى ، عمى القلب». وفي الكافي : «وأعمى العمى عمى القلب».

وترسم الآية الثانية ـ موضع البحث ـ صورة اخرى لجهل الأغبياء وعديمي الإيمان فتقول : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) فردّ عليهم ألّا تعجلوا (وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ).

فلا فرق عنده بين الساعة واليوم والسنة : (وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ).

وفي آخر آية نجد تأكيداً على ما سبق أن ذكرته الآيات الآنفة الذكر من إنذار الكفار المعاندين بأنّه ما أكثر القرى والبلاد التي أمهلناها ولم ننزل العذاب عليها ليفيقوا من غفلتهم ، ولمّا لم يفيقوا وينتبهوا أمهلناهم مرّة اخرى ليغرقوا في النعيم والرفاهية ، وفجأةً نزل عليهم العذاب : (وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا).

إنّ اولئك الأقوام كانوا مثلكم يشكون من تأخّر العذاب عليهم ، ويسخرون من وعيد الأنبياء ، ولا يرونه إلّاباطلاً ، إلّاأنّهم ابتلوا بالعذاب أخيراً ولم ينفعهم صراخهم أبداً (وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ). أجل كل الامور تعود إلى الله ، وتبقى جميع الثروات فيكون الله وارثها.

(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (٥١)

تحدثت الآيات السابقة عن تعجيل الكفر والعذاب الإلهي ، وإنّ ذلك ليس من شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما يرتبط بمشيئة الله تعالى ، فأوّل آية من الآيات أعلاه تقول : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ).

وترسم (الآيتان التاليتان) صورةً للبشرى واخرى للإنذار ، لأنّ رحمة الله واسعة ، فتقدم على عقاب الله. تتحدّث أوّلاً عن البشرى : (فَالَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). يتطهّرون بماء المغفرة الإلهية أوّلاً ، فتطمئن ضمائرهم ، ثم تشملهم نعم الله ورحمته.

عبارة «رزق كريم» ذات مفهوم واسع يضمّ جميع الأنعم المادية والمعنوية.

٣٠٣

وأضافت الآية اللاحقة : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِىءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحبُ الْجَحِيمِ) (١). أي إنّ الذين حاولوا تخريب الآيات الإلهية ومحوها ، وكانوا يعتقدون بأنّ لهم القدرة على مغالبة إرادة الله المطلقة ، فهم أصحاب الجحيم.

«جحيم» : من مادّة «جحم» بمعنى شدّة توقّد النار ، وتقال كذلك لشدّة الغضب ، فعلى هذا تطلق كلمة (الجحيم) على المكان المشتعل بالنيران ، وهي هنا تشير إلى نار الآخرة.

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٤)

وساوس الشياطين في مساعي الأنبياء : تناولت الآيات السابقة محاولات المشركين والكفرة لمحو التعاليم الإلهية والإستهزاء بها ، أمّا الآيات موضع البحث فقد تضمّنت تحذيراً مهمّاً حيث قالت : إنّ هذه المؤامرات ليست جديدة ، فالشياطين دأبوا منذ البداية على إلقاء وساوسهم ضدّ الأنبياء. في البداية تقول الآية : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِىّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى) أمراً لصالح الدين والمجتمع وفكّر في خطّة لتطوير العمل (أَلْقَى الشَّيْطنُ فِى أُمْنِيَّتِهِ) إلّاأنّ الله لم يترك نبيّه وحده إزاء إلقاءات الشياطين (فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطنُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُءَايتِهِ). إنّ هذا العمل يسير على الله تعالى ، لأنّه عليم بجميع هذه المؤامرات الدنيئة ، ويعرف كيف يحبطها (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

إلّا أنّ المؤامرات الشيطانية التي كان يحيكها المشركون والكفرة ، كانت تشكّل ساحة لإمتحان المؤمنين والمتآمرين في آنٍ واحد ، إذ تضيف الآية : (لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطنُ فِتْنَةً

__________________

(١) «سعوا» : مشتقة من «السعي» وتعني في الأساس الهرولة ، وهنا المحاولة في تخريب الآيات الإلهيةومحوها.

«المعاجزون» : مشتقة من «العجز» وتعني هنا الذي يحاول الغلبة على قدرة الله غير المحدودة.

٣٠٤

لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ).

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ) فهم بعيدون عن الحق لشدّة عداوتهم وعنادهم.

وكذلك الهدف من هذا البرنامج : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ). وطبيعي أنّ الله لا يترك المؤمنين الواعين المطالبين بحقوقهم والمدافعين عن الحق وحدهم في هذا الطريق الوعر (وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَءَامَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).

إنّ كلمة الرسول تطلق على أنبياء لهم رسالات من الله أمروا بنشرها بين الناس.

أمّا كلمة «النبي» وهو الذي ينبأ بالوحي الإلهي رغم أنّه لم يُكلّف بإبلاغه بشكل واسع.

(وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) (٥٩)

تحدثت الآيات السابقة عن محاولات المخالفين في محو الآيات الإلهية ، أمّا الآيات التي نقف في ضوئها ، فأشارت إلى هذه المحاولات من قبل أشخاص متعصبين قساة. تقول الآية الاولى : (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ). بديهي أنّ الآية هنا قصدت فئة من الكفار لا الكفار كلّهم ، لأنّ الكثير منهم أسلموا والتحقوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبصفوف المسلمين ، قصدت الآية زعماء الكفار والمعاندين والمتعصبين بقوّة والحاقدين الذين لم يؤمنوا قطّ ، واستمرّوا في عرقلة المسيرة الإسلامية.

وتعني كلمة «مرية» الشكّ والترديد ، وتبيّن لنا الآية أنّ هؤلاء الكفرة لم يكونوا يوماً على يقين ببطلان الإسلام ودعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرغم من إظهارهم لذلك في كلماتهم.

والمراد من «الساعة» ختام العالم وعشيّة يوم القيامة ، والتي رافقت كلمة «بغتة».

ويقصد ب (عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) عقاب يوم القيامة ، وقد وصف يوم القيامة بالعقم لأنّه لا

٣٠٥

يوم يليه لينهض المرء للقيام بأعمال خيّرة تعوّض عمّا فاته وتؤثّر في مصيره.

ثم أشارت الآية التالية إلى السيادة المطلقة لربّ العالمين يوم القيامة : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ). وهذا أمر ملازم لله الحاكم الدائم والمالك المطلق ، وليس ليوم القيامة فقط.

ولكن كل هذا يزول وتتّضح حقيقة وحدانية المالك والحاكم يومئذ.

وبما أنّ الله هو المالك الحقيقي ، فهو إذن الحاكم الحقيقي ، وتعمّ حكومته على المؤمنين والكافرين على السواء ، ونتيجة ذلك كما يقول القرآن المجيد : (فَالَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِى جَنتِ النَّعِيمِ). الجنّات التي تتوفّر فيها جميع المواهب وكل الخيرات والبركات.

ويضيف القرآن الكريم : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ). عذابٌ يذلّ الكفرة والذين كذّبوا بآيات الله ، اولئك الذين عاندوا الله واستكبروا على خلقه يهينهم الله.

وبما أنّ الآيات السابقة تناولت المهاجرين من الذين طردوا من ديارهم وسلبت أموالهم ، لأنّهم قالوا : ربّنا الله ، ودافعوا عن شريعته ، فقد اعتبرتهم الآية التالية مجموعة ممتازة جديرة بالرزق الحسن وقالت : (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

في تفسير القرطبي : سبب نزول هذه الآية أنّه لمّا مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبدالأسد ، قال بعض الناس : من قتل في سبيل الله أفضل ممّن مات حتف أنفه ، فنزلت هذه الآية مسويّة بينهم ، وأنّ الله يرزق جميعهم رزقاً حسناً. وظاهر الشريعة يدلّ على أنّ المقتول أفضل.

وعرضت الآية الأخيرة صورة من هذا الرزق الحسن : (لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ). فإذا طردوا من منازلهم في هذه الدنيا ولاقوا الصعاب ، فإنّ الله يأويهم في منازل طيّبة في الآخرة ترضيهم من جميع الجهات.

وتنتهي هذه الآية بعبارة : (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ). أجل ، إنّ الله عالم بما يقوم به عباده ، وهو في نفس الوقت حليم لا يستعجل في عقابهم ، من أجل تربية المؤمنين في ساحة الإمتحان هذه ، وليخرجوا منها وقد صلب عودهم وإزدادوا تقرّباً إلى الله.

٣٠٦

(ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٦٢)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : إنّ الآية الاولى نزلت في قوم من مشركي مكة ، لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم ، فقالوا : إنّ أصحاب محمّد لا يقاتلون في هذا الشهر. فحملوا عليهم ، فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا ، فأظفر الله المسلمين بهم.

التّفسير

من هم المنتصرون؟ حدّثتنا الآيات السابقة عن المهاجرين في سبيل الله ، وما وعدهم الله من رزق حسن يوم القيامة. ومن أجل ألّا يتصور المرء أنّ الوعد الإلهي يختص بالآخرة فحسب ، تحدّثت الآية ـ موضع البحث ـ في مطلعها عن إنتصارهم في ظل الرحمة الإلهية في هذا العالم : (ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ). إشارة إلى أنّ الدفاع عن النفس ومجابهة الظلم حق طبيعي لكل إنسان.

وبما أنّ الوعد بالنصر الذي يقوي القلب لابدّ وأن يصدر من مقتدر على ذلك. لهذا تستعرض الآية قدرة الله في عالم الوجود التي لا تنتهي ، فتقول : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ). فما أن يقل من أحدهما حتى يزداد في الآخر وفق نظام مدروس.

