مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

نعمتا الليل والنهار العظيمتان : هذه الآيات ـ محل البحث ـ تتحدث عن قسم كبير من مواهب الله سبحانه ، التي تدل على التوحيد ونفي الشرك من جهة ، كما أنّها تكمّل البحث السابق .. وتذكر مثلاً للنعم التي تستوجب الحمد والثناء. ففي الآية الاولى من هذه الآيات إشارة إلى نعمة النهار والنور الذي هو أساس لأيّة حركة ، فتقول الآية : (قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ).

كما تتحدث الآية الاخرى عن نعمة الظلمة فتقول : (قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيمَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).

أمّا الآية الثالثة فتحكي عن نتيجة النعمة المشار إليها في الآيتين السابقتين فيقول : (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

إنّ سعة رحمة الله تستوجب أن تضمن جميع عوامل حياتكم.

ومرّة اخرى ـ بعد ذكر جانب من دلائل التوحيد ونفي الشرك ـ يعود القرآن الكريم على السؤال الأوّل الذي أثير في الآيات السابقة ليقول : (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ).

وهذه الآية مكررة في السورة نفسها ، إذ وردت بنصّها في الآية (٦٢) ، ولعلّ هذا التكرار ناشىء عن السؤال مرتين في يوم القيامة ، مرّة بصورة انفرادية ليعودوا إلى وجدانهم فيخجلوا من أنفسهم ، ومرّة بصورة عامّة في محضر الشهود ، وهو ما أشير إليه في الآية التي بعدها .. ليخجلوا أيضاً من حضورهم. لذلك تأتي الآية التي بعدها فتقول : (وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) (١). أيّها المشركون الضالون.

وحين تنكشف المسائل وتتجلى الامور لا تبقى خافية ، (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ).

هؤلاء الشهود هم الأنبياء بقرينة الآيات الاخرى في القرآن ، إذ أنّ كل نبي شاهد على امته ، ونبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو خاتم الأنبياء هو شهيد على جميع الأنبياء والامم.

__________________

(١) التعبير ب «نزعنا» التي تعني جذب الشيء من مقرّه ، هي إشارة إلى إحضار الشهود من بين كل جماعة وامّة.

٥٢١

(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٧٨)

الثّري الإسرائيلي البخيل : جاء تفصيل قصة موسى عليه‌السلام العجيبة ومواجهاته ومواقفه مع فرعون في قسم كبير من الآيات السابقة في هذه السورة .. وفي القسم الآخر من آيات هذه السورة ، وقع الكلام على مواجهة بني إسرائيل مع رجل ثري منهم يدعى «قارون».

المعروف أنّ «قارون» كان من أرحام موسى وأقاربه (ابن عمه أو ابن خالته) وكان عارفاً بالتوراة ، وكان في بداية أمره مع المؤمنين ، إلّاأنّ غرور الثروة جرّه إلى الكفر ودعاه إلى أن يقف بوجه موسى عليه‌السلام وأماته ميتة ذات عبرة للجميع ، حيث نقرأ شرح ذلك في الآيات التالية. يقول القرآن في شأنه أوّلاً : (إِنَّ قرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ). وسبب بغيه وظلمه إنّه كان ذا ثروة عظيمة ، ولأنّه لم يكن يتمتع بإيمان قوي وشخصية متينة فقد غرّته هذه الثروة الكبيرة وجرّته إلى الانحراف والاستكبار.

يصف القرآن ما عنده من ثروة فيقول : (وَءَاتَيْنهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِى الْقُوَّةِ). «المفاتح» : جمع «مفتح» معناه المكان الذي يدخّر فيه الشيء ، كالصندوق الذي يحفظ فيه المال ، وهو ما يسميه بعض التجار ب «القاصة». فيكون المعنى : إنّ قارون كان ذا مال كثير ووفير من الذهب والفضة ، بحيث كان يصعب حمل صناديقها على الرجال الأشداء (أُولِى الْقُوَّةِ). «تنوأُ» : مشتقة من «النوء» ومعناه القيام بمشقّة وثقل ، وتستعمل في حمل الأثقال التي لها ثقل ووزن كبير ، بحيث لو حملها الإنسان لمال إلى أحد جانبيه.

والآن لنرى ما قال بنو إسرائيل لقارون ، يقول القرآن في هذا الصدد : (إِذ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَاتَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَايُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (١).

__________________

(١) «الفرحين» : جمع الفرح ، وتعني من يكون مغروراً على أثر تملكه الشيء ومتكبراً بطراً منتشياً من ريح النّصر.

٥٢٢

ثم يقدمون له أربع نصائح قيّمة اخرى ذات تأثير مهم على مصير الإنسان ، بحيث تتكامل لديه حلقة خماسية من النصائح مع ما تقدم من قولهم له : (لَاتَفْرَحْ).

فالنصيحة الاولى قولهم له : (وَابْتَغِ فِيمَاءَاتَيكَ اللهُ الدَّارَ الْأَخِرَةَ). وهذا إشارة إلى أنّ المال والثروة ليس أمراً سيئاً كما يتصوره بعض المتوهمين ، المهم أن تعرف فيم يستعمل المال ، وفي أي طريق ينفق.