«يولج» : مشتقة من «الإيلاج» وهو في الأصل من الولوج أي الدخول ، وهذه العبارة تشير إلى التغييرات التدريجية المنظّمة تنظيماً تامّاً ، كمسألة الليل والنهار ، فما يقلّ أحدهما إلّاليزداد الآخر على مدى فصول السنة.

وتنتهي الآية ب (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). أجل ، إنّ الله يلبّي حاجة المؤمنين ، ويطّلع على حالهم وأعمالهم ، ويعينهم برحمته عند اللزوم ، مثلما يطّلع على أعمال ومقاصد أعداء الحق.

وآخر آية من الآيات السالفة الذكر في الواقع دليل على ما مضى ، حيث تقول : (ذلِكَ بِأَنَ

٣٠٧

اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ).

إن شاهدتم إنتصار الحق وهزيمة الباطل ، فإنّ ذلك بلطف الله الذي ينجد المؤمنين ويترك الكافرين لوحدهم.

إنّ المؤمنين ينسجمون مع قوانين الوجود العامة ، بعكس الكافرين الذين يكون مآلهم إلى الفناء والعدم بمخالفتهم تلك القوانين.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ) (٦٦)

دلائل الله في ساحة الوجود : تحدّثت الآيات السابقة عن قدرة الله غير المحدودة وأنّه الحق المطلق ، وبيّنت هذه الآيات الأدلّة المختلفة على هذه القدرة الواسعة والحق المطلق وتقول أوّلاً : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً).

لقد اخضّرت الأرض المرتدية رداء الحزن ـ من أثر الجفاف ـ بعد ما نزل المطر عليها ، فأصبحت تسرّ الناظرين. أجل (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ). «لطيف» : مشتقة من «اللطف» بمعنى العمل الجميل الذي يمتاز برقّته ؛ وكلمة «الخبير» : تعني المطّلع على الامور الدقيقة.

يرسل الله المطر بقدرة وبخبرة منه ، فإن زاده صار سيلاً ، وإن نقصه كثيراً ساد الجفاف في الأرض.

الآية التالية تعرض علامة اخرى على قدرة الله غير المتناهية ، وهو قوله سبحانه وتعالى : (لَّهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ).

فهو سبحانه خالق الجميع ومالكهم ، وبهذا الدليل يكون قادراً عليهم ، لذا فهم يحتاجون إليه جميعاً ، ولا يحتاج هو إلى شيء أو إلى أحد.

ويزداد هذا المعنى إشراقاً في قوله سبحانه : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ).

والتحام صفتي الغني والحميد جاء في غاية الإحكام ، لأنّ عدداً كبيراً من الناس أغنياء ،

٣٠٨

إلّاأنّهم بخلاء يستغلّون الآخرين ويعملون لذاتهم فقط ، أمّا غنى الله سبحانه فهو مزيج من اللطف والسماح والجود والكرم ، لذا استحقّ الحمد والثناء من عباده.

وتشير الآية التالية إلى نموذج آخر من تسخير الله تعالى الوجود للإنسان (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الْأَرْضِ) وجعل تحت اختياركم جميع المواهب والإمكانات فيها لتستفيدوا منها بأيّ صورة تريدون ، وكذلك جعل السفن والبواخر التي تتحرّك وتمخر عباب البحار بأمره نحو مقاصدها. (وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ). إضافةً إلى (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ). وذلك من رحمة الله لعباده ولطفه بهم ، وهذا ما نلمسه في ختام الآية المباركة : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

وتتناول الآية الأخيرة أهمّ قضية في الوجود ، أي قضية الحياة والموت فتقول : (وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ). أي كنتم تراباً لا حياة فيه فألبسكم لباس الحياة (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وبعد إنقضاء دورة حياتكم يميتكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ). أي يمنحكم حياة جديدة يوم البعث.

وتبيّن الآية ميل الإنسان إلى نكران نِعم الله عليه قائلة : (إِنَّ الْإِنسنَ لَكَفُورٌ). فرغم كل ما أغدق الله على الإنسان من أنعم في الأرض والسماء ، في الجسم والروح ، لا يحمده ولا يشكره عليها ، بل يكفر بكلّ هذه النعم. ومع أنّه يرى كل الدلائل الواضحة والبراهين المؤكّدة لوجود الله تبارك وتعالى ، والشاهدة بفضله عليه وإحسانه إليه ينكر ذلك. فما أظلمه وأجهله.