وكان قارون رجلاً ذا قدرة على الأعمال الاجتماعية الكبيرة بسبب أمواله الطائلة ، ولكن ما الفائدة منها وقد أعماه غروره عن النظر إلى الحقائق.

والنصيحة الثانية قولهم له : (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا). والآية تشير إلى مسألة واقعية ، وهي أنّ لكل فرد منّا نصيباً من الدنيا ، فالأموال التي يصرفها على بدنه وثيابه ليظهر بمظهر لائق هي أموال محدودة ، وما زاد عليها لا تزيد مظهره شيئاً ، وعلى الإنسان أن لا ينسى هذه الحقيقة ... فالإنسان ... كم يستطيع أن يأكل من الطعام؟ وكم يستطيع أن يلبس من الثياب؟ وكم يمكن أن يحوز من المساكن والمراكب؟ وإذا مات وكم يستطيع أن يأخذ معه من الأكفان؟ فالباقي ـ إذن ـ رضي أم أبى هو من نصيب الآخرين.

وما أجمل قول الإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة حيث يقول : (يابن آدم ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك).

والنصيحة الثالثة هي : (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ).

وبتعبير آخر : كما أنّ الله تفضل عليك وأحسن ، فأحسن أنت إلى الناس.

والنصيحة (الرابعة) والأخيرة أن لا تغرنّك هذه الأموال والإمكانات المادية فتجرّك إلى الفساد : (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَايُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

وهذا أيضاً حقيقة واقعية اخرى ، إنّ كثيراً من الأثرياء وعلى أثر جنون زيادة المال ـ أحياناً ـ أو طلباً للاستعلاء ، يفسدون في المجتمع ، فيجرّون إلى الفقر والحرمان ، ويحتكرون جميع الأشياء في أيديهم.

والآن لنلاحظ ما كان جواب هذا الإنسان الباغي والظالم الإسرائيلي لجماعته الواعظين له.

فأجابهم قارون بتلك الحالة من الغرور والتكبر الناشئة من ثروته الكبيرة ، و (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى).

هذا لا يتعلق بكم ، وليس لكم حق أن ترشدوني إلى كيفية التصرف بمالي.

٥٢٣

وهنا يجيب القرآن على قول قارون وأمثاله من المتكبرين الضالين ، فيقول : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهَ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا).

أتقول : (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى) ونسيت من كان أكثر منك علماً وأشدّ قوّة وأثرى مالاً ، فهل استطاعوا أن يفروا من قبضة العذاب الإلهي؟!

وفي ختام الآية إنذار ذو معنى كبير آخر لقارون ، جاء في غاية الإيجاز : (وَلَا يُسَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ).

بعبارة اخرى : أنّ العلماء من بني إسرائيل نصحوا قارون هذا اليوم وكان لديه مجال والجواب ، لكن بعد إتمام الحجة ونزول العذاب الإلهي ، عندئذ لا مجال للتفكير والجواب ، فإذا حلّ العذاب الإلهي بساحته فهو الهلاك الحتمي.

(فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لَا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) (٨٢)

جنون الثروة : المعروف أنّ أصحاب الثروة يبتلون بأنواع الجنون ... وواحد منها «جنون عرض الثروة وإظهارها» فهؤلاء يشعرون باللذة عندما يعرضون ثروتهم على الآخرين ، فإنّ قارون لم يكن مستثنى من هذا القانون ، بل كان يعدّ مثلاً بارزاً له ، والقرآن يتحدث عنه في جملة موجزة في بعض آياته فيقول : (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ). امام قومه من بني اسرائيل.

وجملة «في زينته» ناطق عن هذه الحقيقة ، وهي أنّه أظهر جميع قدرته وقوّته ليبدي ما لديه من زينة وثروة.

٥٢٤

هنا أصبح الناس طائفتين ـ بحسب العادة فطائفة وهم الأكثرية ـ من عبدة الدنيا ـ أثارهم هذا المشهد ، فاهتزت قلوبهم ... (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قرُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ).

وأمام هذه الطائفة التي ذكرناها آنفاً طائفة اخرى من العلماء والمتقين الورعين ، فهؤلاء كانوا هناك ، وكان لهم موقف آخر من قارون ، وكما يعبر عنهم القرآن (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لّمَنْءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا). ثم أردفوا مؤكّدين : (وَلَا يُلَقهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ).

في الدر المنثور عن ابن عباس أنّ قارون كان من قوم موسى ، قال : كان ابن عمه وكان يبتغي العلم حتى جمع علماً فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده.

فقال له موسى عليه‌السلام : إنّ الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى. فقال : إنّ موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا : لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم : أرى أن ارسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنّه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها : نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنّه فجر بك. قالت : نعم.

فجاء قارون إلى موسى عليه‌السلام قال : اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربّك قال : نعم. فجمعهم فقالوا له : بم أمرك ربّك؟ قال : أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم. قالوا : وإن كنت أنت؟ قال : نعم. قالوا : فإنّك قد زنيت ، قال : أنا؟

فأرسلوا إلى المرأة فجاءت ، فقالوا : ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى عليه‌السلام أنشدتك بالله إلّاما صدقت. قالت : أمّا إذا نشدتني فإنّهم دعوني وجعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنّك بريء وأنّك رسول الله.

فخرّ موسى عليه‌السلام ساجداً يبكي فأوحى الله إليه : ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك ، فرفع رأسه فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى. فقال : خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى فقال : خذيهم فغيّبتهم فأوحى الله : «يا موسى سألك عبادي وتضرّعوا إليك فلم تجبهم فو عزّتي لو أنّهم دعوني لأجبتهم» (١).

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن ١٦ / ٨٣.

٥٢٥

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد : (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ).

يا للعجب ... ففرعون يهوي في ماء النيل ... وقارون في أعماق الأرض.

الماء الذي هو سرّ الحياة وأساسها يكون مأموراً بهلاك فرعون ، والأرض التي هي مهاد الاطمئنان والدعة تنقلب قبراً لقارون واتباعه. ومن البديهي أنّ قارون لم يكن لوحده في ذلك البيت فقد كان معه أعوانه وندماءه ومن أعانه على ظلمه وطغيانه ، وهكذا توغلوا في أعماق الأرض جميعاً. (فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ).

أمّا آخر آية ـ محل البحث ـ فتحكى عن التبدل العجيب لأولئك الذين كانوا يتفرجون على استعراض قارون بالأمس ويقولون : يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ، وما شابه ذلك. وإذا هم اليوم يقولون : واهاً له ، فإنّ الرزق بيد الله ؛ (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ).

لذلك شكروا الله على هذه النعمة وقالوا : (لَوْلَا أَن مَّنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَايُفْلِحُ الْكفِرُونَ). فالآن نرى الحقيقة بأعيننا ، وعاقبة الغرور والغفلة ونهاية الكفر والشهوة.

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٤)

نتيجة حبّ التسلط والفساد في الأرض : بعد البيان المثير لما حدث لثري مستكبر ومتسلط ، وهو قارون ، تبدأ الآية الاولى من هذا المقطع ببيان استنتاج كلي لهذا الواقع وهذا الحدث ، إذ تقول الآية : (تِلْكَ الدَّارُ الْأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَايُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا).

إنّ ما يكون سبباً لحرمان الإنسان من مواهب الدار الآخرة ، هو هذان الأمران : «الرغبة في العلو» أي الاستكبار ؛ و «الفساد في الأرض» وهما الذنوب.

ويقول القرآن في نهاية الآية : (وَالْعقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). و «العاقبة» بمفهومها الواسع هي النتيجة الصالحة ، وهي الإنتصار في هذه الدنيا ، والجنّة ونعيمها في الدار الاخرى ...

٥٢٦

وبعد ذكر هذه الواقعية ، وهي أنّ الدار الآخرة ليست لمن يحب السلطة والمستكبرين ، بل هي للمتقين المتواضعين وطلبة الحق ، تأتي الآية الثانية لتبيّن قانوناً كلّياً وهو مزيج بين العدالة والتفضل ، ولتذكر ثواب الإحسان. فتقول : (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا).

وهذه هي مرحلة التفضل ، أي أنّ الله سبحانه لا يحاسب الناس كما يحاسب الإنسان نظيره بعين ضيّقة ، فإذا أراد الإنسان أن يعطي أجر صاحبه فإنّه يسعى أن يعطيه بمقدار عمله ، إلّاأنّ الله قد يضاعف الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعفها بمئات الأمثال وربّما بالآلاف ، إلّاأنّ أقلّ ما يتفضل الله به على العبد أن يجازيه عشرة أضعاف حسناته ، حيث يقول القرآن في الآية (١٦٠) من سورة الأنعام : (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا).

ثم يعقّب القرآن ليذكر جزاء المسيئين فيقول : (وَمَن جَاءَ بِالسَّيّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

وهذه هي مرحلة العدل الإلهي ، لأنّ المسيء لا يجازى إلّابقدر إساءته ، ولا تضاف على إساءته أيّة عقوبة.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ (٨٦) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس : لما نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالجحفة في مسيره إلى المدينة ، لما هاجر إليها ، اشتاق إلى مكة فأتاه جبرائيل عليه‌السلام فقال : أتشتاق إلى بلدك وهو مولدك؟! فقال : نعم. قال جبرائيل : فإنّ الله يقول : (إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (١). يعني مكة ... ونعلم إنّ هذا الوعد العظيم تحقق أخيراً.

__________________

(١) راجع تفسير الميزان ، تفسير القرطبي ، ومجمع البيان ، «التّفسير الكبير» للفخر الرازي ، وتفاسير غيرها.

٥٢٧

فعلى هذا تعدّ الآية آنفة الذكر من الإخبار الإعجازي السابق لوقوعه ، إذ أخبر القرآن عن رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكة بصورة قطعية ودون أيّ قيد وشرط ، ولم تطل المدّة حتى تحقق هذا الوعد الإلهي الكبير.

التّفسير

الوعد بعودة النبي إلى حرم الله الآمن : قلنا : إنّ الآية الاولى من هذه الآيات طبقاً لما هو مشهور بين المفسرين نزلت في «الجحفة» في مسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى المدينة إذ كان متوجهاً إلى يثرب لتتحول بوجوده إلى «مدينة الرسول» ... لكن هذا الحنين والشوق والتعلق بمكة يؤلمه كثيراً ، وليس من اليسير عليه الإبتعاد عن حرم الله الآمن.