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧٠)

لكل امّة عبادة : تناولت البحوث السابقة المشركين خاصة ، ومخالفي الإسلام عامة ، ممّن جادلوا فيما أشرق به الإسلام من مبادىء نسخت بعض تعاليم الأديان السابقة ، وكانوا يرون من ذلك ضعفاً في الشريعة الإسلامية ، وقوة في أديانهم ، في حين أنّ ذلك لا يشكّل ضعفاً إطلاقاً ، بل هو نقطة قوّة ومنهج لتكامل الأديان ولذا جاء الفصل الرباني جلّياً (لِّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ). «المناسك» : جمع «منسك» أي مطلق العبادات ، ومن

٣٠٩

الممكن أن تشمل جميع التعاليم الإلهية. لهذا فإنّ الآية تبيّن أنّ لكل امّة شرعة ومنهاجاً يفي بمتطلّباتها بحسب الأحوال التي تعيشها ، لكن ارتقاءها يستوجب تعاليم جديدة تلبّي مطامحها المترقية ، وهذا ما صدعت به الآية المباركة وأنارته قائلة : (فَلَا يُنزِعُنَّكَ فِى الْأَمْرِ).

فبما تقدّم لا ينبغي لهم منازعتك في هذا الأمر. (وَادْعُ إِلَى رَبّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٌ). تخاطب الآية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يا أيّها النبي لا يؤثّر هؤلاء في دعوتك الراشدة باعتراضاتهم الضالة ، فالمهتدي إلى الصراط المستقيم أقوى من الضارب في التيه.

ثم أضافت الآية : (وَإِن جدَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ). فلو استمرّوا في جدالهم ومنازعتهم معك ، ولم يؤثّر فيهم كلامك. فقل لهم : إنّ الله أعلم بأعمالكم ، وستحشرون إليه في يوم يعود الناس فيه إلى التوحيد ، وتحلّ جميع الإختلافات لظهور الحقائق لجميع الناس : (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

وبما أنّ القضاء بين العباد يوم القيامة بحاجة إلى علم واسع بهم وإطّلاع دقيق بأعمالهم ، ختمت الآيات هاهنا بقوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). و (إِنَّ ذلِكَ فِى كِتبٍ). أجل ، إنّ جميع ذلك قد ثبت في كتاب علم الله الذي لا حدود له ، كتاب عالم الوجود وعالم العلة والمعلول ، عالم لا يضيع فيه شيء ، فهو في تغيير دائم ، وكل هذه الموجودات حاضرة بين يدي الله سبحانه بجميع صفاتها وخصائصها ، وهذا من معاني القدرة الإلهية التي نلمسها في قوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٧٤)

٣١٠

معبودات أضعف من ذبابة : تابعت هذه الآيات الأبحاث السابقة عن التوحيد والشرك ، فتحدثت ثانية عن المشركين وأفعالهم الخاطئة ، فتقول الآية الاولى : (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطنًا). وهذا يبيّن بطلان عقيدة الوثنيين الذين كانوا يرون أنّ الله سمح لهم بعبادة الأوثان وأنّها تشفع لهم عند الله. وتضيف الآية (وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ). أي : يعبدون عبادةً لا يملكون دليلاً على صحّتها لا من طريق الوحي الإلهي ، ولا من طريق الاستدلال العقلي ، ومن لا يعمل بدليل يظلم نفسه وغيره ، ولا أحد يدافع عنه يوم الحساب ، لهذا تقول الآية في ختامها : (وَمَا لِلظلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ).

وتشير الآية الثانية ـ موضع البحث ـ إلى عناد الوثنيين وإستكبارهم عن الإستجابة لآيات الله تعالى ، في جملة وجيزة لكنها ذات دلالات كبيرة : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ).

وهنا يسفر التناقض بين المنطق القرآني القويم وتعصب الجاهلية الذي لا يرضخ للحق ولا يفتح قلبه لندائه الرحيم ، فما تليت عليهم آيات ربّهم إلّاظهرت علائم الإستكبار عنها في وجوههم حتى إنّهم (يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْءَايَاتِنَا). أي كأنّهم يريدون مهاجمة الذين يتلون عليهم آيات الله عزوجل وضربهم بقبضات أيديهم ، تنفيساً عن التكبّر البغيض في قرارة أنفسهم.

«يسطون» : مشتقة من «السطوة» أي رفع اليد ومهاجمة الطرف الآخر.

وقد أمر القرآن المجيد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيب هؤلاء المتغطرسين هاتفاً (قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلِكُمُ النَّارُ). أي : إن زعمتم أنّ هذه الآيات البينات شرّ ، لأنّها لا تنسجم مع أفكاركم المنحرفة ، فإنّني اخبركم بما هو شرّ منها ، ألا وهو عقاب الله الأليم ، النار التي أعدّها الله جزاءً : (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

وترسم الآية الآتية صورة معبّرة لما كان عليه الوثنيون ، وما يعبدونه من أشياء ضعيفة هزيلة تكشف عن بطلان آراء المشركين وعقيدتهم ، مخاطبةً للناس جميعاً خطاباً هادياً أن (يَا أيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) وتدبّروا فيه جيّداً (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ). أجل ، لو إجتمعت الأوثان كلها ، وحتى العلماء والمفكّرين والمخترعين جميعاً ، لما استطاعوا خلق ذبابة. فكيف تجعلون أوثانكم شركاء لخالق السماوات والأرض وما فيهن من آلاف مؤلّفة من أنواع المخلوقات في البرّ والبحر ، في الصحاري والغابات ، وفي أعماق الأرض؟

٣١١

وتستكمل الآية البيان عن ضعف الأوثان وعجزها المطلق وأنّها ليست غير قادرة على خلق ذبابة فحسب ، بل (وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيًا لَّايَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ).