وهنا يشرق في قلبه الطاهر نور الوحي ، ويبشّره بالعودة إلى وطنه الذي ألفه فيقول : (إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ). فلا تكترث ولا تُذهب نفسك حسرات ، فالله الذي أعاد موسى إلى امّه هو الذي أرجعه أيضاً إلى وطنه بعد غياب عشر سنوات في مدين.

هو الله سبحانه الذي يردك إلى مكة بكل قوة وقدرة ، ويجعل مصباح التوحيد على يدك مشرقاً في هذه الأرض المباركة.

ثم يضيف القرآن في خطابه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن يجيب على المخالفين الضالين بما علّمه الله : (قُلْ رَّبّى أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ).

إنّ طريق الهداية واضح ، وضلالهم بيّن ، وهم يتعبون أنفسهم عبثاً ، فالله يعرف ذلك جيداً ، والقلوب التي تعشق الحق تعرف هذه الحقيقة أيضاً.

أمّا الآية التالية فتتحدث عن نعمة اخرى من نعم الله العظيمة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول : (وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتبُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبّكَ).

ثم يضيف القرآن في خطابه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن طالما كنت في هذه النعمة : (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لّلْكفِرِينَ).

ومن المسلّم به أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن ظهيراً للكافرين أبداً ، إلّاأنّ الآية جاءت في مقام التأكيد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبيان المسؤولية للآخرين.

وفي هاتين الآيتين أربعة أوامر من الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأربعة صفات لله تعالى ، وبها يكتمل ما ورد في هذه السورة من أبحاث. يقول أوّلاً : (وَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنءَايتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ

٥٢٨

إِلَيْكَ). وبالرغم من أنّ النهي موجه إلى الكفار ، إلّاأنّ مفهوم الآية عدم تسليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمام صدّ الكافرين ، وإحباطهم ومؤامراتهم.

وبهذا الأسلوب يأمر الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقف راسخ القدم عند نزول الآيات ولا يتردد في الأمر ، وأن يزيل الموانع من قارعة الطريق مهما بلغت ، ولْيَسر نحو هدفه مطمئناً ، فإنّ الله حاميه ومعه أبداً.

وبعد هذا الخطاب الذي فيه جنبة نهي ، يأتي الخطاب الثاني وفيه سمة إثبات فيقول : (وَادْعُ إِلَى رَبّكَ) .. فالله الذي خلقك وهو الذي ربّاك ورعاك ...

والأمر الثالث ، بعد الأمر بتوحيد الله ، هو نفي جميع أنواع الشرك وعبادة الأصنام (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

والأمر الرابع تأكيد آخر على نفي جميع أنواع الشرك ، إذ يقول تعالى : (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهًاءَاخَرَ).

وهذه الأوامر المتتابعة كل واحد منها يؤكّد الآخر ، يوضح أهمية التوحيد في المنهج الإسلامي ، إذ بدونه يكون كل عمل زيفاً ووهماً.

وبعد هذه الأوامر الأربعة تأتي أوصاف أربعة لله سبحانه ، وهي جميعاً تأكيد على التوحيد أيضاً :

فالأوّل قوله : (لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ).

والثاني قوله : (كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).

والوصف الثالث : (لَهُ الْحُكْمُ) والحاكمية في عالمي التشريع والتكوين.

والرابع : أنّ معادنا إليه (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

والأوصاف الثلاثة الأخيرة يمكن أن تكون دليلاً على إثبات التوحيد وترك جميع أنواع عبادة الأصنام ، الذي أشير إليه في الوصف الأوّل.

نهاية تفسير سورة القصص

* * *

٥٢٩
٥٣٠

٢٩

سورة العنكبوت

محتوى السورة : إنّ أبحاث هذه السورة تتلخص في أربعة أقسام :

١ ـ في البداية يتحدث عن مسألة «الامتحان» ، وموضوع «المنافقين» ، وهذان الأمران متلازمان لا يقبلان الإنفكاك.

٢ ـ وقسم آخر من هذه السورة هو لتسلية قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين القلّة الأوائل ، عن طريق بيان جوانب من حياة الأنبياء العظام السابقين ، أمثال نوح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم‌السلام وعواقبهم ؛ إذ واجهوا أعداءً ألدّاء أمثال نمرود وطواغيت المال البخلاء.

٣ ـ ثم يتحدث عن التوحيد ودلائل الله في عالم خلقه ، والمواجهة مع المشركين ، ويدعوا الفطرة والوجدان إلى الإحتكام والقضاء الحق.

٤ ـ وفي قسم آخر من هذه السورة ، ففيه مباحث متنوعة عن عجز الأصنام المصنوعة التي تعبد من دون الله ، وعبادها الذين مثلهم كمثل العنكبوت ، وبيان عظمة القرآن ، ودلائل حقانية نبي الخاتم ، ولجاجة المخالفين ، كما تتعرض لسلسلة من المسائل التربوية أمثال : الصلاة ، والعمل الصالح ، والإحسان إلى الوالدين ، وأسلوب مناقشة المخالفين ، وما إلى ذلك.

وتسمية السورة هذه ب «العنكبوت» مأخوذة من الآية (٤١) من هذه السورة ، التي تشبّه عبدة الأوثان من دون الله بالعنكبوت ، التي تبني بيتها من نسيجها ، وهو أوهن البيوت.

٥٣١

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : (من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين).

وفي ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين فهو والله من أهل الجنة ، لا أستثني فيه أبداً ، ولا أخاف أن يكتب الله عليّ في يميني إثماً ، وإنّ لهاتين السورتين من الله مكاناً».

ولا شك أنّ محتوى هاتين السورتين الغزير ، والدروس العملية المهمة منها في التوحيد ، وما إلى ذلك ، كلّه كاف لأن يسوق أيّ إنسان ذي لب وفكر وعمل إلى الجنة والخلود فيها.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (٣)

نواجه في بداية هذه السورة الحروف المقطعة (الم) أيضاً .. وقد بيّنا تفسيرها عدة مرات من وجوه مختلفة (١).

وبعد هذه الحروف المقطعة يشير القرآن إلى واحدة من أهم مسائل الحياة البشرية ، وهي مسألة الشدائد والضغوط والامتحان الإلهي فيقول أوّلاً : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُواءَامَنَّا وَهُمْ لَايُفْتَنُونَ) (٢).

ثم يذكر القرآن هذه الحقيقة ـ بعد الآية المتقدمة مباشرة ـ وهي أنّ الامتحان سنة إلهية دائمية جارية في جميع الأمم المتقدمة ، إذ يقول : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ).

ووقعوا أيضاً ـ تحت تأثير ضغوط الأعداء القساة والجهلة المعاندين ..

وينبغي أن يكون الأمر كذلك ، لأنّه في مقام الإدعاء يمكن لكل أحد أن يذكر عن نفسه أنّه أشرف مجاهد وأفضل مؤمن وأكثر الناس تضحيةً .. فلابدّ من معرفة قيمة هذه الإدعاءات بالامتحان ، وينبغي أن تعرف النيات والسرائر إلى أي مدى تنسجم مع هذه الادعاءات.

__________________

(١) يراجع بداية تفسير سورة البقرة وبداية سورة آل عمران وبداية تفسير سورة الأعراف.

(٢) «يفتنون» : مشتق من «الفتنة» وهي في الأصل وضع الذهب في النّار لمعرفة مقدار خلوصه ، ثم أطلق هذا التعبير على كل امتحان ظاهري ومعنوي.

٥٣٢

أجل : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكذِبِينَ).

من البديهي أنّ الله يعرف جميع هذه الامور جيداً ـ قبل أن يخلق الإنسان ـ إلّاأنّ المراد من العلم هنا هو ظهور الآثار والشواهد العملية ... ومعناه أنّه ينبغي أن يرى علم الله في هذه المجموعة عملياً في الخارج ، وأن يكون لها تحقق عيني.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) (٧)

لا مهرب من سلطان الله : كان الكلام في الآيات السابقة عن امتحان المؤمنين الشامل ، والآية الاولى من الآيات أعلاه تهديد شديد للكفّار والمذنبين ، لئلا يتصوروا أنّهم حين يضيّقون على المؤمنين ويضغطون عليهم دون أن يعاقبهم الله فوراً ، فإنّ الله غافل عنهم أو عاجز عن عذابهم ، تقول الآية هذه : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ). فلا ينبغي أن يغرّهم إمهال الله إيّاهم فهو امتحان لهم ، كما أنّه فرصة للتوبة والعودة إلى ساحة الله تعالى.

ثم يتحدث القرآن مرّة اخرى عن سير المؤمنين ومناهجهم ، ويقدم النصح لهم ، فيقول : (مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللهِ). فعليه أن يعمل ما في وسعه على امتثال الأوامر الإلهية والأحكام الشرعية ، لأنّ الوقت المعين سيأتي حتماً (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَأَتٍ).

ثم إنّ الله سبحانه يسمع أحاديثكم ، وهو مطلع على أعمالكم ونيّاتكم ... لأنّه (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

إنّ «لقاء الله» في يوم القيامة ليس لقاءاً حسيّاً بل نوعاً من الشهود الباطني.

وكما يقول العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان : إنّ المقصود من لقاء الله ، هو أنّ العباد يكونون في موقف لا يكون بينهم وبين الله حجاب ، لأنّ طبيعة يوم القيامة هي ظهور الحقائق كما يقول القرآن : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ). سورة النور الآية (٢٥).

أمّا الآية التي تليها فهي تعليل لما سبق بيانه في الآية الآنفة ، إذ تقول : إنّ على المؤمنين

٥٣٣

الذين يرغبون في لقاء الله السعي بما اوتوا من قدرة وقابلية من أجل ذلك فإنّ نتيجة كل ذلك السعي والجهاد وتحمل الشدائد ترجع ثمارها للعامل نفسه : (وَمَن جهَدَ فَإِنَّمَا يُجهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).

إنّ خطة الامتحان الإلهي هي الجهاد ، جهاد النفس وهواها ، وجهاد الأعداء الألداء ، لحفظ الإيمان والتقوى والطهارة ، ونفع ذلك يعود للإنسان ...