ويعلو صدى الحق في تقرير ضعف الوثن وعبدته في قوله تعالى : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).

وبعد أن عرض القرآن الكريم هذا المثال الواضح ، قرّر حقيقة مهمة ، وهي : (مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).

فالمشركون لو كانوا على أدنى معرفة بالله تعالى لما أنزلوا قدره إلى مستوى هذه الآلهة الضعيفة العاجزة ولما جعلوا مصنوعاتهم شركاء له ، تعالى عما يفعلون علواً كبيراً ، ولو كان لديهم أدنى معرفة بقدرة الله لضحكوا من أنفسهم وسخروا من أفكارهم ، وتقول الآية في النهاية : (إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ). أجل ، إنّ الله قادر على كل شيء ولا مثيل لقدرته ولا حدّ ، فهو ليس كآلهة المشركين التي لو إجتمعت لما تمكّنت من خلق ذبابة ، بل ليس لها القدرة على إعادة ما سلبه الذباب منها.

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٧٨)

سبب النّزول

في التفسير الكبير : قال الوليد بن المغيرة : أأنزل عليه الذكر من بيننا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (اللهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ).

٣١٢

التّفسير

بما أنّ الآيات السابقة تناولت بحث التوحيد والشرك وآلهة المشركين الوهميّة ، وبما أنّ بعض الناس قد اتّخذوا الملائكة أو بعض الأنبياء آلهة للعبادة ، فإنّ أوّل الآيات موضع البحث تقول بأنّ جميع الرسل هم عباد الله وتابعون لأمره : (اللهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ).

أجل ، إختار الله من الملائكة رسلاً كجبرئيل ، ومن البشر رسلاً كأنبياء الله الكبار.

وختام الآية : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). أي : إنّ الله ليس كالبشر ، لا يعلمون أخبار رسلهم في غيابهم ، بل إنّه على علم بأخبار رسله لحظة بعد اخرى ، يسمع كلامهم ويرى أعمالهم.

وتشير الآية الثانية إلى مسؤولية الأنبياء في إبلاغ رسالة الله من جهة ، ومراقبة الله لأعمالهم من جهة اخرى ، فتقول : (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ). إنّه يعلم ماضيهم ومستقبلهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ). فالجميع مسؤولون في ساحة قدسه.

ليعلم الناس أنّ ملائكة الله سبحانه وأنبياءه عليهم‌السلام عباد مطيعون له مسؤولون بين يديه ، لا يملكون إلّاما وهبهم من لطفه ، وقوله تعالى : (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) إشارة إلى واجب ومسؤولية رسل الله ومراقبته سبحانه لأعمالهم.

(الآيتان التاليتان) هما آخر آيات سورة الحج حيث تخاطبان المؤمنين وتبيّنان مجموعة من التعاليم الشاملة التي تحفظ دينهم ودنياهم وإنتصارهم في جميع الميادين ، وبهذه الروعة والجمال تختتم سورة الحج. في البداية تشير الآية إلى أربعة تعليمات : (يَا أيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وقد بيّنت الآية ركنين من أركان الصلاة ، الركوع والسجود لأهميّتهما الاستثنائية في هذه العبادة العظيمة.

ثم يصدر الله أمره الخاص بالجهاد بالمعنى الشامل للكلمة ، فيقول عزّ من قائل : (وَجهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ).

والمراد بالجهاد هي كل نوع من الجهاد في سبيل الله والإستجابة له وممارسة أعمال البرّ والجهاد مع النفس (الجهاد الأكبر) وجهاد الأعداء والظلمة (الجهاد الأصغر).

ولا شكّ في أنّ حق الجهاد له معنىً واسع يشمل الكيف والنوع والمكان والزمان وسواها.

ولكن قد يثار سؤال هو : كيف يتحمل الجسم النحيف هذه الأعمال من المسؤوليات

٣١٣

والتعليمات الشاملة الواسعة؟ ولهذا تجيب بقية الآية الشريفة فتقول أوّلاً : (هُوَ اجْتَبكُمْ). أي : حمّلكم هذه المسؤوليات بإختياركم من بين خلقه.

والعبارة الاخرى قوله جلّ وعلا : (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ). أي : إذا دقّقتم جيّداً لم تجدوا صعوبة في التكاليف الربّانية لإنسجامها مع فطرتكم التي فطركم الله عليها ، وهي الطريق إلى تكاملكم.

وثالث عبارة : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرهِيمَ).