وآخر آية ـ محل البحث ـ توضيح لما تقدم ذكره في الآية السابقة بشكل مبهم تحت عنوان الجهاد ، فهنا يكشف القرآن حقيقة الجهاد فيقول : (وَالَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيَاتِهِمْ).

إذن أوّل فائدة كبيرة لهذا الجهاد الكبير (وهو الإيمان والعمل الصالح) هي تكفير الذنوب وسترها على الإنسان ، كما أنّ الثواب سيكون من نصيبهم ، كما يقول القرآن في نهاية هذه الآية أيضاً : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ).

«نكفّر» : مشتقة من مادة «تكفير» ومعناها في الأصل التغطية والستر ، والمقصود بتغطية الذنوب هنا عفو الله وصفحه.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٨ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (٩)

سبب النّزول

وردت روايات مختلفة في شأن نزول الآية الآنفة الذكر ، ومضمون الجميع واحد وهي أنّ بعض الرجال الذين كانوا في مكة وأسلموا (١) ، حين سمعت امهاتهم بذلك صممن على أن لا يتناولن طعاماً ولا يشربن ماءً حتى يرجع أبناؤهن عن الإسلام ، وبالرغم من أنّ أية واحدة من هؤلاء الامهات لم تف بقولها ، ورجعت عن إضرابها عن الطعام ، إلّاأنّ الآية المتقدمة نزلت لتوضح للجميع اسلوب المعاملة بين الأبناء والآباء والامهات ، في مجال الكفر والإيمان.

__________________

(١) ورد في بعض الروايات اسم (سعد بن أبي وقاص) وفي بعضها اسم (عياش بن أبي ربيعة المخزومي).

٥٣٤

التّفسير

أفضل الوصايا بالنسبة للوالدين : إنّ واحداً من أهم الامتحانات الإلهية ، هي مسألة «التضاد» بين خط الإيمان والتقوى وبين علاقة العاطفية والقرابة .. والقرآن في هذا المجال يوضح وظيفة المسلمين بجلاء. في البداية يتحدث عن قانون كلي يستمد من جذور العواطف الإنسانية وردّ الجميل فيقول : (وَوَصَّيْنَا الْإِنسنَ بِوَالِدَيْهِ).

إنّ التعبير ب «الإنسان» هنا يلفت النظر .. فهذا القانون لا يختص بالمؤمنين ، بل كل من كان جديراً بأن يحمل اسم الإنسان ينبغي أن يكون عارفاً بحق الأبوين ... وأن لا ينسى تكريمهما واحترامهما والإحسان إليهما طيلة عمره .. وإن كان كل ذلك لا يفي بحقوقهما.

بعد ذلك ، ومن أجل أن لا يتبادر إلى الذهن أنّ العلاقة العاطفية بالوالدين يمكن أن تكون حاكمةً على العلاقة بين الإنسان وربّه وإيمانه ، يأتي استثناء صريح ليوضّح هذا الموضوع في الآية ، فيقول تعالى : (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا).

جملة (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) إشارة إلى عدم منطقية الشرك ، لأنّ الشرك لو كان صحيحاً واقعاً لكان عليه دليل بيّن.

وبتعبير آخر : متى ما لم يعلم الإنسان بشيء فلا ينبغي أن يتبعه فكيف إذا كان يعلم ببطلانه؟ فهذا الاتباع هو اتّباع للجهل ، فلو أنّ الوالدين أمراك باتباع الجهل فلا تطعهما.

ثم يضيف تعالى في نهاية الآية : (إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

وهذه الجملة تهديد لُاولئك الذين يسيرون في طريق الشرك ، والذين يدعون الآخرين إلى هذا الطريق ..

والآية التي بعدها تؤكّد الحقيقة في اولئك المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وتكرر هذا المضمون أيضاً : (وَالَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ).

وأساساً فإنّ عمل الإنسان يترك في الإنسان أثره .. فالعمل الصالح يصبغ الإنسان بلونه ويدخله في زمرة «الصالحين».

كما أنّ العمل السيء يدخله في زمرة «الخاطئين والمسيئين».

إنّ الكلام في الآيات المتقدمة كان عن غفران الذنوب وتكفير السيئات وما يستحقه المؤمنون من الجزاء ، إلّاأنّه هنا إشارة عن مقامهم الرفيع الذي هو في نفسه ثواب آخر.

٥٣٥

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (١١) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣)

شركاء في الإنتصار أمّا في الشدة فلا : حيث إنّ الآيات المتقدمة تحدثت عن المؤمنين الصالحين والمشركين بشكل صريح ، ففي الآيات الاولى من هذا المقطع يقع الكلام على الفريق الثالث ـ أي المنافقين ـ فيقول القرآن فيهم : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُءَامَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِىَ فِى اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ). فلا يصبرون على الأذى والشدائد ، ويحسبون تعذيب المشركين لهم وأذى الناس أنّه عذاب من الله (وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ). فنحن معكم في هذا الافتخار والفتح.

ترى هل يظنون أنّ الله خفيّ عليه ما في أعماق قلوبهم فلا يعرف نيّاتهم (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ).

ولعل التعبير ب «آمنّا» بصيغة الجمع ، مع أنّ الجملة التي تليه جاءت بصيغة المفرد ، هو من جهة أنّ هؤلاء المنافقين يريدون أن يقحموا أنفسهم في صف المؤمنين ، فلذلك يقولون «آمنّا» أي آمنّا كسائر الناس الذين آمنوا.

وجملة (أُوذِىَ فِى اللهِ) معناه أوذي في سبيل الله ، أي إنّهم قد يتعرض لهم العدوّ ـ أحياناً ـ وهم في سبيل الله والإيمان فيؤذيهم.

وفي الآية التالية ـ لمزيد التأكيد ـ يضيف القرآن قائلاً : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَءَامَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ). فلو تصوروا أنّهم إذا أخفوا الحقائق فإنّهم سيكونون في منأى عن علم الله فهم في خطأ كبير جدّاً.

إنّ التعبير بالمنافقين لها معنى واسع ، ويشمل حتى الأفراد ضعاف الإيمان الذين يبدّلون عقيدتهم لأدنى مكروه يصيبهم.

٥٣٦

والآية الاخرى بعدها تشير إلى منطق المشركين الخاوي والملتوي ، الذي لا يزال موجوداً في طبقات المجتمع الواسعة فتقول : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَءَامَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلَنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ).

واليوم نرى كثيراً من الخبثاء يقولون للآخرين عند دعوتهم إلى أمر : إن كان فيه ذنب فعلى رقابنا في حين أنّنا نعلم أنّه لا يمكن لأحد أن يتحمل وزر أحد ، فالله عادل سبحانه ولا يؤاخذ أحداً بجرم الآخر.

لذلك فإنّ القرآن يقول بصراحة في الجملة التالية : (وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَىْءٍ إِنَّهُمْ لَكذِبُونَ).

وبعد ذلك ، ومن أجل أن لا يتصور أنّ هؤلاء الدعاة للكفر والشرك وعبادة الأصنام والظلم ، لا شيء عليهم من العقاب لهذا العمل ، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلاً : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ أَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ).

وثقل الذنب هذا ... هو ثقل ذنب الإغراء والإغواء وحث الآخرين على الذنب ، وهو ثقل السنّة التي عبّر عنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : (من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء) (١).

وتختتم الآية بالقول : (وَلَيُسَلُنَّ يَوْمَ الْقِيمَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (١٥) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١٩)

__________________

(١) التفسير الكبير ٢٥ / ٤٠.

٥٣٧

إشارة لقصّتي نوح وإبراهيم : لما كان الكلام في البحوث السابقة عن الإمتحانات العامة في الناس ، فإنّ الكلام هنا ـ وفي ما بعد ـ يقع على الإمتحانات الشديدة للأنبياء.

تبدأ الآيات أوّلاً بالكلام على أوّل نبي من أولي العزم وهو نوح عليه‌السلام وتتحدث عنه بعبارات موجزة ، لتُجمل قسماً من حياته التي تناسب ـ كثيراً ـ الواقع الراهن للمسلمين ـ آنئذ ـ فتقول : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا).

كان نوح مشغولاً ليل نهار بالتبليغ ودعوة قومه إلى توحيد الله ـ فرادى ومجتمعين ، مستفيداً من جميع الفرص في هذه المدة الطويلة (أي تسعمائة وخمسين عاماً) يدعوهم إلى الله ... ولم يشعر بالتعب والنصب من هذا السعي المتتابع ولم يظهر عليه الضعف والفتور.

ومع كل هذا الجهد الجهيد لم يؤمن به إلّاجماعة قليلة في حدود الثمانين شخصاً كما تنقل التواريخ (أي : بمعدّل نفر واحد لكل اثنتي عشرة سنة).

فعلى هذا لا تظهروا الضعف والتعب في سبيل الدعوة إلى الحق ومواجهة الانحرافات ، لأنّ منهجكم أمام منهج «نوح» سهل للغاية.

لكن لاحظوا كيف كانت عاقبة قوم نوح الظالمين الألدّاء : (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ).

ويضيف القرآن الكريم في الآية الاخرى : (فَأَنجَيْنهُ وَأَصْحبَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَاءَايَةً لّلْعَالَمِينَ).

ثم يعقّب على قصة نوح وقومه التي وردت بشكل مضغوط ، ويأتي بقصة إبراهيم عليه‌السلام ، ثاني الأنبياء الكبار من أولي العزم فيقول : (وَإِبْرهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ). إذ ينجيكم من دنياكم الملوّثة بالذنوب والشقاء ، وتكون آخرتكم هي السعادة الأبدية.

ثم يذكر إبراهيم عليه‌السلام أدلة بطلان عبادة الأصنام والأوثان ، ويبيّن في تعابير مختلفة يتضمن كل منها دليلاً على فساد مذهبهم وبطلانه فيقول أوّلاً : (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَوْثَانًا).

الأصنام التي ليس لها إرادة ، ولا عقل ، وهي فاقدة لكل شيء ، بحيث إنّ شكلها بنفسه هو دليل على بطلان عقيدة «عبادة الأوثان».