إنّ إطلاق كلمة «الأب» على إبراهيم عليه‌السلام ، إمّا بسبب كون العرب والمسلمين آنذاك من نسل إسماعيل عليه‌السلام غالباً ، وإمّا لكون إبراهيم عليه‌السلام هو الأب الروحي للموحدين جميعاً.

ويليها تعبير : (هُوَ سَمكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هذَا). أي هو سمّاكم المسلمين في الكتب السماوية السابقة.

وخامس عبارة خصّ بها المسلمين وجعلهم قدوة للُامم الاخرى هي قوله المبارك : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).

وكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله شاهداً على جميع المسلمين يعني إطلاعه على أعمال امّته. فجميع الامة شهداء ، والأئمة الطاهرين شهود ممتازون على هذه الامة.

وأعادت الآية في ختامها بشكل مركّز الواجبات الخمسة في ثلاث جمل هي (فَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ). فإنّ الله هو قائدكم وناصركم ومعينكم : (هُوَ مَوْلكُمْ) و (فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ). أي : إنّ الله أمركم بالإعتصام به لكونه خير الموالي وأجدر الأعوان.

نهاية تفسير سورة الحج

* * *

٣١٤

٢٣

سورة المؤمنون

محتوي السورة : يمكن تقسيم مواضيع هذه السورة إلى الأقسام التالية :

١ ـ إنّ السورة يبدأ بالآية (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وينتهي بعدد من الآيات التي تذكر صفات هي مدعاة لفلاح المؤمنين.

٢ ـ وأشار هذه السورة إلى علائم اخرى للمؤمنين ، التوحيد وآيات عظمة الله وجلاله في عالم الوجود.

٣ ـ وشرح ما حدث لعدد من كبار الأنبياء.

٤ ـ ووجّه الخطاب سبحانه وتعالى إلى المستكبرين يحذّرهم ببراهين منطقيّة تارةً ، واخرى بتعابير دافعة عنيفة ، ليعيد القلوب إلى طريق الصواب بالعودة إليه عزوجل.

٥ ـ ثم بيّن في بحث مركّز المعاد.

٦ ـ وتناول قسم آخر سيادة الله على عالم الوجود ، وإطاعة العالم ولأوامره.

٧ ـ بحثت هذه السورة عن حساب يوم القيامة ، وجزاء الخير للمحسنين ، وعقاب المذنبين. وينتهي السورة ببيان الغاية من خلق الإنسان.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ سورة المؤمنين ختم الله له بالسعادة إذا كان يدمن قراءتها في كل جمعة ، وكان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيين والمرسلين».

٣١٥

ونؤكّد أنّ فضيلة السورة ، إنّما يجب أن يرافق ذلك التمعّن في معانيها والعمل بما أوجبته ، لأنّ هذا الكتاب يبني الذات الإنسانية ويربّيها.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العَادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (١١)

صفات المؤمنين البارزة : اختيار اسم المؤمنين لهذه السورة لأنّه جاء في بدايتها آيات شرحت بعبارات وجيزة معبّرة صفات المؤمنين ، ومما يلفت النظر أنّها أشارت إلى مستقبل المؤمنين السعيد قبل بيان صفاتهم ، إستنارةً للشوق في قلوب المسلمين للوصول إلى هذا الفخر العظيم بإكتساب صفة المؤمنين. تقول الآية : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ).

«أفلح» : مشتقة من الفلح والفلاح ، وتعني في الأصل الحرث والشقّ ، ثم اطلقت على أيّ نوع من النصر والوصول إلى الهدف والسعادة بشكل عام ، ولكلمة الفلاح معنىً واسعاً يضمّ الفلاح المادي والمعنوي ، ويكون الإثنان للمؤمنين.

ثم تشرح الآية هذه الصفات فتؤكّد قبل كل شيء على الصلاة فتقول : (الَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خشِعُونَ). «خاشعون» : مشتقة من خشوع ، بمعنى التواضع وحالة التأدّب يتخذها الإنسان جسماً وروحاً بين يدي شخصية كبيرة ، أو حقيقة مهمة تظهر في الإنسان وتبدو علاماتها على ظاهر جسمه.

والقرآن اعتبر الخشوع صفة المؤمنين ، وليس إقامة الصلاة ، إشارة منه إلى أنّ الصلاة ليست مجرد ألفاظ وحركات لا روح فيها ولا معنى ، وإنّما تظهر في المؤمن حين إقامة الصلاة حالة توجّه إلى الله تفصله عن الغير وتلحقه بالخالق.

٣١٦

وروي ـ في تفسير مجمع البيان ـ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته ، فقال : «أما إنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه».

إشارة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أنّ الخشوع الباطني يؤثّر في ظاهر الإنسان.

وثاني صفة للمؤمنين بعد الخشوع مما تذكره الآية : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ).

حقّاً نرى جميع حركات وسكنات المؤمنين تتجّه لهدف واحد مفيد وبنّاء.

وتشير الآية الرابعة إلى ثالث صفة من صفات المؤمنين الحقيقيين ، وهي ذات جانب إجتماعي ومالي حيث تقول : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوةِ فعِلُونَ).

ورابع صفة من صفات المؤمنين هي الطهارة والعفة بشكل تام ، وإجتناب أي معصية جنسية ، حيث تقول الآية : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حفِظُونَ) (١). يحفظونها ممّا يخالف العفّة (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ).

بما أنّ الغريزة الجنسية أقوى الغرائز عند الإنسان تمرّداً ، ولضبط النفس عنها يحتاج المرء إلى التقوى والإيمان القوي ، لهذا أكدّت الآية التالية على هذه المسألة : (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ).

إنّ عبارة المحافظة على «الفروج» قد تكون إشارة إلى أنّ فقدان المراقبة المستمرة في هذا المجال تؤدّي بالفرد إلى خطر التلوّث بالانحرافات الكثيرة.

وأشارت الآية الثامنة ـ موضع البحث ـ إلى الصفتين الخامسة والسادسة من صفات المؤمنين البارزة ، حيث تقول : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ).

إنّ المحافظة على «الأمانة» بالمعنى الواسع للكلمة ، وكذلك الالتزام بالعهد والميثاق بين يدي الخالق والخلق من صفات المؤمنين البارزة ، وتعني الأمانة بمفهومها الواسع أمانة الله ورسوله إضافة إلى أمانات الناس ، وكذلك ما أنعم الله على خلقه. وتضمّ أيضاً أمانة الله الدين الحق والكتب السماوية وتعاليم الأنبياء القدماء ، وكذلك الأموال والأبناء والمناصب جميعها أمانات الله سبحانه وتعالى بيد البشر.

وهكذا أنّ الحكومة وديعة إلهية مهمة جدّاً يجب إيداعها بيد من هو أهلها.

وبيّنت الآية التاسعة من الآيات موضع البحث آخر صفة من صفات المؤمنين حيث تقول : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوتِهِمْ يُحَافِظُونَ).

__________________

(١) «الفروج» : جمع فرج ، وهو كناية عن الجهاز التناسلي.

٣١٧

وممّا يلفت النظر أنّ أوّل صفة للمؤمنين كانت الخشوع في الصلاة ، وآخرها المحافظة عليها ، لأنّ الصلاة أهمّ رابطة بين الخالق والمخلوق ، وأغنى مدرسة للتربية الإنسانية.

وإنّ الصلاة إن اقيمت على وفق آدابها اللازمة ، أصبحت أرضية أمينة لأعمال الخير جميعاً.

بعد بيان هذه الصفات الحميدة ، بيّنت الآية التالية حصيلة هذه الصفات فقالت : (أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ).

اولئك الذين يرثون الفردوس ومنازل عالية وحياة خالدة : (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خلِدُونَ). «الفردوس» : الجنة العالية ، وأفضل البساتين.

إنّ هذه المنزلة العالية ـ حسب ظاهر الآيات المذكورة أعلاه ـ خاصة بالمؤمنين الذين لهم هذه الصفات ، ونجد أهل الجنة الآخرين في منازل أقلّ أهمية من هؤلاء المؤمنين.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) (١٦)

مراحل تكامل الجنين في الرحم : تبيّن الآيات موضع البحث ـ وقسم من الآيات التالية لها ـ السبيل لكسب الإيمان والمعرفة ، حيث يمسك القرآن بيد الإنسان ليأخذه إلى «عالم النفس» وليكشف له أسرار باطنه وهو «السير الأنفسي» ، وتثير الآيات التالية لها إنتباه الإنسان إلى عالم الظاهر والمخلوقات المدهشة في عالم الوجود وسير عالم الآفاق ، وهو «السير الآفاقي».

تقول الآيات أوّلاً : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسنَ مِن سُللَةٍ مّن طِينٍ) (١).

وتضيف الآية التالية : (ثُمَّ جَعَلْنهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ).

وفي الواقع فإنّ الآية الاولى تشير إلى بداية وجود جمع البشر من آدم وأبنائه وأنّهم خلقوا جميعاً من التراب ، إلّاأنّ الآية التالية تشير إلى تداوم واستمرارية نسل الإنسان بواسطة تركيب نطفة الذكر ببويضة الانثى في الرحم.

__________________

(١) «السلالة» : تعني الشيء الذي يستخلص من شيء آخر ، وهي في الحقيقة خلاصة ونتيجة منه.

٣١٨

والتعبير عن الرحم ب «قرار مكين» ، أي القرار الآمن ، إشارة إلى أهمية الرحم في الجسم ، حيث يقع في مكان أمين محفوظ من جميع الجهات ، يحفظه العمود الفقري من جهة ، وعظم الحوض القوي من جهة اخرى ، وأغشية البطن العديدة من جهة ثالثة ، ودفاع اليدين يشكّل حرزاً رابعاً له ، وكل ذلك شواهد على موضع الرحم الآمن.