ثم يتوسع في حديثه ويمضي إلى مدى أبعد فيقول : ليست هذه الأوثان بهيئتها تدل على أنّها لا تستحق العبادة فحسب ، بل أنتم تعلمون بأنّكم تكذبون وتضعون اسم الآلهة على هذه الأوثان : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا).

٥٣٨

ثم يبيّن الدليل الثالث وهو أنّ عبادتكم لهذه الأوثان إمّا لأجل المنافع المادية ، أو لعاقبتكم في «الاخرى» وكلا الهدفين باطل ... وذلك : (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَايَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا).

وأنتم تعتقدون بأنّ هذه الأصنام لم تكن خلقتكم ، بل الخالق هو الله ، فالذي يتكفل بالرزق هو الله ، (فَابْتَغُوا عِندَ اللهِ الرّزْقَ).

ولأنّه هو الذي يرزقكم فتوجهوا إليه (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ).

وإذ كنتم تبتغون الدار الاخرى فإنّه (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

فالأصنام لا تصنع شيئاً هنا ولا هناك.

وبهذا الأدلة الموجزة والواضحة ألجم منطقهم الواهي وأفحمهم.

ثم يلتفت إبراهيم عليه‌السلام مهدّداً لهم ومبدياً عدم اكتراثه بهم قائلاً : (وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ) كذبوا أنبياءهم فنالوا الخزي بتكذيبهم والعاقبة الوخيمة (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلغُ الْمُبِينُ) سواءً استجاب له قومه ، أم لم يستجيبوا له دعوته وبلاغه.

والمقصود بالامم قبل امة إبراهيم عليه‌السلام ، امة نوح عليه‌السلام وما بعده من الامم.

والقرآن يترك قصة إبراهيم هنا مؤقتاً ، ويكمل البحث الذي كان لدى إبراهيم في صدد التوحيد وبيان رسالته بدليل المعاد ، فيقول : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ). أي كيف لا يعرف هؤلاء خلق الله؟ فالذي له القدرة على الإيجاد أوّلاً قادر على إعادته أيضاً.

ويضيف في آخر الآية على سبيل التأكيد : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). لأنّ تجديد الحياة قبال الإيجاد الأوّل يُعدّ أمراً بسيطاً.

وطبيعي أنّ هذا التعبير يناسب منطق الناس وفهمهم ، وإلّا فإنّ اليسير والعسير لا مفهوم لهما عند من قدرته غير محدودة والمطلقة.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٢٣)

٥٣٩

الآيسون من رحمة الله : هذه الآيات تواصل البحث في المعاد أيضاً ، فإنّ القرآن يدعو في الآية الاولى من هذا المقطع الناس إلى «السير في الآفاق» في مسألة المعاد ... في حين أنّ الآية السابقة كانت السمة فيها «السير في الأنفس» أكثر. يقول القرآن : (قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ). انظروا إلى أنواع الموجودات الحية ، والاقوام والامم المتنوعة والمختلفة ، وكيف أنّ الله تعالى خلقها أولاً ، ثم إنّ الله نفسه الذي أوجدها في البداية من العدم قادر أيضاً على ايجادها في الآخرة : (ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْأَخِرَةَ) ولأنّه أثبت قدرته على كل شيء حين خلق الخلق أوّلاً ، إذن ف (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ).

فهذه الآية والآية التي قبلها ـ أيضاً ـ أثبتتا بواسطة قدرته الواسعة إمكان المعاد ..

«النشأة» : في الأصل ، تعني إيجاد الشيء وتربيته ، وقد يعبر أحياناً عن الدنيا بالنشأة الاولى ، كما يعبر عن الاخرى بالنشأة الآخرة.

ثم يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد ، وهي مسألة الرحمة والعذاب ، فيقول : (يُعَذّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ).

ومع أنّ رحمة الله مقدمة على غضبه ، إلّاأنّ الآية هنا تبدأ أوّلاً بذكر العذاب ثم الرحمة ، لأنّها في مقام التهديد ، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الاسلوب.

وإكمالاً لهذا البحث الذي يبيّن أنّ الرحمة والعذاب هما بيد الله والمعاد إليه ، يضيف القرآن : إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان الله وحكومته ولا يمسّكم عذابه ، فأنتم في خطأ كبير ... فليس الأمر كذلك ؛ (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ) (١).

وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك ، فهذا خطأ محضٌ أيضاً : (وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ مِنْ وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ).

وهكذا يغلق القرآن جميع أبواب الفرار بوجه هؤلاء المجرمين .. لذلك يقول في الآية التي بعدها بشكل قاطع : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَايتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُولئِكَ يِسُوا مِنْ رَّحْمَتِى). ثم يضيف مؤكداً : (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

هذا «العذاب الأليم» هو لزم اليأس من رحمة الله.

__________________

(١) «معجزين» : مشتقة من مادة «عجز» ، ومعناها في الأصل التخلّف والتأخر عن الشيء ، ولذلك تستعمل هذه الكلمة في الضعف الباعث على التخلف والتأخر ؛ «المعجزة» : معناه الذي يجعل الآخر عاجزاً ، وحيث إنّ الأفراد الذين يفرون من سلطان أحد وقدرته ، يعجزونه عن ملاحقتهم ، لذلك استعملت كلمة «معجز» في هذا الصدد أيضاً.

٥٤٠