ثم تشير الآية الثالثة إلى المراحل المدهشة والمثيرة لتدرّج النطفة في مراحلها المختلفة ، واتخاذها شكلاً معيّناً في كل منها في ذلك القرار المكين ، حيث تقول : إنّنا جعلنا من تلك النطفة على شكل قطعة دم متخثّر (علقة) ثم بدّلناها على شكل قطعة لحم ممضوغ (مضغة) ، ثم جعلنا من هذه المضغة عظاماً ، وأخيراً ألبسنا هذه العظام لحماً : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظمًا فَكَسَوْنَا الْعِظمَ لَحْمًا).

وفي الختام أشارت الآية إلى آخر مرحلة والتي تعتبر ـ في الحقيقة ـ أهمّ مرحلة في خلق البشر ، بعبارة عميقة وذات معنى كبير : (ثُمَّ أَنشَأْنهُ خَلْقًاءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخلِقِينَ). مرحباً بهذه القدرة الفريدة ، التي خلقت في ظلمات الرحم هذه الصورة البديعة ، وصاغت من قطرة ماء كل هذه الامور المدهشة.

طوبى لهذا العلم والحكمة والتدبير ، الذي خلق في هذا الموجود البسيط كل هذه القابليات والجدارة ، تعالى الله فقد تجلّت قدرته فيما خلق.

وتنتقل الآية التالية من تناول مسألة التوحيد ومعرفة المبدأ ـ بشكل دقيق وجميل ـ إلى مسألة المعاد حيث تقول : (ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذلِكَ لَمَيّتُونَ).

ومن أجل أن لا يعتقد المرء بأنّ الموت نهاية كل شيء ، تقول الآية : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ تُبْعَثُونَ). أي إنّ خلقكم بهذه الصورة المدهشة لم يكن عبثاً أو لتعيشوا أيّاماً معدودات ، فتضيف الآية أنّكم ستبعثون يوم القيامة في مستوى أعلى وفي عالم أوسع.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (٢٢)

٣١٩

مرّة اخرى مع علائم التوحيد : تحدثت الآيات السابقة عن آيات الله العظيمة في وجودنا ، وتناولت هذه الآيات بعدها عالم الظاهر وآفاق الكون وعظمة خلق الأرض والسماوات ، حيث قالت الآية الاولى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ).

فإنّ الآية تعني طبقات السماء السبع.

وربّما يتوهّم أنّ العالم بهذه السعة والعظمة ألا يوجب أن يغفل الله تعالى عن إدارته؟

فتجيب الآية مباشرةً : (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غفِلِينَ).

وأشارت الآية التالية إلى أحد مظاهر القدرة الإلهية ، الذي يعتبر من بركات السماوات والأرض ، ألا وهو المطر ، حيث تقول : (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ).

ثم أشارت الآية إلى قضيّة أكثر أهميّة ، هي قضية إحتياطي المياه الجوفية فتقول : (فَأَسْكَنهُ فِى الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقدِرُونَ).

نحن نعلم أنّ القشرة السطحية من الأرض تتكوّن من طبقتين مختلفتين :

إنّ الله الرحيم جعل القشرة الاولى من سطح الأرض نافذةً ، وتليها قشرة غير نافذة تحافظ على المياه الجوفية ، فتكون احتياطاً للبشر يستخرجها عند الحاجة عن طريق الآبار ، أو تخرج بذاتها عن طريق العيون ، دون أن تفسد أو توجّه للإنسان أقلّ أذى (١).

وتشير الآية التالية إلى الخير والبركة في نعمة المطر ، أي المحاصيل الزراعية الناتجة عنه فتقول : (فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنتٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنبٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ). فمضافاً إلى التمر والعنب اللذين يعتبران أهمّ المحاصيل الزراعية فانّ فيها أنواع اخرى من الفواكه كثيرة.

وممّا يلفت النظر من الآيات أعلاه أنّ منشأ حياة الإنسان في ماء النطفة ، ومنشأ حياة النبات من ماء المطر ، وفي الحقيقة ينبع هذان النموذجان للحياة من الماء.

ثم تشير الآية التالية إلى شجرة مباركة اخرى نمت من ماء المطر ، إضافةً إلى بساتين النخيل والكروم والأشجار والفاكهة الاخرى : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لّلْأَكِلِينَ) (٢).

إنّ جملة (طُورِ سَينَاءَ) إشارة إلى جبل الطور المعروف في صحراء سيناء أو ذات جانب

__________________

(١) ويجب ملاحظة أنّ الماء الملوّث يصفى عند مروره من القشرة النافذة في معظم الأوقات.

(٢) صبغ الآكلين : غذاء يؤكل مع الخبز.

٣٢٠